الطبيعة
نصوص تجريبية بين الفلسفة والأدب

 

الفاهم محمد

 

كتاب

الأرض تدور حول الشَّمس، الشَّمس تدور حول المجرَّة، المجرَّة بدورها تدور حول الله، أما الله فهو يدور حول اللانهاية. أنا أفكر في اللانهاية، أسكن قبو الحياة وأدور مع هذا الكوكب التعيس، في لا مركز ألف من السماوات وألف من الشُّموس المضيئة.

آه أيُّتها الإحساسات الكبرى، أيها الشعور العظيم، يا ألق الذات في عيد الحياة. أيها الفهم الذي لن أدركه، والحب الذي لن أعيشه. لقد نظرت دائمًا إلى الحياة كمثل تلك الزهور التي تتفتح في نبات الصبَّار، حيث يعيش هذا الأخير العمر كلَّه من أجل إدراك هذه اللحظة، الفريدة والوحيدة في حياته والتي لن تتكرر مرة أخرى.

نعم الحياة هي ثمرة نضجت مع الدهر، وإذا كان كلُّ هذا الظلام قد اعتصر في الوجع الطويل للكون من أجل بلوغ هذه الغاية: أن يتفتَّق النور في القمم العالية، فذلك لأننا نحن فاكهة الكون حتى وإن كانت هذه الفاكهة أحيانًا تصاب بالعطن، تسقط قبل السقوط في الوديان الجافَّة للكآبة. ولكن الحياة تستحقُّ أن تعاش، وتستحقُّ أن تروى، وتستحقُّ أن نقرع رؤوسنا في بهائها المطلق من أجل الفهم أو الإحساس. هكذا أفكر فيما هو غير موجود وأوجد فيما لم أفكر فيه قط.

تلك النجمة هناك أحمل بذورها في دمي، ذلك الكوكب الساطع في عمق الليل صنع البريق الذي يلمع في ذهني. أنا إذن من هذا الكون والكون مني. ولدنا في الغور السحيق للسماء في زمان يوجد ما وراء الزمان. ولكن من له أن يقول لي إن كان من الممكن سبر المصير الأعلى لهذا الشعاع المهاجر لضفاف السماوات البعيدة، أو من أين ينبع الماء بين النجوم؟ تلك الغمامة الباردة والجميلة فوق السهول الخضراء. حياتي تشبه غمامة تمضي في حلم الله، ظلٌّ حميميٌّ في ضيعة منسيَّة تسكنها عصافير شاردة، يحرسها حكيم طاعن في السنِّ، يقرأ على الدوام كتابًا ضخمًا عنوانه: الحياة السريَّة لدودة القزِّ الكونية.

***

الشرُّ

أروِّض في الأصدقاء كما تروَّض الأسود، أعيش دائمًا في حالة ترقُّب انقضاضهم عليَّ، أروِّض الساعات والأيام كما يعزف السَّاحر للأفاعي والأحناش كي ترقص على أذنابها. أروِّض الحظَّ السيئ والنحس لعلِّي لا ألاقيه في آخر الدرب عند منعطف الزقاق الألف للمدينة الماكرة والحامضة. عندما أمدُّ ذراعيَّ مشيرًا للأفق أخشى أن لا أستعيدهما. بالتفكير فيما يستعصي على التفكير قد أترك ذهني هناك وأعود بدونه. برؤية ما لا يطاله بصر الإنسان، قد أجازف بمشاهدة ما لا ينبغي لعين الإنسان أن تراه. هكذا ينام جسدي وتستيقظ روحي، تغفو روحي ويظل جسدي واقفًا هنالك.

من الجميل أن يفكر الإنسان كما يحلم، وأن يحلم كما يفكر. حرارة الصيف تجعلني مخمورًا بدون خمرة، كتلة لحميَّة معجونة بالكسل والتعب. أسلِّي نفسي بافتراضات هائمة كنوع من التفكير غير المشروع، والذي لا نبوح به إلا لأنفسنا مخافة اتِّهامنا بالجنون. هكذا افترضت أنه لو امتلك الإنسان قوَّة تفوق كلَّ ما يمكن أن يحلم به البشر يومًا ما، لا أقصد قوَّة وحوش السينما الأمريكيَّة، الرجل الوطواط والمرأة التي تشبه العنكبوت الأرملة، ولا حتى القوَّة التي نجدها في الأساطير عن طاقيَّة الإخفاء والعصا السحريَّة أو مصباح علاء الدين. ربما قوَّة أخرى أكبر من القوَّة. قدرة بحجم السَّماء والأرض، فعل يجعلنا نتحكَّم في السُّكون والحركة، في البدء والصيرورة، فيما هو موجود وفي ما يمكن أن يوجد، آلة زمان تعيد ترتيب وقائع الحياة.

ماذا إذن، هل سأختار الموت أو الحياة، الوجود أم العدم، أن أقدح عود الثقاب في "البيضة الكونيّة"[1]، أم أفضِّل السكون على ضجيج الخلق. قد تكون افتراضات لا مجدية ما دام أنها تهرب نحو تخوم لا مجدية. ولكن في حاضر الحياة وحدها ما الذي يمكن أن تحققه مثل هذه القوَّة. ما هو أوَّل قرار أو فعل يمكن أن أقوم به لو كان لي مثل هذه القدرة، خاتم سليمان أو صولجان الحكيم. هل أبدأ بشيء استعجاليٍّ أكثر من غيره كأن أجمع كافة الأسلحة الموجودة على الأرض البيضاء والحمراء والصَّفراء وأرمي بها في مكان بعيد لا تطاله يد الإنسان، الثقب الأسود أو مجرَّة أندروميدا. وماذا لو قام الأشرار بصنع أسلحة جديدة، ذلك أن ضلال الإنسان لا ينتهي، تلكم مسألة معروفة منذ قديم الزمان. ألا يمكن أن يكون أخطر سلاح يدفع الناس إلى الاقتتال هو المال اعتقادًا منهم أنهم سيتمكَّنون في الأرض وسيصبحون سعداء أكثر بواسطته. ألا يتوجَّب عليَّ أن أفعل كما أراد ذلك النبيُّ غير المتوَّج كارل ماركس حينما طاف على الأمصار محررًا المادَّة من جشع الرُّوح.

ولكن الشرَّ كان هنا بدون سلاح وبدون أموال، كانت المأساة تسكن أعماق قلب الإنسان، السِّلاح والمال هما مجرَّد وسائل يستعملها الشرُّ لبلوغ غايته، لكن الشرَّ ذاته لا تعوزه وسيلة كي ينتشر على الأرض حتى بدون أن يلفت النظر إليه، بدون أن يظهر كشرٍّ.

المشكلة ليست فيما هو خارجيٌّ ولكن فيما هو داخليٌّ في الطبيعة البشرية ذاتها. ربما يتوجَّب عليَّ المرور على طاولات المقاهي واحدة واحدة، وأجمع الوقت المهدور كي أبني به كونًا آخرًا، أو أخلق كائنات من طبيعة مغايرة لا تعرف معنى التعب أو اليأس أو الملل. أعرف ذلك أنا أشبه رجلاً يمشي فوق الجمر والنَّار حافي القدمين وهو يحمل البيضة الشقيَّة للفكر الإنسانيِّ. أو مثل شامان يقرع أجراس المدائن البعيدة. أنظر جهة القمر، هنا حيث يتمزَّق الليل، من تكون أنت أيها الليل، أنت أيُّها الوجه الثالث مثقلاً بالحديد تمرُّ فوق القلب، من تكون كي تمضي بلا معنى الحياة إلى العتبة الأخيرة للامعنى الموت.

***

الطبيعة

أداري هذه الروح العالقة في الجسد، أداري هذا الجسد العالق في حبال الزمان، مثل سفينة عتيقة مضِّطجعة فوق الرمال، أضَّطجع أنا أيضًا مع هذه الساعات المفزوعة من تاريخ الكون. أتذكر سفَّاحًا روسيًا قال مرة بعد أن سُئل عن السبب الذي دفعه إلى قتل كلِّ هذا العدد من الأطفال: "أنا خطأ من أخطاء الطبيعة البشريَّة".

هكذا كان فيلسوفًا في ساعاته الأخيرة وهو يمدُّ رأسه داخل الأنشوطة. كلنا نصبح فلاسفة في آخر المطاف، نولد فلاسفة ونموت فلاسفة. قد نشعر بالشفقة على هذا الشخص، ما حيلته، إنه شذوذ عن القاعدة، مثل بضاعة لم تكتمل جيدًا في مصنع الحياة. ولكن يا ترى من باب التفكير الحرِّ كم مرة أخطأت الطبيعة. إنها تفعل ذلك يوميًا: في حالة الزلازل والبراكين والفيضانات... هذه هي عادتها. ربما السواء هو الشذوذ. الإنسان "الطبيعي" هو شذوذ من الطبيعة. إننا نكافح داخل الحياة من أجل الحياة، نصلح عمل الطبيعة، الطبيب يقوم بذلك بمباضعه ومشارطه، لكن حتى الحلاق يعرف كيف يصلح ما تفسده الطبيعة عن طريق موسى الحلاقة. هكذا نمضي في الحياة راضين بتقبل الضربات أحيانًا، بتلمس الطريق مثل أعمى في الصحراء. أو مثل أطفال غرباء نزلوا من البعد الرابع عبر بوابات العالم الآخر، واقفين بين حيرة النور وقلق الليل. نعم الحياة هي المرض الذي نسعد به جميعًا.

ليس الإنسان هو فقط من يبحث عن خلاصه، حتى الطبيعة تفعل ذلك، وإذا كان الإنسان يبحث عن خلاصه عبر الإيمان أو عبر المعرفة والإبداع، فإن الطبيعة لها أسباب أخرى لتحقيق هذا الأمر. ذلك هو أنين الطبيعة الذي لا يفهمه غير الشعراء. عندما يسقط الليل فوق الغابة، عندما تصيح الريح صيحتها الكبرى هنالك في البحار البعيدة أو الأراضي الطرية، تخرج الخليقة وهي تتنهد من تحت قشرة الأرض حزينة لكن بعذوبة متألمة، لكن بصمت. الضوضاء الهادئة، الألم المكتوم، العواء والنحيب، النعاس العذب، كل شيء نعسان في الطبيعة، كل شيء يحاول أن يستيقظ وأن يوجد. كل وجود هو محاولة وجود. ضعيفة هي الطبيعة، على عكس ما يقال، الريح ضعيفة، الطيور واهنة، الأرض برمتها مسكينة وهي تحاول أن توجد في البطء الشديد للدوران السماوي. آه يا إلهي لكم هو ثقيل هذا الصمت، آه يا إلهي لكم هو عميق هذا الليل.

أقطع تلك المسافات التي تفصلني عما ينبغي قوله، لكن المسافات تزداد اتساعًا كلما أوشكت على الاقتراب. أيُّ قول هذا يمكنه أن يستنفذ القول، أيَّة لغة يمكنها أن تحيط باللغة. يا صهوة الريح، يا شجر العزاء البشري، أعطوني الكأس التي شربتها الأرض كي تصبح رسولة للعشب. آه لكم أحب الريح وكتب المطر والخريف. وأناشيد الموت التي تذهب صاعدة مع الأنين، حيث العصافير باردة ووحيدة، مثل الأشجار والنجوم والأطفال. آه لكم أحب الريح.

***

الوصيَّة

هنالك ثلاثة أقمار تحيط بي: الحريَّة، الشعر، والحكمة، أما الشمس التي تنير نهاراتي فهي الروحانيَّة، الروحانيَّة القلقة والمتوتِّرة، فليكن الله في عوني أنا مثل أشجار تحلم بالطيور، مثل مطر يبحث عن ريشة فنان، الاستعارة التي لم تعثر بعد على الكلمات المناسبة. آه لو كنت إسبانيًا لكنت الناي الغامض في الخريف الناعس. ولو كنت فرنسيًا لفضَّلت أن أكون عطرًا أو حتى نظرية فلسفية على ناصية الشارع. أما لو كنت اسكندينافيًا فحتما سأكون قلبًا دافئًا يعطف على سمكة الحبِّ قرب مدفأة مفتوحة على الشاطئ. وأخيرًا لو كنت مغربيًا لكنت الشحوب الذي يعلو قطعة الأثاث العتيقة، الاخضرار فوق آنية النحاس، المهد الذي تربَّى فيه كل أطفال الحيِّ وها هو يباع من جديد في دكان الخردوات، آلة الخياطة القديمة التي تملكها أرملة ضاع زوجها في الصحراء.

لكنني مع ذلك أعتقد أنني أمير يابانيٌّ أو بنغاليٌّ من سلالة منقرضة كانت تعمل في الخيمياء والسفر عبر الزمان.

كم من ميتة متُّها وكم من حياة عشتها.

هكذا أنا الحزن المسافر إلى بلدان الله البعيدة، الصفير الأخير لعصفور يحتضر، الحلم الذي لا سرير له، الشمس الضائعة في القفار المجهولة.

غير أنه من المحتمل أن لا أكون من هذا الكوكب، بل من كوكب آخر يوجد بين النجوم البعيدة للمرأة المسلسلة. هنالك حيث لا توجد يابسة بل فقط بحر واحد ممتدٌّ على مدى البصر، من كنت حينما لم أكن، في كوكب الغيوم الذي يحلم بالحياة القادمة إليه. هناك الكثير من الإمكانات كي أكون على غير ما أنا عليه، أعرف أنني لا أكذب الآن لأن الحريَّة هي جوهري الوحيد. أضحك إذ أحزن وأبكي عندما يفرح الآخرون.

تعالي إذن يا أختاه نركب فوق الحصان المجنَّح، إنني مجرد إغفاءة للضرورة، تعالي نجرب الحياة خارج الزمان، خارج المرئيِّ وخارج المكان. تعالي نغطي أنفسنا بأوراق الشجر ونجري مع الريح.

تعال أيها الإنسان الصغير، إلق نظرة على هذه المدن الفارغة، وجع الريح خلف الأبواب الموصدة.

نعم، يا إلهي لكم أحببت الأموات الذين مضوا، والفانون الذين ما زالوا ينتظرون؟

نعم، جملة طويلة تضم كل الأحرف وتقال بنفس واحد، هذا بالضبط هو ما أفكر فيه كوصية لي في اللحظات الأخيرة.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] تعبير أطلقه عالم الفلك البلجيكي جورج لوميتر على المادة الأولى التي تشكل منها الكون.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني