الـطُّـفـولـة
الأب د. يوسف سعيد
يرمشون
في الأرضِ أقدام حدقاتهم المسوَّرة بحلمٍ منفلشٍ من ذوائب العسل
الوردي، أهدابهم متأجِّجة بسلاهب غيمة. ثم يسفُّون تربتها في وجهِ
شموخٍ مكوَّر، متدلدلة أردانه الأثيرية فوق الحاجب الضاحك، يدغدغ خاصرة
طقوس الغيوم الطارئة.
يبتلعون من الأماسي دكنة من شخيرها العام، يطعِّمون عواميدها وقراميدها
بذهب الجنَّة، ينضحون عليها رذاذًا أخضر من أثير متحرِّر كليًا من وجعِ
اللحم المتقشف.
من غيمةِ الصباح، ينفتحُ سور من حدائق الأعشاب المرئية تحتَ غربال
الفجر المتأقلم، داخل احتباكاته المفاجئة مواكب بنات اللغة، تتزاحمُ
على بواباتها الناضبة أجنحة تتفرع إلى صباحات كثيرة.
هذه سروج من دمعة تهطلُ بطولِ قاماتها. يصنعُ الشاعر من سلالاتها
المكهربة بالألفاظِ قصيدة.
يتأقلمُ صباحًا بجذورِ في الفجوات الجبليَّة، يذوب كل فحيح أسود، مسحاء
الليل يطاردون شبحًا يبحثُ عن آخرِ ثمالة في إبريق المكعَّبات.
يلتقط
غضروفًا من جسدِ دكنةِ الليل، من ظلِّ الرُّموش ذاتِ الحافَّاتِ
الثَّخينة، ينتشلُ رجل قميص وردته.
لا جديد في الموسوعة ذات الجلد البجعيِّ الخاص. إنِّي قادمٌ نحو
متَّكآتِ المدن السَّعيدة، لا نصبَ الفوارز في دمي ولا حدائق كلماتي
تجتثُّ بكلِّ اجتراحاتِ هذه الخشونة، تستيقظُ مواكب أعصابي، تصنع من
لعابها خيوطًا وتنسج خيمة فوق تعرُّجات دمي، جاذبيَّة نهره تسحبه إلى
علاليه الخريريَّة. شيء من انبجاسِ الفجرِ يضاهي غفوةَ مقتطِّعة من
دمي.
أعرفُ أنَّ قلبي يدركُ وشوشة عقارب ساعةَ الرَّملِ، وأعرفُ أنَّ غزالةَ
الوقتِ المعاكسِ تحتسي وهجًا من شراراتِ الظَّهيرة، ذات الفخذِ الَّذي
فقدَ نبضه. مواكب من الشُّعراء يطهِّرون دموعَ عينيه. وحدُها الفراشات
تستريحُ على أجنحةِ البرقِ.
إنّي أفهرسُ قفزات ذاتي... ألا أيُّها الوعلُ الوديع، ألستَ أنتَ
الَّذي تحنِّطُ أسرارنا في متاهات الجِّبالِ البعيدة؟
مَن يقتلُ شعراءنا يحذف مليون حكمةٍ من دفاتر الشَّرائع.
الوحيد الَّذي بقي على هضبةِ الذَّاكرة، نسيَ أركيلة مصنوعة من دمهِ.
ليس لهذا الجُّموح من صهيل، قالوا: عن حصانِ الخرافةِ "دمه يرتِّقُ
ماءَ العشبِ".
رأيتُ بوحَ البوذيِّ على خطوطٍ خضراء وبصمات آلهةِ الصَّحراء على جلد
غزالة مجفف...
إني أستيقظُ في ظهيرةِ النَّخيل، أبحثُ عن مدنٍ متعرِّجةِ القلبِ في
سهوبِ الملحِ. يحملونَ رهافة صوتهم، ويضمِّخونَ جدائلَ رصانتهم، ومن
المؤكَّدِ أنَّهم يرحلون صوبَ صورةٍ تنبجسُ من حوافيها انعكاسات لمرايا
وشموع ذات هلاهل ضوئيَّة تهطلُ كطلٍّ ربيعي، وكصوتٍ ذات إطارٍ مخمليٍّ.
إنِّي أحلمُ بروائع نسكي، وتصوُّفي أرجوزةٌ خالدة. نفسي وهي في
انتعاشتها المتسامية تحتسي شوقًا من مياه ينابيعها،
وحده
المطر الهتون، يعرِّي جموعه الصَّانعة صخبًا أزرق اللَّون. كفانوس مصاب
بزمهريرِ البحر... وبعفويَّةٍ تامَّة أقولُ: "إني أرتقي جدران حدسي".
أشلاءٌ لها غبار، ذرَّاته لم تدخل إلى دورة حضانة العقلِ، هم في ارتقاء
صعودِ العاصفة، يحمِّصونَ أرغفةَ موصليِّة، للشتاءاتِ الطَّارئة. لهذه
الأغنية الجَّبليّة سديمٌ شفيف، سجفه كلونِ العشبِ، حوافيه معطَّرة
باللَّثمِ المقدَّسِ، انّي أبحثُ في سهوبِ شنعار عن سلالم
موسيقيَّة، صنعة عازفٍ عراقي. كلماته مخَمَّرة بخلاصةِ رحيق العسلِ
الجَّبليِّ.
أعرفُ جيِّدًا أنَّ ضجري حضارة فقدَتْ حدودها الثَّلجيّة منذ أزمنة
الضَّفادع الخضراء، رتّقت بإبر عشب البرِّيَّة، صهيل الخيولِ
الجَّامحة، آهٍ لا أحسُّ برائحة لذيذة في منحدراتِ النُّجومِ ذات
الانبساطِ الفضِّي...
ها أنِّني أركضُ وراءَ قفائر اللذة، في سلالاتِ الأرواحِ اللابسة
أجسادًا، أزمنة تشيخُ بمادَّةِ البياضِ المجفَّفِ. قطيعٌ من خنازيرِ
الجِّبالِ يتفرَّسني، لا شيء يوقفُ مياهَ لذَّتي، كلُّ جداول الضَّباب
تشتركُ في صنعِ نقطة من ماء طازج، بينما نافذة غديري تصنعُ بؤبؤًا
مدبَّبًا كحشرة قانية ترمزُ إلى جحيمِ العقلِ المتأخِّر عبر أصوات
تصنعها عيوننا، ليس لهذا الصَّفير الحادِّ رتاجات حمراء. أو علامات من
نبيذ معتَّق على لوحاتٍ كبيرة أو فلقة مقتطعة من غابات تجاور بيوتنا
الجوزيَّة، ليس للأزمنة غبار مقتطع من جسد على صدره 9 ساعات، حاملة
هزائع أوقاتها...
إنَّها عجرفة أخيرة عالقة على ركبتيِّ قمر، لا يعرفُ كيف يغازلُ
النُّجومَ، هل ستأتي امرأة الحيِّ إلى ديارنا؟ وهل في سلَّةِ أحلامها
عناقيد من عنبٍ أو تفَّاحٍ أخضر؟ هل سترقصُ عاريةً قربَ سريرٍ من
الجوز؟ آهٍ ، يقال أنَّها رقصَتْ منذُ ألفي سنة، وسترقصُ عبر مسيرةِ
الأفلاكِ... وأخيرًا رحلَتْ عبر دروبِ بيادرِ السَّماءِ.
هم بلا شك، يعرفون كيف يستكرشُ المطرُ داخل الغيمة. وكيف تسوِّر
الشَّوارع خواصر ستوكهولم. يتوقَّفون ثانيةً يخرجُ الوزيرُ من
حجالته شارحًا لضيوفِ المدن البعيدة عن غثيانٍ مستشرٍ في عضلات زمهرير
الكتابة، جيِّد أن تكون للقبلةِ مظلات خضراء، تحبكُ من أصابعِ لواعجها
شعورًا مقتطعًا من مساماتِ رجلٍ فقدَ أعضاء ذاكرته.
أحرث وجهك بطاقات مللي، آخذ من دفاتر روحك راحتي، وأرحل صوب انبجاسِ
الينابيع. حيثُ الزَّمهرير في منحنيات الرَّوابي يتقاسمُ جسدَ الوردة،
يهدي من وريقاتها الحمراء لبحيرة أسرابِ الحجل.
بعدَ الإهداءِ يتحوَّل ماؤها إلى بقعٍ قانية من دم الوردة الشَّهيدة.
لماذا رحلاتي داخل المنافي البعيدة؟ يبقى السُّؤال أبكمًا في تجاويف
روحي، ودياجيري أقاليم سوداء.
آهٍ يا حامل ألويةِ التَّشاؤم، متى يفتحُ النَّهار أوداجه لتطلع
الشَّمس الحبيبة من حجالتها؟
جوزيف عيساوي
في رابعة النَّهار أحرقَ قصائده، لا لشيء سوى ليقهقه العالم ملء
حنجرته. إنِّي أمقتُ جليدَ كآبتي،
مع هذا فهي
رفيقة ظلِّي، كلُّ هذه التَّصرُّفات الهجينة المباحة أن يرحلَ
باتِّجاهِ الأفقِ البعيدِ حاملاً على كتفيهِ قمصان هذيانه المرقَّط...
مواكب الأزمنة تلتحقُ بقوافلنا حاملةً قصائد الأمير. أليسَ في حوانيت
ذاكرته قفائر فارغة مهداة للمدينة السَّابعة؟
وحده الرَّقم 7 يحملُ شيئًا من تباريحي. جدائل ليلي قربَ ساقيةٍ تروي
شجرة التأمُّل. هم الَّذين ضفروا من دمي إكليلاً لحاملِ القوسِ...
تعالوا يا أصدقاءَ الصَّيدِ لنصطادَ وجهَ الشَّطآنِ المتسلِّقة حدبة
البحرِ...
إنني أنتمي قسرًا إلى قبائل تشاكسُ كلَّ الأبجديات المنفيَّة إلى
سلالاتٍ ساقطة من خلجانِ الأقمارِ.
ها إنَّني أرى السَّماءَ يسربلها طيلسان أسود نسجته أنامل الآزال، جفاف
نيران الصَّحارى يترصَّدني.
أعبر أوداج نجمتي لأعشق قامة هذياني... هذه أفكاري، وهذه نفاياتي...
مَن يطردُ هذه الجَّراثيم من قوافل البدو وينضحُ قلب قصيدة المدينة
بلهب كيمياء تأمُّل الشَّيء البعيد. بعدَ الظَّهيرة أترصَّده أتحسَّسه
يلوبُ بين الحدائق. وبأشواقِ طفوليَّة لاهبة، عصافير المدينة تحمل
ذعرها المكتوي بأشعةِ شمسِ حزيران...
فجأةً تهتزُّ شباك أشواقي، بينما مراكب فضائيَّة مهتزَّة السِّيقان
تتركُ بصماتها على التواءات سكك المحطَّات المنفيَّة عن المدينة.
لا شيء في حياةِ هذه الطُّفولة، سوى ممارسة التشرُّد، ماشيًا بلا زوجين
من الأحذية، ومن فرطِ الانشقاقات في قميصي، الشَّمسُ تغزو جسدي،
مساماته كانت ترحِّبُ بكلِّ المرئيَّات. في الطَّبيعة سلالات صفراء،
مائلة إلى الاحمرارِ إذا غزتك بذرت فيك قصائد الهذيان الأكبر حتمًا
تنزف مليون فكرة سعيدة.
أيُّها الشُّعراء أنتم من حكماء العالم، اصنعوا أكاليكم لمَن حرقَ
هياكل الملاريا...
نسوةٌ قرب سريري، يحدثنني عن هلاكي المؤجَّل بينما أنا أراقبُ كوكبًا
كبيرًا، متمنِّيًا الارتقاء إلى ديارهِ، هل في أحواضه السَّماويّة
زنابق من نوعٍ آخر؟
يوميًا دجلة مع سرادقه البيضاء ينامُ في سفوحي.
الله يغدقُ على حواسي أفراحًا جديدة بينما يضاعف فقري، لكنِّي لا
أحسُّه...
ربَّما تلكَ القيلولة عادة مكتسبة في الظَّهيرة، تناولَ الأغنياء
غذاءهم الدَّسم من مقاصفهم. أغزو موائدهم ببراثن جوعي، أحيانًا أنظر
خلسةً، آكلُ سريعًا من مقاصفهم، أتناولُ فتاتهم فقط، ثمَّ أهرعُ إلى
برِّيَّة المدينة راكضًا وملاحقًا أسراب القبَّرات وأعودُ أدراجي وقد
نسيتُ كلِّيًا تلكَ المناسف، مراقبًا الطُّيورَ في الحديقة الوحيدة،
عودة الهداهد من الأنهارِ الصَّغيرة.
طفولتي شبه نسورٍ محلِّقة في فضاءاتٍ بعيدة، لكنَّ رضابها قد جفَّ من
فرطِ جوعها. أحلمُ أن أنامَ على عتباتٍ من مصاطب المرمر.
كنت كإسفنجة مهترئة تحملُ في أوداجها فجيعة كامنة في أغواري، مهزوزًا
دائمًا برياحٍ عاتية. البراري تفيحُ حرارتها، الحمامةُ تتآكلُ في
طيرانها، تخرجُ السَّلاهب الزَّرقاء من صدرها. أمشي مرغمًا إلى طاعةٍ
سوداء تصدرُ من معلِّمِ المدرسة.
إنها الطَّاعة السَّوداء، تهدر قبلاتي النَّاشفة على أيادٍ قذرة،
أتصوَّرُ جشعًا داخل غيمة يسربلُ قمَّة حواسي، ويتوارى كلِّيًا وراء
سجف أسود. كنتُ وحيدًا مع أحلامي، أتفرَّسُ في تعرُّجات ناتئة في
أصنامي، أداعبُ حشرات صغيرة طالعة من بيوتِ حبِّي. أترك نقاط دمي، على
جوانب محبرة، بعض هذه النِّقاط انساب كدهنٍ مهراق، يفتحون جريدة القلبِ
ويتناجون بأسماءِ العشقِ.
بعض من هذا العشقِ يفتحُ شرنقة الصَّباحِ ويمخرُ في مهجةِ الأشياءِ
اللامرئيَّة، مثل الأصابعِ السِّحريَّة، امرأة واحدة فقط تتسكَّع على
أكتافِ القطبِ، تعرفُ أسرارَ القهرِ. هي التي نادَت من منبرِ الهيكلِ،
وقالت: أليسَ من الخطأ أن نبحثَ عن فارزة معقوفة، تحيطُ بها رياح طالعة
من وهادِ قصبِ الخيزران، معبَّأة بأسرارِ عقلِ الكلمات المكتوبة في
ملكوتِ القلبِ؟
آهٍ، إنَّني أحملُ أوسمة هذياني، ويبان كصحوةِ الصَّباحِ الباكر، يخرج
حلم المجدليَّة من أوداجي، وفي السِّنين الأخيرة، تكون الباخرة القادمة
إلينا محمَّلة برزمِ الكلماتِ ومشحونة بكلِّ قواميسِ اللُّغاتِ.
اللُّغات الَّتي تمخرُ أسرارها في أعماقي، أليسَ من السَّخافةِ أن
تصبَّ تيارات النهر جزافًا في بحرٍ ما؟
ترشقني سهام الأحلام، بعيدةٌ كانت الخلجان الَّتي صنعها الحبُّ من
نقاطِ أمطاره.
إنِّي أرحلُ في دهاليزكم الباردة، باحثًا عن لقمةِ خبزٍ ناشفة. هل
هناكَ من غرابة، في هذا الاقتحام؟ وهل من سؤالٍ ملحٍّ في تضرُّعاتي
الصَّادقة؟
أقتحمُ حتَّى مسرَّات الله وتهدُّجاتِ القدِّيسين واندلاقِ الكلماتِ من
أفواهِ الأنبياءِ وحزنهم المكعَّب. أُشيِّدُ أعشاشًا لطيورٍ مصنوعة من
دمِ الكلمات. أعلنها صراحةً: هذا العالم، أعصابه من دماءِ الشِّعرِ
وماء ينابيعهِ الأحلى...
ثانية...
أتريدني
أن أرمقَ هياكلَ الضَّجرِ؟ أتريدني أن أحلَّ أسرارَ الكلمة؟ الموصل
العذراء تعرفُ جيِّدًا كم كنتُ أعاني من الفقر. مرارًا مارستُ طقوسه في
سبوتي اليتيمة، أمخرُ في عبابِ مياهِ الكنائس، ومع هذا، كنتُ دائمًا
أحلمُ برائحة الكباب والطُّرشي المطجَّن، لكنَّني في تشرُّدني كنتُ
أكثر سعادةً منهم، كنتُ حرًا في الظهيرةِ المحرقة. أسوحُ في غاباتِ
المدينة، أصطادُ من النَّهرِ الصَّغير، سمكًا لا ينمو كثيرًا...
لا شيء سوى قهري الَّذي يتربَّعُ في حنجرةِ أمِّي، لا شيء يوقفني عن
حبِّ البراري، سوى طقوسِ هذه المدرسة، إني ألعنُ الأيَّام الَّتي
تصرَّمتُ فيها، لكنَّني كنتُ أعطي الطُّوبى لمديرتي الفاضلة. كانت
تمسحُ دموعي بأجنحةِ حنانِها، رصانتها مقرونة بأسلحةِ المهابة.
كنتُ أهذي مع نفسي، لا شيء إطلاقًا يصدُّني عن متاهاتِ حرِّيتي، وكنتُ
أعي جيدًا ماذا أقولُ. لكنَّني كنتُ أعاتبُ نفسي، أجلدُها بسياطِ
أسئلتي الحادَّة.
تعرف كيف تطلعُ غزالةُ الفرحِ من بواطنِ تاريخِ الأرضِ. يحملُ أوسمة من
صليبٍ مضرَّج الحوافي بدمِ الخلاص. يرتقي سلَّم المحبَّة ليعانقَ
بشفاهِ بؤبؤيه منحدراتِ مدينة ماردين والموصل، يصلِّي في هيكلِ
انطاكية حيث رموشُ البطاركة تحفُّ كمرواح نسجته أصابع الهواءِ
الشَّفيفِ.
تمورُ رشاحة اليراعة بين أناملك، كطلٍّ ساقطٍ، بتؤدَّة من أهدابِ
نيسان، تغامرُ، تبحثُ عن فجواتِ تطلُّ منها الفكرة وتنبجسُ من خاصرتيها
الرَّوائع. نسيت ارتداء قميص ملوَّن صنعته لك أمُّك. ولكن لم تنسَ كيفَ
تنسجُ الأفكار المجنَّحة في خليجِ المحبَّة.
تذهب عبر الدُّروب، تبحثُ عن صخرة مزبورة بكلمات المحبَّة، تكتبُ
ملاحمكَ عليها، وترحلُ عبر مفازاتِ اللُّغاتِ، تمارسُ يوميًا أحزان
قلمك، وأشواق يراعتك تنزُّ دائمًا الحقائق.
البارحة رأيتُ حانوت عطار، وقد علَّق لوحة في جدارهِ، كانت رموزًا،
صورة، تاريخًا، حبًّا، وفي بعضِ من نزوات الكلمة عشقًا، رأيتكَ في
المدينة المختارة تملأ جرارك بسلافة... وفي المساء كنت تجفِّفُ رحيقها
رغيفًا، قرصًا، من تينٍ جبليٍّ، تغدقها مجانًا على عشَّاق المعرفة.
تسافرُ وفي يديك كتاب وصولجان أخضر. تسافرُ مع قوافلِ البيلسان، وقد
دعوكَ أميرًا.
ترى متى ستعودُ وكلماتكَ مثقلة بكنوزِ الحكمةِ؟ وقد كحَّلت أهدابك،
أيها الأمير الضَّائع. أمُّكَ تناديكَ بكلماتِ أرجوزة عراقيّة وتردِّدُ
بلوعةٍ أصيلة: آهٍ... متى سيعودُ الأميرُ؟
تأخرَ بؤبؤكَ الأيمن عن التقاطِ لون الحصى المنمَّق مغسولاً برغوةِ
البحرِ، مسلوخًا كنغمةٍ ساقطة من فوَّهةِ شبابة، حاملاً مسوحك إلى
محاجرِ الجِّبالِ حيث المجازفة الكبرى.
لكنَّكَ تتَّجهُ صوبَ الضِّياع المقهورة بأسلحةِ شمسِ الخريف، حيث
الشِّعاب ملتهبة بتيارات الصَّواعق، مكتنزة أشعَّة صافية تغدقُها على
برزخِ العقل.
*** *** ***