المرأة ونظام
الثقافة: هيمنة الذكورة
د. مصطفى
الغرافي
ينطلق
هذا البحث من فرض منهجي أساس، مؤداه أن التراث الفكري والثقافي العربي
خضع لنسق ثقافي مضمر، تولى صياغة الرأي وتوجيه الموقف من المرأة. وقد
تمثلت أبرز الغايات التي وجهت البحث في الكشف عن مظاهر تحيز الثقافة
العربية ضد المرأة، وتحديد الآليات التي اعتمدها النسق التراثي من أجل
تبرير وتسويغ النظرة المحافظة والمنتقصة من المرأة جسدًا وخطابًا. لذلك
فإن البحث يستمد أهميته من كونه يشكل مدخلا ملائما لتركيب جهاز قرائي
يمكن من وضع اليد على منظومة الأفكار والقيم والتصورات التي تحكمت في
نحت وصياغة صورة المرأة كما جرى ترسيخها في المخيال الجماعي العام. ومن
هنا يمكن إدراج هذا البحث ضمن الجهود الفكرية الرامية إلى مقاربة "نص
الثقافة"، وليس نصوص الأفراد فحسب، بغرض الكشف عن الأنساق الفكرية
والمرجعيات الثقافية التي وجهت الحضارة العربية إلى اجتراح آفاق نظرية
ومعرفية بعينها، وهو أمر لن يتحقق إلا بالحوار المباشر مع النصوص
والخطابات التي مثلت الأس المعرفي الذي انبنت عليه أنظمة الثقافة
والفكر في السياق العربي. ومن أجل ذلك، يغدو من الضروري الربط بين
النصوص وبين الوقائع الوجودية للحياة البشرية؛ فالوقائع المتعلقة
بالقوة والسلطة، والمتعلقة أيضًا بضروب المقاومة التي يبديها الرجال
والنساء والحركات الاجتماعية والسلطات التقليدية هي الوقائع التي تجعل
من النصوص أمرًا ممكنًا، وهي التي تطرحها لقراء تلك النصوص[1].
انطلاقًا من هذا التصور للخطاب، باعتباره حاملاً لمضمون معرفي
أيديولوجي سنفحص كتاب النساء (الكتاب العاشر من "عيون
الأخبار")، قاصدين من ذلك إلى وضع اليد على ملامح المرأة العربية
كما تصورها ابن قتيبة الفقيه السني المحافظ، وجسدها في نسيج نصي
متلاحم، تحكمت في صوغ مبادئه وتشكيل مقاصده مرجعيات فكرية ثقافية
وموجهات معرفية أيديولوجية.
المرأة والفتنة:
سيمياء الجسد الأنثوي
تظهر نمذجة كتاب النساء تركيزًا واضحًا على جسد المرأة في جانبه
الشبقي، باعتباره موضع الفتنة والاستيهام؛ وكأن هذا الملمح هو الأصل في
المرأة. أما العقل، فعارض وثانوي؛ فقد ابتدأ ابن قتيبة الكتاب بنصوص
تنحدر من مرجعيات مختلفة عربية وأجنبية مدارها على أخلاق النساء وما
يختار منهن وما يكره[2].
يلي ذلك الكلام على الأكفاء من الرجال[3]،
والحض على النكاح وذم التبتل[4]،
وباب الحسن والجمال[5]،
وباب القبح والدمامة[6]،
ثم الخلقة الطبيعية من طول وقصر[7]،
وكلام عن اللحى[8]،
والعيون[9]،
والأنوف[10]،
والبخر والنتن[11]،
والبرص[12]،
والجذام[13]،
ثم حديث عن المهور[14]،
وأوقات عقد الزواج[15]،
فخطب النكاح[16]،
ووصايا الأولياء
للنساء
عند الهداء (الزواج)[17]،
وسياسة
النساء
ومعاشرتهم[18]،
فكلام عن جوانب من الحياة الجنسية من التقبيل[19]،
والدخول بالنساء والجماع[20]،
إلى القيادة[21]،
والزنا والفسوق[22]،
ثم الأولاد[23]،
والطلاق[24]،
وانتهاء بحديث العشاق[25]،
وأبيات في الغزل[26].
يكشف الاستقراء الدقيق لمواد كتاب النساء عن دفع قيمة الجمال
الجسدي في المرأة إلى أقصى حدودها، إذ تبرز النصوص والمرويات أن
المطلوب في المرأة مواصفات جسدية بعينها، تستجيب لمتطلبات الثقافة
الفحولية.
قال
أعرابي لابن عمه: اطلب لي امرأة بيضاء بدينة فرعاء جعدة، تقوم فلا يصيب
قميصها منها إلا مشاشة منكبيها وحلمتي ثدييها ورانفتي أليتيها ورضاف
ركبتيها، إذا استلقت فرميت تحتها بالأترجة العظيمة نفذت من الجانب
الآخر[27].
لقد مثل الاعتناء بالجسد وسيلة المرأة من أجل الظفر بقلب الرجل سيدًا
كان أو زوجًا. وقد أسهم في ترسيخ هذه الفكرة أن مجتمع النساء كان يتشكل
من الجواري والحرائر، مما أدى إلى تأثر المرأة بهذا الوضع، حيث اشتدت
المنافسة بين الطرفين من أجل الاستيلاء على عاطفة الرجل وحيازة رضاه.
ونتيجة لذلك، صرفت المرأة كل جهدها إلى تطوير وسائل الفتنة والإغواء
التي تتيح لها الفوز بقلب الرجل وتأجيج عواطفه ورغائبه. فقد ذكر الجاحظ
أن القائمين على صناعة الجواري كانوا يحرصون على تعليمهن صنوف الغواية
وضروب الخلاعة والمجون
وكيف
تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفةً، وإنما تكتسب الأهواء
وتتعلَّم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان
وفاتها بما يصدُّ عن ذكر الله من لهو الحديث وصنوف اللعب والأخانيث
وبين الخلعاء والمجَّان، ومن لا يسمع منه كلمة جدٍّ ولا يُرجع منه إلى
ثقةٍ ولا دين ولا صيانة مروَّة. وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوتٍ
فصاعدًا، يكون الصَّوت في ما بين البيتين إلى أربعة أبيات عدد ما يدخل
في ذلك من الشِّعر إذا ضُرب بعضه ببعض عشرة آلاف بيتٍ، ليس فيها ذكر
الله عن غفلة ولا ترهيب من عقاب ولا ترغيبٌ في ثواب، وإنما بُنيت
كلُّها على ذكر الزِّنى ثم لا تنفكُّ من الدراسة لصناعتها منكبَّةً
عليها تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كلُّه تجميشٌ وإنشادهم مراودة.
وهي مضطرَّةٌ إلى ذلك في صناعتها، لأنَّها إن جفتْها تفلَّتت، وإنْ
أهملتْها نقصتْ وإن لم تستفد منها وقفتْ[28].
لقد اقترنت المرأة في المتخيل الذكوري بالفتنة والغواية: "قال معاذ:
إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وإني أخاف عليكم فتنة السراء، وإن
من أشد من ذلكم عندي النساء[29]".
فالمرأة كما تصورها نصوص الثقافة العربية كائن طافح بالشهوة "قال
الأحنف: إذا أردتم الحظوة عند النساء فأفحشوا في النكاح"[30].
ولذلك مثلت القوة الجنسية وسيلة لاجتذاب المرأة والفوز بقلبها "كان
المغيرة بن شعبة قبيحًا أعور، فخطب امرأةً، فأبت أن تتزَّوجه، فبعث
إليها: إن تزوَّجتني ملأت بيتك خيرًا، ورحمك أيرًا. فتزوَّجت به"[31].
فالمرأة لا تستطيع السيطرة على نزواتها ولا التحكم في غرائزها. يقول
الجاحظ: "والمرأة سليمة الدين والعرض والقلب ما لم تهجس في صدرها
الخواطر، ولم تتوهم حالات اللذة وتحرك الشهوة. فأما إذا وقع ذلك،
فعزمها أضعف العزم، وعزمها على ركوب الهوى أقوى العزم"[32].
لقد استوجب هذا التصور لطبيعة المرأة فرض الوصاية عليها بغية صيانة
عفتها وضمان عدم انحرافها؛ "فأما الأبكار الغريرات، فهن إلى أن يؤخذن
بالقراءة في المصحف ويحتال لهن حتى يصرن إلى حال التشييخ والجبن
والغرارة، وحتى لا يسمعن من أحاديث الباه والغزل قليلاً ولا كثيرًا
أحوج"[33].
وقد مثلت القدرة الجنسية عاملاً حاسمًا يساعد على إخضاع المرأة
والسيطرة عليها، وكل نقصان يطرأ على هذه القدرة يؤدي إلى تمرد المرأة
وعدم انصياعها لسلطان الرجل "كانت لبعض الأعراب امرأة لا توال تشاره
وقد كان أسن وامتنع من النكاح، فقال له رجل: ما يصلح بينكما؟ فقال: لا،
إنه قد مات الذي كان يصلح بيننا. يعني ذكره"[34].
تتجسد في هذا النص، صورة المرأة التي تتمرد على زوجها عند عجزه عن
الوفاء بحقوقها. ويفيد ذلك أن إرضاء المرأة بالباه يضمن للرجل في
المتخيل الذكوري إمكانية إخضاع النساء، وإحكام السيطرة عليهن خاصة في
حال الجمع بين أكثر من امرأة واحدة. وإذا تعرضت القدرة الجنسية للنقصان
بسبب التقدم في السن، فإن الرجل يلجأ إلى وسائل أخرى تمكنه من
الاستمرار في إحكام قبضته على المرأة "قيل لرجل من العرب كان يجمع
الضرائر: كيف تقدر على جمعهن؟ قال: كان لنا شباب يصابرهن علينا، ثم كان
لنا مال يصبرهن لنا، ثم بقي لنا خلق حسن فنحن نتعايش به"[35].
يكشف هذا النص عن التدابير التي يلجأ إليها الرجل، لكي يضمن استمرار
سيطرته على المرأة. إذ يستخدم جملة من الوسائل التي تتدرج في صورة
تراتبية حسب قوتها ونجاعتها؛ فالمال يحتل المرتبة الثانية بعد الباه،
ثم يأتي بعد ذلك حسن الخلق. ولذلك جرى النظر إلى المرأة، باعتبارها
صنفًا من "المركوبات" كما يظهر من هذا الشاهد: "جاء رجل إلى معن
فاستحمله عيرًا، فقال معن: يا غلام، أعطه عيرًا وبغلاً وبرذونًا وفرسًا
وبعيرًا وجارية، ولو عرفت مركوبًا غير هذا لأعطيتكه"[36].
يتضمن هذا النص إشارة صريحة إلى أن الثقافة الذكورية تختزل كيان المرأة
في البعد الجنسي. وقد نجم عن ذلك أن غدا العضو الذكري علامة سيميائية
دالة ترمز إلى مركزية الفحولة وهيمنتها في ظل نسق ثقافي ذكوري، حيث
يحضر بوصفه معادلاً موضوعيًا للقوة والبطش. ولذلك يتفاخر به الرجل
ويتباهى. إنه بمثابة السلاح الذي يعوض اللسان والسيف في المعارك التي
يخوضها الرجل على جميع الأصعدة، فيكسبها دون منازعة كما يدل على ذلك
قول الشاعر[37]:
ويبعث
يوم الحشر أما لسانه فعي وأما أيره فخطيب
لقد انبنت علاقة الرجل بالمرأة على أساس السيطرة والرغبة في التملك
والإخضاع؛ فالرجل يسعى إلى نيل حقوقه كاملة غير منقوصة. ولكي يتحقق ذلك
يتعين على المرأة أن ترضخ لأهوائه واستيهاماته بصرف النظر عن حقوقها
الجنسية وتحولاتها الصحية والنفسية "زوج عامر بن الظرب ابنته من ابن
أخيه، فلما أراد تحويلها قال لأمها: "... ولا تمنعه شهوته، فإن الحظوة
في الموافقة"[38].
يكشف هذا النص عن نظرة فحولية لا ترى في المرأة سوى أداة جنسية ينحصر
دورها في إشباع رغبات الرجل، وهو ما يجعل العلاقة بين المرأة والرجل
تتأسس على التبعية والإخضاع وليس الندية والمساواة. وقد أسهم ذلك في
ترسيخ النظرة التبخيسية التي تختزل المرأة في الجسد دون أن تسمح لها
بالارتقاء إلى مستوى الند والشريك. فقد حصرت الوصية دور المرأة في
إمتاع الرجل وإشباع رغباته، ولذلك لا ينبغي لها أن تمتنع عن مجامعته
عندما يرغب في ذلك. مما ينهض دليلاً على أن الثقافة الفحولية لا تنظر
إلى العلاقة الجنسية بوصفها حاجة إنسانية يشترك فيها الرجل والمرأة،
بقدر ما تعتبرها شأنًا ذكوريًا؛ إذ لما كان الذكر يمثل "الأصل وصاحب
المنزلة الرفيعة، كانت المتعة من حقه خلاف الأنثى التي مثلت الفرع
فكانت بذلك في خدمته وتابعة له"[39].
وقد كانت نتيجة الهيمنة الذكورية أن غدت فاعلية المرأة هامشية لا تكتسب
دلالتها إلا من فاعلية الرجل[40].
الأمر الذي جعل النساء في وضع التبعية الرمزية؛ إنهن موجودات من أجل
نظرة الآخرين وبالنتيجة، فإن التبعية إزاء الآخرين تنحو لأن تصبح مكونة
لكيانهن[41].
ما من شك أن هذه النظرة التبخيسية لا تنفصل عن منظومة القيم الشائعة في
محيط المجتمع العربي. مما يستدعي النظر إلى المواقف المتحيزة ضد المرأة
في ضوء النسق الثقافي الذي تحكم في صياغتها وتشكيلها.
المرأة ونظام
الثقافة: هيمنة الذكورة
يتأسس الخطاب حول المرأة في كتاب النساء ضمن دائرة المتن
والهامش. يتشكل المتن من "صورة المرأة" كما يتمثلها الرجل، باعتبارها
الآخر المختلف لكن المهيمن. في حين يتشيد الهامش بوصفه "صوت المرأة"
المقموع الذي يحاول أن يعارض نظرة الثقافة الفحولية، ويسعى إلى الإفلات
من شرنقة الخطاب الذكوري الذي يختزلها في الجسد، ويحصرها في صورة نمطية
لا يريدها أن تخرج عنها، حيث نظر إلى المرأة بوصفها رجلاً ناقصًا، إذ
"النساء رجال ينقصهن العقل"[42]،
وهي صورة نمت وتشكلت ضمن سياق ثقافي حافل بالمواقف السلبية من المرأة،
التي تعود جذورها إلى تمثلات مستمدة من منظومة قيم تقليدية موروثة هي
المسؤولة عن شيوع مجموعة من الأفكار المتحيزة التي تمتح تصوراتها من
الأنماط الثقافية البدئية للمرأة. ويقود ذلك إلى تدعيم النظرة المتحيزة
التي تتغيا تكريس المركزية الذكورية، انطلاقًا من تمثلات ثقافية
أيديولوجية؛ ذلك أن الأيديولوجيا بمعناها الدقيق، تدل على
نسق
من التمثلات حول العلاقات الواقعية التي يعيش فيها الناس، لكن ما تصوره
الأيديولوجيا ليس نسق العلاقات الواقعية التي تحكم وجود الأفراد، بل
العلاقة المتخيلة لهؤلاء الأفراد بالعلاقات الواقعية التي يعيشون فيها[43].
لقد كان النظام الذكوري يجنح إلى استبعاد النساء ومصادرة حقوقهن كما
يكشف عن ذلك هذا القول الذي يستدرك فيه الجاحظ على بعض الآراء التي لم
تكن تقبل المساواة بين الرجل والمرأة
ولسنا
نقول ولا يقول أحد ممن يعقل إن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو
طبقتين أو بأكثر، ولكنا رأينا ناسا يزرون عليهن أشد الزراية ويحتقرونهن
أشد الاحتقار ويبخسونهن أكثر حقوقهن[44].
لقد تم اختزال المرأة في الجسد الجميل الذي يمنح اللذة ويحقق الإمتاع.
ولذلك، استحسن فيها الجمال مع قلة التفكير وغياب العقل، لأن التفكير
يجهد النفس ويذهب بنضارة الروح وطراوة الجسد؛ فمن نصائح ابن المقفع "لا
تملكن امرأة من الأمر ما جاوز نفسها، فإن ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها
وأدوم لجمالها، وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة"[45].
فرضت هذه النظرة عدم تمكين المرأة من وسائل المعرفة لكي لا يرتفع منسوب
وعيها، فيصعب التحكم فيها والسيطرة عليها؛ إذ أثر عن عمر بن الخطاب في
معرض النصح حول "سياسة النساء" قوله: "لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا
تعلموهن الكتاب، واستعينوا عليهن بالعري، وأكثروا لهن من قول لا، فإن
نعم تغريهن على المسألة"[46].
وقد نجم عن هذا الوضع خمول المرأة وضمور مؤهلاتها الفكرية. ولذلك،
تواترت النصوص التي تنصح الرجل بتجنب مشاورتها وتحذره من الركون إليها:
"قال ابن المقفع: إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى
وهن، واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب خير لك من
الارتياب، وليس خروجهن بأشد من دخول من لا تثق به عليهن، فإن استطعت
ألا يعرفن عليك فافعل"[47].
تتصف المرأة كما يصورها النص بنقصان العقل وغلبة الهوى. ولذلك عملت
الثقافة الفحولية على تقنين حركتها في الفضاءات المكانية؛ فالبيت هو
مكانها الطبيعي الذي يناسب أنوثتها ويصون عفتها.
وبسبب صفات تشريحية وخصائص بيولوجية محضة، تم تبخيس المرأة وهدر
كرامتها؛ فقد أظهرتها بعض المرويات في صورة كائن منقوص العقل والدين:
"عاقب الله المرأة بعشر خصال: شدة النفاس، وبالنجاسة في بطنها وفرجها،
وجعل ميراث امرأة ميراث رجل واحد، وشهادة امرأتين كشهادة رجل، وجعلها
ناقصة العقل والدين لا تصلي أيام حيضها، ولا يسلم على النساء، وليس
عليهن جمعة ولا جماعة، ولا يكون منهن نبي، ولا تسافر إلا بولي"[48].
لقد عملت هذه النظرة على تكريس صفات الأنوثة المبخسة، حيث تقضي على
إمكانات المرأة الذهنية والإبداعية كما تغذي لديها الإحساس بالنقص
والاستعداد، لتقبل وضعية القهر والمهانة المفروضة عليها من قبل مجتمع
ذكوري متسلط. فقد أبرزت الدراسات الاجتماعية أن ما يجعل الهيمنة
الذكورية راسخة في اللاشعور الجماعي، أنها تتخذ صفة البداهة التي لا
تخضع للمساءلة؛ فهي تتأسس كما أوضح بيير بورديو على نوع من العنف
الرمزي الذي يمارسه الرجال على النساء، والذي يجري تشغيله وكأنه عنف
طبيعي[49]،
وهو ما يجعل النساء يتصرفن استنادًا إلى معايير الأيديولوجيا الذكورية
المفروضة من قبل النظام الاجتماعي. ولذلك، لا يمكن فهم المنطق المفارق
للهيمنة الذكورية والخضوع الأنثوي الذي يمكن وصفه بأنه عفوي دون
استحضار الآثار الدائمة التي يمارسها النظام الاجتماعي[50].
ولذلك، اعتبرت المرأة
أكثر
العناصر قهرًا في المجتمع، حيثما وجد قهر واستغلال لا بد أن يصيب
المرأة منهما القسط الأوفر، وحيثما وجدت الحاجة إلى حشر كائن في وضعية
المهانة، لا بد أن يقع الاختيار على المرأة[51].
تقدم النصوص صورة لامرأة منقوصة، فـ "إذا كان جسد الرجل هو محور العقل
والكمال والتقدير، فإن جسد المرأة مثل محور النقائص"[52].
إنها "الضلع العوجاء" كما يصورها حديث ينسبه ابن قتيبة إلى الرسول ص
ويدعمه برواية بيتين من الشعر يؤكدان المضمون ذاته[53].
وما من شك أن النظرة التبخيسية للمرأة تثير دهشة القارئ لـ "كتاب
النساء" متى عرف أن مصدرها فقيه سني كبير، ومفكر إسلامي مرموق.
فإذا كان من الممكن التماس العذر لابن قتيبة، باعتبار هذه "النظرة
للمرأة هي التي كانت سائدة في عصره، فإن المرء لا يملك إلا أن يعجب
لإغفال هذا الفقيه السني الكبير لأحاديث وأخبار تتحدث عن الوجه الآخر
للمرأة، وهو وجه كان مرئيًا ومنوهًا به في عصره وفي العصور السابقة له،
أقصد المرأة الأم والمرأة المقاتلة والمرأة الشاعرة والمرأة المالكة
والمرأة الزاهدة والمرأة المغنية[54].
ولا يمكن التعلل في هذا المقام بندرة المواد النصية التي توافرت لابن
قتيبة فيما يخص موضوع المرأة؛ فقد كان يعرف، بالتأكيد، وهو الفقيه
المحدث والراوية الأخباري، مرويات دينية وأدبية عديدة ترسم وجهًا
مشرقًا للمرأة العربية من قبيل "الجنة تحت أقدام الأمهات" و"النساء
شقائق الرجال في الأحكام"[55].
كما يعرف أخبارًا وحكايات عن بلقيس ملكة سبأ وعائشة زوج النبي (ص)
وزرقاء اليمامة وسجاح التميمية وقصائد الخنساء وزهديات رابعة العدوية
وغيرهن كثير. إذ نجد في كتب التراجم، وأهمها شأنًا، تراجم الصحابة،
أجزاء خاصة مفردة للنساء اللواتي صحبن الرسول (ص) أو أدركنه وأسلمن،
وكذلك تراجم النساك والأولياء والزهاد. وفيها، أيضًا، تراجم وافية
وأخرى موجزة للناسكات والصالحات. وإذا اقتصرنا، هنا، على من سماهن
الجاحظ في البيان والتبيين، وجدنا رابعة القيسية ومعاذة
العدوية، ومن نساء الخوارج البلحاء وغزالة وقطام وحمادة وكحيلة ومن
نساء الغالية ليلى الناعطية والصدوق وهند[56]،
ولا تخلو تراجم المدن والبلدان من معلومات إضافية حول عدد من النساء
اللواتي أثبتن تفوقهن في مجالات فكرية ومعرفية مختلفة ومتنوعة.
لقد جاءت نظرة ابن قتيبة للمرأة كما شَفًّ عنها كتاب النساء
متأثرة بـ "النظام السلطاني" الذي عاش المؤلف في ظله، حيث تتخذ المرأة،
في المتخيل الذكوري، صورتين؛ المرأة بما هي جزء من أسرار السلطان
(الحريم)، ويكون النظر إليها، في هذه الحال، بوصفها "حرامًا" لا يجوز
النظر إليها كما لا يجوز الكلام إليها ولا عنها. والمرأة "الحلال" لا
تعدو أن تكون بضاعة تسد مسد "الطعام" لشهوة أخرى. وفي الحالين؛ المرأة
"عورة"، ينبغي أن تلزم دارها، حيث البيت "ستر" لها. قال عمر بن الخطاب:
"المرأة عورة فاستروها بالبيوت"[57]؛
وهو ما يكشف عن "الجامع" بين المرأة والطعام في تصور ابن قتيبة؛ إنه
"البقاء" بالبيت من جهة، ثم اختصاص النساء بإعداد الطعام من جهة أخرى.
وهما معا "الأطيبان" اللذان يرويان شهوتي البطن والفرج؛ فــ "كتاب
النساء"، كما يقول ابن قتيبة، مقارب لـ "كتاب الطعام"،
والعرب تدعو الأكل والنكاح "الأطيبين". ولذلك، ضم "كتاب النساء"
إلى "كتاب الطعام"، وجعلهما جزءًا واحدًا[58]
بسبب تقارب السياقين؛ المتعة واللذة. مما يدل على أن المؤلف لم يكن يرى
من وظيفة للمرأة في المجتمع السلطاني سوى إشباع شهوة الرجال بالطعام
والجنس. أما المناحي الأخرى من المرأة (ربة البيت وأم الأولاد التي
جعلت "الجنة تحت أقدامها"، والمرأة "شقيقة الرجل في الأحكام")، فلم
يرها ولم يلتفت إليها، لأن المفكر مهما كان حظه من الحصافة ونفاذ
البصيرة، فإنه يبقى أسير الوعي الذي يتشربه من الثقافة الشائعة في
المجتمع الذي ينتمي إليه. فقد لاحظ شارل بلا أن المجموعات التي ألفها
بعض الفقهاء في "أخبار النساء" تشتمل
على
نوادر وحكايات تدل في الغالب على أن الجنس اللطيف شيء جميل، يسبب الحب
والعشق ويأتي باللذة وربما يحدث في قلوب الجنس الخشن أضرارًا جسيمة،
لأنه مجبول على الكيد والمكر، مطبوع على الخيانة والغدر، فلا يستحق أن
يعتنى بتغيير حالته الشخصية وترقية منزلته الاجتماعية[59].
خلاصة:
لقد توخينا من هذا البحث، النظر إلى كتاب النساء لابن قتيبة
بغرض الوقوف على أهم المرجعيات الفكرية والموجهات الأيديولوجية التي
مثلت حقلاً خصبًا لاشتغال آليات التحيز ضد المرأة في نظامنا الثقافي.
فقد أظهر التحليل أن الثقافة العربية ترسم صورة نمطية للمرأة تشترك
فيها جميع "النساء"، حيث تكشف الكتابات التي تناولت خطاب المرأة عن
قسمة ثقافية، تجعل العقل من نصيب الرجل لتختزل المرأة في الجسد. ولذلك
لا تتكلم المرأة، في أغلب الأحيان، باعتبارها فاعلاً لغويًا مستقلاً بل
ظل الرجل هو المتكلم باسمها والمعبر عن حقيقتها وكينونتها، فالمرأة
"مستعمرة الرجل"[60]؛
وهي لا تأتي إلى اللغة إلا بعد أن "سيطر الرجل على كل الإمكانات
اللغوية. ولم تكن المرأة في هذا التكوين سوى مجاز رمزي أو خيال ذهني
يكتبه الرجل"[61].
ويترتب عن هذه الحقيقة أن يصبح الرجل مسؤولاً عن ألوان التبخيس وحالات
الغبن التي تعرضت لها المرأة عبر تاريخ طويل من القهر والاستغلال؛
فعندما يشتكي الرجل، المعبر عن نظام التسلط في المجتمع، من جهل المرأة
وقصورها وخفة عقلها، فإنه يشكو في الحقيقة مما صنعت يداه اجتماعيا. إنه
يتنكر
لعاره الاجتماعي، وبذلك التنكر يتحرر من مسؤوليته، ويتجنب تفجر القلق
الشديد الذي لا بد أنه عاصف بكيانه لو لم يتهرب من عاره بهذا الشكل[62].
*** *** ***
[1]
إدوارد سعيد، العالم والنص
والناقد، ترجمة عبد الكريم محفوض، منشورات اتحاد الكتاب
العرب، 2000، ص 9.
[29]
ابن قتيبة، عيون الأخبار،
ج 4، ص 66.
[37]
نفسه، ج 4، ص 57. ولذلك نظر إلى
الجنس باعتباره فعلاً يورث صفات الفخر للفاعل فيما يلحق
الإهانة والعار بالمفعول به: "لما أنشد لبيد النعمان بن المنذر
قوله في الربيع بن زياد العبسي: "مهلا أبيت اللعن لا تأكل
معه إن استه من برص ملمعه". قال الربيع: أبيت اللعن. لقد نكت
أمه". عيون الأخبار، ج 4، ص 40.
[42]
رجاء بنسلامة، بنيان الفحولة،
أبحاث في المذكر والمؤنث، دار بترا للنشر والتوزيع، دمشق، ط 1،
2005، ص 36.