|
أسطورة
تَكْشِفُ لنا النصوصُ والأناشيدُ التموزية عن
جانب طقسي واعتقادي ذي أهمية بالغة في الحياة
الدينية لثقافات الشرق القديم. فإلى جانب
الاعتقاد بوجود قوى إلهية تعمل على حفظ بناء
الإنسان ورعاية مصادر عيشه، اعتقد الإنسان
القديم بقدرته على عَوْنِ هذه القوى في
مهمتها، من خلال الطقس الذي يعمل على تحيين actualizing
الأسطورة وجَعْلِ النشاطات الخلاَّقة للزمن
البدئي فاعلةً في الزمن الجاري. فإذا كانت
القوى الإلهية قد عملت على تجديد الطبيعة في
الزمن الميثولوجي فإن الطقس وحده هو الكفيل
باستنهاضها من جديد، لتكرِّر أفعالها النموذجية الأولى، وتجدِّد
حياة الطبيعة، سنة بعد أخرى. ثمة شيئان لا يمكن للمرء أن يحدِّق
فيهما: الشمس والموت. والموت، ضمن المنظور
الإنساني، يبدو أنه غير محبَّذ، لا بل يتمُّ
تجاهلُه، كونه يشكِّل مصدر الخوف من المجهول.
ومعلوم أن للخوف أذنين كبيرتين وعينين أيضًا! ولعل أول صدمة
جابهت الإنسان في وجوده على الأرض (لاسيما مع
تطوُّر القشرة الدماغية والقسم الطرفي من
الدماغ) هي صدمة الموت. ولم يكن هذا ليتحقق
لولا توافر مجموعة من الإشراطات والمعادلات
الفسيولوجية والبيولوجية على صعيد الدماغ
الإنساني والجسد البشري، أولاً، ثم تداخلات
المناخ والبيئة الطبيعية، ثانيًا.
تقديم
المفكرون
والفلاسفة والعلماء الذين يتناولون الأمور
الإنسانية يجوز تصنيفُهم تصنيفًا عامًّا –
وإن لم يكن دقيقًا – في صنفين: "ملحدون"،
يفسِّرون الأعلى بالأدنى؛ و"مؤمنون"،
يفسِّرون، على خلافهم، الأدنى بالأعلى. وأيًّا
ما كان الأمر فإن ثمة، لدى مختلف الشعوب،
مأثورات وقصصًا وأساطير وشعائر؛ كما أنهم قد
يدينون بأديان مختلفة، مهما تفاوتت، فإن في
مضمونها تعاليم متشابهة. وكذلك قد تتباين
الأمثلة والقصص والمأثورات، ولكنها، بعد
تشذيبها وإبعاد بعض الزخارف والتفريعات التي
تتعلق بأحوال الشعوب واتجاهات العصور، واحدة
في الجوهر. أما
الباحثون الملحدون فيُرجِعون هذه الوحدة إلى
تأثير البنى التحتية في البنى الفوقية، كما
عند فرويد، مثلاً، حين يصل باعتماده فكرة الليبيدو
إلى تفسير نشوء الحضارات والعلوم والديانات
– خلافًا لتلميذه السابق في التحليل النفسي
كارل غ. يونغ الذي عمد إلى دراسة الرموز
والروايات في رحلات قام بها إلى مواطن بعض
الشعوب والأقوام الذين يُدعَوْن بالبدائيين،
كهنود الأريزونا في الولايات المتحدة وقبائل
سفوح كينيا بأفريقيا، حيث وجد مُشابهًا في
مضمون اللاوعي عند الأوروبي، بعقليته
الحديثة، والبدائي، بأساطيره وقصصه، ونوَّه،
متخطِّيًا فرويد، باللاوعي الجمعي لدى
الأفراد – وهو رواسب تجارب الحيوانات أجداد
البشر، ثم رواسب تجارب أجداد البشر أنفسهم،
ثم رواسب تجارب الأمة، فالعشيرة، فالأسرة: أي
خلاصة تجارب الإنسانية في حياتها السالفة
المديدة المتطاولة تجاه الطبيعة وظواهرها
المختلفة حين كانت تتفاعل وتتأثر تجاهها. الباحثون
المؤمنون، على هذا الغرار، لا يمنعون تفسير
الأعلى بالأدنى في العلوم والطبيعة؛ ولكنهم،
حين ينظرون في الديانات الكبرى، يرون أنه جرى
في الأصل تعليمٌ إلهي أوحِيَ به إلى البشر،
فتجلَّى في مجالٍ شتى، منها تلك الديانات
السماوية التي تعتمد على ذلك التعليم الذي
حصل على فترات، ولكن زاد البشر في تفاريعه
وتفاصيله، ولكنه يبقى واحدًا في الأصل؛ إذ
كان من مصدر واحد ويقصد نحو غاية واحدة هي
هداية البشر. من
هؤلاء المؤمنين الصوفي الفرنسي رونيه غينون René Guénon. فلقد أتيح له ما لم يتح لغيره
من اطلاع واسع وتأمل عميق في قضايا الديانات
ورموزها – جلها إن لم نقل كلها. وقد رأينا أن
ننشر له هذا البحث الممتع في "منطق الطير"
لبيان المشابه في رموز مختلف الحضارات. لقد
اتسعت البحوث الإنسانية اتساعًا كبيرًا إلى
درجة عدم التقيد بمجال واحد
ولا بظاهرة
إنسانية واحدة. فالمفكر اللغوي اليوم لا يبحث
في أساليب التركيب البياني للغة واحدة، بل قد
يتجاوزها إلى دراسات أساليب التعبير في لغات
شتى، لعله يفضي، من خلال دراساته، إلى إبراز
بنية فكرية واحدة أو بنى فكرية متشابهة. وكذلك
الأمر في قضية المذاهب الفكرية والروحية
المختلفة المتشابهة. هذا ويأتي الإسلام في
طليعة الديانات الكبرى صونًا للتعليم الإلهي
وحفاظًا على أسرار التنزيل. ولقد كان غينون من
أشد المؤمنين به والمعجبين بصونه؛ ولعل في
مقاله هذا لمعًا من ذلك. وفيما يلي ترجمة
للمقال، المستقى من مجموعة المقالات التي
جُمعَت بعد وفاته في كتاب بعنوان رموز العلم
القدسي. فاطمة عصام صبري
|
|
|