أغنية الملاك
الساقط
د. حسن رشيــدي
منبوذ
خائن ووحيد. من أنا في هذا الكون؟! جرة ماء وألواح مقدسة نثر حروفها
خوار عجل، أم زهرة في جبل من فلاة: متوحشة وأسيرة، تضوَّع رحيقي في
الأرجاء فما من باحث عن سري ولا مقتف آثار جرمي وخطيئتي.
وخطيئتي، ما
خطيئتي إن كنت لعبة في يد قدر أقوى مني: يكسرني يجبرني يرفعني يخفضني
يميتني ثم يحييني، فلا أجدني إلا أمام عماء واسع... وحقيقة مغيبة في
قالب أسود ينعدم فيه الزمان والمكان، ويتشابه فيه الوجود والعدم.
أسيح، أصيح، أهرب، أعود، أتطلع، أرقب، لا مدى...
أنوح، أفوح، أنادي، أشير، أزأر،
أعوي، أضحك، أبكي، لا صدى...
أتنبأ، أستبشر، أتكهن، أفكر، فأُقَدر أيكون أو
لا يكون، لا هدى....
أحيا ميتًا وأموت حيًا في سلطان عقلي، أفكر فأفلح
لأموت على درب الحقيقة والبرهان. أكون فلا يريد أصارع ولا أنثني، أجابه
مكره وخداعه أهرب يتبعني خوفي وظل الموت ورائي يجري وأنا أهرول تحملني
قدماي، وموسيقى الموت على أوتارها يتراقص نبضي..
وأنا المسافر عبر مركب
شراعي تحملني الريح حيث شاءت فلا أجدني إلا حيث أجدني، قابعًا مكاني
على كوكب من ماء، لا يابس فيه أو نجم أهتدي به في السماء، وأنا النور
بين الظلمة والعماء.
يد الغدر تقتفي أثري في صحارى اللاحياة، لها مع القدر المتربص نهايتي،
فلا تغيثني إلا عزيمتي، تحملني قواي إلى آخر قمة اكتنزها داخل وجداني،
فلا أسمع إلا صراخ صوتي ومن بعيد في الأرجاء، هناك...
ينادي عليّ صداي،
تعانقني بالشوق أناي، وأنا الذي تكالبت عليه مخالب البرية، تحملني خطاي
إلى حيث يريد ممشاي إلى حيث يكون مثواي وأنا في رحلتي الأزلية القتيل
والقتيل والقتيل... في قرارات مهواي.
قد وئدت أحلامي وتكسرت صوان شراعي، فلا سلام أرتجيه قد أتى ولا في رؤاي
طيفًا بدا، وأنا المتكلف أعباء غصن زيتون أزرعه بهيكلٍ... يعصره
العاصرون زيتًا، يحمله رعاة السلام ضياء للإنسان لتصطبغ به
القلوب في الأكوان، وتشرق أنوار لطفه والعزة والبهاء على الأرجاء على الأجزاء من
كل سلطان وعالم في أرض أو سماء..
رجاء
فعل الخلاص، وفداء لكل رأس: قدمته ليشرب من أقدس كأس، دفعًا لكل بأس، درءًا
لكل يأس، عله يرقب الويل الرابض ببصيرته لا بالبصر، ويعانق وجه القدر..
وأنا الذي أواجه سيف الموت وحيدًا بين عوالم الكواكب والأفلاك
وساكني الطباق.
وأنا الذي علمت الإنسان التلفظ بخلقه: "لا" شامخة كالجبال، وبفضلي أنا
سيرتقي الخلد في أعلى الأعالي... ولولاي أنا لكانت الدمى في عدن كغيب
سحيق وجهل محيق، فلا الخير تعرفه والشر ولا عدو ثَم ولا صديق.
أطعمته
ثمرة المعارف، حتى غدا سيدًا وعارف، وطفق يخصف عليه من الورق الوارف...
أطعمته ثمر الأبدية والخلود فما رضخ إلا للخنوع والهبوط، غص بها حلقه
فنشف ريقه وارتفعت روحه إلى حيث لا يدري؛ عفر وجهه بالتراب فهاد وتاب
وعاد وأناب.
ووجدَت ذاتي نفسها وحيدة معلقة، فكان جسمي لها صليبًا وكان روحي فيها
هو المصلوب، وغدا الإنسان طالبًا رجاء خلاص، وسرت للمهوى المقدس أنا
المطلوب.
*** *** ***
باحث في حوار الحضارات ومقارنة الأديان. المملكة المغربية.