الزمان والآخر: الجزء الثالث
إيمانويل ليفيناس
III
موضوعنا كان الذات الوحيدة؛ الوحيدة بفعل أنها موجودة. تنتج عزلة الذات
من علاقتها مع الوجود. الذات سيدة الانوجاد. هذه السيادة هي القدرة على
البدء، والانطلاقة من الذات لا تكون لغاية الفعل، ولا لغاية التفكير،
وإنما لغاية الكون.
ثمَّ بيَّنَّا كيف يغدو التحرر من الانوجاد الغفل ترابطًا متلاحقًا مع
الذات من أجل التعيُّن. فعليًا، إنَّ علاقة التعيُّن هذه هي رزوح الأنا
تحت عبء ذاتها، وانهمام الأنا بذاتها، أو ما أسميناه: المادية. هكذا،
تصبح الذات مكبَّلةً بذاتها بعد أن أغفلت كل علاقة مع مستقبل أو ماضٍ،
مكبلة بذاتها من خلال الحرية الآتية إليها من حاضرها. هي ليست وحيدة
لأنها لا تلقى نجدةً بل لأنها ملقاة كطعمٍ لذاتها، ولأنها تقع في وحل
ذاتها – هذه هي المادية.
إنَّ لحظة تعالي الحاجة التي تضع الذات قبالة الأغذية والعالم كأغذية،
تمنحها تحررًا إزاء ذاتها. فالعالم يقدم للذات فرصة المشاركة في
الانوجاد على شكل لذة، ويسمح لها، بالنتيجة، بالانوجاد على مبعدة من
ذاتها. تُستغرق الذات في الموضوع الذي تَستغرقه، لكنها تحافظ، مع ذلك،
على مسافة من هذا الموضوع. كل لذة هي أيضًا إحساس، أي، معرفة ونور. لكن
هذا لا يعني زوالاً للذات، وإنما هو نسيان لها وإنكار أولي.
*
العمل
لا يؤدي هذا التعالي اللحظي عبر الفسحة إلى الخروج من العزلة. فالنور
الذي يسمح بلقاء شيء مختلفٍ عن الذات يقوم بذلك كما لو أن هذا الشيء
يخرج من الأنا. النور والوضوح هما المعقولية
intelligibilité؛ يُرجعان كل تجربة
إلى عنصر تذكري. العقل وحيدٌ، وبهذا المعنى، لا تلقى المعرفة في العالم
أي شيء يكون مختلفًا فعليًّا. هذه هي الحقيقة الأساس للفلسفة المثالية.
ومن هنا يظهر اختلاف جذري بين الخارجانية المكانية وخارجانية اللحظات.
إنَّ الفسحة التي تُبعدنا عن ذاتنا، في واقع الحاجة، هي دائمًا مساحة
للفوز. يجب اجتيازها كما يجب تناول الشيء، هذا يعني على كل فرد أن يعمل
بيديه هو. بهذا المعنى، "من لا يعمل لا يأكل" هي قضية تحليلية. هكذا،
تتَّبع الأدوات وصناعة الأدوات المثال الوهمي لإلغاء المسافات. إنَّ ما
يصدمنا داخل الأفق الذي تفتحه الأداة انطلاقًا من الأداة الحديثة –
الآلة – هو وظيفتها التي تقوم على إلغاء العمل، وذلك أكثر من وظيفتها
كأداة كما نظر إليها هيدغر.
تجد الذات في العمل – أي، في الجهد والعناء والألم – ثقل الوجود من
جديد. هذا العبء مُتضمنٌ في حريتها كموجود. العناء والألم والجهد ظواهر
تُختزل إليها عزلة الموجود في آخر المطاف.
*
المعاناة والموت
من جديد، نجد في العناء والألم والمعاناة القطعيةَ في حالتها الخالصة.
هذه القطعية هي شكل مأساة العزلة، ولا يمكن وَجْدُ اللذة التغلب عليها.
تجدر الإشارة هنا إلى نقطتين: سنتابع المبحث التحليلي للعزلة من خلال
ألم الحاجة والعمل – وليس من خلال قلق العدم. وسنركِّز اهتمامنا على ما
نسميه عادةً – استخفافًا – الألم الجسدي، لأنَّ فيه يتوضح، ومن دون
لبس، الانخراط في الوجود. ففي حين أنَّ باستطاعتنا، في الألم المعنوي،
الاحتفاظ بقدر من الكرامة من خلال الندامة، والتحرر بالتالي من هذا
الألم، فإن الألم الجسدي في درجاته كافة هو استحالة الانفكاك من لحظة
الوجود. إنَّه لا رحمة الكينونة عينها. فمضمون الألم يختلط مع استحالة
الانفكاك من الألم. لا نعرِّف هنا الألم بالألم، لكننا نلحُّ على
العلاقة التضمنية المميزة التي تشكل ماهيته. يوجد في الألم غيابٌ لكل
ملاذ. إنَّه واقعة الانعراض أمام الكينونة. هو مركَّب من استحالة الهرب
والتراجع. تكمن كامل حواسيَّته في استحالة التراجع هذه. هو نتيجة
الانحصار في الحياة والكينونة. وبهذا المعنى، الألم هو استحالة العدم.
غير أنَّه يوجد في الألم، بالتزامن مع الإحالة إلى عدم مستحيل، قربُ
الموت. ليس الإحساس معرفة أنَّ الألم يمكن أن يفضي إلى الموت فحسب، بل
الألم في ذاته كما لو أنه ينطوي على درجة قصوى، كما لو أنَّ شيئًا ما
أشدُّ إيلامًا، يختلف عن الألم، سيحدث. كما لو أنَّه، على الرغم من
غياب أيِّ مجالٍ للتراجع – هذا الذي يشكل ماهية الألم – لا تزال توجد
فسحةٌ لحدثٍ ما. كما لو أننا يجب أن نتوجس من شيء آخر إضافة للألم. كما
لو أننا على موعدٍ مع حدثٍ فيما وراء الحدث المنكشف حتى الذروة في
الألم. إنَّ بنية الألم، القائمة على الارتباط بالألم ذاته، تستمر
بالاستطالة حتى الوصول إلى مجهولٍ يستحيل التعبير عنه بمصطلحات النور،
أي إنه عصيٌ على الحميمية بين الأنا والذات التي تعود إليها تجاربنا
كلها. إنَّ مجهول الموت، الذي لا يَنْعطي كعدم لأول وهلة وإنما يرتبط
بتجربة استحالة العدم، لا يعني أنَّ الموت منطقة لم يرجع منها أحد،
وبالتالي، تبقى، فعليًا، مجهولة. يعني مجهول الموت أنَّ العلاقة ذاتها
مع الموت لا يمكن أن تتشكل في النور، وأنَّ الذات، معه، في علاقة مع ما
لا يأتيها من ذاتها. يمكننا القول إنها في علاقة مع لُغز.
طريقة الموت هذه للإعلان عن نفسه في الألم، وخارج كل نور، هي تجربةُ
سلبيةِ الذاتِ التي ظلت، حتى الآن، فاعلة، والتي ظلت فاعلة حتى عندما
كانت غارقة بطبيعتها الذاتية واحتفظت، مع ذلك، بإمكان النهوض بواقعها.
أقول: تجربة السلبية – إنها طريقة في الكلام، لأنَّ التجربة تدل دائمًا
على معرفة، أي على نور ومبادرة. وتدلُّ التجربة أيضًا على عودة الموضوع
إلى الذات. إلا أنَّ الموت كلغز يتباين عن التجربة المفهومة بهذا
المعنى. ففي المعرفة كلُّ سلبية هي فاعلية عبر وسيط النور. الموضوع
الذي أصادفه مفهومٌ ومبنيٌّ من خلالي. غير أنَّ الموت يعلن عن حدث لا
تكون الذات سيدة عليه، حدثٍ تكفُّ الذات عن كونها ذاتًا بالنسبة إليه.
لنلاحظ ما لهذا التحليل للموت من خصوصية بالنسبة لتحليلات هيدغر
المشهورة لـ الكينونة من أجل الموت. تكتسي الكينونة من أجل
الموت في الوجود الأصلي عند هيدغر وضوحًا فائقًا، وبالتالي، فحولة
فائقة. فاضطلاع الدازاين بهذا الإمكان الأخير للوجود هو الذي يجعل
الإمكانات الأخرى كافة ممكنة[1]،
وبالتالي، يجعل الامساك بها ممكنًا أيضًا، أي، يجعل الفاعلية والحرية
ممكنتين. لكن الذات تبلغ، في المعاناة، أقصى حدود الممكن فتجد نفسها
مربَّطة ومثقلة و، نوعًا ما، سلبية. بهذا المعنى، يضع الموت حدًّا
للمثالية.
أَعجبُ كيف غابت هذه السمة الأساس لعلاقتنا مع الموت عن انتباه
الفلاسفة. فلا ينبغي أن ينطلق التحليل من عدم الموت الذي لا نعلم عنه
شيئًا بالتحديد، وإنما من حالةٍ يظهر فيها شيءٌ ما لا يمكن معرفته على
الاطلاق، شيءٌ غير قابل للمعرفة أبدًا، أي، غريب عن كل نورٍ، يجعل
الاضطلاع بالممكن مستحيلاً. ومع ذلك، الموت حالةٌ نؤخذ بها كليًّا.
*
الموت والآتي
الموت ليس حاضرًا على الإطلاق – هذا من البديهيَّات. يجهل المأثور
القديم الموجه لتبديد الخوف من الموت (إذا كنت موجودًا، فهو غير موجود؛
وإذا كان، هو، موجودًا، فأنت غير موجود) مفارقةَ الموت. فهو يمحي
علاقتنا مع الموت من حيث هي علاقة فذَّة مع الآتي، لكنه يشدد، مع ذلك،
على خصيصة الموت كآتٍ على الدوام. وكونه يجعل من الحاضر خاويًا لا يعود
إلى هروبنا أمام الموت أو إلى لهوٍ في وقت الموت لا يُغتفر، وإنما إلى
أنَّه لا يمكن الإمساك بالموت، وإلى أنه يَسِمُ نهاية فحولة وشجاعة
الذات. إنَّ الآن حدثٌ، حدثٌ ينتج عن كوني – أنا – سيد الممكن، وسيدًا
يُمسك بالممكن. لكن الموت ليس الآن البتَّة. عندما يكون الموت هُنا،
أكفُّ أنا عن كوني هُنا، لا لأنني أصبح عدمًا بل لأنني لم أعد قادرًا
على الإمساك به. تمكُّني ورجولتي وبطولتي كذات ما عادت كذلك أمام
الموت. يوجد في المعاناة التي رأينا في ثناياها هذا التجاور مع الموت –
وذلك على مستوى الظاهرة – هذا العود لفاعلية الذات إلى سلبية. وذلك لا
يكون في لحظة المعاناة حيث ما زلت ذاتًا للمعاناة عالقًا بالكينونة
وممسكًا بها، بل في البكاء والنحيب اللذين تنقلب إليهما المعاناة. في
اللحظة التي تكون فيها المعاناة خالصة، عندما نصبح معها وجهًا لوجه،
تتحول أقصى درجات المسؤولية لهذا الاضطلاع إلى أقصى درجات اللامسؤولية:
إلى طفولة. هذا هو النحيب الذي يعلن عن الموت. الموت هو العودة إلى
حالة اللامسؤولية هذه، وهو هذه الهزَّة الطفولية للنحيب.
اسمحوا لي بالعودة مرة أخرى إلى شكسبير، فقد أسرفت بهذا في محاضراتي.
لكن يبدو لي أحيانًا أنَّ الفلسفة كلها ليست إلا تأملاً لـ شكسبير. ألا
يضطلع بطل المأساة بالموت؟ سأحلل بإيجاز نهاية ماكبث. يعلم
ماكبث أنَّ غابة بيرنام تتجه نحو قصر دنسينان، وهذه هي إشارة الهزيمة:
الموت يقترب. عندما تتحقق هذه الإشارة، يقول ماكبث: "يا ريح هبّي، ويا
دمار أقبل!". لكنه يقول بعدها مباشرة: "اقرعوا جرس الإنذار... لَنموتن،
في الأقل، والعدَّة على ظهورنا". يوجد قبل الموت معركة. ولم تحدث
الإشارة الثانية للهزيمة بعد. ألم تتنبأ الساحرات أنَّ رجلاً وُلِد من
امرأة لا يمكنه الفوز ضد ماكبث؟ لكن، ها هو ذا مكدف الذي لم يولد من
امرأة، وحان أوان الموت. "ملعون ذلك اللسان الذي يخبرني بهذا"، هكذا
قال ماكبث لـ مكدف الذي أخبره قدرته عليه، "لأنه زعزع العنصر الأسمى
فيَّ كإنسان... لن أقاتلك".
هذه هي السلبية، تظهر عندما لا يبقى أمل. هذا ما أسميته نهاية الرجولة.
لكن الأمل يولد من جديد وعلى الفور، يقول ماكبث بكلمات أخيرة: "رغم
أنَّ غابة بيرنام قد جاءت إلى دنسينان، وأنت غريمي الذي لم تلده امرأة،
فإني سأحاول المحاولة الأخيرة".
دائمًا قبل الموت يمسك البطل بفرصة أخيرة – لا بالموت. البطلُ هو من
يدرك دائمًا هذه الفرصة الأخيرة. إنه الإنسان الذي يصارع لإيجاد الفرص.
وبالتالي، الموت ليس مُضطلَع به أبدًا؛ الموت يأتي. الانتحار مفهومٌ
متناقض. الوشاكة الدائمة للموت تشكل جزءًا من ماهيته. هناك أملٌ في
الحاضر حيث تتثبت سيادة الذات. لا يُضاف هذا الأمل إلى الموت عبر نوع
من قفزة مميتة أو عبثية، فهو موجود في هذا الهامش المُعطى للذات لحظة
الموت. مسرحية هاملت شهادة طويلة على استحالة الاضطلاع بالموت.
العدم مستحيل – وبما هو كذلك، يترك للإنسان إمكان الاضطلاع بالموت
واقتلاع التمكن الأخير من الخنوع للوجود. ومقولة "أكون أو لا أكون" ما
هي إلا تنبُّهٌ لاستحالة الانعدام.
*
الحدث والآخر
ماذا يمكننا أن نستخلص من هذا التحليل للموت؟ يصبح الموت نهاية لرجولة
الذات. جَعلَ الأقنوم هذه الرجولة ممكنة في داخل الكينونة الغفل،
لتتجلى في ظاهرة الحاضر، وفي النور. هذا لا يعني أنه يستحيل على الفرد
الاضطلاع بمشاريع أمام الموت، وأنَّ قدراته أصبحت، بطريقة ما، متناهية.
لا يعلن الموت عن واقع لا يمكننا فعل شيء إزاءه، أو، تكون مقدرتنا
أمامه غير كافية. لا يعلن الموت عن واقع يتجاوز قوانا المنبثقة مسبقًا
في عالم النور. المهم في هذه المقاربة للموت هو أنَّه، في لحظة معينة،
لم يعد يمكننا الإمكان. وهنا تمامًا تفقد الذات تمكُّنها كذات.
تشير نهاية التمكن هذه إلى أننا اضطلعنا بالوجود بطريقة يمكن وفقها أن
يأتينا حدث لا نضطلع به، ولا حتى بالطريقة التي نضطلع وفقها
بالعالم التجريبي عبر الرؤية. حدثٌ يلمُّ بنا من دون أن يكون لدينا
أيُّ "مسبق" بتاتًا، ومن دون أن يكون بمقدورنا أيُّ شروع. الموت هو
استحالة الشروع. إنَّ مقاربة الموت على هذا النحو تشير إلى أننا في
علاقة مع شيء آخر كليًّا، أي، مع شيء يحمل الآخرية لا كتحديد مؤقت
يمكننا تمثُّله عبر اللذة، وإنما كشيء ما وجودُه متشكل من الآخرية.
بالتالي، لا تتثبت عزلتي عبر الموت، بل إنَّ الموت يشكل كَسرًا لها.
إذن، الوجود تعددي. المتعدد ليس كثرة موجودات، فهو يظهر في الانوجاد
ذاته. تتسلل التعددية إلى انوجاد الموجود المتبدي عبر المعاناة. في
الموت يُستلب انوجاد الموجود. لاشك أنَّ الآخر لا يملك هذا الانوجاد
كما الذات. يبقى نفوذه على انوجادي غامضًا؛ هو ليس مجهولاً، وإنما لا
يمكن معرفته وعصيٌّ على كل نور. هذا يُشير تمامًا إلى أنَّ الآخر ليس،
بأيِّ حال من الأحوال، أنًا أخرى تشاركني وجودًا ما مشتركًا. العلاقة
مع الآخر ليست علاقة مشاركة بريئة ومتناغمة، وليست ودًّا نضع أنفسنا من
خلاله مكانه لنعترف به صنوًا لنا. العلاقة مع الآخر هي علاقة مع لُغز؛
علاقة خارجية. إنها خارجانيته، أو بالأحرى آخريته – لأن الخارجانية
خاصية من خواص المكان وتعود بالذات إلى ذاتها عبر النور – تلك التي
تشكل كينونته.
وحده الموجود الذي وصل إلى حدِّ الانكماش عبر المعاناة في عزلته وإلى
العلاقة مع الموت يقف على أرضٍ تكون فيها العلاقة مع الآخر ممكنة. إنها
علاقة مع الآخر تختلف كليًّا عن الإمساك بإمكان. ينبغي وصفها بمصطلحات
تختلف كليًّا عن تلك التي تصوغ علاقات النور. أعتقد أنَّ العلاقة
الإيروتيكية تزودنا بنموذج أولي. الإيروس، القوي كما الموت، سيزودنا
بالأساس لتحليل هذه العلاقة مع اللغز – شرط تقديمها بمصطلحات مختلفة
كليًّا عن مصطلحات الأفلاطونية التي تصف أيضًا عالمًا للنور.
يمكننا أن نستخلص من هذه العلاقة مع الموت، حيث تفقد الذات علاقتها مع
الإمكانات، خاصيةً أخرى للوجود مع الآخر، إنه الآتي. إنَّ خارجانية
الآتي تختلف كليًّا عن الخارجانية المكانية، لأنَّ الآتي مفاجئٌ
تمامًا. إنَّ استباق المستقبل واستشرافه – اللذان اعتبرتهما الفلسفة،
منذ برغسون حتى سارتر، ما هو جوهري في الزمان – ليسا سوى حاضرِ الآتي،
أي إنهما ليسا الآتي الأصلي. الآتي هو ما لا يمكن إدراكه، هو ما يحدث
لنا ويتملَّكنا. الآتي هو الآخر، والعلاقة مع الآتي هي العلاقة ذاتها
مع الآخر. لذلك، الحديث عن الزمان من خلال ذات وحيدة، والحديث عن مدة
شخصية وحسب، أمرٌ مستحيلٌ.
*
الآخر والآخر الإنساني
بيَّنَّا إمكان الحدث في الموت، وأقمنا تناقضًا بين إمكان الحدث هذا –
حيث تتوقف الذات عن كونها سيدة الحدث – وبين إمكان الموضوع الذي تسوده
الذات على الدوام وتكون معه وحيدة. وصفنا هذا الحدث كلغز؛ تمامًا لأنه
لا يمكن استباقه، أي، إدراكه، ولأنه لا يمكنه الدخول في حاضرٍ. لكن،
هذا الموت المعلن عنه كآخر، وكاستلاب لوجودي، أما زال موتي أنا؟ إنْ
شكَّل مخرجًا لعزلتي ألا يسحق ببساطة هذه العزلة، ويسحق الذاتية أيضًا؟
يوجد في الموت، بين الحدث والذات التي يطرأ عليها، هوَّة سحيقة. فكيف
يمكن الحدث الذي لا يمكن إدراكَه الطروء على الأنا؟ أيُّ علاقة يمكن أن
تقوم بين الآخر والكائن أو الموجود؟ كيف يمكن الموجود أن يوجد كفانٍ،
ويحافظ مع ذلك على ظفره بالـ "هنالك" الغفل، وأن يُبقيَ على تمكنه
كذات، وسعيه إلى الذاتية؟ هل يمكن الكائن الدخول في علاقة مع الآخر من
دون أن يسحق آخريته؟
هذا السؤال يجب طرحه أولاً، لأنه يطرح مشكلة الحفاظ على الأنا في أثناء
التعالي. إذا كان الخروج من العزلة شيئًا آخر غير استغراق الأنا في
الحدِّ الذي تستشرف ذاتها فيه؛ وإذا لم يكن، من ناحية أخرى، بمقدور
الذات الاضطلاع بالموت كمثل اضطلاعها بالموضوع، فعلى أيِّ صورة يمكن أن
يقوم هذا التصالح بين الأنا والموت؟ وكيف يمكن الأنا، على الرغم من
ذلك، الاضطلاع بالموت من دون أن تضطلع به كإمكان؟ كيف يمكننا – ونحن
أمام الموت لا يمكننا الإمكان – البقاء ذاتنا أمام الحدث الذي يعلن
الموت عنه؟
المشكلة نفسها مُتضمَنة داخل وصف دقيق لظاهرة الموت. فلا يقوم ما هو
انفعالي في الألم على استحالة الهرب من الوجود فحسب، وإنما أيضًا من
ذعر الخروج من علاقة النور هذه الذي يُعلن الموت تجاوزها. فنحن نفضِّل،
كما هاملت، هذا الوجود المعروف على الوجود المجهول لتصبح المغامرة التي
يدخل فيها الموجود عبر الأقنوم ملاذه الوحيد أمام ما لا يُحتمل في هذه
المغامرة. يوجد في الموت إغراء العدم لـ لوكريس
Lucréce، ورغبة الأبدية لـ
باسكال. وهما ليسا موقفين متمايزين: نريد الموت والكينونة معًا.
لا تقوم المشكلة على اقتلاع الأبدية من الموت، بل على السماح
باستقباله، وبحفاظ الأنا على الحرية المكتسبة عبر الأقنوم في خضمِّ
وجودٍ يطرأ عليه الحدث. يمكننا تسمية هذه الحالة بمحاولة التغلب على
الموت، حيث تجابه الذات الحدثَ من دون أن تلقاه كما تلقى شيئًا أو
موضوعًا.
الحالة، إذ ذلك، ديالكتيكية. وسنعرض الآن لحالة ملموسة يكتمل فيها هذا
الديالكتيك. لا يمكننا أن نبرر هذا المنهج الذي لجأنا إليه غير مرة،
لكن سنكتفي بالقول إنَّه في العمق فينومينولوجي.
هذه الحالة التي يطرأ فيها الحدث على الذات من دون أن تضطلع به، ومن
دون أن يمكنها شيء إزاءه، لاسيما الإمكان، لكنها تقف أمامه بطريقة ما –
هذه الحالة هي العلاقة مع الآخر الإنساني، الـ وجهًا-لـِ-وجه مع الآخر:
لقاء وجهٍ يُعطي ويواري الآخر في الآن نفسه. الآخر "المضطَلع به" هو
الآخر الإنساني.
وسأقول ما هي دلالة هذا اللقاء في المحاضرة الأخيرة.
*
الزمان والآخر الإنساني
أتمنى أن أكون قد عرضت ما في هذه العلاقة من مختلف عمَّا يُقترح علينا
من الوجودية كما من الماركسية. أودُّ اليوم الإشارة إلى موقع الزمان
بالنسبة لهذه الحالة التي تقف فيها الأنا وجهًا-لـٍ-وجه مع الآخر
الإنساني.
إنَّ الزمان المعطى عبر الموت – أي، آتي الحدث – ليس الزمان بعدُ.
لأنَّ هذا الآتي ليس لأحد، ولا يمكن للإنسان الاضطلاع به. لكي يصبح هذا
الآتي عنصرًا من الزمان عليه أن يدخل في علاقة مع الحاضر. ماذا يمكن أن
تكون طبيعة هذه العلاقة بين لحظتين يفصل بينهما كل هذا البون والعمق
السحيق الذي يفصل بين الحاضر والموت، هذا الهامش الثانوي واللامتناهي
معًا، حيث يوجد مكان لا بأس به للأمل؟ من المؤكد أنها ليست علاقة
تجاورٍ؛ لأنها ستحوِّل حينئذ الزمان إلى مكان. كما أنها ليست وثبة
للدينامية والمُدَّة؛ لأننا استبعدنا من خلال لغز الموت هذه القدرة
للحاضر على الذهاب إلى ما وراء ذاته ليطأ الآتي.
يبدو أنَّ العلاقة مع الآتي، أو حضور الآتي في الحاضر، تُنجَز من خلال
علاقة الـ وجهًا-لـ-وجه مع الآخر الإنساني. هذا الموطئ للحاضر على
الآتي ليس أثرَ ذاتٍ وحيدة، وإنما أثر العلاقة الـ مابين ذاتية. إنَّ
شرط إمكان الزمان هو في العلاقة بين البشر، أو في التاريخ.
ترجمة: د. جلال بدلة
*** *** ***