اختارت الحبَّ موضوعًا رغم التقاليد العراقية والأهل

أنوار السوداني: الفلسفة في الدم والحياة

 

أموري الرماحي

 

هل من غير المعقول أو المقبول أن تكتب فتاة عراقية شابة (25 سنة)، تخرَّجَتْ حديثًا من الجامعة لتحضِّر للماجستير في الحبِّ وفلسفة الحبِّ عند كيركغور ونيتشه وسارتر – وكُتُبُ هؤلاء الفلاسفة كانت ممنوعة في بداية الستينيات، ومازال في بلدي من يحرِّم الحب، ويرى الحديث فيه عيبًا ومَساسًا بالأخلاق! – خاصة وأن مَن "تُفَلْسِفُ" هذا الحبَّ هي طالبة ماجستير؛ وهذا شيء غير مقبول في بغداد لأسباب عديدة، أهمها الاتهام بأنه أدب مكشوف، لا لشيء سوى أنه يتحدث عن التجربة الحياتية المعيشة، كما هي، دون رتوش أو مجاملات على حساب البوح بالحقيقة عن الحبِّ والوجودية وفلسفة الحبِّ والعلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة... والفلسفة هي، كما هو معروف، بحث دائم عن الحق والحقيقة.

 

الدكتور المشرف على أطروحة الطالبة أنوار جبار السوداني قال عن هذه الأطروحة: "الموضوع جيد وجريء؛ والذي أعطاه حلاوة أن الذي يكتب فيه "امرأة" – وامرأة من طراز خاص: فهي جريئة وقوية وتُحسِنُ الدفاع عن موضوعها. وأنا أجدها متفوقة على منى جبور – تلك الأديبة التي أثارت ضجة في سوريا والوطن العربي عند صدور روايتها هذه."

لقد عاشت أنوار التفاصيل الدقيقة للحبِّ الوجودي لدى هؤلاء الفلاسفة (كيركغور ونيتشه وسارتر)، فتوهَّمتْ حينًا أنها ريجينا أولسن مع كيركغور، وتارة أنها لو أندرياس سالومي مع نيتشه، وطورًا سيمون دي بوفوار مع سارتر. لذلك حاولتْ أن لا تحذف أيَّ شيء من إحساسها، وتوهَّمتْ أنها تعيش في ذلك المجتمع – وأقصد المجتمع الغربي الذي يختلف عن مجتمعنا من حيث العادات والتقاليد – لكنه إحساس بأن الموضوع لا بدَّ أن يكون صادقًا؛ فلم تلتزم بحذف بعض النصوص التي هي في المجتمع الغربي مقبولة وعادية جدًّا، في حين يرفضها مجتمعنا، خاصة في وصف اللحظات الدقيقة في الحبِّ والعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، والإباحية في تلك العلاقة. وهنا يقول المشرف: "لا حياء في الدين؛ وعليه، لا حياء في العلم. وأعتقد أن أطروحة أنوار هي علم، إذا أنكرنا وجود الفلسفة!"

***

الفلسفة والحياة

الباحثة أنوار السوداني من مواليد 1978. اجتازت كلِّيتها بامتياز، وأخذت بالتحضير لنيل إجازة الماجستير، فاختارت ثلاثة فلاسفة كبار أنموذجًا، وهُم: كيركغور ونيتشه وسارتر – وهم الأصعب. تقول إنها تناولت الحبَّ كمشكلة فلسفية معرفية، لَمْسِيَّة، حسِّية، وكشعور يتغلغل في أعماق الذات الإنسانية، يُلامِس مكوِّنات وجودها الأصيل المحجوب. وهذا ما نذرتْ له نفسها – الفلسفة الوجودية: "... مع رفضي القاطع لهذه التسميات غير الجائزة في الخطاب الفلسفي المنفتح. وإن قلت ذلك فبحُكم التصنيفات الكلاسيكية التي تؤطِّر الفلاسفة كيركغور ونيتشه وسارتر، حيث ضمَّتْهم في تلك الفلسفة (أقصد الوجودية) – حتى إنني لم أتعامل معهم في البحث كفلاسفة وجوديين، بل بمعزل عن جميع الأُطُر والأنساق الفلسفية والفكرية الجامدة التي رفضوها هم أنفسهم. فليس في غير الدم فلسفة، ولا فلسفة بدون الحياة؛ ولا يمكن أن تنتج فلسفة في برج عاجي!"

وكيف اتخذتِ هذه الرسالة، ولماذا؟

اتخذتْ هذه الرسالة من "الحب" موضوعًا للبحث تضامنًا مع حالة التيه والتبخر التي يعيشها "الحب" في مجمل سلوكيات العالم البشري لعصرنا الراهن... نقول هذا، مع علمنا أن السؤال المختلف، الغريب، المحظور والمهمَّش، هو الذي طالما شَغَلَ الفلسفة والفلاسفة، منذ سقراط حتى كانط وهيغل وغيرهم من الأسماء الساطعة في فضاء الخطاب الفلسفي. وما ذلك إلا الفعل الحقيقي للفلسفة. يقول برغسون: "إن الفلسفة، إذا لم تكن تستطيع أن تقول شيئًا عن أخطر الأسئلة التي تطرحها الإنسانية، فإنها لا تستحق منَّا عناء ساعة واحدة."

في الواقع، ليس من خطاب، تحكَّمتْ به بُنى وأنساق خفية حاولتْ أن تنتج بواسطته إنسانًا سليمًا، نفسًا وجسدًا، مرة، وعليلاً، مرات عديدة، مثل خطاب العشق أو الحب. وإنْ جَهِلَ القطيعُ ذلك فلا يمكن أن يغفل الفيلسوفُ عن تلك الحقيقة، أو لا يصطدم بها في حفرياته المعرفية فيما وراء الأنظمة الدلالية العنكبوتية. إن الأخيرة غلَّفَتْ وقَوْلَبَتْ العقول الإنسانية وسط شبكات لامرئية لعلاقات اجتماعية غير حية.

من هنا جاء سؤال كيركغور ونيتشه وسارتر عن الحب، وعن الميكانزمات الموجِّهة لانفعالاته ودوافعه – جاء كنتاج لعصرهم، بما يتَّسم به من آلية وتشييئية واستلاب لحقيقة الوجود الفردي.

تجاهُل التقاليد

ولماذا اخترتِ موضوعَ الحبِّ في بلدنا، وأنتِ تعرفين التقاليد والعادات؟

لكم يثير هذا السؤال دهشتي، ليس لكثرة ما طُرِحَ على مسامعي، وإنما لأنه يجعل من الحبِّ أشبه بقضية الكائنات الفضائية والصحون الطائرة المطروحة للبحث في العقود الأخيرة! فهل الحبُّ حبٌّ غريب إلى هذا الحدِّ لكي يثير مثل هذا الاستغراب والفضول والتعجب؟! أم أن الحبَّ عاطفة غريبة عن خلجات الروح الإنسانية، ولا تُلامِس كينونةَ الإنسان؟! أم أن المهمَّش والمستهجَن لا يصح الاقتراب منه – وإلا نُصاب بالجذام، أو نُتَّهَم بأننا اخترقنا الخطوط الحمراء، واعتدينا على حرمة العرف والشرع والتقليد؟!

نحن بحق أحوج إلى البحث الفلسفي في الحب، بدلاً من البحث عن حقيقة هذه العاطفة الرخيصة في شرائط الكاسيت الاستهلاكية وقنوات "الفحش" الفضائية... وما من معصوم يطهِّر الحبَّ غير الفيلسوف. (و"الطهر" لا أقصد به المعنى الديني الفقهي، وإنما التقويض النقدي، الثوري.)

الأهل

ألا تخشين التقوُّلات، خاصة وأنتِ قد خُضْتِ عميقًا في الحبِّ والعلاقة الجنسية، كما عند الفلاسفة المذكورين؟

رغم أنه سؤال فات أوانُه، مع ذلك أقول: إنني، لو فكرت بالخوف والخشية والعيب والحرام، فلا يمكنني أن أتقدم خطوة واحدة في حياتي؛ أو بالأحرى لا يمكن أن يكون لي أسلوبٌ خاص بي في الحياة والتفكير. أن أختار موضوعًا يفضح خفايا مؤسَّسات المجتمع ونفاياته المسكوت عنها يعني أنني لا بدَّ أن أعبر أشواطًا وأقطع منها الكثير على مستوى الوعي والفكر لأجل أن أدخل ذلك المجال – وإلا فلا أستحق أن أكون باحثة في فلسفة ثلاثة متمردين، خارجين عن القانون والمجتمع؛ وأعني بهم كيركغور المتوحِّد، ونيتشه المجنون، وسارتر الصعلوك!

وأفراد عائلتك... هل هم من المعارضين لكِ أم من المؤيدين؟

لم أرَ التأييد أو المعارضة من الأهل. فكلٌّ منهم في عالمه الحائر، ومشغول – وهذه هي أعراض حياتنا المرضية، التي أرحِّب بها في هذه النقطة بالذات، لأنها جعلتْني أبحث وأكتب بحريتي، دون عائق يمنعني من الاستمرار. ولا بدَّ من أن أقول إن المرأة الحقيقية لا تعير لأمرِ التأييد والمعارضة اهتمامًا إذا كانت على قناعة ووعي بما تفعل، وثبات على ما اختطَّتْ من طريق. فهذا هو الأصل في الفعل: أن ينبع من الذات. أما غيره فلا يمكن أن يُدعى فعلاً، لأنه ما تولَّد إلا اعتباطًا، وعن الهوى.

*** *** ***

بغداد، عن السفير 8/9/2003

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود