|
بين
الزَّمن والأبديَّة حاز
العالم والفيلسوف الكبير إيليا بريغوجين على
جائزة نوبل في الكيمياء في العام 1977 تتويجًا
لأبحاثه في حقل ترموديناميكا النظم البعيدة
عن التوازن، وخاصة البُنى المُبدِّدة structures dissipatives،
أي التي تتبادل الطاقة مع الوسط المحيط. وقد
انشغل بريغوجين منذ سنوات عديدة بمفهوم الزمن
الذي يشتمل قانون الترموديناميكا الثاني
عليه. إيليا
بريغوجين (1917-2003) يقول بريغوجين: "إن
المفهوم الكلاسيكي المُجرَّد للزمن قاد إلى
إلغائه، وبالتالي إلى صعوبة أساسية في فهم
الزمن في عالم صَنَعَه الزمن!" ويضيف: نشهد
اليوم انبعاثًا جديدًا للزمن كحقيقة وضعية.
فهو يظهر في عالم القُسَيْمات البسيطة، على
مستوى الكون وتطوره، في البُنى البعيدة عن
التوازن. ويومًا بعد يوم يزداد، عدد
السيرورات المُكتشَفة غير العكوسة أو التي
تمتلك اتجاهًا زمنيًّا يُقارب ذلك الإنسان
والطبيعة؛ إذ يتبين أن التاريخ الزمني الذي
يعرفه عالمنا البشري هو خاصية عامة جدًّا. لكن
هنالك مسألة عميقة: عندما نجد سيرورات غير
عكوسة في الطبيعة، كتلك التي يصفها قانون
الترموديناميكا الثاني، يجب أن نقرِّر كيفية
النظر إليها. فلا يمكن قبول النظرة
الكلاسيكية القائلة بأن التحولات غير
العكوسة هي محض تقريب لقوانين الحركة التي لا
تتغير مع تغيير إشارة الزمن... وقد عرض بريغوجين،
بالمشاركة مع ستنغرس، لنظرته هذه في كتاب أول
بعنوان التحالُف الجديد[1]
(أو في الإنكليزية النظام من الشواش)،
حيث وصفا تطور العلوم من العصور الوسطى إلى
نهاية السبعينات، مُركِّزيْن على تطور مفهوم
الزمن، وخاصة في الترموديناميكا.
يعود المؤلِّفان في كتابهما
هذا[2]
إلى الزمن مجددًا. فكما تبيَّن من قول
بريغوجين السابق، يمثل الزمن جوهر عمله
العلمي والفلسفي ومحوره. ومشروع بريغوجين
واضح: فمن الجلِّي أن تاريخ البشرية يمتلك
اتجاهه الزمني، وكذلك للتطور البيولوجي
اتجاهه، إلخ. لكن ثمة ميادين أساسية يبدو وكأن
الزمن غريب عنها. إنها، على وجه الخصوص، ميدان
عالم الصغائر وميدان الكوسمولوجيا (أي ميدان
ولادة الكون، وبالتالي الزمن، وتطورهما).
وعلى هذا، يصف بريغوجين، من بين أشياء أخرى،
أحدث الدراسات التي تهدف إلى جعل الزمن
عاملاً أساسيًّا في هذين الميدانين. بالنسبة لبريغوجين، يترجم
نجاحُ الوصف العكوس في الميكانيكا الكوانتية
التقليدية خصوصيةَ التفاعل بين الذرة والحقل
الكهرمغناطيسي، ولا يمثل حقيقة جوهرية. أما
فيما يتعلق بمسألة القياس في الميكانيكا
الكوانتية، فيرى بريغوجين أن العقبة تكمن في
الصياغة الرياضية المبنية على مفهوم النظام
الديناميِّ القابل للمكامَلة (بالمفهوم
الرياضي). يقول بريغوجين: إن
الصياغة الكوانتية الثنائية الحالية، حيث
يوجد تطور تابع الموجة – وهو تراكُب توابع
خاصة – مع اختزاله الذي يكسر هذا التراكُب،
تجد معناها الفيزيائي في تصنيف المنظومات
الديناميَّة. إن الحَدَث الكوانتي الذي يتميز
بزمن حياة – وليس الرَّصد – هو الذي يكسر
التراكُب الكوانتي. وعلى هذا، يجب التخلِّي عن
تابع الموجة، واستبدال معادلة حركية تمتلك
تناظرًا زمنيًّا مكسورًا (أو مقطوعًا) به. أما على مستوى
الكوسمولوجيا، فإن المدرسة التي ينتمي
بريغوجين إليها ترى أن الكون ينتج عن حالة عدم
استقرار خلاَّق يمكن له أن يتكرر مرارًا (وهنا
نرى الأبدية).
هذه المفاهيم الحديثة، التي
لم يفرغ المشتغلون عليها من تطويرها
وتكميلها، يحتاج فهمُها إلى معرفة رياضية/فيزيائية
كبيرة؛ وهي، من اليوم، تأتي بتوقعات مخبرية
يمكن التحقق منها قريبًا. وتمثل رؤية
بريغوجين للزمن تأليفًا بين وجهتَي نظر كلٍّ
من برغسون وأينشتاين، اللذين اختلفا حول
مفهوم الزمن: إذ رأى الأول ضرورة وجود زمن
داخلي خاص بالكائنات. لو أن بريغوجين نجح في مسعاه
لكان قام بإحدى أكبر الثورات في تاريخ العلم،
ثورة من شأنها أن تبدل نظرتنا إلى العالم
برمَّتها. لكن، من الآن، تعرف نظريات
بريغوجين تطبيقات واسعة في الكيمياء، في
البيولوجيا، في علم الاقتصاد، في علم
الاجتماع، إلخ. لا شكَّ أن المستقبل العلمي
القريب شائق ومثير. فلننتظر... يبقى أن نشيد بالترجمة
الممتازة لكتاب بريغوجين وستنغرس التي نهض
لها موسى الخوري[3]، متحديًا بها
جدَّة الأفكار وعمقها وصعوبتها، وقصور اللغة
العربية عن مواكبة طلائع الفكر الفلسفي
العلمي الحديث. ***
*** *** [1]
I. Prigogine & I. Stengers, La Nouvelle Alliance : Les métamorphoses
de la science (Gallimard : Paris, 1979, 1981, 1986). [2]
I. Prigogine & I. Stengers, Entre le Temps et l’Éternité
(Fayard : Paris, 1988, Champs-Flammarion :
Paris, 1992). [3] إيليا بريغوجين، إيزابيل
ستنغرز، بين الزمن والأبدية، بترجمة
موسى ديب الخوري، معهد الإنماء العربي،
بيروت، 1999.
|
|
|