قطوف من شجرة
الحياة 23
د. اسكندر لوقــا
للتجربة
في حياتنا أهميتها القصوى أفرادًا وجماعات، لأنها تعلمنا أين ومتى
ارتكبنا خطأ وأين ومتى تجاوزنا تبعاته علينا - وإن كانت مؤلمة أحيانًا.
مع هذا فإن التجربة تبقى أمامنا، من حيث المبدأ، تبقى عاملاً لتقويم
رؤيتنا إلى غدنا المرتجى. بهذا المعنى تقارب التجربة، بمفهومها العام،
أهميةَ البوصلة التي تحدِّد مسار الإنسان إلى يومه الآتي، وبمقدار ما
تكون دقيقة وحساسة تجنِّبه الانزلاق في الحفر على دربه. إن حسن تفهمنا
لهذه المعادلة، واعتمادها سبيلاً في سياق سيرنا على الدرب، يقارب حسن
تعامل سائق الحافلة مع مقوده. من هنا القول بأن التجربة في حياتنا هي،
بالفعل لا بالقول، عامل أمان بشكل أو بآخر.
***
في حالات معينة، يصاب أحدنا بمرض "العاطفة الجياشة" إن صحَّ التعبير.
بهذا المعنى أحيانًا نحبُّ بتطرف ومن ثم نصاب بخيبة أمل لأننا أسرعنا
في توصيف الحب، وبالتالي نعاني من تبعات سوء تقديرنا لمثل هذه العاطفة
في حياتنا. وأحيانًا أخرى نغالي في كرهنا للآخر، ومن ثم نكتشف أننا لم
نحسن الظن به ونصاب بخيبة أمل ونتعب في سياق البحث عما يعيد المياه إلى
مجاريها كي نسترد ما خسرناه. لهذا الاعتبار طالما نفوِّت على أنفسنا
فرصًا قد لا تتكرر في حال لم نحسن تقويم علاقاتنا مع الغير، سلبًا كانت
نتائجه أم كانت إيجابية. وكثيرًا ما تنطبق هذه المعادلة على مستوى
العلاقات حتى بين الدول. وأيضًا كثيرًا ما يدفع طرف من الأطراف ثمن
خيبته من الطرف الآخر.
***
في الحياة عمومًا مواقف تستدعي التأمل فيها قبل الحكم عليها سلبًا أم
إيجابًا. وفي السياق المتَّصل، قد ينظر أحدنا إلى موقف ما يتخذ في
مناسبة ما بعين القبول أو الرفض. ولهذا الاعتبار وجوب أن يلجأ الإنسان،
في حالتي القبول أو الرفض، إلى العقل حينًا وإلى القلب حينًا آخر
وتحديدًا في حالات بعينها بغية اختيار الحكم الأكثر نفعًا على الموقف
الذي يستدعي التأمل. هنا يندرج السؤال: ترى أيهما الأكثر عدلاً في سياق
إصدار الحكم: العقل أم القلب؟ في اعتقادنا هنا ينبغي لنا أن نأخذ
دائمًا، بعين الاعتبار، الفرق الشاسع بين أن نسامح وبين أن نغفر. أن
نسامح معناه أن نأخذ على عاتقنا تداعيات هذا الحل المتخذ بوحي من القلب
لا من العقل حيث يوجد منبع القدرة على المغفرة. هذه المعادلة قطعًا لا
يقدر عليها الإنسان المجبول أصلاَ بالخطيئة. تلك هي فقط قدرة مانح
الحياة للإنسان.
***
كثيرًا ما يتصوَّر البعض من الناس أنهم ما داموا في مواقع السلطة،
بأشكالها المختلفة، فإن شعبيتهم لدى المحيطين بهم، لا يمكن أن يرقى
إليها الشك. إن تصورًا كهذا لا يتعارض، بطبيعة الحال، مع الطبيعة
البشريَّة عمومًا. بيد أن مصداقية هذه الشعبية المتصوَّرة لا يمكن أن
تؤكد مصداقيتها، إلا بعد أن يغادر هذا المسؤول أو ذاك منصبه، سواء في
مؤسسته الرسمية أم الخاصَّة التي كان يدير أعمالها. وحتى تثبت مصداقية
تصوره لما كان يحظى به حقًا، لا بد من السؤال: ترى هل ترك فراغًا في
المكان الذي غادره لأي سبب كان؟ تلك هي قيمة البصمة التي يقدر الإنسان
على جعلها دليلاً مشرِّفًا أم غير مشرِّف إلى تاريخه الشخصي، سواء أكان
على قيد الحياة أم كان راقدًا في دنياه الآخرة.
***
ثمة عدد غير قليل من الناس، في الزمن الراهن، يغضون الطرف عما كانت قد
وفرته لهم حزمة من العادات والتقاليد وكانت نافعة في زمانها قبل ولوجهم
في عصر العولمة وبالتالي تعريض حياتهم لسلبيات تبعاتها على نحو ما نسمع
وما نشاهد حولنا الآن. في مقدمة ما نسمع ونشاهد هذا الإهمال العجيب في
سياق الاتصال مع الآخر وخصوصًا في مناسبات كانت تقتضي التواصل الحي
والمباشر معه، ولم تعد ترى في أيامنا هذه حتى بين الإخوة في كثير من
الأحيان. والمبرر دائمًا هو سهولة وسرعة الاتصال باستخدام الانترنت
البديل حتى عن إسماع الصوت بالهاتف، هذا فضلاً عن حجَّة اختصار الزمن،
كأن الزمن بات السبب الحقيقي لدى الإنسان لإقصائه عن زيارة معارفه أو
إسماعهم صوته. هذه المعادلة قد تصلح في سياق العلاقات بين الناس في حال
وجودهم في مدن أو في بلدان أخرى، ولكن ماذا عن سكان المدينة الواحدة أو
حتى الحيِّ الواحد؟ تراها النعمة أم النقمة التي أصابت إنساننا الذي
كان يحييه سماعه صوت قريبه أم صديقه أكثر مما تعنيه رسالة وردت من هذا
القريب أو الصديق على صفحته في ناتج عصر العولمة؟
*** *** ***