كارين بعد الحياة

كتاب يروي تجربة غير عادية من العالم الآخر

ليس موتًا بل حياةٌ في تبدُّل وتحوُّل

 

ندى الحاج

 

لم تعد الحياة بعد الموت "لغزًا" في كتاب كارين بعد الحياة، الصادر بالفرنسية لدى دار ألبان ميشيل،* الذي يضم شهادة الوالدين إيفون وماريفون دراي حول مغامرة وحيدتهما كارين في العالم الآخر.

 

معظم الذين يؤمنون بالحياة بعد الموت لا يعرفون تمامًا ماهية تلك الحياة ونوعيتها، بل يكتفون بالإيمان فقط – وهنا سر الرجاء. ويدرك بعضهم، بإحساسه الذي لا يبرَّر منطقيًّا، كثافة تلك الحياة التي تنتظره بعد نفاد الجسم من دوره.

يصف الأمريكي مارك ميسي، رئيس مؤسَّسة Continuing Life Research، الإنسان بأنه كائن متعدِّد البُعد، يعيش في عالم متعدِّد البُعد أيضًا، وبأن كلَّ خلية وكلَّ ذرة من الإنسان تعتمد على إيقاعه الخاص وذبذباته الخاصة، وبأن الجسم المادي هو درع مؤقتة لمادة كثيفة، ويتصل بجسمين آخرين، هما الجسم الأثيري والجسم الكوكبي الذهني. كذلك يرتبط عالمنا بعوالم أخرى مرتبطة بعضها ببعض، لكنها متميِّزة بالمستويات الاهتزازية. ولا يمكن لحواسنا الخمس أن تميِّز سوى عالمنا المادي. يشبه جسمنا الأثيري، إلى حدٍّ بعيد، جسمنا الحالي؛ وعندما نتخلَّى عن جسمنا المادي، لا نحافظ طويلاً على جسمنا الأثيري إلا لبضع ساعات، أو على الأكثر لبضعة أيام، نلتقي بعدها جسمنا الكوكبي الذهني، حيث تنوجد الروح – وهو جسمنا الحقيقي الذي يهبنا السلام، بعدما كان جسمنا المادي مثل العربة الضرورية التي عَبَرْنا بواسطتها حياتنا الأرضية.

أما الدكتور إمارا فيشرح بدوره أن الروح تخرج من الجسم في الطريقة نفسها التي تخرج بها الفراشة من اليرقانة؛ لذا تعني كلمة psyche (اليونانية) الروح مثلما تعني الفراشة. وحين تتفكَّك اليرقانة، التي هي جسمنا المادي، تمنح الحياة للفراشة. ما حاول مارك ميسي إفهامنا إياه هو أن الروح لا تنفصل عن الجسم، بل هي المركز الأساسي الذي تتفرَّع منه مختلف الأجسام.

وإن كنا نؤمن بخلود الروح بعد انعتاقها من الجسم وانصهارها بالمطلق، لا حدود لهذا الإيمان المحلِّق بعيدًا عن أُطُر المنطق والمحسوس. من هذا المنطلق، قرأتُ كتاب كارين بعد الحياة، الذي يقدم في طيَّاته شهادات نابضة بالحياة لكارين التي انتقلت من جسمها المادي إلى جسمها الروحي في الحادية والعشرين من عمرها، إثر حادث سيارة مروِّع في المكسيك في العام 1995 سلبها من والديها، اللذين فتحا قلبيهما للإيمان والحب، وتمكَّنا من التواصل معها عبر وسائل روحية وتقنية عديدة، عرضاها للقارئ في كتابهما هذا الذي كتب مقدمته وشارك في إعداده الروائي ديدييه فان كاويليرت. وهو يؤكد أن هذه القصة الحقيقية، التي تدور أحداثها بين هذا العالم والعالم الآخر، لا ترمي إلى إثبات شيء بقدر ما تتطرق إلى خلود الروح والقدرة العجيبة للدماغ البشري الذي يستطيع أن يخلق، عن مسافة بعيدة، أصواتًا وصورًا من المادة تسبِّبهما قوة الحب، من خلال مسجِّل الصوت والكمبيوتر والكتابة الآلية أو الموحى بها بواسطة التواصل الذهني وتجسيد صورة الشخص الغائب أمام عشرات الشهود.

يبدو أن كارين دراي استعملت كلَّ الوسائل المتاحة كي تُسمِعَ صوتَها بالحيوية ذاتها التي كانت تحييها على الأرض، بغية إيصال رسالة مهمة إلى والديها وجميع الذين فقدوا أحبَّاءهم – ومفادها: الحياة والموت لا ينفصلان؛ أما الحياة الحقيقية والأجمل فتكون بعد نزع قشرة الجسم عنَّا في عالم تسوده الطيبة والسعادة والكمال لِمَن يؤمن بوجود عالم كهذا. الحياة الأرضية تحضير للحياة الحقيقية في ما بعد. القدر موجود فينا، كما الحياة. القوة العظمى، التي يمكن تسميتها بالله والتي تقودنا، تسمح لنا بالحياة على الأرض، وتسحبها منا في الوقت الملائم، حتى لو بدا ذلك ظالمًا في نظر الأحباء؛ لكن التحضير لما بعد الحياة يخفف من الألم.

ما سعت إليه كارين، بعد انتقالها إلى الضفة الأخرى، هو مساعدة والديها على تخطِّي فقدانها واستبدال فرح التواصل معها خارج نطاق المكان والزمن بعذابهما. فهي تؤكد، في إحدى رسائلها التي بعثتْها إليهما، أن جميع الأرواح تعيش في حبِّ الله، حتى لو لم تكن تستطيع رؤيته، بل تكتفي بالإيمان فحسب. كما أنها تملك مستويات متعددة تبعًا لتطورها الروحي؛ ولكلِّ روح مرشد يساعدها على التطور. تؤكد كارين أن الأرواح حية، لكن في بُعد آخر: فمنها المضطربة التائهة بين العالمين، ولم تتقبل بعد فكرة رحيلها عن الأرض، وتحتاج إلى الصلاة كي تتوجَّه نحو النور؛ ومنها التي عليها أن تدفع ثمن ما اقترفتْه من شرور، فتختار عقابها بعد أن ينجلي شريط حياتها أمامها. لكن الأرواح جميعًا ترى، تسمع، وتشعر بما نفعله نحن الأحياء الأرضيون، وتتواصل في ما بينها ومعنا بواسطة التخاطر.

تؤكد كارين، في كلِّ رسائلها، أن الموت ليس موجودًا، بل هي الحياة تتغير وتتحول الروح إلى طاقة؛ فيشعر الحيُّ على الأرض بوجود تلك الطاقة، كما لو أنها حقل مغناطيسي. والتواصل بين الأحياء هنا وهناك يسمح لهم بالانفتاح بعضهم على بعض من خلال تبادل الطاقات الإيجابية والمساهمة في تطورها.

يدرك والدا كارين أن هدف وجودهما على الأرض هو من أجل تطورهما الروحي واستعدادهما للالتقاء مجددًا بأحبائهما في الحياة الأخرى – الحياة الحقيقية. كما تدرك كارين، من ناحيتها، أن قَدَرَها الذي واجهتْه هو الذي سيساعد والديها في تحقيق هدفهما والتقرُّب أكثر وعميقًا من الله وأسرار الوجود. لذا جمع الحبُّ والإيمان والشجاعة مجددًا بين أفراد هذه العائلة الصغيرة، رغم الانفصال الجسمي القاسي.

"لا تحتاج الأمور إلى شرح؛ يكفي في بساطة أن تكون حقيقية"، قال العالم الفيزيائي والفلكي اسحق نيوتن. بتلك البساطة تقبَّل الوالدان اتصال وحيدتهما بهما من حيث هي؛ وبالبساطة نفسها، بعد مرحلتي الألم المفجع والذهول، بادلاها بالمثل، حتى أصبحا يملكان شركة Karine TCI في المكسيك (TCI تعني Transcommunication Instrumentale). ويستلزم الاتصال التجاوزي الآلي النقطتين الأساسيتين، أي الإيمان والحب، والجهوزية والصبر والمثابرة التقنية لاستعمال المسجِّل الآلي والمذياع الموحَّد الخصائص (في جميع الاتجاهات) ومكبِّر الصوت.

بدأت ممارسة هذا النوع من الاتصال مع العالم الآخر بواسطة الصوت قبل منتصف القرن العشرين، ووُضِعَ حول هذا الموضوع العديدُ من الكتب التي تجمع العلم إلى الشهادات الحية لأشخاص عاشوا تجربة ما قبل الموت الأخير، أو لأشخاص تواصلوا مع أرواح من العالم الآخر.

يشير والدا كارين إلى إمكان الخطر المُحْدِق من جراء ممارسة الاتصال مع العالم الآخر، ولا سيما في ظلِّ وجود مستوى كوكبي منخفض يتبع المستوى الأرضي مباشرة، تسكنه نفوسٌ مضطربة قد تشوِّش الاتصال المطلوب. وهنا تلعب الصلاة دورًا مهمًّا للحصول على حماية المستويات الروحية العالية. ولولا إصرار أرواح محبِّينا على نقلهم لنا رسالة الحياة التي يعيشونها لما حظينا بتلك القنوات المفتوحة معهم، التي يبعثون لنا من خلالها برسائل حبٍّ تطمينية. ويؤكد الوالدان أن على الراغب في القيام بتلك الاتصالات التجاوزية أن يتمتع بتوازن ذهني صلب وأفكار إيجابية مولِّدة للحب وبعيدة عن الشك.

ويتطور الاتصال التجاوزي الآلي عبر العالم على نحو ملحوظ؛ وقد نشأت أول شركة عالمية لهذا الاتصال في بريطانيا في 3 أيلول 1995. ويقدم اليوم هذا النوع من الاتصال مع العالم الآخر دلائل حسية، مدعومة بمقالات علمية في مجلات متخصصة ومحاضرات ضمن مؤتمرات يحييها الاختصاصيون وأصحاب الشهادات الحية عبر العالم.

في الكتاب شهادة للأب فرنسوا برون (وهو محقق استثنائي حول موضوع خلود الحياة)، يقول فيها:

نحن نتشارك في حبِّ الله بعضنا بعضًا. ومن الطبيعي أن يستمر الله في محبة أمواتنا، بما أنهم يحيون في العالم الآخر. ومن الطبيعي أن يمرَّ حب الله من خلال حبِّنا لهم. صحيح أن اتصالنا بهم يمكن أن يزعجهم لو حاولنا التمسك بهم وإعادتهم باستمرار إلى الحياة الأرضية عبر ذكريات عاطفية قد تؤذيهم وتمنع تطورهم الروحي؛ علينا تجنب ذلك. أما لو تقبَّلنا إرادة الله بانفصالهم عنَّا، فليس كفرًا أن نحافظ على الرباط معهم لو سعوا هم إلى التواصل. على العكس، قد نخيِّب أملهم في عدم استجابتنا لهم.

أما الكاهن الفرنسيسكاني الإيطالي جينو كونشيتي فيشير إلى أن التواصل مع العالم الآخر معقول، ولا يندرج في خانة الخطيئة إن تمَّ بوحي من الإيمان، ولا سيما أن الله يسمح لأمواتنا الأحياء بأن يبعثوا لنا برسائل لإرشادنا في بعض أوقات حياتنا. وإثر اكتشافات جديدة في ميدان البارابسيكولوجيا (علم نفس الظواهر الخارقة)، قرَّرتْ الكنيسة عدم منع التجارب الحوارية مع الأموات إذا تمَّتْ لهدف ديني وعلمي جدي. ويمكن للرسائل أن تصلنا عبر الكلمات والأصوات، وهي وسائل بشرية عادية؛ كما يمكن أن تصل عبر إشارات أخرى، كالأحلام المنذرة أو عبر رؤى وتصورات. يحذِّر الأب كونشيتي من الاتصال بالأرواح الأخرى، إلا عند الضرورة؛ وهي بدورها لا تسعى إلى الاتصال لتلحق بنا الأذى أو بالله. المهم هو الحفاظ على الإيمان لتجنب الوقوع في الاستحواذ الشيطاني الذي يحاربه الكهنة المتخصِّصون في طرد الشياطين التي تسكن ملايين الأشخاص الذين يقومون بجلسات "تحضير الأرواح".

بين منطق الماديين، الذين لا يؤمنون باستمرار الحياة بعد فناء الجسم، والمؤمنين بخلود الروح، يستوقفنا هذا الكتاب الذي يقودنا في مغامرة شائقة إلى عالم الروح ومصيرها. وبين شكوك العلم وتحفُّظه أمام ظاهرة الاتصال التجاوزي مع العالم الآخر، وإصرار الروح على تأكيد خلودها من خلال تواصلها مع الكائنات الأرضية، استطاع الاتصال التجاوزي الآلي أن يتطور ويؤكد على حقيقة الخلود. لذلك يعتبر والدا كارين، كالعديدين سواهم، أن هذه الظاهرة هي الاكتشاف الأهم في تاريخ البشرية؛ وهي تسمح للإنسان، في رأيهما، أن يكمل حياته الأرضية في سلام وأمل في لقاء أحبائه الغائبين الذين يحيون في محبة الله.

بعدما دمَّرهما غيابُ ابنتهما الصاعق، أعاد غيابُها ترميم نفسيهما. وهما يحاولان، بشهادتهما، مساعدة الناس في تجاوز مأساة فقدان القريب وتنوير مَن يساهمون في تطوير المعرفة على الأرض، بعيدًا عن الأوهام الخرافية. تلك هي الوسيلة الوحيدة المعتمَدة، على حدِّ قولهما، كي يظلا جديرين بالأحداث التي هزَّتْ حياتهما منذ غياب كارين.

كارين بعد الحياة شعاع شمس ظهر من ظلمة الألم ليشرق على جسرٍ نَعبُرَه بين الحياة والموت... إلى الحياة.

*** *** ***


* Maryvonne Dray & Ivon Dray, Karine après la vie, présenté par Didier Cauwelaert, Albin Michel, Paris, 2002.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود