|
إيديولوجيا الحرب
وفلسفة السلام إن
أقسى ما يواجهه الإنسانُ لدى وعيه لذاته،
كائنًا قائمًا في وجود غريب لم يَخْتَرْه وفي
حياة لم يكن هو في أصل انطلاقتها بل وصلت إليه
عبر الآخر، هو كيفية اللقاء مع الذات ومع
الآخرين، ومعايشة كمٍّ هائل من الألغاز
والأسرار يطفح بها الوجود في كلِّ طياته،
وكيفية معالجة القلق والخوف وإرساء قواعد
سلامية تؤمِّن ديمومة التلاقي خارج دائرة
الصراع والتناحر ومنطق المحاذرة من الآخر
حِفاظًا على الذات. مَن
في إمكانه أن يُفلت من وطأة هذه الأسئلة؟ إننا
لا نغالي البتة إن ذهبنا في تحليلنا إلى
التأكيد على أن قضية الإنسان الكبرى تُختصَر،
مع تشعباتها وتعقيداتها، في مسألة واحدة:
السلام – السلام مع الذات والسلام مع الآخرين
– كشرط أساسي للحصول على نوع من السعادة
النسبية، ضالَّة الإنسان الأساسية. وهكذا نرى
الإنسان يفتش عن الطمأنينة في القلق، وعن
السلام في الحرب، وعن السعادة في الآلام
والأحزان. هذا الإنسان، الذي هو الكائن
المفتش أبدًا عن حقائق هاربة، يظهر كأن
طبيعته مفطورة على النمو والتطور داخل معادلة
التناقض والتعارض. يُرجِع
العديد من المفكرين والفلاسفة ظاهرة العنف
والصراع في حياة الإنسان إلى جوهر طبيعته
التي تتحكم فيها نواميس المحدودية. وبسبب
النقص والخلل اللذين يقوم عليهما الوجود
الحسِّي يتحول الزمن إلى تاريخ، أي إلى
مجموعة أحداث يجمع بينها، معظم الأحيان،
الطابعُ المأسوي. من هنا القول الذي أصبح
مأثورًا: "إن الشعوب السعيدة لا تاريخ لها."
ذلك أن الإنسان السعيد يرتمي عادةً في أحضان
الأحداث المفرحة وينساب في تغضُّناتها، كأنه
أُعتِقَ من أغلال الزمان والمكان، وَوَلَجَ
في مساحات الأبد التي تردع التاريخ عن التسلل
إليها والإقامة فيها. ونسأل هنا بحق: هل هناك
شعوب لم تدوِّن لنفسها أحداثًا تاريخية؟
قطعًا لا. إذن، ليست هناك شعوب سعيدة. هذه
الحقيقة دفعت جان بول Jean-Paul
في كتابه إعلان الحرب على الحرب في العام
1809 إلى القول: "حتى الآن، إنها الحرب التي
ملأت فصول كتب التاريخ. السلام لم يُضِف هنا
وهناك إلا بعض الهوامش." وتأتي
في هذا الإطار إحصاءاتُ علماء الحرب polémologues
لتثبت، بالأرقام، المساحة الشاسعة التي
تحتلها الصراعات الدموية بين الشعوب كافة.
فعلى مدى ثلاثة آلاف سنة، أمكن إحصاء زهاء
مئتين وإحدى وسبعين سنة سلام كانت تحضيرًا
لشنِّ حروب أو لردعها. وهكذا، يبدو العنف ليس
فقط كلصيق بمكوِّنات الوجود، بل أيضًا –
وبخاصة – كمحرِّك لها طبقًا لهدفية يصعب على
الغائص في خضمِّ الأحداث أن يستقرئ مدلولاتها. إن
رصد هذا الواقع دفع بفيلسوف إفِسُس، هرقليطس،
في القرن السادس ق م، إلى اعتبار الحرب polemos،
أي مبدأ التعارض، أمًّا تلد كلَّ الكائنات،
الجامدة والحية، تبعًا لقوانين الحركية التي
هي وحدها، على حدِّ قول هرقليطس، في أساس
الوجود واستمراريته. من هنا انتقاده العنيف
لكلِّ التضرعات والابتهالات التي كان الناس
يصعِّدونها للآلهة لكي يستتبَّ السلام. كان
هوميروس مخطئًا في قوله: "ليت الخلاف يضمحل
بين الآلهة والبشر"، ولم يكن يعلم أنه كان
يصلِّي من أجل تدمير الكون؛ فلو استُجيب
لصلاته لهلكت الكائنات كلُّها. هذه النظرة
إلى الحياة والوجود حافظت على وهجها
الماورائي حتى تلقَّتْ زخمًا جديدًا في فلسفة
هيغل، حيث الجدلية التاريخية والصراع يظهران
كأنهما ترجيع مباشر لصدى حدس فيلسوف إفِسُس
الذي يتألق في التحديد التالي لمبدأ التعارض:
"يتآلف الضدُّ والضدُّ؛ وأبهى تآلف هو ذاك
الذي يجمع بين الأضداد." غير
أن هذه النظرة الإيجابية إلى مبدأ الصراع لم
تلقَ إجماعًا لدى المفكِّرين، خاصة في حقلي
علم الاجتماع والعلوم السياسية. ويبدو أن
الانتفاضة الفكرية ضدَّ الجدلية التاريخية
التي تُلقي بمرساتها في عمق التيار العنفي،
بغية التجديد الدائم وإسقاط ما ترهَّل من جسم
البشرية، تستمد قوة دافعة من حضارة المحبة
التي أرستْها المسيحية على قواعد التضحية
بالذات والغفران وقبول الآخر المختلف على ما
هو عليه، كخلية حية في جسد البشرية الواحد،
القائم على الوحدة في التنوع. ومن دون أن
نتوغل كثيرًا في استعراض شامل للأفكار،
المؤيدة لمبدأ العنف والمعارِضة له، نكتفي
باستذكار، كتمهيد سريع لمقاربتنا الفلسفية
لجوهر الصراع والسلام. مع
المفكر إرَسْموس Erasmus
في القرن السادس عشر، ظهر تشديد قويٌّ على
ضرورة التجديد المستدام وحتميته، لكن خارج
دوامة العنف ومن داخل المؤسَّسات
والمنظَّمات، ضمن حركة تطويرية هادئة وهادفة.
ففي موضوع الحرية، تحت عنوان مستقى من قصيدة
الشاعر اليوناني بنداروس Pindare
الحرب طيبة للذين لم يخوضوها
(1515)، يقول إرَسْموس: إن كان هناك أمر بين
شؤون البشر يَحسُن بنا أن نُقبِل عليه بتردد،
أو بالأحرى أن نتفاداه ونطرده بصلواتنا
ونُبعِده بكلِّ الوسائل، فإنه بالتأكيد
الحرب. ويتابع
مفكر روتردام، في مقالة أخرى تحمل عنوانًا
أعمق حزنًا وأشد كآبة، رثاء السلام (1517): الحرب آفة الدول
ومقبرة العدالة. في قرقعة السلاح تصمت
الشرائع [...]. فإذا كان الكفر ونسيان الدين
يكمنان وراء المآسي فهذان الشرَّان يبلغان
أقصى حدودهما في عنف الحرب. وفي
مقارنته بين ويلات الحرب وخيرات السلم يبيِّن
إرَسْموس الأمور الآتية: علينا أن نقضي على
أسباب الحرب في مهدها. ومن أجل ذلك ينبغي لنا
أن نغضَّ الطرف عن بعض الحقوق. فهناك حالات
تفرض علينا واجب شراء السلام. وعندما نقوم
بعملية إحصائية لتكاليف الحرب ولعدد
المواطنين الذين سينجون من الموت، يبدو
السلام كأنه اشتُرِيَ بسعر زهيد، مهما كان
ثمنه. وعندما نفكر، بعد ذلك، في الأوجاع التي
تفاديناها والممتلكات التي أنقذناها، لن
نتأسف كثيرًا على ثمن السلام الذي نكون قد
دفعناه. إن
هذا الفكر اللاعنفي، المستوحى مباشرة من
سلامية الإنجيل، لم ينجح في تعديل مواقف رجل
القانون والديبلوماسية الهولندي هوغو
غروتيوس (1583-1645) الذي يضع كلَّ رفض قاطع لمبدأ
الحرب في خانة اللاواقعية. ففي كتابه حق
الحرب والسلم (1625) يسعى المؤلف لا إلى رذل
الحرب باسم مبادئ إنسانية وأخلاقية، بل إلى
شَرْعَنَتِها بضوابط قانونية تتحكم في
اندلاعها عند الضرورة القصوى، بعد سقوط كلِّ
المفاوضات والمساومات. إن
مذكرة الأب دو سان بيار لجعل السلام ثابتًا في
أوروبا (1712)، بعد عودته من مؤتمر السلام في
أوترخت، لا تنهل من مبادئ بعيدة عن تلك التي
كانت في انطلاقة تفكير غروتيوس. مع الأب دو
سان بيار، خرجت مسألة السلام من دائرة
الاعتبارات الأدبية والمقتضيات الدينية التي
توقف عندها إرَسْموس، لتدخل فعليًّا في إطار
المعالجة السياسية: الأمن الجماعي بات خاضعًا
لسيادة القانون. انطلاقًا من هذه الواقعية،
اقترح تشكيل قوة تدخُّل تردع الأعضاء، داخل
ما يسمِّيه "الجسم الأوروبي"، الذين قد
لا يحترمون الحلف السلمي بين أمم أوروبا. إن
هذا المشروع من أجل سلام دائم، كما نلاحظ، كان
مصمَّمًا فقط للدول الأوروبية. فلكي نخرج من
هذا النطاق الضيق، علينا أن ننتظر ظهور روسو
وكانط على مسرح المشاريع الفلسفية حتى نقرأ
مقارباتٍ لسلام شامل. في
سياق إبداء رأيه في مخطط السلام الدائم
للأب دو سان بيار في العام 1761، يعترف روسو
بأهمية اقتراحات المؤلِّف ويصف الكتاب
بالجريء والعميق والضروري جدًّا، لكنه لا
يلبث أن ينتقد بساطة المؤلف التي تَتَمَظْهَر
في عدم توقفه بما فيه الكفاية عند الوسائل
العَمَلانية الآيلة إلى تنفيذ حقيقي لبرنامج
من هذا النوع يتعلق بإرساء سلام دائم. وتشتد
لهجته الانتقادية عندما يتناول ثقة الأب دو
سان بيار الكبيرة وغير المبرَّرة بالأمراء
والحكام القيِّمين على شؤون المواطنين
السياسية. فعلى حدِّ قول روسو، كان الأب دو
سان بيار يتصور، بطيبة مبالغ فيها، أن الأمر
كلَّه ينتهي بدعوة إلى مؤتمر وبتلاوة البنود
التي صاغها من أجل سلام دائم، وأن يوقِّعها
جميع المعنيين. ويتابع روسو تحليله: علينا ألا نقول: لم
يُنفَّذ المخطَّط لأنه سيئ، بل تعذَّر
تنفيذُه لأنه كان جيدًا. ويعود السبب في ذلك
إلى أن الشرَّ وسوء الاستعمال يرافقان في شكل
طبيعي أعمال البشر. وما هو مفيد للشأن العام
نادرًا ما يشق طريقه خارج القوة، لأن المصالح
الخاصة تكاد تعارضه باستمرار. ومما لا شك فيه
أن السلام الدائم إنما هو، حاليًّا، مشروع
عبثي. أو بالأحرى، لنُبْدِِ إعجابنا بمخطَّط
من هذا النوع جميل للغاية، وليُعَزِّ بعضُنا
بعضَنا الآخر، إذ لن نتمكن من رؤيته يدخل
يومًا حيِّز التنفيذ. في
موقع آخر، يشن روسو هجومًا عنيفًا على فلسفة
هوبز السياسية والأنثروبولوجية في كتابه
الشهير لوياثان Léviathan،
المستقى عنوانه من الفصل الأربعين في سفر
أيوب. تقوم نظرية هوبز على ثلاثية مترابطة
وغير قابلة للانفصال: الحِسَّوية والنفعية
والاستبداد. بالنسبة إليه، حالة الإنسان
الطبيعية إنما هي الحرب المستمرة: "الإنسان
ذئب لأخيه الإنسان Homo
homine lupus."
غير أن غريزة البقاء والخوف من الموت بسبب
استمرار الصراع تفرض على الإنسان اللجوء إلى
عقد اجتماعي ونقل حقوقه إلى المجتمع. ووحدها
السلطة المطلقة في وسعها أن تضمن عملية نقل
الحقوق هذه. يهاجم
روسو هذه النظرية. فبالنسبة إليه، ليست الحرب
إلا حصيلة فساد البشر وتقهقرهم الأخلاقي؛
إنها المرض الفتاك الذي يجتاح الجسد السياسي
والاجتماعي. فالحالة الصحية والطبيعية هي
حالة السلام: إنها وحدها التي تنمِّي كلَّ
الخلايا والأعضاء في الجسد الاجتماعي نموًّا
ضروريًّا من خلال التطور السكاني والزراعي
والتجاري. وحده السلام يؤمن للشعوب السعادة
المنشودة في كلِّ مجتمع. أما الحرب، فعلى
العكس من ذلك، تفرغ الدول من شعوبها، وتنصِّب
الفوضى على عرش الحكم، فتلوذ الشرائع بالصمت
أمام ما تُجيزُه الحربُ من أعمال منافية
للحقوق والإنسانية. في نظر روسو، مهما تكن
الانتصارات خارقة لا تستطيع أبدًا أن تعوِّض
على الأمة من خَسِرَتْهُم من رعاياها إبان
الحرب. فالانتصارات تفتح جروحًا عميقة لا
تندمل إلا بفضل السلام. في
مواجهة تيار العنف، كان أيضًا للفيلسوف
الألماني كانط المساهمة الفلسفية الأكثر
وَقْعًا في العقول من خلال مقالته المشهورة من
أجل السلام الدائم – مشروع فلسفي (1795).
يستعين كانط بفكرتين أساسيتين في فلسفة
التاريخ لدى لسِّنغ وهِرْدِر ليطلق مخطَّطه
الفلسفي من أجل سلام دائم: أولاً، الاقتناع
بأن التطور سيصبُّ حتمًا في الأفضل؛ وثانيًا،
التأكد من أن الغلبة ستكون في منتهى المطاف
لقوى الخير والقيم الإنسانية على قوى الشر. وإذا
كان لسِّنغ وهِرْدِر لم يحدِّدا في دقةٍ
محتوى انتظار البشرية لهذا الأفضل الذي
تَعِدُ نفسَها به فإن كانط رسم حدود الطموح
الأوتوبي للأحلام البشرية وأطَّرها بفكرة
جامعة شاملة هي الخير السياسي الأعظم الذي
يحقق المجتمع الكامل من خلال حلف يجمع كلَّ
الشعوب في جمهورية عالمية، ويزيل، بالفعل
عينه، عوامل تفجير الصراعات والحروب، ويرسي
سلامًا أبديًّا ترعاه الشرائع والقوانين. لا
يوافق فيخته على كلِّ أفكار كانط. فهو يرى في
اقتراح قيام "اتحاد الدول الذاتية الحكم"
مرحلة انتقالية، لأن السلام، بحسب رأيه، لا
يتحقق إلا في دولة الشعوب État des peuples.
ولهذه الغاية السامية، ينبغي على كلِّ دولة
أن تقوم بعملية إنضاج سياسي واجتماعي واضح
المعالم، يصبُّ في نظام حكم عادل وعقلاني،
يكون مدخلاً إلى تنظيم شامل وثابت للعلاقات
الدولية، تقوم عليه "دولة الشعوب". فهو
يشدد في هذا المجال على النقطة الآتية: إن الدولة التي ترعى
تنظيمًا داخليًا غير عادل ستسعى حتمًا إلى
نهب جيرانها، بغية تأمين نوع من الانفراج
لمواطنيها المقهورين، والوصول إلى موارد
جديدة [...]. أما
جان بول، صاحب النبوءة المبشِّرة بالتلاشي
الحتمي للحرب، فيشدِّد في كتابه إعلان
الحرب على الحرب (1809) على أن الحرب هي التي
ستنتهي بقتل الحرب؛ فمن فرط ما ستدركه من تطور
تكنولوجي ستبيد الحربُ ذاتَها. غير
أن هذه النبوءة لم تجد أيَّ صدًى في كتاب كارل
فون كلاوزفيتس في الحرب (1831). ينظر هذا
المؤلِّف، من موقعه كخريج الأكاديمية
العسكرية، إلى مبدأ الحرب في إيجابية
ويُدخِلُها كعنصر أساسي في العمل السياسي
والديبلوماسي، إذ يقول: "إن الحرب هي
متابعة السياسة بوسائل أخرى." في حين أن
كارل ماركس لا يرى أن الحرب مرشَّحة
للاستمرار كجزء لا يتجزأ من العمل السياسي
الاجتماعي، وينيط مهمة إزالتها باتحاد
العمال وراء الحدود؛ فهم وحدهم قادرون على
معالجة مسألة العنف والحرب. أما
بالنسبة إلى فرويد فإن حلم إزالة العنف
والحرب لا يمتُّ إلى الواقع بأية صلة، إذ يجهل
المكوِّنات الأساسية للطبيعة البشرية
القائمة في جوهرها على نزعتين متناقضتين:
نزعة الموت thanatos
ونزعة الحب eros
في مدلولاتها الواسعة، أي كل نزعة إلى
التقارب والتحابِّ والتلاقي. بحسب رؤيته، من
المستحيل القضاء على نزعة الموت والعنف في
الطبيعة البشرية؛ وأقصى ما يمكن أن نبلغه هو
أن نحوِّل هذه الطاقة التدميرية إلى موضوعات
أخرى تكون صمَّام أمان ومُتَنَفَّس لهذا
الاحتقان الطبيعي. ويتوِّج مداخلتَه
بالملاحظة التالية: "كلُّ أمر يساهم في نمو
الثقافة يضرُّ بمصالح الحرب." نستخلص
مما تقدم أن هناك فكرتين تحوِّمان على أحلام
البشرية الجادة في التفتيش الدؤوب عن سعادتها:
اشمئزاز من المسار الذي تأخذه أحداث العالم؛
وسعي إلى تجاوز الذات إلى حال أفضل – وفي
تعبير آخر، حلم بمجتمع كامل وحلم بسلام دائم
بين الشعوب. هذا مبدأ الرجاء في الفكر السياسي
الطوباوي. إن هذا النوع من الفكر يتدفق،
متموِّجًا متقطِّعًا، في أوقات يسيطر عليها
نوع من الهدوء النسبي. فتاريخ الأوتوبيا،
وإنْ أظهر بعضًا من الثوابت، يتجلَّى في
محطات يجمع بينها التميُّز، لأنه ينطلق من
فرادة الواقع الاجتماعي السياسي الثقافي
المعاش. ومن حسنات هذه الفواصل أنها تفسح
المجال أمام كلِّ مجتمع لكي ينسج أحلامه
وتطلعاته على نحو يسيطر عليه نوعٌ من حرية
الاستنباط والحبك التنظيري، من دون الخضوع
لقوالب جاهزة لتعليب الفكر قبل انبثاقه. إن
المقاربات الفكرية لمسألة السلام متصلة
اتصالاً وثيقًا بمناطق التصدُّع في التاريخ.
هكذا نرى كيف انطلق إرَسْموس في معالجته قضية
السلام، بعد تأكده من أن التوتر والاحتقان
المسيطرين على الكنيسة سيقودان إلى معركة
الإصلاح، مع ما يستتبع ذلك من ويلات ومصائب؛
والديبلوماسي الهولندي غروتيوس، بعد فترة
وجيزة من اندلاع حرب الثلاثين عامًا؛ والأب
دو سان بيار، في نهاية حكم لويس الرابع عشر
الدموية؛ وكانط، في أول حروب الثورة؛ وعصبة
الأمم، في نهاية الحرب الكبرى؛ ومنظمة الأمم
المتحدة، في نهاية الحرب العالمية الثانية. نلاحظ،
من خلال هذا العرض السريع، أن أغلبية
المساهمات في موضوع السلام تولد من رحم
الأوجاع والأحزان وتتميز، بالتالي،
بالتواصلية. فكلُّ مشروع يستند إلى ما سبقه من
مقاربات، ويضيف إليها رؤى جديدة. من هنا
تأثُّر روسو بالأب دو سان بيار، وكانط
بالاثنين معًا، وتأثُّر الرئيس ولسون، أحد
صانعي عصبة الأمم، بكتابات كانط. كما
رأينا أعلاه، منذ القرن السادس ق م وإلى يومنا
هذا، ما فتئ البعض ينظر إلى مبدأ التعارض
كمحرِّك أساسي لأحداث التاريخ ومقوِّمات
الحياة. خارج الصراع، وحتى الدموي منه، لا
حياة ولا تطور. وفق هذه النظرة، يُعتبَر
الآخر، المختلف عرقيًّا وثقافيًّا ودينيًّا
وسياسيًّا، خطرًا على وحدة المجتمع وتماسكه،
وحدًّا لنمو الأنا المختلفة. من هنا العمل على
تذويب هذا الآخر في بوتقة الأحادية إذا أمكن،
أو السعي إلى تهميشه ثم إلغائه. إن مبدأ
الصراع هذا، حوَّل الزمن البشري إلى تاريخ
مأسوي، تتوالد فيه المصائبُ بعضها من بعض في
حلقة العنف المفرغة. في
مواجهة إيديولوجيا الحرب التي ترى النور
وتنمو أبدًا في أحضان العبثية، يظهر تيارٌ
روحي وفلسفي يقوم على السلامية التي تشق
طريقها إلى الضمائر والعقول على إيقاع الزمن
الآتي – زمن الخلاص للإنسان المتعثِّر في
غربة وجوده. هذا التيار يدعو إلى العبور من
مبدأ التعارض والتصارع إلى مبدأ التكامل
التنافسي الخيِّر الذي يُرسي مقوِّماتٍ
مختلفة لِلِقاء البشر بعضهم ببعض في حضارة
المحبة. لم يعد الآخر المختلف خطرًا على ذاتي
وكياني، بل بتُّ أنظر إليه كخلية حية وعضو
فاعل في جسم البشرية الواحد الموحَّد، حيث
تقوم الحياة على التكامل الوظائفي في تآلف
الاختلاف. فعلى شاكلة وحدة أعضاء الجسد
المتنوعة، لا يستقيم التفاعل الحياتي
والتبادعية إلا في التعددية. إن
وحدة الشكل سلام الأموات وموكب جنازة الفكر؛
وتناسق التلاقي التعددي سلام الأحياء في كنف
إنسانية متجددة ومتصالحة أبدًا مع نفسها في
الغيرية المتآلفة. *** *** *** عن
النهار، الثلثاء 1 نيسان 2003 *
نائب رئيس جامعة الروح القدس،
الكسليك.
|
|
|