|
جبران
والتراث العربي ارتبَاط
كيانيٌّ بثقَافة العرب وقيَمِهم وروح
الشَّرق ربيعة أبي فاضل في جبران والتراث
العربي*
يبحث، نصًّا ودرسًا، في المؤثرات التي
وسَّعتْ اهتمام جبران خليل جبران (1883-1931)
بتراث العرب الجمالي والفكري. فهو، في صباه في
بْشَرِّي وتلك النواحي، جرَّب الشعر باللهجة
المحكية؛ وهو، في بوسطن يافعًا، منفتحٌ على
مخزن الشرق النوراني؛ وهو، في بيروت شابًّا
في مدرسة "الحكمة"، مشغوف بـكليلة
ودمنة ومقدمة ابن خلدون ونهج البلاغة.
لكن بقي جبران، في معظم فترة غربته، ينصت إلى
تعاليم الثورة الفرنسية، فكان صداها خفيًّا
مبثوثًا في تضاعيف ما قصَّ وروى. يشير
أبي فاضل إلى أن جبران ارتبط كيانيًّا بنظرة
العرب إلى الوجود، وانبرى للدفاع عن حقوقهم
وتطلعاتهم، وأنه رَفَدَ التراث العربي من
جوانب أربعة: ففي الجانب الديني كلامٌ له على
الإسلام والرسول والإمام علي والقرآن؛ وفي
الجانب الصوفي كلامٌ له على ابن الفارض
والغزالي وأفرام السرياني ويوحنا الدمشقي؛
وفي الجانب الفكري كلامٌ لجبران على ابن رشد
وابن خلدون وابن سينا وأبي العلاء؛ وفي
الجانب الأدبي كلامٌ له على مَن أحبَّ (المعري،
أبي نواس، المتنبي، أديب إسحاق، الخنساء،
عنترة) وعلى العربية، أدبًا ونقدًا ولغةً
وحضارة. وبعد أن
يقف الباحث أبي فاضل على العوامل التي
رَفَدَتْ جبران بالثقافة العربية ويكتشف
العناصر التراثية، على تنوعها، في الإنتاج
الجبراني، يخلص إلى أن جبران ارتبط بثقافة
العرب وقيمهم وبروح الشرق، وأن علاقته
بالحياة العربية تطورت من ارتباط رومنطيقي
إلى التزام سياسي مُعادٍ للبطش العثماني
والفكرة الصهيونية، معًا، ثم إلى انسحاب صوفي
وإيمان بالخلاص الفردي؛ وأن فكر جبران
السياسي اتسم بالاضطراب والغبش؛ وأن غايته
انصبَّتْ على القومية المنفتحة المنصهرة
الواعية في منأى عن التعصب؛ وأنه عاد إلى حياة
الوحدة والانفراد، فاعتزل وغاص في ذاته؛ وأنه
كان سبَّاقًا إلى إقامة الموازنات
والمقارنات واختراق المألوف. الطريف
في مبحث ربيعة أبي فاضل رَفْضُ صاحبه التطرف
في الحكم على الفكر الجبراني، من أمين خالد
وخليل حاوي وشارل مالك وأدونيس، إلى خوض
الباحث مسألة الدور الريادي التجديدي الخلاق
لجبران والمهجريين في غير كتاب من كتب النقد
المعاصر لنا: فقد
رأى الدكتور نديم نعيمه أن هذا التجاهل هو
تمويه وتزييف وتضليل لحقيقة الواقع. وللدكتور
أنطون غطاس كرم رأي مشابه، وفيه أن الشعراء
الجُدُد ليسوا جُدُدًا تمامًا. فالسابقون،
انطلاقًا من جبران، خلقوا هم، أيضًا،
أساليبهم الجديدة. (ص 49-50) "إرم
ذات العماد" أو النص الجبراني في أبعاده و"إرم"
هذه الجبرانية (ص 105-118) مسرحية شخوصُها زين
العابدين النهاوندي (معروف بالصوفي، درويش
عجمي في الأربعين)، ونجيب رحمة (أديب لبناني
في الثالثة والثلاثين)، وآمنة العلوية، أو
"جنية الوادي" التي لا يعرف أحد عمرها؛
والمكان غابة بين منبع العاصي وقرية الهرمل؛
والزمان 1883. كان
جبران نشر "إرم ذات العماد" في كتابه البدائع
والطرائف، وصدَّرها بآيات من القرآن
الكريم وبحديث شريف ونبذة عن إرم في سِيَر
الملوك للشعبي؛ أما الآيات فهي من سورة
الفجر (6-8): "ألم ترَ كيف فعلَ ربُك بعاد.
إرمَ ذاتِ العماد. التي لم يخلق مثلها في
البلاد." والحديث: "يدخلها بعض أمَّتي."
والنبذة قصة بناء إرم كأنها جنة مزخرفة من ذهب
وفضة ومسك وعنبر. ويخص أبي فاضل "إرم"
جبران بخمسين صفحة من أصل الكتاب (136 صفحة من
القطع الكبير، تزينه منحوتة الحويِّك لجبران). نجيب
رحمة، الطالب الساعي إلى المعرفة، يقصد زين
العابدين، وسيطَه إلى سماع حكاية دخول آمنة
إرم، "الحالة الروحية الخاصة بالمغتبطين"
(ص 57). وتعاليم آمنة تتلخَّص في وحدة الجسد
والروح، ووحدة الوجود، والتديُّن كحالة
استبطانية، ووحدة الأديان، وخلود الحياة،
إلخ. والأهم أن الخيال مصدر معرفة. لكن
القصة–المسرحية غنية بالحِكَم الموحية، من
مثل: "إنما الإيمان بالشيء المعرفة بالشيء"،
و"كلُّنا غريب في كلِّ مكان"، و"مَن لا
يشعل سراجه لا يرى في الظلام سوى الظلام".
والقصة حقل نور في مفرداتها ("أنوار"،
"أثير"، "نهار"، "المشعل"، إلخ).
أما آمنة فـ"نيزك" و"ندى الصباح".
ونجيب أديب لبناني، مسيحي، ينظر إلى الأديان
مجرَّدة من زوائدها المذهبية والاجتماعية،
ويسأل نفسه "من أنا؟". وزين العابدين
ضاعف شوق نجيب للوقوف في حضرة آمنة. في
تحليله لإرم جبران يومئ أبي فاضل إلى أن
كاتبها أراد التحرر بالتصوف؛ إذ عاد إلى
التصوف العَلَوي الشيعي، حيث "علَّقتْ
الإسماعيلية أهمية كبرى على التبنِّي الروحي"
(ص 67). ففي "إرم" صَهَرَ جبران النزعات
الصوفية، من دون أن تغيب عنها حركةُ الزمان،
والنزعة الإنشائية، وظاهرة التكرار
والتوكيد، وظاهرة التعارُض والثنائيات
الضدية، إلى الصور والإيقاعات. ثم
ينبِّه الباحث، في صدد "إرم"، إلى ما
قاله د. نديم نعيمه من أن المهجريين أحلُّوا
الرمز (خاصة جبران ونعيمه وعريضة)، للمرة
الأولى في الأدب العربي الحديث، المكانةَ
الأولى في عملية البناء الشعري. وقد بلغ
الرمزُ بأحدهم – وهو نسيب عريضة – أن أدْخَلَ
الشعر، أسوةً بالشعراء الغربيين، عالمَ
الأسطورة، راجعًا فيه إلى مخزون التراث
العربي السحيق، وذلك كما يتجلَّى في مطوَّلته
الملفتة "على طريق إرم". (ص 100، عن نعيمه، الحداثة
والتراث، ص 148) فيما
يلاحظ أبي فاضل أن الذين كتبوا عن "إرم"
من المهجريين، شأن إيليا أبو ماضي وسواه، لم
تصل رؤاهم إلى الحالة الجبرانية وتجلِّيات
عريضة، وأن نعيمه، في همس الجفون ومذكرات
الأرقش ومرداد، حقَّق حرارة الأسلوب
وعمق الإيمان وهاجس الإبداع، كما لدى جبران
وعريضة. وعليه،
يخلص الباحث إلى أن المهجريين، كان الريحاني
مهَّد لهم الطريق في كتاب خالد – وهو المدرسة
الأدبية الروحية الأولى، التي نهضت بالتراث،
ومثَّلت المستقبل، وخلَّدت الأدب بجعله
رسالة جمال، وكمال. فهم ارتقوا بالنصِّ
الجمالي العربي، بعد فرنسيس المرَّاش وأديب
إسحاق وولي الدين يكن، إلى ذروته المباركة. (ص 102) على هذا
النحو يردُّ د. أبي فاضل إلينا جبران من غربته
في أكثر نصوصه أثيرية. إذ يستلهم أسطورة
طريفة، قيل فيها إن إرم مدينة أرادها شداد بن
عاد على صفة الجنة. وكان شداد جبارًا، سمع
بالجنة وما أعدَّ الله فيها لأوليائه من قصور
الذهب والفضة، فوكَلَ مئة ألف من الأعوان أن
يختاروا أطيب تربة في أرض اليمن، ويقيموا
عليها ثلاثمائة ألف قصر، وله قصرًا منيفًا
خاصًّا به في وسطها. ثم إن الله تعالى انتجب
هودًا، عليه السلام، ليدعو شداد إلى التوبة؛
لكن هذا الجبار بن عاد تمادى وطغى وكفر،
فأنذره هود بالعذاب وحذَّره وخوَّفه زوال
ملكه. لكن شداد تنمرد ولم يُجِبْ هودًا إلى ما
دعاه إليه. فما أن كان الفراغُ من بناء إرم ذات
العماد حتى سار شداد نحوها على رأس ثلاثمائة
ألف من حرسه؛ ولما اقترب منها جاءت صيحةٌ من
السماء، فمات شداد وصحبُه أجمعون، ولم يبقَ
منهم مخبِّر. فبقيت المدينة خلاء، لا أنيس
بها، وساخت المدينة في الأرض، أي صورة
مدينتنا اليوم. ولكن بقي النص ومن علَّق عليه،
ولله في خلقه شؤون! وفي الطبقات
الكبرى لابن السبكي، قيل إنه وُجِدَ في
خزائن عاد سهم مفوَّق، مكتوب عليه لابن عباس: أليس
إلى أجيال صبح، بذي اللِّوى * لوى الرمل،
فاعذر للنفوس معاد وبعدما
غاصت إرم في رمال الصحراء، صارت تظهر كما في
الرؤية كلَّ أربعين عامًا؛ وهي تحمل الحظَّ
السعيد لمن يراها. أما نحن
الجبرانيون، نشأةً وهوًى وعقيدة، فقد خُتِمَ
على قلوبنا، وما عُدنا نرى إلا النجوم ظهرًا
والكوابيس فجرًا – شفانا الله من الحمَّى
الجبرانية! ***
*** *** عن النهار، الجمعة 3 أيلول
2004 * صَدَرَ
عن دار المشرق، 2004.
|
|
|