|
حدث
في يوم ماطر
ألقي
من نافذة غرفتي نظرةً سريعة وأنا أتعجَّل لبس
ثيابي. السماء الملبَّدة بالغيوم، الأشجار
الواجفة، الطريق الضبابي، يستقبل، مع صباح
رمادي، خطوات القادمين والرائحين، يتدثَّرون
بملابس سميكة، ويحمل بعضهم مظلات مطوية.
سيارتي الهرمة، المتكوِّمة جانب الرصيف،
عجوزٌ هدَّ حَيْلَها الترحال، فحطَّت
بهيكلها الضئيل تتوق إلى الراحة والرحمة. أهز
رأسي مشفقًا مبتسمًا، وأنا أرمقها من بعيد.
"وأنا... من يرحمني يا عزيزي؟" تتَّسع
ابتسامتي: "هيا، فلدي اليوم عمل لا بدَّ من
إنجازه. الموسوعة تنتظرني، والموعد المحدَّد
لإنهائها يقترب كسيل هادر، وأنت تختصرين
الزمن!" يغمرني
شعور لا أستطيع تفسيره. من الصعب أن تبقى
محايدًا – حتى مع الجماد. لا شكَّ أن روحًا
تسكن كلَّ ذرة في هذا الهيكل العتيق، روحًا
تآلفتْ معها روحي عبر سنوات مرَّتْ، واكبتْنا
فيها أحداثٌ لا تُحصى. أرى نفسي في الشارع،
أسرع الخطو باتجاه السيارة. أرفع يدي لأعدِّل
إحكام الشال حول رقبتي، وأنا أستقبل لَسْعَ
هواء بارد، فأحسُّ بأول الغيث على شعر رأسي. تعود
الابتسامة إلى شفتيَّ، وأنا ألمح المارة
يبدأون بفتح مظلاتهم ويغذُّون السير. "لماذا
يهرب الناس من عطاء السماء؟ الاغتسال بالحب
رائع!" أتساءل مستغربًا. "لكني أخطو
باتجاه السيارة!" أجيب على عجل مع شعور خفي
بالحزن. "الوقت يمرُّ، والعمل لا يرحم!" أرفع
رأسي إلى السماء، ويدي تمتد إلى باب السيارة،
فينفتح فمي، لتدخل إلى جوفي قطراتٌ متسارعة.
أحس بالانتعاش. أندسُّ خلف المقود. أمدُّ يدي
بالمفتاح. أدير المحرك. "السيارة باردة في
يوم كهذا!" محاولة ثانية. لا صوت! أتذكَّر أن
السيارة مليئة بالوقود. محاولة أخرى. لا جدوى! أنتظر
قليلاً، وإحساس بالخيبة يتسرب إلى نفسي.
أسئلة كثيرة تبدأ باجتياح مخيِّلتي: "ماذا
لو كانت خيبتي حقيقية؟!" يقطع حبلَ
تساؤلاتي نَقْرُ أصابع على النافذة. ألتفتُ
مستطلعًا، ويدي تفتح الزجاج بحركة سريعة. "الدولاب...
يا أستاذ يحيى!" يرنُّ في أذني صوت أبي
محمود منشرحًا، كعادته، عند كلِّ مصيبة. أندفع
إلى الشارع. "ماذا لو سمعتُ كلامَ رئيس
الورشة وأتيتُه بقطع الغيار قبل أيام؟ لقد
حذَّرَني من موقف كهذا؛ لكنني طمعتُ في صبر
سيارتي واحتمالها! لقد خذلتُها قبل أن
تخذلني؛ وهذه هي النتيجة. ولكن، كان عليها أن
تصبر أيامًا – أيامًا قليلة فقط، ريثما أنهي
عملي في الموسوعة وأتفرَّغ لها. لقد وعدتُ
الهيئة العلمية أن أنجزها بعد أيام. نقدتْني
الهيئة نصف أتعابي مقدمًا، فكيف أخذلها
وأضيِّع وقتًا في شراء قطع الغيار، ومحاورة
رئيس الورشة، والاستماع إلى حكاياته التي لا
تنتهي عن سعر القطع والغلاء، وعن أمانته
وغشِّ الناس – والحل؟!" أمد
يدي إلى شالي، أعدِّل وضعه فوق رأسي، واستسلم
لزخَّات المطر المتزايدة، وأنا أسير في
الطريق الموصِل إلى الشركة الكبرى لبيع قطع
الغيار في وسط المدينة. ذهني
لا يُراجِع تعداد القطع اللازمة. أعادها صاحب
الورشة على مسمعي مرارًا. إنه منشغل فقط
بتقدير أسعارها. فقد تستهلكُ معظمَ ما أخذتُه
مقدمًا لقاء إنجاز الموسوعة. أهزُّ
رأسي طاردًا خواطري وقدماي تخبَّان في برك
الماء الموحل. "دكتور في الاقتصاد، أستاذ
في الجامعة سابقًا، وصاحب مكتب للدراسات
العلمية والاقتصادية حاليًّا... مكتب متواضع،
صحيح، لكنه مكتب! ومع ذلك، فهو لا يملك فائضًا
ماليًّا لإصلاح سلحفاته الهرمة!" أرسل
كفيَّ إلى جبيني لأحمي رأسي، لا أدري من أيِّ
شيء: من الخواطر، أم من زخَّات المطر! أطمئن
بأصابعي على وضع الشال، وألحظ ثيابي التي
بدأت تغرق بحبِّ السماء. تطالعني
الشركةُ ببنائها الفخم، ويلفتُ نظري صفٌّ من
السيارات الحديثة مركونة أمام بوابتها
الكبيرة. أستبعد بحزم فكرة سخيفة راودتْني:
مقارنة بسيطة بين إحدى السيارات وسلحفاتي
الهرمة! أبتسم راضيًا بوضع اخترتُه عن قناعة
راسخة. ألِجُ
البوابة، فيستقبلُني البواب بثيابه الرسمية
المهندمة، ويجيب عن أسئلتي المتعدِّدة،
مشيرًا في النهاية إشارةً مقتضبة إلى رقم
طابق وغرفة الموظف المسؤول عما أريد، وهو
ينظر بامتعاض ظاهر إلى نقط الماء التي بدأت
تنزف من سترتي، تاركةً أثرها على البلاط
الأبيض اللامع. يرمقُني
الموظف طويلاً قبل أن يتحرك من وراء كرسيه،
ويمدُّ يده مهلِّلاً بصوت مسموع. "أستاذ
يحيى... شرَّفْتَنا... اعذرني، فلم أتعرَّفك من
أول وهلة!" ينظر إلى النافذة الواسعة في
الغرفة. "أحوال الطقس سيئة!" يشير إلى
كرسي بجانبه. "تفضل يا أستاذي. منذ أنهيتُ
دراستي في الجامعة لم أحظَ برؤيتك. أرجو أن
تكون بخير. أفضالُك تغمرني، وحديثي عن إخلاصك
في التدريس مستمر في كلِّ مجلس أحضره."
تنفرج شفتاه بودٍّ ظاهر، وهو يرمقني. "طلباتُك
أوامر. أشِرْ فقط." ومع
شرحي المستفيض لما أريد يتأملُني باستغراب،
ويشردُ ذهنُه لحظة، ليفاجئني بعدها بسؤال
يصيبني بقشعريرة رغم دفء المكان: "ألم
تعرِّج يا أستاذي على صديقك الأستاذ خالد،
مدير الشركة؟ لا بدَّ أنك فعلت، ولا بدَّ أنه
سُرَّ بلقائك؟" صديقي
الأستاذ خالد؟ سُرَّ بلقائي؟! أسئلة مباغتة
تزاحمتْ في ذهني، واختلطتْ مع صمتي. تلميذي
الرابض فوق كرسيه يراقبني بانتباه، كأنه
يتابع مشهدًا مثيرًا. وفي ثوانٍ أخذتْ صورتُه
تهتزُّ مع اهتزاز الصور المتلاحقة على شبكة
ذاكرتي المستيقظة على ذكرى سنوات خَلَتْ. خمسة
عشر عامًا انصرمتْ، ويومٌ ماطرٌ كهذا اليوم
تمامًا. صديقان يلتقيان بعد غياب. نتعانق
بلهفة قرب جسر المدينة الكبير. نخبِّئ في
عيوننا دموعًا أبَتْ أن تفرَّ. نضحك ملء
شدقينا ونحن نراجع ذكريات حلوة، مُرَّة،
جمعتْنا سوية على خطٍّ مستقيم لم نَحِدْ عنه
رغم كلِّ التحدِّيات. يزداد ضحكُ صديقي ليصبح
هستيريًّا وهو يمدُّ يده بتحدٍّ إلى جيب
سترته ويُخرِج ليرة معدنية واحدة ينقرها
بإبهامه، فترتفع عاليًا، ثم تسقط في بركة
الماء الموحلة قربنا، وبصوت يسمعه المارة،
يصيح، ونبرتُه مغلَّفة بكبرياء تشي بها عيناه:
"هذا كلُّ ما أملك يا صديقي. صدِّقْ أو لا
تصدِّق!" يترك الليرة في بركة الماء،
ويشتُم الدهر بطلقة مقذعة من فمه! -
هل مازلت تشتم الدهرَ يا
خالد؟ يَثِبُ
صديقي لاستقبالي. يخرجُ من وراء مكتبه الفخم
بحركة سريعة. الدم يفرُّ من وجهه وسحنتُه
تتبدَّل، وكأني ضبطتُه بالجرم المشهود!
يدعوني بيد مرتعشة إلى كرسيه الهزاز، وبصوت
جهوري يغطي ارتباكه: "أهلاً بالصديق الغالي!"
يشير بيده الأخرى معرِّفًا بمجموعة من الرجال
المهندمين كانت تحيط به لحظة دخولي كما يحيط
الذباب بفتات طعام فاسد. أقف
أمام طاولته الفخمة دون أن أستجيب لرغبته في
الجلوس مكانه. تشتبك نظراتُنا، فيُشيح بوجهه
هَرَبًا من وقع نظراتي. يقرع سمعي صوتُ
ارتطامِ حبَّاتِ المطر الغزيرة بالأرض.
ألتفتُ إلى النافذة. تحضُرُ الذكرى بقوة. يفهم
صديقي إشارتي، فتزداد حركاتُه اضطرابًا،
بينما هو يضغط على جرس جانبي، فيحضرُ في هنيهة
شابٌّ أنيق يحمل صينية عليها فناجين قهوة. "كانت
أيامًا رائعة!" يقول، وهو يقدِّم لي فنجان
القهوة بيده التي ما تزال ترتعش، بينما
ترمقُه عيونُ الحاضرين بدهشة مشوبة بألف
علامة استفهام، كأنما هي تتساءل: "مَن هذا
الغريب الذي يخشاه من لا يخشى أحدًا نعرفُه؟!" أحدِّق
إلى عينيه دون أن أجيب. تتوسطُ الليرة
المعدنية الحدقة. أراها ترتفع في الجو
عاليًا، ثم تقع على الأرض، تمامًا في بركة
الماء الموحلة. أسمع صوته هادرًا وسط الجموع،
يقطر مرارة وكبرياء: "هذا كلُّ ما أملك يا
صديقي. صدِّقْ أو لا تصدِّق!" أمد
يدي إلى جيب سترتي أبحث عن منديل أمسح به
قطرات المطر والعرق عن وجهي. يهبُّ واقفًا
كأنما يتوقَّع أن تخرج يدي بالليرة. يلمح
المنديل فيتهالك على الكرسي قبالتي. يلتفت
إلى النافذة ويتمتم بصوت يكاد لا يُسمَع. "يوم
قاسٍ! هل تذكر يا خالد؟" أسأله. يقرِّب وجهه
من وجهي، فتلفحني أنفاسُه الحارة. "كل ما
تريده من قطع الغيار سيكون جاهزًا في لحظة،
والباقي عليَّ." يستدرك منتبهًا إلى حركاته
الخرقاء وكلامه الغريب أمام عيون ما ينفكُّ
اتساعُها يزداد مع مرور اللحظات الحرجة. "الأستاذ
يحيى صديق قديم... أخ بكلِّ معنى الكلمة!" أمد
يدي مودِّعًا بحركة مفاجئة. أحاول مساعدته
بمشروع ابتسامة، وأنا ألمح شدة ارتباكه.
يمدُّ يده ضاغطًا على كتفي في محاولة
لاستبقائي. يصلُه اعتذاري مسدِلاً الستارة
على مشهد مُضْحِك–مُبْكٍ: "لديَّ عملٌ
مهمٌّ ينتظرني. صدِّق يا خالد أو لا تصدق أنني
سعيد بهذه المصادفة كما سُعِدتُ تمامًا منذ
خمسة عشر عامًا في يوم ماطر كهذا، و... أحوال..."
يقاطعني قبل أن أنهي جملتي وهو ينظر حواليه
كمن يبحث عن مخرج: "أقول لك مرة أخرى لا
تعرِّج على الصندوق. المبلغ واصل. هل تسمع؟"
ألتفت إليه وأنا أغادر الغرفة. أحدِّق إلى
وجهه مرة أخيرة: "سأدفع يا صديقي، فأنا في
هذه الساعة أملك أكثر من ليرة معدنية واحدة!" يستقبلني
الشارع، وهَطْلُ المطر بدأ يخف. شعور بألم
ممضٍّ يتعاظم في داخلي، فتعشى عيناي وهما
تحدِّقان أمامهما دون أن تريا شيئًا. جَوَّاي
إنسانٌ يبحث عن شمعة يشعلها لينير دربي.
الطريق ضبابي كوجوه الناس التي تمر. "ما
الذي حدث؟ هل أصاب العشى عينيَّ فعلاً؟"
أمد أصابعي وأفركهما بعصبية ظاهرة. "أم أن
الضوء القسري المبهِر أضعف عصب البصر،
فاستحالتْ الأشياء، والأماكن، والمنعطفات،
والناس، خيالاتٍ باهتة لا حياة فيها؟ أين
الهواء؟" أحاول
أن أسرِّع خطواتي، لعل نسمة تدخل صدري
المخنوق فترد إليَّ الروح المنسربة. لا
أستطيع. كأني أقف على حافة مسنَّنة تكاد أية
حركة فوقها تُفقِدُني توازني المعتاد. "لماذا
خفَّ تهطال المطر؟ حتى أنت أيتها السماء
تشيحين بوجهك عن حاجتي العارمة إلى حبِّك،
يغسل عن نفسي مشاهدَ مفجعة تهوي عليَّ
كالسياط؟! خالد... حطامك يفتِّت خلاياي،
ويسمِّرني في جو المقابر. عيناك الشُّعلتان
يا خالد. عيناك الآن بؤرتا عفن تنهشهما ديدانٌ
لا ترحم. أنفاسك تلاحقني كجيفة نتنة. هل تركتَ
صليبك يا خالد، ونزلتَ من على جبل الزيتون،
وعلَّقتَ الصولجان، وتركتني وحيدًا، ألعق
دمائي النازفة، وأصرخ أمام العالم بصوت مكتوم:
"ليست هذه هي النهاية يا رفاق؟" ومتى
أصبح الشرف يا خالد سلعة تُباع في سوق
النخاسة؟" جَوَّاي
إنسانٌ يبحث عن شمعة. وسَمْعي يغوص في كهفي
الداخلي، فلا يسمع إلا دقات ضعيفة لقلب غائر
تتناغم مع وقع خطواتي البطيئة المتثاقلة،
ورنةٌ خافتة لقطعة معدنية تسقط في بركة
موحلة، يتلاشى صداها تدريجيًا. يهتز
الرصيف أمامي فجأة، فيرتجف جسمي وتسري فيه
قشعريرة. "هل هو الزلزال؟" أقف. أنتشل
سمعي من كهفي وأصيخ. وقع خطوات سريعة قادمة!
أحدِّق بنظري التائه. أحدِّق طويلاً. وَجْهٌ
قادم من وراء الزمن، مغتسلٌ بالماضي
والمستقبل. وجهٌ كمصباح حوصر ضوؤه ومازال
يشعُّ. شعاعُه المكبوت نَفَذَ إلى صدري،
فأشعل شمعتي الخابية. استيقظ في صدري شعورٌ
بفرح مكتوم لم يكنْ الوقتُ وقتُه، ولا الساعة
ساعته. أسرع
الخطوَ باتجاه القادم. "إنه هو. لا بدَّ أنه
هو!" هذه الملامح لا يمكن أن تُنسى، رغم
البعد وقسوة اليد التي تغيِّر معالم الأشياء
والأماكن والبشر. يا للمصادفات العجيبة! هل
يمكن أن تجتمع المصادفاتُ الغريبة كلُّها في
يوم واحد؟ هل يمكن أن يقسو الزمن ويحنُّ في
ساعات قليلة؟ "أبا
هشام!" أستوقف صديقي القديم المغتسل بحبِّ
السماء مثلي. "أين هذه الغيبة؟" أصيح
بصوت عادتْ إليه الحياة: "هل كنتَ مع أصحاب
الكهف يا رجل؟" يلتفت أبو هشام، وقد أعاده
صوتي العالي النبرات من عالمه البعيد. ينبري
صائحًا وهو يمدُّ إليَّ يدًا قوية راحت تهزُّ
يدي ثواني دون توقف. "أصحاب الكهف معذورون
يا صديقي... معذورون!" أتأمل
في ملامحه، التي كدتُ لا أعرفها، وفي هندامه
المضطرب المتآكل. أسأله جَزِعًا: "خير يا
أبا هشام. هل أنت مريض؟ ما الذي حدث؟" لم
أكن أدري أني أنكأ جرحًا غائرًا! يصلُني صوتُه
هادرًا، غير عابئ بالمارة. "وهل أنا المريض
الوحيد؟ البلد بكامله تحوَّلَ إلى مستشفى!
الجميع مرضى يا يحيى، وكلُّ واحد بمرض مختلف،
إنما عضال! شيء غريب ومُحزِن. أليس كذلك؟"
لا أجيب. أتابع أسئلتي اللاهفة: "أما زلتَ
تدرِّس في الجامعة؟" يصيح بأعلى صوته
مستغربًا: "الجامعة؟! وهل الجامعة بقيتْ
لأمثالي يا رجل؟ الجامعة تحتاج إلى نوع آخر من
الأساتذة، إلى أناقة وقيافة، وجيوب مليئة،
وعيون مغمضة، ولسان قصير. هي ليست مكاني يا
صديقي. مكاني هنا، على هذا الرصيف، حيث تراني.
هه... العملُ في الماضي كان حلوًا. أما الآن
فالشارع أحلى، أحلى بكثير!" يتنهد بحسرة
بالغة. مع
إحساسي بالمرارة النازفة من فمه أدركُ أني في
موقف لا أُحسَدُ عليه. في لحظة أستعيد ذكرى
المشاهد الماضية. السيارة المتهالكة،
السيارات الحديثة المرصوفة، المفاجأة
المذهلة، المكتب الفخم، الضوء المُبهِر، وجه
صديقي المنقسم بين الماضي والحاضر، الليرة
المعدنية، الصليب المخلوع، ووجه أبي هشام
الطافح بحزن دفين! تظل
قدماي مسمَّرتين بالأرض، ويظلُّ سمعي
متنبِّهًا، متلقِّيًا بلهفة كلَّ حرف يخرج من
الفم البركان. أمد يدي، أربت على كتفه برقة.
"مكتبي قريب من هنا. دعنا نمشي إليه."
يسير معي دون اعتراض، بينما الكلمات تتدفق من
فمه كالسيل. "زلزالٌ يا صديقي، زلزال. ألا
تحسُّ به؟ أنظر. الأرض تميد تحت أقدامنا!"
يرفع نظره إلى السماء متلقِّيًا، بوجهه،
زخَّاتِ المطر الخفيفة. أقول في سرِّي ساهمًا:
"هو زلزالٌ فعلاً يا أبا هشام!" ألتفتُ
إليه مستنجدًا. أرى قطرات المطر تتساقط من
شعره وثيابه. أبتسم. "السماء تُمطِرُ يا أبا
هشام!" يقاطعني: "لماذا تهرب يا صديقي؟ هل
أصبحتَ كالآخرين؟ أقول لك إننا واقعون في
هوة، هوة لا قرار لها. مهمتنا هي حماية أنفسنا
من الأنقاض المتداعية ومن الأتربة المتراكمة
كي نواصل التنفس فقط!" تستدرجُني
حالة الحزن مرة أخرى، وتروح عضلات وجهي تتقلص
تدريجيًّا. "لماذا لا تقول إن مهمتنا هي
محاولة الخروج؟ لِمَ هذا التشاؤم كله –
بربِّك؟!" أقول، محاولاً شحذ عزيمتي
وعزيمته. يطوِّح بيديه الاثنتين باستياء ظاهر.
"أنت حرٌّ... حر... أما أنا فالموقع يعجبني
ولا أريد الخروج. ما فوق أشد هولاً مما تحت.
أقسم على ذلك!" يصمت
فجأة، ونحن أمام باب مكتبي، وينظر إليَّ
بعينين فارغتين. أفتح الباب وأدعوه للدخول:
"دعنا نحاول تجفيف ملابسنا فقط." ترتسمُ
على وجهه ابتسامة متخابثة: "بذمَّتك، لو
كنا نريد اتِّقاء المطر أما كنَّا بحثنا عن
وسيلة أخرى منذ البداية؟" يقهقه
بصوتٍ عالٍ. يجلس على المقعد الجلدي. يضع
المنشفة التي قدمتُها له جانبًا. ينظر إليَّ
نظرة غريبة: "أتعرف يا صديقي؟ كان بإمكاني
أن أكون في هذه اللحظة داخل سيارة فارهة،
أتمتَّع، من وراء زجاج نوافذها، بمنظر
الأشجار والشوارع المغسولة بحبال الخير،
متجنِّبًا رؤية مشاهد المجانين أمثالنا." أسألُه،
وأنا أتابعُ تجفيف ملابسي، ونظري يجول بإهمال
فوق أوراق الموسوعة أمامي. "هه... ولماذا لم
تفعل؟" يهبُّ من على مقعده كالملسوع: "أنا
أفعل هذا يا يحيى؟ سامحك الله! ألم أقل إنك
تغيَّرتَ. أم نسيتَ من هو أبو هشام؟" يتابع،
دون أن يترك لي فرصة للرد: "اسمع يا صديقي.
سأروي لك قصة قد تبدو سخيفة، لكني سأرويها على
كلِّ حال." يقترب من طاولتي التي أجلس
وراءها، غير مكترث لقطرات المطر التي راحت
تسقط على بلاط الغرفة. "منذ عشرين عامًا –
وكنت لا أزال أستاذًا حديث العهد في الجامعة
براتب يكفيني مع أسرتي الصغيرة، ويزيد منه ما
يكفيني مؤونة والديَّ العجوزين – في ليلة من
ليالي الشتاء الماطرة، كهذا اليوم تمامًا،
سمعت قرعًا على باب الدار. وعندما فتحتُه،
فاجَأني وجهُ صديق قديم لم أرَهْ منذ شهور.
كان مبتلاً كما نحن الآن تمامًا." يقرِّب
أبو هشام وجهه من وجهي، ويتابع، بينما
أنفاسُه تتعالى مع خروج كلماته المتدفقة: "أدعوه
للدخول فيبقى مسمَّرًا على العتبة. ويخرج
صوته يائسًا متحشرجًا: "هل أجد عندك يا أبا
هشام ثمن ربطة خبز لأسرتي؟" يصعقني طلبُه،
وتُذهِلُني حشرجتُه، ويعتصرُ قلبيَ ألَمٌ لا
يرحم. أمدُّ يدي إلى جيبي، وأُخْرِجُ راتبي
الشهري الذي قبضتُه في ذلك اليوم. أقسمُه
مناصفةً، فأعطيه خمسمائة ليرة. أبحث دون جدوى
عن كلمات تفرُّ أمام زخم مشاعر أساي. ليلتها،
يا صديقي، لم تعرف عيناي الرقاد وظللتُ
أيامًا كالتائه." يُبعِدُ
أبو هشام وجهَه عن وجهي، ويحدِّقُ هنيهة إلى
الشارع الجانبي من خلال النافذة، متابِعًا
تناقُصَ هَطْلِ المطر في الخارج. يلتفت
إليَّ، ويروح يضحك. ثم، فجأة، يندفع ويخبط
بيده على زجاج المكتب الذي يفصل بيننا: "هل
تعرف من دعاني اليوم إلى اتِّقاء المطر
بسيارته الفارهة؟ إنه صديقي طالب ثمن ربطة
الخبز. قال وهو يفتح لي بابها: "بيننا يا أبا
هشام حساب قديم يجب أن نصفيه حالاً. تفضل اركب
إلى جانبي!" تصور! حساب قديم منذ عشرين
عامًا. خمسمائة
ليرة. كان سيردُّها لي اليوم أضعافًا مضاعفة.
أنت تعرف: الفوائد، والتضخم، والفرق في سعر
الدولار بين زمن وزمن – إضافةً إلى الصداقة!
ربما كان سيدفع لي خمسين ألف، خمسمائة ألف!
خمسة ملايين! كلُّ هذا متوقع ممَّن يركب اليوم
"الشبح"، ويلتقط صديقًا قديمًا من على
قارعة الطريق. هل تعرف ماذا فعلت؟ صفقت الباب
في وجهه، وصُحتُ بأعلى صوتي: "ليبقَ حسابي
في ذمَّتك نارًا تشوي كبدك!"" كانت
عيناه قد احمرَّتا وجَحِظَتا، وازداد
تصلُّبُ قسماتِ وجهه. كنتُ أتابع كلماتِه
وحركاتِه، وأنا أفكِّر باسم أقرب طبيب إلى
مكتبي، فيما لو اضطررتُ للاستنجاد به. أتحرك
ببطء من وراء مكتبي. أمدُّ يدي، محاولاً
الإمساك بيده والخطو معه باتجاه الأريكة.
بلمحة، يُفلِتُ من يدي. يفتح باب المكتب ويعدو
منطلقًا كالسهم باتجاه الشارع الذي تحولت
أرضُه إلى سلسلة من البِرَكِ الموحلة. أقفُ
وراء نافذتي أرقبُه وهو يبتعد. ألاحِقُ
قطراتِ المطر الغزيرة تغسل شعره وثيابه. صورة
صديقي القديم، صاحبِ الليرة المعدنية
الواحدة، وصورة سيارتي المتآكلة، وصفحات
الموسوعة التي أعمل على إنجازها، تتشابك
لحظات، لتطغى عليها صورةُ خيالٍ يتوارى
حاملاً على ظهره صليبًا. دماؤه النازفة تختلط
مع قطرات المطر، فتتلون مياهُ بِرَكِ الشارع
بلون الشفق، ويظلُّ رأسه يشمخ عاليًا نحو
السماء! *** *** ***
|
|
|