|
موسوعة تاريخ
الأديان بعد
أكثر من عشرة كتب في حقل «علم الأديان»، منذ مغامرة
العقل الأولى ولغز عشتار، حتى الحدث
التوراتي والشرق الأدنى القديم وتاريخ
أورشليم، يؤسِّس فراس السواح لنفسه مدرسة
خاصة في البحث عن «الجوهر الأول» في معتقدات
وأساطير هذه المنطقة من العالم، غير منغلق
عما سواها، وصولاً إلى كتاب التاو: إنجيل
الحكمة الصينية، في رحلة بحث عن صورتي الرحمن
والشيطان في معتقدات الشعوب، خصوصًا: شرقها
وجنوبها. ولسوف يعترف الباحث
فراس السواح، في مقدمة الجزء الأول من موسوعة
تاريخ الأديان،*
بحلمٍ طالما راوَدَه عن موسوعة ميسَّرة
بالعربية في تاريخ الدين وأديان الثقافات
الإنسانية المتعاقبة، تتوجَّه إلى أوسع
شريحة ممكنة، تبدأ من القارئ غير المتخصِّص
انتهاءً بأساتذة الدراسات العليا. يحاول فراس السواح –
وهو الباحث الفرد، بينما البحث: جماعة وهيئات
– أن يضبط إيقاع معارفنا الضئيلة في علم
الأديان المقارن بموسوعة – ستكون مترجمة
بالتأكيد – يحرِّرها بانتقاء أفضل الأبحاث،
بتراتبية اشتغالها على العصور، من حيث لا
يمكن لفرد واحد أن ينجز تعريب وتحرير موسوعة
الأديان، بمجلداتها الستة عشر الضخمة التي
صدرت عن دار ماكميلان عام 1987، وأشرف عليها
ميرشيا إلياده، أحد أهم الباحثين في
الميثولوجيا بعد جيمس فريزر وكلود ليفي–شتراوس.
كأنما يُصبح البشر
أسرى للمصطلحات التي يبتكرونها، حتى يأتي شخص
مثل آشلي مونتاغيو ليزيل الالتباس عن مصطلح «البدائية»،
من كونه وليد نزعة ترى محصِّلة التقدم
الإنساني خطًّا صاعدًا، وليس على هيئة دوائر
وحلقات. وإذ يشمل الكتاب
الأول من موسوعة تاريخ الأديان مفاهيم
الشعوب البدائية ومعتقداتها، يخصِّص فراس
السواح، بعد مقدِّمته كمحرِّر للـموسوعة،
فصلاً خاصًّا لإزالة الالتباس عن مفهوم «البدائية»،
من حيث ابتكرتْ النزعة المركزية الأوروبية
هذا المصطلح لتصنيف البشر عبر التاريخ إلى «بدائيين»
و«حضاريين». وكان يمكن الخروج من ذاك المأزق
بإحالة بسيطة إلى «القبلية»، من حيث انتظم
البشر في قبائل قبل حالتهم «المدينية» الأولى. وللخروج من حكم
القيمة الذي ينضح به مصطلح «البدائية»، يُشير
فراس السواح إلى إن الحكم على كلِّ ما هو «بدائي»
بأنه حالة متدنِّية ما هو إلا حكم غير دقيق
بالاعتماد على مقياس التطور التكنولوجي وحده
أو الحالة الاقتصادية، ليحيلنا السواح
مباشرة إلى آشلي مونتاغيو: «عندما نقارن
خصائص معينة في الثقافة غير الكتابية
البدائية – مثل اللغة والدين والأساطير
ونظام القربى والحكايات والأشعار وقصِّ
الأثر وغيرها – بمثيلاتها في المجتمعات
المتمدِّنة فإن أعضاء الثقافات اللاكتابية
لن يقفوا على قدم المساواة مع أعضاء
المجتمعات المتمِّدنة فحسب، بل سيتفوَّقون
عليهم في أحيان كثيرة»، خصوصًا في المجال
الفني، كما يقول السير هربرت ريد: «إن أفضل
رسوم كهوف ألتاميرا ونيو ولاسكو تكشف عن
مهارة فنانين كبار محدثين من أمثال بيكاسو». أما المختص في الفنون
البدائية كلود روي فيضع إصبعه مباشرة على لغز
ذاك الالتباس في مصطلحات، كـ«البدائية» و«الوحشية»
وغيرهما، بقوله: «لا يمكن أن ندعو أيَّ فنٍّ
فنًّا متوحشًا إلا بالقدر الذي نشارك فيه نحن
بوهم الوحشية». وذاك يذكِّرنا بوهمٍ
آخر ابتدعه الغرب هو «الوهم الاستشراقي»،
الذي رأى في شرقنا مخيالاً لما يريد هو رؤيته.
وكنت أودُّ لو أشار الباحث السواح إلى ذاك
بوصفه أحد أمراض «النزعة المركزية»
الأوروبية–الغربية عمومًا في نظرتها إلى
الشعوب الأخرى، حتى لو كانت شعوبًا من
التاريخ الغابر! لقد ظلت أجيال من
الأنثروبولوجيين على هذا الوهم، حتى خرج جيلٌ
ليزيحه عن حقل البحث العلمي فحسب، من غير أن
ينجحوا في إزالته من العقل الجمعي للغرب.
لكنها خطوة أولى، أخذت تُظهِر أن الثقافات «البدائية»
ليست مستحاثات من العصر الحجري، بل هي ثقافات
تاريخية جاءت ثمرة تفكير استمر قرونًًا
مديدة، ونتاج تجارب أناس واجهوا قوى الطبيعة
وجهًا لوجه، وحاولوا ترويضها من خلال منظومة
شكَّلتْ معتقداتهم وأديانهم. وهو ما اختص به الفصل
الثاني في هذا الجزء من الموسوعة
بإيضاحه، عبر التركيز على «أهم الخصائص
المميِّزة للدين في المجتمعات البدائية»،
بقلم جون ب. نوسس، بترجمة غادة جاويش، في
محاولة لفهم تداخل الطقس الديني عند
البدائيين بأساطيرهم، من حيث إن الطقس الديني
يسبق الحاجة إلى تفسيره على هيئة أساطير؛ إذ
يكتفي البدائيون بالقول: «هكذا علَّمنا
الآباء أن نفعل»، إلى وقت يحتاجون فيه إلى
تفسير لكيفية تحوُّل الأرض إلى مكان صالح
للحياة والمسكن. وهذا ما يجعل «أساطير خلق
الكون» شيئًا مشتركًا عند كلِّ تلك الشعوب،
على انقطاع ما بينها من اتصال في أغلب
الأحيان، كما بين القبائل البدائية
الأفريقية وقبائل الإسكيمو. يزيل الباحث جون ب.
نوسس الالتباس أيضًا في ثنائية السحر والدين،
من حيث قال جيمس فريزر بأسبقية السحر على
الدين، وقال إميل دوركهايم بإلزامية الطقس
الديني واختيارية الطقوس السحرية، بينما قال
مالينوفسكي بأن السحر وسيلة من أجل غاية
محددة، بينما لا يتوخى الدين نتائج فورية
عملية، لأنه غاية في حدِّ ذاته؛ بينما يرى
الباحث بأن الساحر البدائي يمكن له، في نفس
الطقس، أن يسترضي القوى ويتوسَّل إليها على
الطريقة الدينية، ثم يتحوَّل إلى إصدار
الأوامر إلى القوى ذاتها على الطريقة
السحرية، من حيث تتنوع أشكال السحر: فثمة
السحر المُحاكي، أو السحر بالمحاكاة، بتقليد
إنسان أو حيوان أو حتى صوت غيمة راعدة، لإحداث
تأثير مشابه في الكائن أو الشيء المقلد. ومن
ذاك الصعود إلى هضبة عالية ودحرجة الصخور من
قمتها بقرع الطبول وتقليد صوت الرعد، جلبًا
للأمطار في سنوات القحط. يستوفي ذاك البحث
دائرته الواسعة بتكريس مفاهيم الإنسان
البدائي الدينية، من خلال مفاتيحها الرمزية،
كالصلوات والكهانة والاعتقاد بالـمانا
والأرواحية، حيث للأرواح شكل وعقل وشعور
وإرادة وأهداف، مرورًا بتبجيل وعبادة
الأرواح، وبإلهة السماء، وبالتابو (المحرَّمات)،
وبطقوس التطهير والقرابين والموقف من
الموتى، وليس انتهاءً بـ«الطوطمية»، حيث
تتخذ تلك الشعوب طواطم لها تعبدها، على هيئة
حيوان أو نبات أو جماد، أو كالمطر عند قبائل
أواسط أستراليا. وهو ما سيوضحه الفصل
الثالث من الكتاب بقلم إميل دوركهايم؛ بينما
سيختص الفصل الرابع بـ«الشامانية» ودور
الساحر الكاهن في قبيلته. أما الفصلان الخامس
والسادس فسيعرضان لنماذج من الأديان في
أمريكا الشمالية، ومن بعدُ للديانات
الأفريقية، لتدخل الموسوعة قسمها الثاني
عن ديانات العصور الحجرية، ديانات ما قبل
التاريخ، كالديانة «الباليوليثية» والديانة
«النيوليثية»، مع نماذج لهذه الأخيرة من
أوروبا القديمة. وفي مراجع هذا القسم
الأول ببليوغرافيا للمؤلِّفين الذين تم
اختيار أبحاثهم وترجمتها، حيث شارك في ترجمة
هذا الجزء مجموعة من المترجمين السوريين:
محمود منقذ الهاشمي، غادة جاويش، ثائر ديب،
يوسف شلب الشام، وعدنان حسن. وها نحن بانتظار
الأجزاء التالية من هذه الموسوعة الغنية! *** *** *** *
بتحرير فراس السواح، دار علاء الدين، دمشق
2003، 330 صفحة من القطع الكبير.
|
|
|