في الإنسان والمدينة 2

محاولة تشخيص للأزمة النفسِّية للإنسان المَدَني

 

ديمتري أفييرينوس

 

يرى أفلاطون بأن المدينة تنشأ أصلاً من عَجْزِ الفرد عن الاكتفاء بنفسه في سدِّ حاجاته المتنامية، فيجتمع في مكان واحد عددٌ من الشركاء المتعاونين يشكِّلون مجتمعًا يُطلَق عليه اسم "مدينة" polis، يتم فيه الأخذ والعطاء، بحيث يعتقد كلٌّ منهم أن التبادل يعود عليه بالمنفعة. بذلك يعزو أفلاطون نشأة المدينة في الأساس إلى ضرورة تلبية حاجات الإنسان المادية والمعنوية، مع كلِّ ما يتفرع منها. وإذن، إذا سلَّمنا بصحة كلام أفلاطون، كانت المدينة بِنْتَ الحاجة إليها.

بيد أن اجتماع الإنسان إلى الإنسان ليس مجرَّد ضمِّ كمٍّ إلى كَم. لذا ظلت المدينة تاريخيًّا مكان التفاعل وموضع لقاء الآخر. فهي، إذن، أول فضاء حرٍّ يتيح للإنسان التحقق بالبعد الاجتماعي الكامن فيه، بما يميِّزه عن الطبيعة وعن المجموع البشري في معناه الفج. فمع تمايُز الإنسان عن الطبيعة وعن العشيرة، وانقطاعه، إلى حدٍّ ما، عن التَّمَاس المباشر مع الطبيعة، حاول أن يفتِّش عن تعويض في تَمَاس من نوع جديد مع أنداده: تَمَاسٍ تفاعُليٍّ يؤدي، من ناحية، إلى نموِّه وتعزيز خصوصيته كشخص شَرَعَ يتفرَّد، وإلى إيجاد وعي إنساني جديد يتجاوز الأشخاص بما هم أشخاص، من ناحية أخرى. هذا ما يسمى "المدنيَّة" أو "الحضارة" civilization (وضدها في السياق العربي "البداوة") – عكس اللاتمايز والانكفاء على الجماعة الضيقة، القَبَلية أو العشائرية.

في المجتمع الجديد، تفتحتْ أداةٌ معرفية جديدة، نَمَتْ في الإنسان مع تمايزه عن الطبيعة، ألا وهي الفكر، الذي يغذِّي الخبرة الإنسانية، ويُنضِجُها، ويدفع بها إلى العودة إلى الطبيعة في مآل اكتمالها، غنيةً بخبرة "عمودية"، إذا جاز التعبير، بالإضافة إلى الخبرة "الأفقية" السابقة. في البداية، كان الإنسان متماهيًا مع الطبيعة، غائبًا فيها؛ ومع الخبرة الجديدة، بات في وسع الإنسان أن ينفصل عن الطبيعة – مرحليًّا – ليكتشف ما يقع فيما يتعدَّاها، أي ليكتشف في نفسه بُعدًا كلِّيًّا يتجاوزه كشخص، ويتجاوز الطبيعة، ويوحِّد فيما بينهما في آنٍ معًا.

لذا كانت هندسة المدن القديمة تجعل للمدينة مركزًا ومحيطًا، وتعتمد المربع أساسًا لها – من حيث إنه، بما أن المدينة كانت ترمز، من أحد الوجوه، إلى تحضُّر الرُّحل من الشعوب، كان شكلها المربع يرمز إلى الثبات والرسوخ والتعيُّن، في مقابل خيام الرحَّل أو مخيَّماتهم الدائرية التي ترمز إلى الحركة وعدم التمايز.

وبحسب علم النفس التحليلي ، تشكِّل المدينة أحد رموز "الأمِّ" في مظهريها: الحامي والمعيِّن، وهي من نَسَق المبدأ المؤنث عينه. المدينة أيضًا رمز إلى الكلِّية Totality والتكامل الداخلي؛ ودخول البطل إلى المدينة، في الأساطير والقصص والأحلام، وبلوغُه مركزها المتمثِّل بالحَرَم الديني (الهيكل أو المَقْدِس)، يشير إلى التكامل الداخلي وتحقُّق قوى النفس بممكناتها ("التفردن" Individuation Process، بحسب كارل يونغ).

وحتى على الصعيد الاجتماعي، كان المجتمع بأسره – بفئاته كافة – يتكامل في المدينة: المقدَّس، الذي يضمن نقل القيم والثقافة؛ السلطة، بفرعيها المدني والعسكري؛ والسوق باستطالاته الحِرَفية. ذلك أن المدينة كانت تُبنى قديمًا بحيث يعكس مخططُها البنية الباطنية الثلاثية للإنسان: القلب (أو الروح) والنفس والجسم. القلب يقع في المركز من الكائن الإنساني، ويرمز إليه الهيكل؛ ومنه تتفرع الشرايين (الشوارع) التي تغذي بالدم الأعضاء النبيلة (المدارس) وما تبقَّى من المدينة: الهيئة الحاكمة التي ترمز إلى النفس، والأسواق، بحوانيتها وحماماتها ومختلف نشاطاتها الاقتصادية، التي ترمز إلى سائر أطراف البدن ووظائفه. أما أبواب المدينة، التي غالبًا ما كانت سبعة، فهي ترمز إلى حواس الإنسان الخمس الكثيفة والحاستين اللطيفتين (الحدس والفكر)، أو، كوسمولوجيًّا، إلى الكواكب الخمسة والنيِّرين (الشمس والقمر).

وجودُ المدينة، في حدِّ ذاته، مفارقة، من حيث هي تؤدي إلى انقطاع الإنسان جزئيًّا عن محيطه الطبيعي وعشيرته؛ لكنها تعوِّض هذا النقص باللقاء مع الآخر المختلف:

1.    المدينة، في مرحلة أولى، مكان يؤمُّه الإنسان قابلاً أن يفقد شيئًا من هويته العشائرية الجماعية ليتفرَّد؛

2.    والمدينة، في مرحلة ثانية، مكانُ تفاعل الأفراد لإبداع "حضارة" تتخطَّاهم وتعكس "كلِّيتهم" (وليس مجموعهم الحسابي)؛

3.    والمدينة، في مرحلة ثالثة، إذ تتطور، تصبح المكان المنفتح على العالم ككل، المكان الشبيه بالميناء الذي تتحرك فيه البضائع والثقافات بحرية تامة – مكان التفاعل العالمي الشامل.

لكلِّ ما سبق، اتصفت المدينة تاريخيًّا بصفات حافِظة (كأن تكون ملجأ الناس أيام الحرب). وبالتالي، كان يكفي لاحتلال أراضي بلاد ما الاستيلاءُ على المدينة (من هنا أهمية حصار المدن في التاريخ).

أما اليوم، فقد اختفى هذا المعيار لأن الأسباب الرئيسية لنشأة المدينة قد انعدمتْ. حتى التجارة، مع حَوْسَبتها المتزايدة، أصبح في إمكانها الاستغناء عن المدينة – فما بالك بالبُعد الثقافي–الحضاري؟! الساحة العامة – الأغورا agora (ونموذجها المصغَّر سوق عكاظ في التاريخ العربي) – حيث يبلغ التفاعل الثقافي والتبادل التجاري أوْجَه، لم يعد لها من معنى مع تطور وسائل الإعلام وتسطيحها. وبذلك قد لا تكون مدن العالم الكبرى اليوم سوى "واجهة" خارجية تقنِّع وجه الاستهلاك القبيح. وحتى في الحرب الحديثة، لم تعد المدينة ذلك المكان الاستراتيجي الذي كانتْه (ليس للمدن الحديثة تحصينات أو أسوار).

لقد زال المفهوم القديم للمدينة، لكن الناس ما برحوا يَفِدُون على المدن ويتكتَّلون فيها؛ لا بل إن مصير البشرية ككل أمسى "مدنيًّا" – على الأقل في الأفق المنظور. وبذلك زالت الحاجة إلى المدينة، وحلَّتْ محلَّها "الرغبة" في المدينة (من هنا الهجرة الكثيفة من الريف إليها).

اليوم لم يعد للمدن مراكز (في أمريكا الشمالية بوجه خاص)، ممَّا أدى إلى أزمة هوية – وهذا ليس لأسباب عمرانية أو اقتصادية صرف. لقد أضحت المدن كلُّها محيطًا بلا مركز (مما يعكس غياب شعور الإنسان بمركزه الداخلي)، ولم يعد لمركز المدينة من مدلول إلا المدلول "الجمالي" وحسب. صار الناس في المدن الكبرى يعيشون في المحيط، غائبين عن مركزهم، تسحقهم المسافات الاجتماعية والجغرافية.

واليوم أيضًا – وهذه مفارقة أخرى – زال مفهوم المدينة نفسه، على الرغم من توسع المدن توسعًا سرطانيًّا، وذلك لأن المدينة أمست مكان العزلة والتجمُّع، لا مكان اللقاء والاجتماع (التمييز بين "التجمُّع" و"الاجتماع" للفيلسوف ندره اليازجي). ومع الإمعان في هذه السيرورة، سيصير الإنسان المدني، في مستقبل ليس ببعيد، مع علمه آنيًّا بما يحصل في بقاع أخرى من العالم من أحداث وحوادث، كيانًا منقطعًا عن العالم، معرفيًّا وإنسانيًّا، ومعزولاً وجدانيًّا.

تقوم فكرة المدينة أساسًا على كونها مكان المعرفة والأسرار والزوايا والاشتباك الحياتي المذهل. لكن تبنِّي فكرة التطوُّر، بمعنى التقدم الخطِّي المتواصل إلى الأمام، انعكس على تخطيط المدن، فظهر بعد الثورة الصناعية مفهومُ المدينة الحديثة، "المُعَقْلنة" rationalized، الشاقولية، وتوحَّدتْ معايير البناء، متحرِّرة و"محرِّرة" من كلِّ شخصانية. وهذا المفهوم "الشاقولي" للمدينة، إذا جاز التعبير، مع كلِّ ما وفَّره من أسباب الرفاهية، ومع الرَّواج الذي لاقاه، لم تؤخذ عواقبُه في الحسبان إلا بعد فوات الأوان. لقد أخذ المنظِّرين له الحماسُ؛ وهم، في رغبتهم المحمومة في "خدمة" المجتمع، وجدوا أن الأصلح له هو تجزئة حياة الناس إلى قطاعات أو "حجرات" (من "الحَجْر")، فأوجدوا أماكن للعمل، وأخرى للمأوى، وأخرى للترفيه، وأخرى للاستهلاك. (وهذا بالطبع ناجم في الأساس عن تصوُّر للعالم كأجزاء منفصلة، وعن تصور الإنسان كمجرَّد حزمة دوافع كمِّية.) هناك قطاع للنوم: المناطق السكنية؛ قطاع للعمل: المكتب والمصنع؛ قطاع للاستهلاك: السوبرماركت والمول؛ قطاع للتسلية: مركز المدينة (وبذلك تغيرت وظيفة هذا الأخير من مكان التفاعل الثقافي إلى مكان "الترويح عن النفس")؛ وتصل بين هذه القطاعات طُرُق عريضة لكسب الوقت. اختفت "الحارة" القديمة، بكلِّ مظاهر اشتباك الحياة فيها، وبكلِّ أسرارها، وحلَّتْ محلَّها أماكن مسطَّحة، لا هوية لها، تتعالى فيها أعمدةٌ إسمنتية لا تنطوي على أيِّ سر – وفي ظنِّ أولئك المنظِّرين أن هذا كلَّه يؤدي إلى السعادة رأسًا! (لقد تبيَّن أن العكس هو الصحيح: فمن الآثار السلبية نفسيًّا للحياة في المدينة: الأمراض النفسية، من قلق وحَصْر وإنهاك عصبي، نتيجة العمل الشاق والضجيج المستمرين – ناهيك عن التلوث القاتل – لا تُعوَّض بتَمَاس مرمِّم مع الطبيعة؛ وهذا كلُّه بالطبع يُترجَم إلى ارتفاع طرديٍّ في نِسَبِ الإجرام وجنوح الأحداث.) غير أنهم نسوا الحياة، تجاهلوها، وأغفلوا أن المكان تعبير عن الثقافة. تعقيد الحياة، في اشتباك مظاهر تحوُّلاتها، اختُزِل إلى تعقيد شبكات الاتصال والمعلومات، وإلى تعقيد العلاقات الهرمية في الاقتصاد والسياسة.

لقد كان "ملعونو الأرض" (ماركس) يحلمون في المدينة بعالم يصيرون فيه ملوكًا. فبِمَ يحلم أبناؤهم اليوم؟ الواقع أن "الثورة" الوحيدة التي يتشوَّق هؤلاء إلى إعلانها هي ثورة الاستهلاك!

فهل لنا اليوم أن نبتدع مفهومًا جديدًا، أصيلاً، لحياتنا في المدينة؟

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود