حدود المعرفة
دارين أحمد
إن رفع (أو حلَّ) حدود المعرفة يُفقِد معرفة ماذا يعني السكن بين هذه
الحدود.
ميشيل بيتبول
إذا كان فناء النفس أمرًا رهيبًا فلا يقل رهبة عنه خلودها.
ميغيل ده أونامونو
هل
توجد معرفة كلية أو شاملة؟ ألا يعني استخدام مفردة المعرفة استحضار
حدودها مباشرة؟ وهل يمكن للمعرفة أن تكون دون حدود أي كما في السؤال
الأول كلية وشاملة؟ توصف معرفة الإله بهذه الصفة؛ فهو العالم[1]
"بأل التعريف"، ويوصف بالعارف من تحقق بالله، أي من عرفه، فمعرفة الله
تعني معرفةَ معرفةِ الله. يقول أونامونو في كتابه الشعور المأساوي
بالحياة:
لا توجد سيطرة أكمل من المعرفة، فمن يعرف شيئًا يمتلكه. لأن المعرفة
توحد ما بين من يعرف وبين ما يعرفه. "أنا أتأملك، وأجعلك ملكي بتأملك".
هكذا هي الصيغة، ومعرفة الله، أيُّ شيء هي غير امتلاكه؟ من يعرف الله
فقد تأله.
السيطرة والتملك لجامان للمعرفة، حدان قاصمان. فلا يمكن امتلاك إلا ما
هو محدود ومنتهٍ، والمنتهي نقيض الكلية، نقيض الحيِّ.
من جهة أخرى: هل يملك الله البشر، هل يسيطر عليهم، هل يعرفهم حقًا إن
لم يكن واحدًا منهم؟ هل يمكن للمطلق، أساسًا، أن يعرف النسبي؟ السؤال
المعاكس، أي هل يمكن للنسبي أن يعرف المطلق، هو سؤال مختلف على اعتبار
أننا يمكن أن نتحرك في محاولة الإجابة عنه، فنحن كائنات هذا النسبي
ولنا فيه سياق معرفي ما – مفردة "سياق" هنا تنفي المعرفة الكلية، كما
تنفي المعرفةُ الكليةُ السيطرةَ والتملكَ عن لحظتها المُخْتَبَرة التي
يمكن تعريفها بأنها لحظة متحررة من المعرفة، أي من اللغة، ومن الذاكرة،
ومن الزمن، ومنا. كيف يمكن أن تكون اللحظة – مفردة الزمن هذه – متحررة
من الزمن؟ ألا يجعل هذا التناقض من مسألة المعرفة ذاتها مسألة تهكمية
بشكل ما؟
اللحظة المعرفية متحررة من الزمن بينما المعرفة واقعة في إساره، مجبولة
به، وما المعرفة هذه إلا انبثاقات زمنية للحظة اللازمنية، استطالات
لغوية للحظة اللالغوية، قسر ملزم لا محيد عنه للكلي أن يدخل في النسبي
عبر كائناته. دخولٌ ينفي الكلية عن الكلي – في نسبيتنا فقط - إذ إن
جزءًا منه فقط قد دخل ملوكتنا المحدود، وإذا كانت الاتجاهات الفيزيائية
الجديدة تطرح مفاهيم جديدة عن الجزء والكل واللانفصالية بينهما، وهي
مفاهيم سبق ذكرها شعريًا من قبل العارفين بالله والشعر، فإن هذا يعني
أن الكلي يمكن أن يعرف النسبي لكن فقط بتحوله إلى نسبي مثله.
التحول! كما طرحه هرمان هسه في إحدى قصصه بعنوان تحولات بيكتور،
وهو يتحدث عن الكائنات الإلهية، كائنات العالم الآخر، أو بالأصح كائنات
هذا العالم وقد انتقلت إلى العالم الآخر. إن كان من معرفة كلية فهي
التحول، التحول الذي ينعي ثبات الشكل، ويحيي الشكل ذاته. الشكل هو
الزمن، هو نسبيتنا، عالمنا الذي نعيش فيه ونعيشه. وإذا كان للكلي أن
يتمكن من التحول إلى النسبي شكلاً – افتراضًا بالطبع - فإن استحالة ذلك
للنسبي، للبشري، تعني أن المكان الأمثل له هو المتخيل، سواء عُبِّر عنه
فنيًا وابداعيًا أو لم يعبر عنه، فإذا لم يكن لدى المتحوِّل أدوات
كافية لطرح متخيله للآخرين بشكل فني، فإنه قادر على طرحه حياتيًا، في
حياته اليومية مع الآخرين، ولا حاجة بنا إلى أحد ليدلنا على هؤلاء
المتحولين ويعرِّفنا بهم إذ ما إن نراهم حتى نعرفهم.
ما الذي يعنيه موت ثبات الشكل وإحياء الشكل ذاته؟ إنه يعني أن الحدود
المعرفية قائمة إنما هي في تحول مستمر، أن المعرفة الكلية بمعنى
النهائية والثابتة والناجزة، وما يستتبعها من كليٍّ إلهي نهائي وثابت
وناجز، غير موجودان؛ وأن المعرفة هي حدودها أيضًا، وأن الكلية هي في
تحرك هذه الحدود، أي في تحرك الشكل ذاته – ما يعيِّنُ الشكل هو حدُّه.
الحركة هي الخلق. والخلق جامع للضدين "الحيِّ والميت"، وهو المشترك بين
البشري والإلهي، أو هو الإلهي في البشري. بينما الثبات، الكلية الثابتة
التي لا تتغير، هي البشري وحده، بمعنى أنها شأن بشري خالص، شأن فكري
منفصل عما سواه ويعيش على المسافة بينه وبين الخلق، وهذا ما يجعل من
الإلهي القائم عليها قاتمًا، قاتلاً، كارهًا للموت ومكرِهًا أتباعه على
التحجر دون أن يكون لهم كينونة الحجر الحقة.
الحرب والخوف ينهشان وجودنا، وما ينتج عنهما يطرح مئات القضايا الأكثر
أهمية وواقعية للحديث عنها، لكن الحرب والخوف قائمان تمامًا في قلب
المتخيل الثابت عن الحياة الأبدية، عن الخلود في عالم الإلهي وفي عالم
البشري. ولذلك فإن أحد أهم القضايا الواقعية التي يجب تناولها معرفيًا
ونقديًا وتحليليًا هي سلطة المتخيل - المتخيل المقيد بشكلٍ ثابت سلطوي
وتملكي وتجهيلي ونهائي – على حياتنا. بالإضافة إلى فتح باب تخيُّل
الخلود على مصراعيه لمن يود ذلك ويحلم به، أيًّا كان، مفندًا ما ثبَّته
البعض عن هذا الخلود ومحركًا إياه. ما يجعله مستحقًا له على الأقل لأنه
حلم به وأراده، ولأنه توجه إلى حلمه مباشرة عوض قتل الآخرين كأضحية
لشكلٍ عنه قرره شخص آخر صار رميمًا منذ قرون.
*** *** ***