محمد حسن الأمين

الشاعر والناقد والسيد

هل تصدِّق أنها مجرد زنبقة، وليس فيها شيء من المرأة؟

 

حديث مع السيد محمد حسن الأمين*

 

صفاته الحميدة كثيرة – وأخطرها وأطهرها صفات الشعر. فهو شاعر يقول: "إن اللغة، رغم ضرورتها، تحطِّم الشعر." من قوله هذا نكتشف أنه ناقد جدي ومتمرِّس داخل الشعر العربي. ويقول: "أنا خبير بالشعر العربي، القديم والحديث."

عندما يتحدث عن المرأة يعود بك إلى الدهشة الأولى، يفتح لك نافذة في الهواء ويقول لك انظر: "المرأة حاضرة في مباراتنا مع الوردة"، و"هل تصدق أن الزنبقة ليس فيها شيء من المرأة؟"، و"السلام لا يصنعه سوى الشعراء والفنانون".

فكرة الانتحار تشغل تفكيره وأبحاثه الفلسفية. يقول: "لا أستطيع أن أتعامل مع كلمة الانتحار بكلمة واحدة: إنه محرَّم!"

وأيضًا وأيضًا مواضيع كثيرة يتناولها بجدية وبرقيٍّ، فتشعر بأنك تحاور رجل الأفكار والمواضيع العميقة.

من هو هذا الرجل؟ إنه السيد محمد حسن الأمين، قاضي صيدا الجعفري، الذي قصدناه إلى منزله في صيدا.

إ. ف.

***

نبدأ من الشعر. سمعناك، في مناسبات مختلفة، تلقي شعرًا. فمن هو السيد محمد حسن الأمين الشاعر؟

في الحقيقة أن الشاعر ليس كائنًا آخر غير بقية الصفات والمواصفات – مواصفات فكرية أو علمية أو اجتماعية. أعتقد أني شاعر في النهاية، مع تجلٍّ لكلِّ هذه الأبعاد التي تكمن في شخصيته، التي تشكل القنوات التي تحدِّد في النهاية هذه الشاعرية، كينابيع لها؛ وفي كلِّ الأحوال، شاعر قلما أطللتُ على المناسبات، وحتى قلما نشرت من شعري، في الفترات الأخيرة، إلا الشيء القليل. ولكنني، فعلاً، أحب الشعر.

كتبت الشعر منذ فترة مبكرة جدًّا؛ وكان اهتمامي به اهتمامًا عميقًا جدًّا، حتى كتبت دراسات ومقالات نقدية. أدَّعي الإحاطة بالشعر العربي المعاصر، والشعر العربي القديم، ما يخوِّلني أن أعتبر نفسي خبيرًا بالشعر العربي. وأستطيع القول – دون تواضع كاذب، كما يفعل البعض – أستطيع القول إنني أمتلك تجربة شعرية، ليست بالفارِقة، ولكنها ليست بالقليلة أيضًا. لولا مجريات الحياة الشخصية والعامة لرجل الدين، وللموقع الذي أمثِّله، وكونها تَصْرِف الإنسان، في كثير من الأحيان، عن القيام بتطوير تجربته الشعرية، لكان ثمة ثمرات لهذه التجربة، ربما أوسع وأكبر وأشمل، وربما كانت معروفة أكثر. ومع ذلك، كما قلت، هناك قصائد نُشِرَتْ منذ الستينات. وأكثر الصحف الأدبية التي نشرتُ فيها قصائدي كانت الصحف العراقية، لأنني كنت أدرس في النجف الأشرف، منذ أوائل الستينات حتى أواسط السبعينات تقريبًا.

في تلك المرحلة تفتَّحتْ الموهبة الشعرية، وتعرَّفتُ على العديد من الشعراء والنقاد، وساهمتُ في إنشاء بعض الندوات الشعرية والأدبية؛ وكذلك ساهمتُ في إنشاء بعض المجلات، الفكرية والشعرية والأدبية، بصورة عامة؛ منها مجلة النجف التي كانت تصدر عن طلاب كلية الفقه في النجف الأشرف؛ وكنت مع بعض الزملاء نتولَّى تحرير هذه المجلة والإشراف عليها. وكنَّا أيضًا مجموعة من الطلاب الذين يكتبون الشعر الحديث والأدب الحديث بعامة. كنا نكتب في هذه المجلة، وكان هذا الاتجاه يشكِّل، في ذلك الوقت، ظاهرة جديدة جدًّا، ظاهرة ربما لافتة، وأحيانًا، ظاهرة تستدعي بعض النقد من الآخرين. ثم ساهمتُ، أيضًا، في إنشاء مجلة اسمها الكلمة، كانت تُعنى بالأدب العراقي الحديث، ونشرتُ فيها بعض القصائد وبعض المقالات؛ وكذلك في مجلة أخرى تُعنى، أيضًا، بالأدب الحديث – وكان اسمها عبقر – صدرتْ في النجف في الستينات؛ إضافة إلى ما نشرته في بعض الصحف اللبنانية في ذلك الوقت. ولكني، لحدِّ الآن، لم أُصْدِر ديوانًا شعريًّا، ربما لأني كلما قرأت هذه القصائد التي كُتِبَتْ في الستينات، وبعضها في السبعينات، أجد أن ثمة ما يدفعني لأن أعيد النظر في هذه التجارب وأتجاوزها. ولكن، ربما تهيأتْ الظروفُ لنشر هذه القصائد، أو مختارات منها، في ديوان مستقل؛ ونأمل أن يكون ذلك قريبًا.

أكثر أشعارك وقصائدك التي سمعناها لم تخرج عن الكلاسيكية. هل يعني هذا أنك غير مقتنع بغير الصيغة الكلاسيكية في الشعر؟

الحقيقة أن أكثر قصائدي التي ألقيتُها في بعض المناسبات كانت كلاسيكية؛ ولكن أكثر من نصف شعري هو شعر حديث، بكلِّ ما تعني الكلمة، متحرِّر، من الشعر الحر. وحتى هناك قصائد نثر، كُتِبَتْ في فترات متباعدة. ولكن ربما كانت المناسبات التي سمعتَني فيها هي من المناسبات التي تستدعي أن يقرأ فيها الشاعرُ شعرًا عموديًّا، وليس شعرًا حرًّا، أو مُرسَلاً.

ومازلت أعتقد، أنا شخصيًّا، أن الحداثة الشعرية قد تتوافر في العمود الشعري أحيانًا، وفي بعض نماذج الشعر العمودي، وقد نفتقدها في الشعر الحرِّ كثيرًا. ليس مقياس الحداثة الشعرية هو العمود الشعري، أو التحرر من العمود الشعري. هناك من يكتبون شعرًا متحررًا من العمود، ولكن بعقلية كلاسيكية صرفة؛ وهناك من يكتبون قصائد عمودية، ولكن بعقلية حداثوية صرفة أيضًا. وهذا نعرفه في نماذج شعراء كبار، مثل أدونيس ومحمود درويش [...]، يكتبون شعرًا عموديًّا، ولكنه في قلب الحداثة؛ فيما لدينا نماذج كثيرة من الشعر الذي يدَّعي الحداثة، لأنه مكتوب بطريقة مقطَّعة، وليس بالأوزان، ولكنه أبعد ما يكون عن الحداثة.

السوريالية إنسانية

مادمتَ صاحب رؤية نقدية، هل ترى أيَّ شعر سوريالي عربي؟

لا شكَّ أن السوريالية مذهب فني لم يولد في مناخ الشعر العربي؛ ولكن الشعر العربي الحديث استطاع أن ينفتح على كثير من المدارس والتيارات الشعرية، ومنها السوريالية. يعني المظاهر السوريالية موجودة في الشعر العربي الحديث. صحيح ليس في إمكاننا أن نحدِّد شاعرًا معينًا بأنه سوريالي؛ ولكن هذه التجربة الفنية–الأدبية لدى شعرائنا نراها لدى أدونيس، نراها لدى أنسي الحاج، نراها عند شوقي أبي شقرا، نراها عند عدد كثير من الشعراء. وهذا من الطبيعي جدًّا. إن السوريالية، كمذهب فني، أو الجانب الفني من السوريالية، هو جانب إنساني؛ وتاليًا، تستجيب له كلُّ التجارب، مهما كانت منطلقاتُها الفكرية، أو القومية، أو الاجتماعية. والشعر العربي الحديث انفتح على شيء من السوريالية والرمزية، وحتى على الوجودية في شكل أساسي، أيضًا في الستينات والخمسينات.

وفي وسعي أن أقول إن شعرنا العربي المعاصر يشكِّل، في واقعنا الراهن، قفزة حقيقية في تاريخ الشعر العربي؛ وهي ربما تكون القفزة التي لم يشهد الشعر العربي، في كلِّ تاريخه، مثيلاً لها. عندما يتحدث البعض عن الشعر الأندلسي، مثلاً، لاشك أن الشعر الأندلسي كان منعطَفًا وتطورًا في الشعر العربي؛ لكن لا أعتقد أن حجم القفزة التي قفزها الشعر العربي في العصر الأندلسي يوازي حجم القفزة التي سجَّلها الشعر العربي في عصرنا.

 

كيف ترى جيل التسعينات؟ هل ترى أن هذا الجيل أثبت حضوره؟

من الصعب أن يشمل الإنسان الجميع برؤية واحدة، وبمعايير واحدة. لا أعتقد أن في الشعر يوجد جيل محدد، زمنيًّا. هناك جيل الثمانينات؛ وفي داخل جيل الثمانينات تجد قامات مختلفة، وتجد ملامح مختلفة وألوانًا مختلفة، وتاليًا، إيقاعات مختلفة بين الشعراء. إذا كنت تعني بهذا السؤال الشعراء الشبان جدًّا الذين ينحون نحو تحطيم الشكل اللغوي، أو الشكل المألوف للقصيدة العربية، سواء كانت كلاسيكية أم قصيدة حديثة، فأنا أقول إن هناك محاولات لا ترقى جميعًا إلى مستوى المحاولة التاريخية والجدية؛ وهذا يعود، في نظري، إلى أن المواهب نادرة، في العصر كلِّه. إذا وجدنا عشر مواهب شعرية حقيقية فأنا أعتبر أن هذا رقم كبير جدًّا؛ إذا وجدنا عشر مواهب أساسية ومهمة جدًّا فهذا رقم كبير في العالم العربي الذي يصل تعدادُه إلى مئتي مليون إنسان. إذن، ما نقرأه في الصحف – هذا السيل الذي يقال عنه شعر – يعني نادرًا، نادرًا ما نقع فيه على موهبة حقيقية في الشعر؛ يعني نقع على ربع موهبة، على نصف موهبة، ولكن نحن لا نقع على مواهب حقيقية. وأعتقد، كما قلت قبل قليل، أن شعرنا العربي مزدهر جدًّا. الآن يوجد حوالى عشرة شعراء في اللغة العربية، هم شعراء حقيقيون، ولا يوجد أكثر؛ يعني عشرة شعراء حدًّا أقصى. طبعًا أسماؤهم معروفة؛ وما تبقى هم أنصاف موهوبين.

فشعرنا العربي هذا الذي يُكتَب، أو الشعر الذي يُنشَر في الصحف، في الصفحات الثقافية والأدبية، قلت إنه متفاوت؛ لذلك لا أريد أن أظلم الجميع، فأقول كلامًا مطلقًا وعامًا وشاملاً دون تخصيصات. لكن أعتقد أن جزءًا من هذا لا يمتُّ إلى الشعر بِصِلَة، لا لأنه يخالف القواعد العروضية والبلاغية، بل لأنه فقير إلى الموهبة. فعلاً، هناك شعر ليس فيه عروض ولا بلاغية ولا وزن، وليس فيه جزالة الشعر العربي، ولكن فيه شاعرية حقيقية. مثالنا على ذلك محمد الماغوط: هذا يكتب شعرًا غير موزون وغير مقفَّى، ولكنك لا تستطيع أن تقول إلا أن هذا شاعر، هذه موهبة. مثل هذه القصائد قليلة ونادرة جدًّا.

أتحدَّاه بالكتابة

سؤال ليس جديدًا وهو يتردد دائمًا، لكن لا بدَّ من طرحه: لماذا تكتب؟

فعلاً، السؤال يلبِّي حاجة كبيرة في نفسي؛ ولذلك أجيب عنه بكلِّ صراحة. إنني أكتب لأن شعوري أن هذا العالم لا يمكن أن تتحدَّاه إلا بالكتابة؛ لا يمكن أن تخترق هذا العالم إلا بوسيلتك الخاصة. إذا كنتَ كاتبًا فاعلاً فإنك لا تستطيع أن تدمِّر كميات الزيف التي تقف أمامك في هذا العالم إلا من خلال الكتابة. يعني أنا أكتب لأشعر أنني موجود أكثر، وأني أكثر حضورًا في هذا العالم. ولا أدِّعي، كما يدَّعي البعض، أن ما أقوم به هو مجرد رسالة – يعني البعض يريد أن يقول إن الكتابة هي عنده رسالة. قد تكون الكتابة رسالة، ولكن الباعث الداخلي عندي أعمق من ذلك بكثير. إنني أشعر أن الكتابة هي شكل من أشكال الحضور العميق والجوهري في هذا العالم. وإذا تخيَّلتُ عالمًا بدون كتابة إطلاقًا أشعر بالفراغ والعدم المطلق.

الشعر يموت داخل الإيديولوجيا؛ وهو الأداء المتحرِّك خارج الواقع. قال بايرون في هذا المضمار: "الشعر لغة الخيال، يبعث الروح في العدم فتسري فيه الحياة." وجوهر سؤالي: كيف يمكن للشعر أن يعيش في الإيديولوجيا الإسلامية؟ كيف تفسِّر عدم قدرة الفكر الإسلامي على إنتاج ثقافة شعرية؟

لا أعتقد أن الإسلام، كعقيدة، وكفكر أيضًا، مسؤول عن عدم وجود شعراء مسلمين عظام. إذا كنا نفترض فعلاً أنْ ليس هناك شعراء مسلمون كبار – علمًا أن واقع الأمر يؤكد العكس – ففي التاريخ الإسلامي هناك شعراء؛ بل ربما لا تعرف أمةٌ من الشعراء قدر ما يعرف المسلمون، والعرب منهم خصوصًا، هذا العدد الوافر من الشعراء، عبر مفاصل التاريخ الإسلامي كلِّه.

أما إذا كنا نريد أن نتحدث عن العلاقة بين الشعر والإيديولوجيا فإن هذا مجال يختلف. وأنا لا أرى، إطلاقًا، أن على الشعر أن يكون حاملاً أمينًا للإيديولوجيا وناقلاً أمينًا للإيديولوجيا. أعتقد أن الشعر هو أعمق من الإيديولوجيا، وتاليًا، يتخطَّاها – يتخطَّى الإيديولوجيا. والشاعر لا يمكن أن يمارس وعيًا حقيقيًّا بإدخال عقيدته أو إيديولوجيته في تجربته الشعرية. أولئك الذين يصنعون هذا ليسوا شعراء؛ إنهم معلِّمون، إنهم يَنْظِمون شعرًا تربويًّا. عندما أقول الشعر أعني ما هو أبعد من الشعر التربوي أو من الشعر التعليمي؛ أنا أقصد الشعر – هذا اللهب الداخلي، الذي هو مزيج فريد من الثقافة والحدس والانفعال الذاتي. أقول إن الإيديولوجيا تتسلَّل إلى هذا المزيج، ولكن دون أن تمسك به إمساكًا كاملاً، ودون أن تهيمن عليه وتلقي بلونها عليه. كلُّ شعر تمتلكه الإيديولوجيا لا يعود شعرًا.

وهذه القاعدة تنطبق، أيضًا، على الإيديولوجيا الإسلامية والفكر الإسلامي. هناك من يطالب الآن أن يكون هناك شعراء إسلاميون. أقول لهؤلاء: إنكم عندما تطالبون بوجود شعراء إسلاميين، يعني يكتبون شعرًا عن الإسلام، فأنتم [...] تجرِّدون هذا الشعر من شاعريَّته؛ يعني إسلاميَّته ستكون على حساب شاعريته. لماذا؟ لأن كلَّ إيديولوجيا تفرض نفسها على الفن عامة، وعلى الشعر خاصة؛ ويكون ذلك على حساب كمية الفن، وعلى حساب كمية الشعر في هذا الشعر. فمن هنا أعتقد أنه لا إشكال إطلاقًا أن يكون المرء مسلمًا إلى أبعد حدود الإيمان والالتزام بالعقيدة الإسلامية، ولكن أن يكون، في الوقت نفسه، شاعرًا مبدعًا – دون أن يكون هناك نوع من الهيمنة من موقعه كمسلم على موقفه كشاعر، أو من إيديولوجيته على شعره. بل لا بدَّ للجانب الشعري للإنسان أن يكون قويًّا ومحرَّرًا من الارتهان – حتى للإيديولوجيا.

لو سمحت، ننتقل إلى كلام آخر. أجمع عباقرة الموسيقى على أن الموسيقى هي الخير. قال بيتهوفن في هذا السياق: "الموسيقى تعلو حكمة الحكيم وفلسفة الفيلسوف"، وخاطب الله بموسيقاه. سؤالي: ألا يمكن للإنسان أن يقيم علاقته بالله خارج إطار الدين؟

رأيي أنه لا يمكن إقامة العلاقة بالله من خلال الدين! وكلُّ علاقة بالله من خلال الموروث الديني علاقة ناقصة جدًّا؛ ولا يمكن أن تكتمل إلا بالمسارب والقنوات التي يمكن أن تحقِّق هذا الاتصال بالذات الإلهية وبمعرفة الله؛ وهي أبعد ما تكون عن التعاليم الدينية. من هنا كان الفن، في رأيي عامة، أهم الطرق الموصلة إلى الله: الفن، الشعر، الموسيقى... وليست هذه الفنون المصنوعة فقط، أو ما في الحياة من فنٍّ وشعر وموسيقى. فإن ما هو مبثوث في الكون من موسيقى هو الذي يوصل إلى هذا اليقين الإلهي. تشير آية قرآنية إلى هذا المعنى عندما تقول: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنه الحق." في هذه الآية لا أعتقد أن القرآن الكريم يتكلَّم عن شيء غير هذه الموسيقى المبثوثة داخل الأشياء، هذه الموسيقى، هذا الانسجام المبثوث داخل الأشياء. العالم هو الوسيلة التي تعرِّفنا إلى الله – سبحانه وتعالى. أما الدين وتعاليم الدين فلا يعدوان محاولة بدائية جدًّا لإيجاد قواعد في معرفة الله – سبحانه وتعالى؛ فهذه لا تفيد، ولا توصِل إلى الإيمان الحقيقي.

من هنا، نقول إن الكون وما فيه، حتى الموسيقى، هي القنوات الموصِلة إلى الله؛ وبطبيعة الحال، الفنون، كالموسيقى التي يصنعها موسيقي عظيم، هي محاولة لتقليد موسيقى مبثوثة في الكون. كذلك القصيدة التي يكتبها شاعر عظيم ليست أكثر من محاولة لأن يقلِّد ظاهرة شعرية موجودة في الكون وفي الطبيعة نفسها أو في الإنسان. يعني اللغة، حينما تأسر الشعر، لا شكَّ أنها تقلِّل من أهميته. والشعر – وهو خارج اللغة – أقوى وأعمق؛ وعندما تحتجزه اللغة ضمن أُطُرها فهي تُنزِل من قيمته. ومن هنا أستطيع القول، كباحث في مجال الروح والكون والحياة والإنسان، إن معرفتنا بالله – سبحانه وتعالى – من خلال الفنون المكتوبة والموقَّعة، المبثوثة في الكون... معرفتنا بالله من خلالها أكبر بكثير من معرفتنا بالله من خلال النصوص الدينية.

إذن أي الفنون أقرب إليك؟

الشعر، والموسيقى. والموسيقى أعتقد أنها فن عظيم جدًّا؛ وهي الفن الذي يتجاوز أحيانًا القدرة على التعبير. وبطبيعة الحال، أعتقد أن سيد الفنون هو الشعر.

هنا يستوقفني سؤال ضمن هذا السياق. كثيرون فسَّروا الله على طريقتهم. مثلاً، الشاعر (وليس كلُّ الشعراء) يرى أن الله قصيدته؛ والموسيقار يرى ويحسُّ أن موسيقاه هي القوة المجهولة التي تحرِّكه. وهنا أعود إلى ما قاله بيتهوفن – القول الذي ذكرناه قبل قليل – فنشعر أن الموسيقى عند بيتهوفن هي العبد والمعبود. في الإسلام نرى العكس؛ أي أن الله واحدٌ أحد، فَرْدٌ صَمَد... كيف تفصل بين الاستنتاجين؟

أكيد بيتهوفن، أو أي فنان آخر، لا يقدِّم نظرية عن وجود الله، إنما يقدم طريقة في معرفة الله. يعني يقول هنا بيتهوفن إني أعرف الله من خلال الموسيقى. أو عندما يكون المرء فنانًا أو رسامًا يقول إنه يعرف الله من خلال هذه اللوحة. فهو لا يدَّعي أنه يقدم نظرية عن معنى وجود الله؛ وتاليًا، أستطيع أن أفصل بين أن نحصر فكرة الله ومعانيها الجدية، أن نحصرها من خلال معرفة فنان معيَّن – وهذا أمر غير معقول إطلاقًا – وبين أن نعتبر أن الله هو حقيقة مطلقة. ولكن من حقِّ كلِّ إنسان، من حقِّ كلِّ مبدع، أن تكون له طريقتُه الخاصة في معرفة الله – سبحانه وتعالى. إذًا القصد كذلك، طبعًا: من حقِّ كلِّ إنسان – خاصة إذا كان فنانًا – أن يعرف الله – سبحانه وتعالى – من زاويته الشخصية، ومن خلال إبداعاته الخاصة؛ لكن لا يجوز له أن يحصر الله في هذه الإبداعات. يعني الشاعر أو الموسيقي يقول إن الله يتجلَّى من خلال السمفونية الخامسة؛ لكن هذا لا يمكن أن يكون قاعدة عامة، وأن على البشر كلِّهم أن يروا الله – سبحانه وتعالى – من خلال السمفونية الخامسة وحسب. إن بيتهوفن نفسه قد يرى الله نفسه من خلال السمفونية الخامسة، أو موسيقي آخر يمكنه أن يرى الله من خلال هذا؛ ولكن لا يجوز أن نحصر الله في عمل موسيقي أو فني. إن الله أبعد من ذلك؛ وتجلِّياته أبعد في الكون، وفي الحياة، وفي اللغة، وفي الحيوية الاجتماعية، والحيوية الفكرية. إن الله أعمق، وتجلِّياته أكبر. ولكن لا شكَّ أن الفنانين يملكون تجلِّيات رائعة في هذا المجال؛ وقد تكون مميَّزة وخاصة، ولكنها لا تتنافى على الإطلاق مع طريقة الإسلام في معرفة الله – سبحانه وتعالى.

الرقص، حرَّمَه الإسلام، بحسب ما أفادنا أحد العلماء. والرقص من الأدوات والصفات في الجمال. إنني أرى (رأيي الشخصي) أن هذا التحريم هو قمع ضدَّ الجمال. فماذا تقول؟

أنا فكرت كثيرًا في الرقص. لا أعتقد أن الإسلام حرَّم الرقص عامة. مَن يدَّعي ذلك؟ أعتقد أنه حرَّم جانبًا واحدًا من هذا الفن؛ وسأحاول أن أكتشف لماذا حرَّم هذا الجانب. الإسلام حرَّم، ربما، رقص المرأة أمام الرجل. لكن لا أعتقد أن الرقص تختصره هذه المسألة فقط، أي كون المرأة ترقص أمام الرجل. يعني هناك امرأة ترقص أمام المرأة، وهناك رجل يرقص أمام الرجل، وهناك امرأة ترقص أمام زوجها... هذه حالات ليست محرَّمة في الرقص. إذن، لماذا حرَّم الإسلام بعض هذه الحالات – وهي جزء يسير من الرقص؟ أنا أعتقد أن تحريمها من أجل أن لا يُستغَلَّ الفنُّ لحساب الشهوة؛ بمعنى: كم من الناس يمكنهم أن يراقبوا جسدًا عاريًا، أو شبه عارٍ، يؤدِّي رقصةً معينة، دون أن تتحوَّل العلاقة بهذا الجسد إلى هاجس جنسي، وليس إلى هاجس فني؟

أعتقد أن الإسلام، عندما حرَّم، لم يحرِّم الرقص، وإنما حرَّم النظر إلى جسد المرأة التي لا تحلُّ للمرء نفسه. هذا هو الذي حرَّمه الإسلام. فإذا كان الرقص إظهار مفاتن الجسد على نحو لا يستقيم مع رؤية الإسلام إلى العلاقة بين الذكر والأنثى، حينئذٍ ليس الرقص هو المحرَّم، إنما عَرْض الجسد هو المحرَّم. وتاليًا، ليس في وسعنا أن نقول إن الإسلام حرَّم الرقص؛ إنما حرَّم الإسلام النظر إلى جسد المرأة غير المحلَّلة له، المرأة الأجنبية. إذا كان الرقص من أنواع الرياضة كيف يمكن أن يكون محرَّمًا؟ يعني، دائمًا، عندما يقولون إن الرقص محرَّم يعنون هذا المعنى؛ يعنون المرأة التي ترقص أمام الرجل. هذا واحد، جانب بسيط من جوانب الرقص. فلا يجوز القول إن الإسلام حرَّم الرقص أبدًا، لا يجوز.

كلامك هنا يقودني إلى ما قاله تِنِّسون: "العيون هي نوافذ العقل، ووتر العاطفة، مرآة الذات." من هذا القول يمكننا الاعتراض على حَجْبِ جمال الرقص عن العين – وهي يجب أن تتغذى بالجمال – وللرقص حضور طاغٍ داخل الجمال، أليس كذلك؟

هل يمكن حصر الجمال في هذه الزاوية فقط؟ نحن نقول بأن في كلِّ مظاهر الدنيا حياة وجمال؛ وعلى العين أن تدرك مواقع هذا الجمال. يعني حتى في المشاهد العادية، في هذه الشجرة التي نشاهدها أمامنا، هناك جمال خارق! المشكلة أن أعيننا اعتادت الرؤية، فتبلَّدتْ أحاسيسُها، ولم تبقَ لديها القدرة على اكتشاف هذا الجمال الخارق فيها، فصارت لنا منظرًا عاديًّا.

مؤسف أن الجمال نكاد نحصره في موضوعات محدَّدة – وجوانب الحياة والمادة والكون جميلة كلُّها! فلماذا نقول الجمال هو في جسد المرأة، وإلى جسد المرأة حُرِّمَ على الرجل النظر؟ طبعًا، لا أحد يحرِّم على الرجل أن يتمتع بمشهد جسد زوجته؛ لكن لا شكَّ أن هناك حرمة أكيدة أن يتمتع الرجل بمشهد جسد أية امرأة أخرى غير زوجته. وإذا الإسلام منع هذا – ولأسباب مهمة جدًّا – فهل يكون بذلك حاصَرَ حرية التمتع بالجمال والنظر إلى الأشياء الجميلة؟ لا أعتقد ذلك.

أنا قصدت الرقص هنا، شأنه شأن الفنون المكوِّنة للجمال؛ قصدت نقطة من بحر الجمال. الرقص مشهد من مَشاهد داخل الجمال؛ الرقص عنصر من عناصر الجمال.

فقط رقص المرأة الأجنبية أمام الرجل الأجنبي محرَّم. أما الرقص، بكلِّ معانيه الأخرى، فليس محرَّمًا؛ وتاليًا، يمكن للإنسان أن يتمتع بهذا الفن الذي اسمه الرقص، ويتمتع بمشاهدته وممارسته، بشرط أن لا يكون في النطاق الذي حرَّمه الإسلام – وهو نطاق النظر إلى جسد المرأة الأجنبية.

مقولات

مادمتَ وصلت إلى المرأة لنفتح سيرتها. قال بايرون: "إن الله لم يخلق هذه الأرض إلا لذلك الإنسان الجميل الرقيق: المرأة"؛ وقال دوما: "إن المرأة هي التي توحي إلينا غالبًا بالأشياء العظيمة التي تمنعنا هي نفسها من تحقيقها"؛ وقال سافييل: "نظرات المرأة أقوى قانون"؛ وقال نيتشه: "في قلب كلِّ امرأة يكمن عبد وطاغية". ماذا يقول السيد محمد حسن الأمين عن المرأة؟

[يضحك، بعد إصغاء حادٍّ إلى هذه المقولات.] فعلاً أقوال جميلة جدًّا! إنها توحي إلينا بالأشياء الجميلة التي تمنعنا من تحقيقها! أيضًا هذا كلام جميل ورائع. إن المرأة مصدر الشعر ومصدر الجمال في هذا الكون، فعلاً. وأنا، كشاعر، أعتقد أن لا مبرِّر للشعر لو لم تكن المرأة موجودة. كلُّ شعر لا يؤكد حضور المرأة هو شعر ناقص، ولا يمكن أن يرتقي إلى مستوى الشعر العظيم...

أتفق معك تمامًا في هذا القول.

حتى أكاد أقول إن الشعر الحقيقي هو الشعر المسكون بالمرأة – دون أن أعني بذلك أنه الشعر الغربي المباشر عن المرأة. أقول: عندما تتكلَّم عن الأرض، عندما تتكلم عن الوطن، هل يمكن أن تتكلَّم عن هذه الأشياء دون أن تكون المرأة حاضرة حضورًا خاصًّا في الأرض والوطن والذاكرة؟ فمن هنا أقول إن المرأة هي الروح التي تحوِّل الكلام العادي إلى شعر، عندما تسكن في هذه الكلمة.

يعني هل يمكن أن نختصر القول ونقول: لا يمكن أن توجد الحياة دون امرأة؟

[يجاوب بهدوء عميق، وحركة يديه كوردة تقلع إلى الهواء:] لا شكَّ، لا شكَّ، لا شكَّ. المرأة كائن رائع، ورائع جدًّا؛ وهو ضروري جدًّا. وبقدر ما هو ضروري هو جميل جدًّا. والحياة لا يمكن تصوُّرها، أساسًا، بدون امرأة.

ثمة من يقول (وأنا أتبنى هذا بقوة): لا جمال بدون المرأة. أتوافق على هذا الكلام "المقدس"؟

في الحقيقة أن أيَّ جمال نتحدث عنه لا يمكن أن يكون مُشبِعًا لحبِّنا ولتطلُّعنا نحو الجمال دون أن يكمِّله جمالُ المرأة. أريد أن أذهب إلى أبعد من ذلك: إننا، عندما ننظر إلى الزهرة، إلى الوردة، إلى أيِّ شكل من هذه الأشكال المدهشة التي تفاجئ في الجمال – إننا، ونحن نستمتع بهذا المنظر، يكون للمرأة حضورٌ ما في هذه المباراة بيننا وبين الوردة، بيننا وبين الزهرة، بيننا وبين المنظر الجميل. أنا، شخصيًّا، لا يمكنني على الإطلاق أن أقف مدهوشًا أمام أحد أشياء الجمال دون أن أحسَّ أن في هذا الشيء الجميل ما يشير إلى المرأة أيضًا – ولو لم تكن المرأة موجودة في شكلٍ مادي. يعني هذه الزنبقة البيضاء، الرائعة، التي تقطر طهرًا وجمالاً، عندما تدخل إلى الوجدان، عندما تقتلعها من مكانها المادي، وتراها بصدق وبوجدان داخلي عميق، هل يمكن أن تصدِّق أنها مجرد زنبقة، وليس فيها شيء من المرأة؟ بهذا المعنى، أعتقد أن للمرأة حضورًا في أشياء الجمال – وهو حضور عميق، وآسِر جدًا، ويحتاج إلى حدقة لتراه.

 

جارية رومية

لو سمحتَ أن نطيل الكلام عن المرأة. ثمة من يقول إن المرأة غير موجودة؛ بمعنى أننا، عند الوصول إلى سطح القمر، قيل: فقدنا القمر. هل تخضع المرأة لهذا الالتباس؟ إن قوة حضور المرأة في الواقع يمنعنا من الوصول إليها: كلما زاد حضورُها استحال الإمساكُ بها – كأنها الغيمة الجالسة أمامنا: نتقدم إليها لنصافحها، فيتسلَّل السراب من بين أصابعنا.

أعتقد أن كلَّ الأشياء الجميلة، عندما تمتلكها، تفقدها. ودائمًا أنت تعشق هذه المسافة بينك وبين الأشياء الجميلة. وهذه المسافة، هذه المعاناة التي تمرُّ بها وأنت تسعى لامتلاك الأشياء المدهشة الصعبة، هي اللحظة المكتنزة للتمتع بالجمال. ولا شكَّ أن الوصول إلى حقيقة الجمال وامتلاكه يُشعرانك بأنك مازلت، أو لم تستطع أن تحقق ما تريد، لم تستطع أن تمسك بما تريد.

لنقل إن المرأة هي من التجلِّيات الهامة لفكرة الجمال التي تحاول الاقتراب منها دائمًا. فإذا وصلتَ إلى المرأة–الجسد يُخيَّل إليك، أحيانًا، أنك امتلكت المرأة؛ ثم تشعر بخيبة أنك لم تمتلكها. في الواقع أنك، عندما تصل إلى المرأة–الجسد، لا تكون وصلت إلى المرأة الحقيقية. المرأة الحقيقية هي شيء، أيضًا، أبعد من الجسد. وسأذكر لك قصة طريفة عن أحد الخلفاء العباسيين – وكان، ربما، يحب النساء كثيرًا – أتوه يومًا بجارية رومية جميلة جدًّا؛ وأخذ النخاس الذي يريد أن يبيعه هذه الجارية يعرِّيها من ثيابها شيئًا فشيئًا؛ يعني كانت تلبس أولاً ثوبًا فضفاضًا فعرَّاها منه. فقال له الخليفة: أيضًا، عرِّها. فعرَّاها من ثوب آخر. وقال له: أيضًا، وأيضًا... إلى أن أصبحت عارية! ولكن الخليفة ظلَّ يردد ويقول: أيضًا، وأيضًا... دون أن يتوقف عن الكلام. هذا الكلام، لماذا يقوله كذلك؟ لأنه كان يريد أن يصل إلى كلِّ هذا الجمال؛ كان يعتقد أنه لا يزال هناك إمكان لأن يتجلَّى الجمال أمامه بصورة أقدر على التملك والامتلاك – علمًا، كما قلت، أن هذا الجسد، في النهاية، ليس هو المرأة، بحيث إنك، إذا امتلكتَه، تشعر بأنك امتلكت المرأة وامتلكت هذا الجمال كلَّه. إن المرأة أبعد من ذلك. إنها الشيء الذي يهرب كلما أحسسنا أننا أصبحنا نمتلكه، وأصبحنا نهيمن عليه.

لونان

سؤال بعيد عن المرأة: العمامة التي تضعها على رأسك، قيل إنها توحي بالكفن. ولماذا يوجد منها لونان أسود وأبيض؟

حلو! يعني أن البعض فسَّر أن العمائم هي تيجان العرب – عادة عربية قديمة. مع الأسف، في هذا الزمن، أصبحت العمائم مقتصرة على رجال الدين. طبعًا، هذا التقليد ليس قديمًا؛ ليس علماء الدين قديمًا هم المعمَّمين، وغيرهم ليس بمعمَّم. العرب كانوا يعتبرون العمَّة أحد مكمِّلات الوقار للرجل. يقال أيضًا عن اعتمار هذه العمَّة إنه، في مراحل الجهاد والتوثُّب لدى المسلمين، كان الرجل يضع هذه العمامة على رأسه ليقول للأعداء إنه يحمل كفنه فوق رأسه – يعني أنه لا يبالي بالموت، وأن الموت هو جزء من الحياة نفسها، وأن الموت، بدون الحياة الكريمة، أكرم من الحياة، فيضع العمامة على رأسه. طبعًا، هذا التفسير وارد؛ وأنا متفائل به، وأجده تفسيرًا رائعًا. غير أن هذه العمامة أمست زيًّا؛ مع الأسف، لم تعد تحمل هذا المضمون. رُبَّ عمامة، فعلاً، يضعها صاحبُها لتكون كفنه عندما يحين الموعد المناسب للجهاد والاستشهاد؛ ورُبَّ عمامة أمست نوعًا من الامتياز والزيف.

أما لماذا هي سوداء أو بيضاء، فالعمامة السوداء، أو مَن يلبس العمامة السوداء، أو السواد، علامة الانتماء نَسَبِيًّا إلى آل الرسول – صلى الله عليه وسلم؛ يعني ذرية رسول الله، من ابنته فاطمة الزهراء وصهره علي بن أبي طالب، ومن تفرَّع عنهم من ذريات – هؤلاء يُسَمَّوْن بالسادة، الأشراف. وجرت العادة أن يتميَّزوا عن غيرهم بلبس العمامة السوداء، أو الخضراء. كانت في السابق الخضراء – والخضرة شعار بني هاشم، شعار أولاد علي – ثم الآن أصبحت سوداء. أما العمائم البيضاء فهي تدل على أن مَن يلبسونها لا يرجعون بنسبهم إلى الرسول؛ فقط الذين ينتمون بنسبهم إلى رسول الله هم الذين يحق لهم أن يعتمروا هذه العمامة السوداء، التي أعتمرها أنا. وطبعًا أنا أشعر بالفخر والاعتزاز أن يكون جدي العشرون هو رسول الله!

انتحروا

الانتحار، هل يمكن أن يكون الموتُ فيه منطقًا عدميًّا، أو العكس؟ عظماءٌ كبار انتحروا؛ وأيضًا هناك بسطاءٌ انتحروا.

الانتحار من المواضيع الذي ينكتب فيها. والحقيقة لي تطلُّعات كثيرة، فلسفية، حول الانتحار. ولا أستطيع أن أحاكم الانتحار بكلمة واحدة، فأقول إن الانتحار محرَّم شرعًا، ولا يجوز. أختصر مشكلة الانتحار بهذا الكلام: قد يكون الانتحار، أحيانًا، موقفًا من الحياة. قد لا يعني الانتحار الهزيمة من العالم؛ قد يكون شكلاً من الاحتجاج. لذلك لا نستطيع أن نأخذ صورة أو شكلاً أو نموذجًا من نماذج الانتحار ونعمِّم على بقية النماذج. وكما قلت، إنني أرى في انتحار خليل حاوي، الشاعر المعروف، ما هو أكثر من عملية يأس خاص، شخصي، من الحياة، وأجد فيه ما يقال كثيرًا. ويمكن أن نكتب كثيرًا حول هذه المسألة – وهي مسألة مركبة ومعقدة، وليست مسألة بسيطة ذات جانب واحد.

طبعًا، لا يعني أني أشجِّع على الانتحار، ولا أعتقد أن أحدًا ينتحر لأن أحدًا يشجِّعه على الانتحار. الانتحار هو قرار ذاتي خاص، يُقدِم عليه الإنسان في لحظة حاسمة ومصيرية؛ لكن دوافع هذه اللحظة، أعتقد أنها مختلفة بين إنسان وآخر؛ وتاليًا، ليس كلُّ انتحار جرأة، وليس كلُّ انتحار جبنًا. لا يمكن التعميم في هذا المجال.

بعد دخولنا في مرحلة السلام، كيف ترى مستقبل الثقافة في ظلِّ هذا السلام الآتي؟ وهل ترى أن الثقافة التي عشناها في سنوات الحرب كانت توازي قوة الحرب وفعلها؟

رأيي أن هذه الحرب هي عقم! يعني البعض يريد أن يدافع عن هذه الحرب، فيقول إنها كانت ضرورية، أو كانت مُنتِجة، أو كان لا بدَّ منها! أنا أعتقد أنها حرب عقام، بكلِّ ما تعني الكلمة. وهي حرب الغرائز، حرب لم نشرع فيها، نحن اللبنانيين، لم نحرِّك أنبل ما نملك من دوافع؛ بالعكس، نحن حرَّكنا أحطَّ ما نملك من غرائز. لقد قتل الناس بعضهم بعضًا، فقط لأنهم يختلفون في انتماءاتهم الدينية؛ أو قتلوا بعضهم بعضًا، فقط لأنهم يختلفون في أماكن سكنهم أحيانًا!

لقد كان في هذه الحرب من الانحطاط ما لا يمكن أن يصدِّقه الإنسان لو أنه لم يشاهد، أو لم يلمس لمس اليد. هل تريد من هذه الحرب أن تنتج أدبًا يصنع، على الأقل، رؤيا مستقبلية؟ كان لا بدَّ أن يُكتَب عن هذه الحرب، فعلاً، بكونها حربًا خسيسة، وكونها حرب الغرائز. ولكن لا أعتقد أن مثل هذه الحلول، في النهاية، تمهِّد، أو توفر المناخ، من أجل كتابات إبداعية، وذات مستوى يؤهِّلها لأن تكون خالدة ومقروءة وموجودة لأكثر من جيل. إني أرى أن الحرب اللبنانية غير مؤهَّلة لهذا الأمر، إذ لم تُنتج سوى الفراغ: كما أنتجت الفراغ على المستوى العمراني وعلى المستوى المادي، كذلك أنتجت أيضًا الفراغ على المستوى الفكري والثقافي؛ دمَّرتْ كلَّ المؤسَّسات. أكثر من هذا، صادرت هذه الحرب حرية الكلمة وصادرت أثمن ما يملكه الإنسان – وهو حرية الموقف. هل تتخيل أنه بدون حرية موقف يمكن أن يكون هناك إبداع؟ هذه الحرب صادرت هذه الأشياء الثمينة من اللبنانيين، وتاليًا، حَرَمَتْهم، ليس من تمثال جميل من حيث العمران ومن حيث المؤسَّسات، أيضًا حَرَمَتْهم من الجميل من حيث الإبداع ومن حيث العطاء الفكري والإبداع الفني.

 

ربما تقدِّم مرحلة السلام التالية الصورة الأفضل للثقافة ومعناها الأعمق؟

آمل ذلك. آمل أن تأتي مرحلة السلام وتصنع هذه المرحلة. وهذا السلام لا يصنعه على الإطلاق السياسيون، إنما يصنعه المثقفون، المفكرون؛ يصنعه الذين يفهمون لغته أكثر، والذين يحبونه أكثر. وهذا السلام لا يُعطى بقرار. إنه سيرورة. وهذه السيرورة يتحمَّلها، ويتحمل أعباء استمرارها ودفعها إلى الأمام، طبقة المفكرين والمثقفين والشعراء والفنانين عامة.

*** *** ***

 

حادَثَهُ: إسماعيل فقيه

تنضيد: نبيل سلامة


* نُشِرَ هذا الحديث الهام أصلاً في عدد 4/4/1991 من صحيفة النهار. ونحن، شأننا في كلِّ مرة، نشكر صديق معابر، الشاعر جبران سعد، على تزويدنا به من أرشيفه الشخصي، ونلفت النظر إلى أن الصور المرافقة للنص صورٌ أحدث من تاريخ إجراء الحديث. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود