تأمُّل في نظريَّة
المؤامرة
بشار عباس
خطوات التأمل:
1- محاولة تعريف أولية. 2- نماذج عن العلاقة بين نظرية المؤامرة
والخرافة الشعبية. 3- تأصيل أدبي وتاريخي. 4- جذور نظرية المؤامرة في
الوعي الجمعي البشري. 5- محاولة تعريف جديدة. 6- خلاصة ورأي.
1) تعريف أوَّلي
الاصطلاح؛ مدخل لغوي: قبل البدء بالمصطلح لا بد من الإشارة أن الخوض في
هذا الشأن اللغوي قد يفيد في تلقِّي إدراكي خال من الآراء المسبَّقة،
لأنَّ التفكير بمصطلح أفضل يجعل وقع الكلمة بعيدًا عن اقتراحات المعنى
المألوفة المصاحبة لها، وعليه يمكن القول: مؤامرة من آمرته في أمري
مؤامرةً أي شاورته. وفي الحديث: أمروا النساء في أنفسهنَّ، أي: شاوروهن
في تزويجهنَّ. وفي الكتاب: "يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك"
القصص 20 - أي: يتشاورون.
عيوب الاصطلاح: يُمكن أن يُعزى الخلل في هذا الاصطلاح إلى الاعتماد على
الترجمات المتسرعة التي عُرفت بها اللغة الصحفيَّة في مطلع العشرينات
من القرن الماضي، ونظرية المؤامرة مترجمة عن (Theory of conspiracy)
التي ظهرت في الصحافة البريطانية بُعيد الحرب العالمية الأولى، وتعززت
بعد الحرب الثانية، وكان من الأفضل أن يُعثر لها على رديف لغوي عربي
قريب أو مشتق من: دسيسة أو مكيدة، أو مكر، لكن بما أن اللغة اصطلاحية
وقد درج الناس على استخدام "مؤامرة" فإنه يجب أن نتعامل مع الاصطلاح
الحالي ريثما يتم تصويبه.
محاولة تعريف أولية: نزوع شعبي أو سلطوي إلى اعتبار وتفسير حدث أو
سلسلة من الأحداث السياسية والاجتماعية والتاريخية، الماضية أو
الراهنة، ذات الصلة بالرأي العام على أنها أسرار لا يظهر منها على
السطح غير أجزاء بسيطة، وتكون تلك الأسرار من فعل وتخطيط وتنظيم جماعة
أو حكومة أو قوى أو عصبة تسعى من خلالها إلى تحقيق هدف أو سلسلة من
الأهداف المضادة تخدم مصلحتها.
مميزات التعريف: يستثني التعريف السابق العامل الشخصي، فلا ينظر إلى
الجريمة مع سبق الإصرار والترصد على أنها مؤامرة.
عيوب التعريف: لا يشتمل على فصل دقيق بين تفاصيل السياسة المعلنة
والخفية وبين معنى المؤامرة. فتبدو بناءً عليه كل دولة في حالة تآمر
أبدي على جيرانها، وهذا ينسحب كذلك على الصراع الطبقي، والتنافس المهني
بين قطاعات الأعمال المشتركة.
ملابسات التعريف: وفق معنى المؤامرة في التعريف السابق، لا حدود فاصلة
بينها وبين أفعال أخرى شبيهة مثل التجسس، ووضع وتنفيذ الخطط السياسية
والعسكرية، وحملات العلاقات العامة، أو المنافسة الكبيرة واقتفاء
الأخبار بين الشركات أو أصحاب نفوذ الأعمال.
2) نماذج تاريخية
عن "نظرية المؤامرة" حين تمتزج بعناصر الخرافة والخيال الشعبي
أثناء أعمال مد الخط الحديدي الحجازي بين برلين وكلٍّ من البصرة وعدن
في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، ساد اعتقاد شعبي في المشرق
العربي أن الخط وراءه مؤامرة ألمانية تسعى إلى تمريره في بلاد مكة
والمدينة، لكي يدخل الجنود الألمان تلك المنطقة فيتسنى لهم لاحقًا هدم
الحرمين.
في الحرب العالميَّة الثانية ساد اعتقاد شعبي قوي في الولايات المتحدة
عن مؤامرة حكومية لإخفاء حقيقة أن الأرض مجوفة وليست مصمتة، وأن أناسًا
ضخام الحجم يعيشون فيها، وتطوَّر هذا الزعم ومُزج بأخبار وشائعات أن
قادة الحزب النازي ذهبوا وهبطوا إلى ذلك العالم من ثقب يقع في القطب
الجنوبي، وذلك كجزء من التسوية عقب مفاوضات مع قادة الحلفاء، ولم يقتصر
ذلك الزعم على الصحفيين والسياسيين بل تعداه إلى مؤسسة الرئاسة نفسها،
فوجدت نفسها متَّهمة بالتآمر على الشعب وإخفاء تلك الحقيقة، وبلغ الأمر
أن قامت السلطات بتكليف الأدميرال ريتشارد بيرد رسميًا بالتحليق فوق
القطب الشمالي وبعده الجنوبي عام 1946 للتحقق من الأمر، وبعد عودته
انتشرت شائعة أُخرى أنه عاد بأدلة وبراهين تؤكد حقيقة الأرض المجوفة
لكن الحكومة أخفتها عن الشعب وألزمته الصمت، المثال السابق يعبِّر عن
ميل شعبي جمعي لتفسير اختفاء ذكر وقائع الحرب فجأة بعد 5 سنوات كانت
تتصدَّر فيها العناوين، ويمكن تفسيره قصصيًا بأنه نزوع غير واعٍ لمعرفة
المزيد عن قصَّة انتهت فجأة.
وليس كالميل الشعبي التالي: فقبل قصَّة الأرض المجوفة بسنوات قليلة،
وفي بدايات الحرب العالمية الثانية سرت شائعة في مصر أن الإمام الحسين
ظهر في برلين وأعطى سيفه لهتلر لكي ينتقم من الدول الأوروبية، وأن
الإنكليز يتآمرون عليه وعلى المصريين معًا ويحشدون الحلفاء لتعطيل
المشروع، فهذا التفسير يمكن أن يُعزى إلى رغبة شعبيَّة بالتحرُّر.
أمَّا في الحرب الأهلية الهندية بين المسلمين والهندوس عام 1947، والتي
انتهت بتقسيم الهند، ساد زعم لدى المسلمين أن شحم تنظيف البنادق التي
بحوزتهم مستخلص من دهن الخنزير في مؤامرة من الجيش البريطاني لحرفهم عن
دينهم، وتزامن ذلك مع زعم مماثل لدى الهندوس أن شحم بنادقهم مستخلص من
دهون الأبقار، في هذا الميل ترميز لوعي شعبي بدور التدخل البريطاني
بالحرب وترميزه بالمحرمات.
أثناء الحرب الأهلية القذرة في أمريكا اللاتينية، وفي الفترة القريبة
من اغتيال رئيس التشيلي سلفادور الليندي، انتشرت فكرة بين سكان الشاطئ
أن سفن الأسطول البحري الأمريكي تنزل جنودًا على شواطئ تشيلي الغربيَّة
لهم سيقان دجاج وعرف أحمر على الرأس. هذا الميل الشعبي يتضمَّن تكثيف
الدور الأمريكي في الحرب، وتحميله رموز ثقافية محلية.
3) تأصيل أدبي
وتاريخي
في النصوص الأدبية القصصية العربية، لدينا كليلة ودمنة بنزعتها إلى
تمثيل المجتمع البشري السياسي المفعم بالدسائس والمكائد بالمجتمع
الحيواني، وبعدها يمكن ملاحظة أن شخصية الفتنة ظهرت بعد ذلك بقليل في
"ألف ليلة وليلة" من خلال "شواهي ذات الدواهي" وهي عجوز إفرنجية ادَّعت
الزهد والنسك واخترقت صفوف المسلمين وحازت إعجاب السلطان، ثم أعملت
دهائها في الكيد للمسلمين وكادت تهزمهم في حربهم التي صاحبت زمن القصة
الافتراضي، ويمكن للأساس الأدبي–القصصي أن يكون ناجمًا عن سبب قصصي
صرف، بسبب تداخل معاني الحبكة مع المؤامرة، وهذه الشخصيَّة هي الانعكاس
الأدبي لشخصيَّة تاريخية شبيهة، وردت في الأدبيات الإسلامية المصاحبة
للاضطراب الذي تزامن مع تفكك الدولة الأولى، ونشوء الأمويَّة بعدها،
تلك كانت شخصية عبد الله بن سبأ الضرورية لتخفيف التنافر المعرفي بين
جمهور العوام، ولإيجاد مبرر لسلسلة الحروب التي نشبت بين "الصحابة" في
ذلك الزمن.
أما في الأوان العثماني المتأخر؛ فقد عاد مفهوم المؤامرة بقوة مع سلسلة
حروب صاحبت احتضار وتفكك الدولة العثمانية، ويمكن أن نعثر فيه على
ملامح لنضوج فكرة المؤامرة بشكل معقَّد قريب من شكلها الراهن، فلقد
استند التمرد الشعبي، المناهض لابراهيم باشا في بلاد الشام – خصوصًا في
دمشق ونابلس - عام 1832 على فكرة أن مؤامرة يقوم بها إبراهيم باشا
بإعلان التجنيد الإجباري، ويقصد من خلالها حرمان الأسر الحرفية في
المدن من الصناع والمهنيين تمهيدًا للسيطرة على المشاغل والورشات،
وأيضًا يحرم الإقطاعيين في الأرياف من الفلاحين تمهيدًا لمصادرة
الأراضي، وبعدها انتشرت شائعة في دمشق عام 1860 تقول بأن الأمير عبد
القادر الجزائري مشترك في مؤامرة فرنسية لإنشاء مملكة تحت حكمه منفصلة
عن السلطنة، تزامنت تلك المقولة مع جهود إنسانية حثيثة بذلها الأمير
لإيقاف الفتنة الشهيرة ، ويُمكن أن تكون من ابتكار والي دمشق الذي كان
متورطًا في تلك الحرب الأهلية وغير راض عن دور الأمير فيها.
عقب تنازل السلطان العثماني محمد الخامس عن ليبيا للإيطاليين في معاهدة
لوزان عام 1912، قام بإصدار فرمان يعترف فيه باستقلال ليبيا عن السلطنة
في محاولة لحفظ ماء وجهه أمام الرأي العام الشعبي، لأنَّ ليبيا كانت
تتعرَّض للغزو الإيطالي، فانتشرت مقولة بين كبار قادة السلطنة بأنه فعل
ذلك بتأثير مؤامرة قامت بها سيدة تنتمي للجالية الإيطالية في اسطنبول
تمتلك وتدير نادي للقمار والبلياردو، فجعلته يدمن ارتياد النوادي وصحبة
أبناء جلدتها، ثم تنازل عن ليبيا بمكيدة منها في واحدة من جلسات
القمار.
في عام 1917 تلقى الشريف حسين رسالة من قادة الثورة البلشفية في موسكو،
وفيها شرح لاتفاقيات سايكس بيكو وسان ريمو لتقسيم واحتلال المشرق
العربي من قبل الحلفاء، وكان لينين قد عثر على وثائق القيصر الذي دخل
الحرب الأوروبية الأولى مع الحلفاء للفوز بمضايق البوسفور والدردنيل.
ويُمكن أن تُعتبر تلك الحادثة تأسيس لنظرية المؤامرة بشكلها الحالي
الراهن.
المؤامرة كأداة صراع في الحرب الباردة: حضرت بقوة في المجتمع السياسي
والثقافي السوفييتي فيما عُرف بظاهرة القضاء على الأنتلجنسيا الثقافية
وتعني ممارسات ستالين ضد خصومه ومعارضيه، وبعدها بقرابة عقدين من الزمن
عرف المجتمع السياسي والثقافي في الولايات المتحدة ظاهرة شبيهة حملت
اسم المكارثية، وتتفرَّد الحالتان السابقتان بكون الفكرة مدعومة من
السلطة لتحقيق مكاسب، وبأنّها واعية وذات أهداف محددة.
4) جذور نظرية
المؤامرة في الوعي الجمعي البشري:
في كثير من اللغات المشتقة عن اللاتينية يحمل مصطلح المؤامرة نفس تسمية
مصطلح الحبكة الأدبية (بلوت)، وفي تعريف بسيط غير متعمق للحبكة الأدبية
يمكن القول: "مصطلح أدبي يقصد به سردية للأحداث المتتابعة والمتسلسلة
التي تتكون منها ذروة القصة، وذلك بترابط بنائي يقوم على تداخل وتعقُّد
الأحداث والظروف ومصائر الشخصيَّات بهدف توليد التشويق والجذب اللذان
يقترحان المفاجأة والحركة والتحوُّل، بما يُحدث معنى ذو أثر عاطفي او
نفسي أو قيمي". وبتعمق أكثر يمكن تعريف الحبكة من جهة الوظيفة الفنية
بأنَّها: "ظرف أو مجموعة ظروف مضادة تنشأ عن صراع إرادات ورغبات يجيء
تلقائيًا بمجرد تجاور الشخصيات وتناقض مقاصدها أو يجيء مفتعلاً من
شخصية محددة يُطلق عليها الشخصية المضادة"، وقد تجيء الظروف المضادة
بالشخصية المضادة فتكون سببًا لها، وقد يحدث العكس، وقد تأتي الظروف
بصحبة الشخصية دون أن يتسبب أحدهما بالآخر.
وبهذا يمكن الاقتراب شيئًا من مفهوم "المؤامرة" الذي يتماثل مع مفهوم
"الحبكة القصصية" بالشكل والوظيفة ويختلف عنه باختلاف نوع موضوع البحث،
فإذا كان الموضوع هو التاريخ والحدث التاريخي فيمكن أن تتخذ الحبكة
معنى المؤامرة، وإذا كان الموضوع قصة أو حكاية فإن المؤامرة تُسمَّى
حبكة، الفرق بينهما في هويَّة الموضوع المصاحب؛ هل هو تاريخ أم قصَّة.
بالتأسيس على الفرضيتين التاليتين يمكن أن نصل إلى تعريف جديد لنظرية
المؤامرة، الفرضية الأولى: الفن القصصي نشأ مع التأريخ، ثم انفصل عنه
وحافظ على عناصره نفسها من شخصيات وظروف صراع – من جلجامش إلى مآسي
شكسبير الخمسة غالبًا ما تكون الشخصيات الرئيسية ملوك أو على مقربة من
ملوك –؛ والفرضية الثانية: ميل وسائل الإعلام إلى تقديم الأحداث ببعدها
الدرامي والشخصي، لتكون بسيطة وسهلة المتابعة لدى الجمهور العريض.
ويُساعد في ذلك تقديم الأحداث على شكل كبسولات معرفية مجتزأة ومنقطعة
عن سياقها تحدث من تلقاء نفسها بمضمون آني مؤقت غير واع بالظروف
المحيطة.
5) محاولة تعريف
جديدة
بالاستناد إلى الفرضيتين السابقتين يمكن صياغة تعريف جديد لنظرية
المؤامرة: "موقف تفسيري يتخذه الرأي العام تجاه حدث أو سلسلة أحداث
طارئة تتسم بالعناصر الدرامية من جِدة: صراع، خروج عن المألوف، وضخامة.
وينطلق هذا الموقف من النزعة في الوعي البشري الفردي والجمعي إلى إكمال
النقص في المعلومات المتوفرة لكي تصير متكاملة بصرف النظر عن منطقية
هذا التكامل، وكذلك لإزالة التنافر المعرفي في المتناقضات لتصير منسجمة
ومنطقية".
6) خلاصة
ما خلا الخطط السياسية والعسكرية، وخطط حملات العلاقات العامة، وأعمال
التجسس والاستطلاع، فإن العلاقة بين نظرية المؤامرة وبين سلسلة من
الأحداث تقوم على خلل معرفي يضع النتائج قبل الأسباب، فالمؤامرة عنصر
لاحق ومصاحب للحدث ينتج عنه ويحاول أخذ موقف منه، وقد يُستخدم في
اختزاله، تبسيطه، تحويل معناه، أو إضافة مزيد من المعاني عليه من قبل
الوعي الجمعي الشعبي حينًا، أو من قبل السلطة نفسها حينًا آخر. ما قد
يؤدي إلى تسطيح الحدث وتقديمه بشكل ترميزي مبسط أكثر مما هو عليه في
الواقع، ما يتسبَّب بخلل في تقدير الموقف، وتشتُّت في القرارات الصحيحة
اللازمة للتعامل مع الاضطراب الناجم المفاجئ.
*** *** ***