"عيش –
حريَّة
–
عدالة
اجتماعية"
(ح
ح)
عبد الغني عبده
عيش
كلامها عن "السيسي" ودفاعها عنه غير أيٍّ دفاع أو كلام تتصوَّر
أنك سمعته خلال العام ونصف المنقضي. تجاوز تعبيرها عن محبتها له بل
ولهها به حدًا فضَّلته فيه ليس على زوجها فقط بل ربما على الإله
المعبود!!
لم يكن لها يومًا أيُّ اهتمامات بالسياسة ناهيك أن يكون لها أيُّ صلة
بأيِّ انتماء سياسيٍّ من أيِّ نوع، حتى اهتمامها بالعمل يأتي أولوية
رابعة أو خامسة أو يخرج كثيرًا من دائرة أولوياتها.
تحرص على الحصول على كافة حقوقها ولا تقوم بأية واجبات وظيفية، تراجع
بدقة مرتَّبها الشهريَّ وتكلِّف نفسها عناء الذهاب إلى إدارة
المرتَّبات التي تقع في مبنىً آخر بعيدًا عن المبنى الذي تعمل به،
للسؤال عن سبب نقصان المرتَّب خمسة وسبعين قرشًا عن الشهر الماضي. خمسة
وسبعون قرشًا يشغلون بالها رغم أن راتبها يتجاوز الخمسة آلاف جنيه!!
تستطيع أن تحكي تفاصيل كلِّ حلقات المسلسلات التي شاهدتها ليلة أمس، لن
يفلت من ذاكرتها حتى لون الستائر التي لم تكن تتماشى من وجهة نظرها مع
لون "الأنتريه". لم تكن تبخل على زملاء العمل بطعام أعدَّته بالأمس
وفقًا لوصفة شاهدتها للشيف فلان أو علاَّن.
لكنها الآن تحدِّثك عن مصر وعن الاستقرار وعن هذا الذي أنقذها: "يا
حلاوته... يا جماله"، تقولها وهي تظنُّ أنها تكيد الآخرين عندما تخرج
صورته بالملابس العسكريَّة وتقبِّلها – وقد تجاوزت الخامسة والخمسين من
عمرها - بشغف ابنة السابعة عشر التي تقبِّل صورة حبيبها الأول: "هو ده
اللي ها يعدل البلد، هو ده ومفيش غيره، يا حلاوتك... يا بخت مراتك بيك،
والله بحسدها عليك...".
كانت ترى في عيون بعض زميلاتها استنكارًا فلا تكترث. وصل بها الأمر أن
أسَرَّت لزميلة مقرَّبة لها أنها حلمت بأن "السيسي" عاشرها معاشرة
الأزواج، وأنها تمنَّت ألا ينتهي ذلك الحلم أبدًا، لم تغضب عندما علمت
أن زميلتها أذاعت هذا السرَّ لكل من تعرفهم!!
مرات عديدة اشتبكت في ملاسنات مع زملاء وزميلات العمل بل وركاب
المواصلات العامة ووصفتهم بـ "الخرفان" ووصفوها بــ "أمة البيادة"...
قامت ذات مرة بطباعة بعض تعليقات معارفها من على مواقع التواصل
الاجتماعي وقدمتها لرؤسائهم محرِّضة عليهم باعتبارهم مخرِّبين ينتمون
لجماعة إرهابية ويجب أن يطردوا من وظائفهم لأنهم جواسيس على مصر. لم
يتوان هؤلاء الزملاء عن طباعة تعليقات قديمة لها على مواقع التواصل
أيضًا تحضُّ الناس على انتخاب الإخوان وتدعو بكل الخير "لمحمد مرسي".
ما الذي حدث؟ لماذا تبكي اليوم بحرارة، يا مدام؟ صلِّي كده على النبي
واهدي، فيه إيه، حاجة حصلت بعيد الشر؟!
لم ترد، ولكن زملاءها الذين التفوا حولها لتهدئتها، فوجئوا بها تخلع
غطاء رأسها وتدعو على "السيسي" بالهلاك، وتصفه بأفحش الصفات:
الظالم المفتري يطلِّع قانون يخليهم يسحبوا الشقة اللي أخدتها من عشر
سنين في الإسكان الاجتماعي؟! وكما ممكن يسجنوني علشان مأجراها، هم
مالهم ده ظلم وافترى يا رب يجليه ويحط عليه... ربنا يبتليه بـمصيبة...
ربنا يخلصنا منه ومن افتراه".
***
حرِّية
دخل عربة المترو المكتظَّة، أخذ ينحشر بين الأجساد حتى وصل إلى إحدى
"كنبات الجلوس"، نظر بتعجُّب إلى رجل يجلس بعكازين، مال عليه قائلاً:
أنت قاعد هنا ليه، مش في أماكن مخصَّصة لكبار السن وذوي الاحتياجات
الخاصة؟! قالها وهو يجذب الرجل المريض مردفًا: "قوم... قوم تعالى"،
أوقف الرجل وفاجأ جميع الركاب أنَّه جلس مكانه.
نظر الرجل المريض حوله بارتباك وعيناه مملوءة بالأسئلة، تعالت من حوله
أصوات الناس متحدِّثة مع الرجل ضخم الجثة سليم البدن الذي أوقفه وجلس
مكانه، بل دفعه بعضهم للخلف ودخل للمقدمة ليواجه الرجل الذي جلس
بالاعتراض. كان قطار المترو مندفعًا وكلما اقتربت محطَّةٌ ضغط السائق
بشدٍّ على الفرامل، فإذا بالرجل المريض يتمايل على من حوله، فلا يكلِّف
أحد نفسه سوى دفعه قائلاً: أمسك نفسك يا أستاذ.
يصرُّ الرجل الذي جلس أن هذا حقَّه وأنه لن يتنازل عنه: "هو إيه اللي
جابه هنا؟ ما يروح هناك، أنا لو كنت قاعد في مكان مخصص له وشوفته طالع
المترو كنت هاقوم من مكاني وأقعده، يروح للأماكن المخصصة لأمثاله ويقعد
فيه، يقوِّم اللي قاعدين ويقعد، أما أنا فمش هاقوم...".
نهره رجلٌ ملتحٍ
ووصف ما فعله بأنه حرام ويتنافى مع الدِّين والرحمة، فردَّ عليه: "بس
اسكت أنت يا "خروف"، أنتو لسه لكوا عين تتكلموا، اتلم وإلا هابلغ عنك
وأقول إنك كنت بتحرَّض الناس هنا على التظاهر والتخريب". همَّ الملتحي
أن يمسك بتلابيبه ولكن الناس فصلت بينهما، وجذب ملتحٍ آخر الملتحي
الأول لمكان بعيد، قائلاً: "سيبك من عبيد البيادة...".
تدخلت إحدى السيدات تبيَّن أنها محامية حقوقية لها نشاط في الدفاع عن
حقوق المرأة والأقليات لم تطلب من الرجل مغادرة مكانه للمريض بل أخذت
تبيِّن له أن فهمه للحق مغلوطٌ وأن معنى توفير أماكن محددة للفئات
الضعيفة كالمرضى، أو المضطهدة كالسيدات لا يعني منعهم من التواجد في
الأماكن الأخرى، وأخذت تستشهد بنصوص حقوقية دولية وإقليمية ومحلية، ثم
قالت: "كل يوم ده بيحصل مع الستات... أي ست تدخل عربية الرجالة مش بس
بيرفض أي راجل يقوم ويقعّدها حتى لو كانت كبيرة في السن أو مريضة أو
حامل أو شايلة عيّل، لا ده كل واحد بيتحشر فيها وبيفتكر إن من حقه إنه
مش بس يتحرش بيها لا ده فاكر إن من حقه إن يغتصبها والآخر يقولوا "إيه
اللي وداها هناك"؟!".
قدمت السيدة مرافعة عصماء عن الحقوق والواجبات وأراحت ضميرها عندما
تطرقت للحديث عن حقوق المرأة والطفل والمعاقين، وأخرجت من حقيبتها عدد
من "كروت التعريف" وزعتها على ركاب عربة القطار الذين التفوا حولها ولم
تسلم من تحرش بعضهم بها، ثم نزلت في محطة وصولها.
تدخل أحد الركاب متضامنًا مع الرجل الذي جلس محل المريض، قائلاً: "لازم
نبطّل سلبية كل اللي له حق لازم يطالب به، الراجل ده اللي تعبان كان
لازم يروح يقعد في المكان المخصص له، ولما ييجي يقعد في مكان تاني يبقى
مش من حقه... والراجل اللي قعد ده أخذ حقه، يروح التاني بقى يدوِّر على
حقه...".
لم يلتفت أحد ممن انخرطوا في المناقشة المستمرة أن الرجل المريض قد نزل
أصلاً في محطة وصوله – الذي تصادف أنها محطة "الشهداء" (مبارك سابقًا)
-، فقط شابة صغيرة ساعدته في النزول، ولفت نظرها أنه لم يرد على
إلحاحها من بعيد في العربة أن يأتي ليجلس مكانها، راجعته عن سبب عدم
الردِّ لتكتشف أنه فوق عجزه البدنيِّ أصمٌّ.
***
عدالة اجتماعية
-
مستشفى الأمراض العقلية؟! إزاي شركة كبيرة زي بتاعتنا دي تدخل في
مناقصة بسيطة زي كده يا باشمحاسب؟ ما تركز شوية... قال نروح ندهن
مستشفى الأمراض العقلية قال!! يا عم يروحوا يشوفوا اتنين نقاشين
يدهنوها.
-
ما هو ده اللي هايحصل يا افندم، حضرتك شايف الظروف، أنا عارف إن الشركة
كبيرة على العملية إنما السوق واقع وإحنا هاندخل المناقصة ونديّها لأي
اتنين نقاشين من الباطن، لو دخلنا في خمسين ستين عملية صغيرة زي دي
ودخلنا ناس ينفذوا من الباطن تأكد حضرتك إن هانكسب أحسن ما ناخد عملية
أو اتنين كبار، بكده هانستغني عن عمال كتير وهانخد حقنا مشفي ولا عمال
ولا إضرابات ولا مرتبات ولا تأمينات ولا وجع قلب، وأنا مستعد أخد
الحكاية دي على مسئوليتي.
-
خلاص على مسئوليتك، اتصرف يا سيدي وخلينا نشوف.
-
ألو: ازيك يا مصطفى؟
-
.......
-
عاوزك في مصلحة؟!
-
.......
-
عندي شغلانة في مستشفى العباسية، عاوزينك تدهنها، الشركة عندنا أخدتها
وها ديها لك من الباطن بس عاوزك تبيض وشّي.
-
.......
-
ههههههههههههه يا ابن الإيه يا درش، بقى ما فيش أكتر من البويه
البيضا... عاوز تديني وش بلاستيك يا أبو كامل... طيب... بس أشوف وشّك!!
-
.......
-
تمام آه عارف محمد العسكري... كويس انتوا الاتنين تروحوا بكره بدري
المستشفى هاتلاقوا المون كلها موجودة، عاوزها تخلص في أقرب وقت، همتك
يا مصطفى، وسلّم على العسكري.
توجه مصطفى كامل ومحمد العسكري باكرًا إلى مستشفى الأمراض العقلية
بالعباسية، أخذوا في توليف اللون المطلوب، صعد محمد العسكري على
السلَّم وبدأ في دهان أحد الطرقات بين العنابر، بعد ساعة من العمل، قطع
حديثهما صوت رجل يسلِّم عليهما.
-
الله ينور يا رجاله... إيه الشغل الجميل ده؟!
-
وعليك يا عمنا ده أنت اللي جميل.
-
ممكن أساعدكم؟!
تبادل الاثنان نظرة، قال بعدها محمد العسكري: "وماله يا مصطفى خلينا
نروح ناكل لقمة ونشرب حجرين وأهو ينجز أي حاجة على ما نرجع...".
عاد "النقاشان" بعد ساعة ليصعقوا من منظر الطرقة... لقد دهن الرجل
الحوائط والسقف والبلاط بنفس اللون... حتى البلاط!!
لاحظوا أنه غير موجود ولكنهم سمعوا صوت تحرك السلَّم في أحد العنابر،
كان مصطفى يلاحق محمد العسكري بالشتائم المقذعة والسباب، بينما راح
محمد العسكري يردد عبارة واحدة: يا خرابي اللي جاني يا اني!!
ما أن وقعت أعينهم على الرجل يمتطي السلَّم في أحد العنابر وقد انتهى
من دهان السقف وثلاثة حوائط ونصف الأرضية كما فعل بالطرقة، حتى صرخ
مصطفى فيه: "يا ابن ميتين الكلب!! انزل يا ابن ميتين الكلب... أنت مين
وطلعت لنا منين في يوم أمك اللي مش فايت؟!"، بينما مازال محمد العسكري
يردد: "يا خرابي اللي جاني يا اني...".
سبَّ مصطفى الدَّين لزميله وانصرف قائلاً: "مش هارجع إللا لما تضبط كل
اللي بوّظه يا ابن.... عشان دي شورتك السودة".
صرخ محمد العسكري مجددًا في الرجل: "انزل.... يا ناس يا هوه مين ده؟!".
تدافع للعنبر عدد من الممرضين:
-
فيه إيه يا أسطى؟!
-
مين ده؟!
-
ده نزيل هنا؟
-
يا واقعة سودة؟ مجنون؟!!
قالها محمد العسكري وأسلم ساقيه للريح لاهثًا خلف مصطفى: "إلحقني يا
مصطفى؟ ابن الكلب طلع مجنون". اصطدم محمد العسكري وهو يجري بطبيب تبين
أنه مدير المستشفى، أوقف المدير محمدًا وسأله عما يحدث، لم يتمالك
المدير نفسه من الضحك عندما عرف الحكاية.
ذهب برفقة محمد إلى الطرقة والعنابر التي دهنها المجنون فأصابته
"كريزة" ضحك وكل ما استطاع أن يقول للنقاش: "ما هي حلوة أهه والله عنده
ذوق هاهاها هاهاها".
-
آه ما حضرتك مش خسران حاجة....أضحك أضحك براحتك؟ ده الشركة هاتطلع
ميّتين أهلي. المهندس هايستلم الشغل ده إزاي؟ وكل المون اللي اتهدرت دي
مين اللي هايشيلها؟!!
تدخَّل رجل آخر كان يقف من بعيد، وسأل النقاش: "شركة إيه؟"
-
الشركة اللي واخدة العملية.
-
أنت بتشتغل فيها؟
-
لأ إحنا اخدين العملية من الباطن.
-
وكتبتوا عقد مع الشركة؟
-
لأ طبعًا إحنا على باب الله ومش بنكتب عقود.
-
وإيه اللي مزهقك، ولا كأنك جيت النهارده!!
-
إزاي؟
قالها محمد وهو يلاحظ تصاعد الضحكات مجددًا من مدير المستشفى. ردَّ
الرجل: "يعني أنت ما جتش النهار ده... جالك إسهال ومجتش، وما تعرفش
حاجة عن اللي حصل".
ضحكات المدير تشتت رأس محمد النقاش وتمنعه من التركيز في فكرة الرجل،
مال النقاش على المدير: "هو أنت بتضحك على إيه دلوقتي؟!".
-
لا لا أبدًا.... أصل ده كمان مجنون هاهاها هاهاها هاهاها
-
يا ولاد ميتين الكلب هو أنا هلاقيها منين وللا منين؟!!
-
يا محمد خذ الحكمة من أفواه المجانين... روح ولبِّسها للشركة ولا من
شاف ولا من دري.... هاهاها هاهاها بس حلوة.
-
هي إيه اللي حلوة أنت دكتور وللا مجنون أنت كمان!!
أحضر النقَّاش جركن تنر وحاول إزالة البوية من البلاط، مجهود مرهق جدًا
وجركن التنر قارب على الانتهاء ولم ينجز شيئًا، ليس معه نقود ليشتري
جركن آخر، ولن يكون مجديًا أصلاً.
لم يكن أمامه إلا تنفيذ فكرة المجنون. في اليوم التالي مرَّ المدير
الماليُّ للشركة الذي كلَّف النقَّاشان من الباطن بدهان حوائط
المستشفى، وفجعه منظر السقف والأرضيات، ماذا عساه أن يفعل وقد وعد رئيس
الشركة بنجاح فكرته وأخذها على مسئوليته؟! تداعت له فكرة سهلة للتهرُّب
من المسئولية: ماذا لو ادَّعى الجنون؟! لن يتحمل شيئاً وتتكفل الشركة
بمصروفات علاجه فوق مصاريف المؤن المهدورة.
***
القاهرة في
3
ديسمبر
2014