كان جالسًا في جِدٍّ عجيب

 

أميرة سلامة

 

"من ليس معي فهو ضدِّي، ومن كان معي فهو يزعجني."

أنسي الحاج

 

كان جالسًا في جِدٍّ عجيب، في صبر يُحسَد عليه، يجلِّد الكتب والدَّفاتر لبناته الثلاث بالورق الأزرق والنايلون الشفَّاف الأبيض. طلب من زوجته أن تعتني به، تغنِّجه، تدلِّله، كونه يقوم بعمل جبار ومميَّز، كأن تهيِّئ له سندويش مكدوس، محشو بالنعناع والخِيار وشرائح البندورة، ريثما ينتهي، وأن تقطِّع له تفاحة حمراء، ليتمكَّن من قضمها بسهولة وهو يعمل. فقد اشترى هذا العام قطَّاعة للَّصق من النوع الصِّيني، تجرَّأ ودفع ثمنها مئة وعشرين ليرة سورية ليخفِّف من عناء قطع الشريط اللاصق بأسنانه، ولكي يستريح من رصف قطع اللاصق الصَّغيرة الواحدة بجانب الأخرى على حافة الطاولة، كما كان يفعل في السِّنين الماضية.

كانت زوجته تتجنَّب مساعدته لأنَّها تعلم مسبقًا أنه يرفض أن تتجاوز الخطوط الحُمْر التي رسمها من حوله، وخاصَّة عندما يجلِّد الكتب. فلديه أنظمة وقوانين خاصة بهذه المهمة الحربية الدقيقة، ولا يستطيع تنفيذها أحدٌ غيره – على حدِّ زعمه! – حاسبًا، في دقة متناهية، المسافات، فلا تزيد ورقة تجليد ولا ينقص نايلون. والحمد لله – وله! – لأنه سمح لزوجته بالتنازل عن هذه المهمة الخطيرة برحابة صدر.

كانت تمسك ورقة بيضاء تريد أن تكتب شيئًا – خواطر ربما، أو قصة للأطفال – لكنَّ حزنًا خفيًّا كان يتسرَّب إلى قلبها، يمنعها من الكتابة، وكأن الكلمات رحلت تاركة بين يديها عباءة بيضاء. يئست من محاولة الكتابة، وقامت إلى المطبخ وجلبت له تفاحة مقطَّعة. هيأت السندويش، وجلست بدورها تراقب زوجها، قائلة له بكلِّ ثقة:

-       هل تدري أننا نعيش، أنا وإيَّاك، أكبر تمثيلية في العالم؟

أجاب:

-       وماذا يعني هذا؟ الحياة كلُّها تمثيلية، ولسنا إلا ممثِّلين على مسرحها، ثم فجأة... نختفي.

قهقه عاليًا. سألتْه علا:

-       ممثِّلين ثقيلي الظلِّ أم خفيفي الظلِّ يا ترى؟

أجابها:

-       لا يهم!

سألتْه:

-       وهل الظُّهور والاختفاء هما بطلا التمثيلية؟

أجاب بعناد:

-       طبعًا! ألا تكون الستائر مُسدَلة، ثم تُرفَع لنرى الأبطال؟ ثم ينتهي العرض، ويعود الجميع إلى بيته، ناسيًا حتَّى ما رآه. إنها الذاكرة، يا عزيزتي! الذاكرة أكبر خدعة يعيش في إطارها الإنسان. فمَن يستطيع تذكُّر حادثة ما كاملة، بتفاصيلها، دون أن يكذب بإقحام بعض الروتوش وبابتداعه بعض الأحداث التي لم تحدث قط. فما الغرابة، إذن، أننا نعيش معًا هذه التمثيلية؟ ولكن لا تنسَيْ أن الحبَّ موضوعها الرئيسي!

كان يتكلَّم دون أن يرفع رأسه لحظة، أو يرمقها بنظرة حتى. ضحكت علا، والحزن يملؤها، وراحت تغرق شيئًا فشيئًا – بل تحترق – مع معزوفة على العود لنصير شمَّة، ابتدعها حول غارة على ملجأ العامرية في العراق، معزوفة فيها من الرُّعب والكوارث والهروب من الموت، الذي لا مهرب منه، الشيء الكثير.

بينما كانت علا تصغي، رأت، بأمِّ عينيها، كيف أن الأمَّهات يركضن في الشَّوارع، يخفين أولادهنَّ تحت زنودهنَّ، دافعات إيَّاهم بقسوة للنزول إلى الملجأ، وترى الطيَّارات الأمريكية الأنيقة ذات الخمسة نجوم وهي ترمي عليهم حَسَكَ الأسماك التي كان يأكلها الطيارون ضاحكين، مقهقهين، ثم يغسلون زنخ أياديهم برشَّاش صغير من ليمون الرَّصاص، ممطرين به البيوت.

سمعَتْ علا صوت طفل إسرائيلي، يطلع من بين أوتار العود يبكي، ويبكي، قائلاً لوالده الطيَّار:

-       أبي، دعني أطير معك في الأباتشي... أرجوك بابا، فأنا لم أجرِّبها بعد! لقد سمعتك تلعب، حتى وأنت نائم...

-       ماذا قلت؟!

استغرب الطيار الإسرائيلي. أجاب الصغير:

-       نعم، يا بابا... استيقظت عَطِشًا في الليلة الفائتة، وتوجَّهت إلى المطبخ كي أشرب. ولما مررت قرب غرفتكما، أنت وأمي، سمعتك تقول: "الآن... اقصف، دمِّرْ، لا تدعه يفلت، آآآ، إيَّاك أن يفلت!" ثم غططتَ في شخير عميق. هنيئًا لك، بابا، تلعب حتى أنت ونائم... أما أنا فيُحرَّم عليَّ حتى استعمال مسدس صغير، حقير وحقيقي. إن هذا ليس عدلاً، ليس عدلاً، ليس عدلاً... سأطير معك في الأباتشي، يعني سأطير!

قال ذلك، ضاربًا قدمه على الأرض، متذمِّرًا. يجيب الأب:

-       لديك الكومبيوتر والأتاري يا ديفيد. أما الأباتشي فهي ليست لِمَن في عمرك. أعدك عندما تكبر أن أهديك إياها في عيد ميلادك!

وقبل أن يخرج الأب من البيت، كان قد استفَّ، هو وأمثاله، جرعات كبيرة من حبوب الواقعية ليتمكَّنوا من اللعب بهدوء وبلامبالاة أكثر. صلَّى صلاته، أبو ديفيد، قبل الخروج، قائلاً:

أشكرك، ربي، لأنَّك ما خلقتَني حيوانًا،

أشكرك، ربي، لأنك ما خلقتَني امرأة،

أشكرك، ربي، لأنك ما خلقتَني عربيًّا.

أما زوجته فكانت تصلِّي في سرِّها:

أشكرك، ربي، لأنك خلقتَني بحسب مشيئتك.

ثم تفتح له الباب بعد أن تمطره بالقُبَل، تودِّعه، مشجِّعة إياه على عدم التهاون، وخاصة مع الأطفال الرضَّع.

يتوجَّه أبو ديفيد إلى الملعب الذي لم يكن واقعًا افتراضيًّا، بل حقيقة من لحم ودم، يقتحم البيوت ليصفَّ شبابها الواحد قرب الآخر، كما كان يصفُّ زوج علا قطع اللاصق على حافة الطَّاولة، ثمَّ... طاق طاق طاق طاق طاق طاق... مماهيًا فوهة البندقية مع شعر الرأس.

ثم رأت قيصر روما، ذاك الشاعر الذي كان يعزف على قيثارته، والنَّشوة تملأ هيكله، عندما أحرق روما. فجأة، تتسارع ضربات العود، ويتزاحم اللاعبون في بطن العود، ويصبح مثل صندوق الدنيا.

ها هي ذي ترى مراوغة الدَّبابات لسيارات الإسعاف، وكيف أنَّها تتهادى بكلِّ طمأنينة في الزَّواريب، تركل الرؤوس مثل الكرات، تمرِّرها إلى باقي أعضاء الفريق الحديدي، وذلك في عرض حيٍّ مباشر من ملعب كرة القدم في جنين، بدون حَكَم، بدون صفَّارة. تستمع لتعليقات المذيع الرياضي الفذِّ بنيامين:

-       يبدأ الفريق الحديدي الآن بقصف عشوائي للكرات. ياااااااااا سلام! يا فريق كروي كهذا يا بلا، يااااااااااا... ضربة موفَّقة من الدبابة اليمينية إلى الدبابة اليسارية، تمريرة ذكية وغير متوقَّعة على الإطلاق! ها هم يحاصرون كابتن الفريق الحجري، الذي لا حول له ولا قوة، ليعلِّموه كيفية اللعب الحقيقي. إنه يتفرَّج... يتفرَّج... يتفرَّج، وكأنه كان يعلم بالحصار سلفًا. وااااااااااو... هدف! تهشَّم اللاعبون كلُّهم. ولكن غير مسموح بإدخال عربات الإسعاف إلى الملعب. هكذا القانون.

يتابع التعليق المذيع الفذُّ بنيامين:

- هيَّا يا شباب، لا يغرنَّكم النَّصر، تقدَّموا... تيقَّظوا... هناك، هناك... في زاوية الملعب بنطال مازال يتحرَّك، هناك، هناك قميص ليس لونه أحمر... ابحثوا بين المدرَّجات عن أمٍّ لا تضرب صدرها، عن نَفَس بقي حيًّا، عن بيت غير كسيح، عن طائر مقصوص الجناح، حنجرته مبحوحة. يزيل إلياهو، لاعب الوسط، بضربة حرَّة مباشرة، عشَّه... لا يهمُّ حجم العصفور، ولا يهم حجم الدبابة. المهم أن يعود أعضاء فريق الحجر كلِّهم إلى العصر الحجري، حيث لا بيوت، حيث لا إنسان... لا تتركوهم يلتقطوا أنفاسهم. لا يوجد عندنا تايم آوت. فاللاعب الاحتياطي يأخذ مكانه دون أن يبدِّله المدرِّب، ولا شيء مسموح للفريق الآخر إلا الصراخ!

ثم رأت طفلة تشدُّ فستان أمها، تسألها بإلحاح:

-       ماما، ألا ينام هؤلاء؟!

لم تجب الأم، لكنَّها كانت تصغي لصرخات لا تنام، لأيدٍ تصفِّق، تصفِّق، حتى اقتُطِعَتْ من الأكتاف، سابحة في الأجواء، تصفِّق، تصفِّق، على إيقاع أغنية ذاع صيتها في العام 1967 –  أغنية تقول: "مَن شاء ما شئنا له إمكانيَّة حياة، ومَن لم يشأ، له معطف الأموات..."

وتستيقظ علا من تداعياتها على صوت ابنتها تسألها:

-       ماما، هل أنهى بابا تجليد كتبي لأضعها في حقيبة المدرسة؟

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود