الربيع العربي
وخريف عقليتنا
أحمد ح
دلول
إن
توالي الفصول هو أمر طبيعي، بل وحتمي. سواء كان ذلك في ناموس الطبيعة
أو في حياة البشر أو في سيرورة المجتمعات. فليس ثمة ما هو ثابت ساكن،
والحركة والتغيير هما سنة من سنن الكون وضرورة من ضروراته. "ما من
إنسان ينزل في النهر الواحد مرتين، فهو دائم التدفق والجريان" حسب
تعبير هيرقليطس. وكذلك ما من أحد يستطيع أن يوقف عجلة التاريخ أو توالي
الفصول، والربيع لا شك آت ولو بعد حين. ومن ثم، كل يجني تبعًا لما
بَذَرَ، أو لما بُذِرَ له.
إن ما يحصل من تداعيات للربيع العربي يدفعنا إلى أن نعيد التدقيق
والتمحيص في البذور التي كنا قد احتضناها بأمل، ولاسيما بعد أن تذوقنا
مرارة الثمر. ولا شك بأن لتلك التداعيات مقدماتها الراسخة في عقليتنا
المحضة، من جهة. وكذلك فيما اعتمل في تلك العقلية من لوعات ومآسي في
تاريخنا، من جهة أخرى. حيث تشابك الذاتي بالموضوعي إلى درجة التوحد،
لتتحول المواضيع التي عايشناها إلى جزء من ذاتنا. مما يجعل العامل
الذاتي يطغى، حتى ولو كان العامل الموضوعي ما يزال حاضرًا ومؤثرًا
بقوة. فلا يضير بأن نبدأ بقليل من الصراحة والمكاشفة.
يقول اللورد كرومر على لسان أحدهم:
إن
العقل الشرقي يفتقر مثل شوارعه الجميلة إلى الاتساق والتنظيم. وأما
قواعد الاستدلال التي يرتكن إليها، فهي غير محكمة إلى أبعد حد. ومع أن
العرب القدماء كانوا قد أحكموا إلى حد بعيد علم الجدل والقياس، فإن
أحفادهم يفتقرون افتقارًا بالغًا إلى ملكة المنطق. وكثيرًا ما يعجزون
عن التوصل إلى أوضح النتائج استنادًا إلى أي مقدمات بسيطة يقرون بأنها
صحيحة.
في الحقيقة، لا أجد في أقوال اللورد كرومر سببًا لاحترامه أو لتبرير
تاريخه، ولكن ثمة سبب بالتأكيد للتدقيق في هذه السطور، فهي للأسف ليست
بعيدة عن الحقيقة، بل قد تكون من أحد أسباب إخفاق العرب في ربيعهم.
كونه لم يعد من السهل الإبقاء على هامش من التفاؤل بذلك الربيع. ولكي
نداوي العلة، لا بد من الاعتراف أولاً بأن هناك علة. فلندقق:
علينا أن نتفق أولاً على أن صيرورة الديمقراطية في مجتمع ما هي انعكاس
لسيرورة التفكير الديمقراطي لدى أفراده. وبالتالي فإن تحقيق
الديمقراطية في المجتمع هي نتيجة، قبل أن تكون مقدمة لمجتمع مفترض
تختفي منه جميع مشاكلنا فجأة بمجرد الإطاحة بديكتاتور. وبما أن بناء
الهرم لا يمكن أن يبدأ إلا من القاعدة، فإن الديمقراطية في الحقيقة هي
لقاء أو تزاوج لعدد كبير من الديمقراطيات الصغيرة أو العقول
الديمقراطية، التي تجتمع وتتآزر لبناء مجتمع ديمقراطي يسمونه وطنًا،
يتوفر فيه المكان والتفهم للجميع، بما في ذلك الآخر الذي قد يكون
مختلفًا في الدين أو العرق أو الجنس، وقبل كل شيء "بالرأي". من دون
السعي إلى شيطنته، تمهيدًا لنفيه أو سحله أو... تقطيع أوصاله مع ترديد
صيحات مقدسة!
نحن غالبًا ما نحسد شعوب "الشمال" على حكوماتهم التي ينعمون من خلالها
بالديمقراطية والرفاه الاجتماعي والمساواة، مع أننا لو تأملنا الأمر
بشيء من العمق سنلاحظ أنه كلما اتجهنا شمالاً نجدهم يقيدون الفرد من
أجل إطلاق المجتمع. وكلما اتجهنا جنوبًا نجد أفرادًا يميلون إلى إطلاق
غرائزهم على الجماعة في مجتمع يبقى مقيدًا، حتى لو تم تغيير الأقنعة من
حكام وحكومات. ومقارنة الجهات هنا هي جغرافية بحتة.
فالحرية هي تقييد قبل أن تكون إطلاق، وإلا فكيف للضعيف أن ينال
حقوقه بدون تقييد القوي، وكيف يمكن أن يكون هنالك حرية للرأي بدون
تقييد من يريد مصادرة رأي الأخر، سواء كان من السلطة الحاكمة أو من
أفراد الشعب، ثم كيف يمكن أن يكون هنالك حرية للمجتمع ككل بدون قيد
القانون، الذي يكبح النزعات الفطرية للأفراد؟ لذلك فإنهم في دول الشمال
غالبًا ما يقيدون سطوة الرجل لإطلاق حرية المرأة. ويقيدون ثراء الغني
بنظام ضريبي تصاعدي، تزداد نسبته كلما ازداد الدخل، لمصلحة العاطلين عن
العمل أو العاجزين عنه. ويقيدون كذلك سلطة الحاكم ببرلمان تعددي
وبإعلام شفاف يستطيع أن [يعمل من الحبة قبة] ما دام الأمر يتعلق
بالساسة أو ذوي السلطة والنفوذ. إذن هم يقيدون الأجزاء ويشذبونها من
أجل تناغم ورفاهية الكل، والأولوية دائمًا للأضعف. والمواطن في الحقيقة
هو من يصادق على مشروعية هذا النظام، بل إن هذا النظام هو جزء من
عقليته، وليس هناك أية حكومة قد فرضته أو تستطيع أن تفرضه بالقوة.
أليست صناديق الاقتراع هي التي تقرر في النهاية؟ أما لو عدنا إلى بلاد
الشمس، فنحن من يمنح السلطة للقوي لكي يسود. فالرجل عندنا يحق له ما لا
يحق لغيره، وهو يمارس تسلطه على المرأة بما ورثه من الطبيعة والأعراف
والسماء، بالتناوب وحسب الحاجة. حتى أن جرائم الشرف باتت تكتسي بطابع
شبه شرعي في بعض بلداننا، وأحيانًا لمجرد الشك. وكذلك فإن الثري من حقه
أن يحلق إلى أي ارتفاع من دون وجود المشيئة أو القناعة لدى الأغلبية
بوجوب فرض نظام ضريبي صارم يُشذب أجنحة الغني، كرامة للفقراء الذين هم
بمستوى الأرض ضمن المجتمع نفسه. والمحكوم يميل إلى أن يتماهى مع
ديكتاتورية حاكمه، وربما كان العكس صحيحًا، مما يفسر نوعًا من التآمر
غير المعلن بين القاهر والمقهور لاستمرارية الوضع على ما هو عليه، حتى
ولو تغيرت الوجوه. والأدوار السابقة نفسها تمتلك من الديناميكية
والمرونة ما يكفي لكي تنقلب وتصبح معكوسة عندما تحين الفرصة.
هل هذا يعني أننا شعوب لا تستحق الديمقراطية، أو أننا لسنا أهلاً لها؟
كيف يكون هذا صحيحًا وكل إنسان هو قيمة بذاته مهما كان عرقه أو لونه أو
دينه، ومن حقه أن يقرر مصيره وأن يساهم في صياغة قوانين الجماعة التي
ينتمي إليها، ما دام يتمتع بنعمة العقل كجوهر يميزه مع أفراد جنسه من
البشر عن باقي الكائنات. بالإضافة إلى أننا شعوب ذات معدن طيب، وكرم
وشهامة، ولنا بصمات ما تزال واضحة على ناصية التاريخ. ولكن مشكلتنا هي
أننا لجوجون في طلب حقوقنا في الوقت الذي نتجاهل فيه أن علينا واجبات،
مع أننا لو تحملنا مسئولية تلك الواجبات اتجاه الجماعة، فإن في ذلك
تلبية آلية لجزء أساسي من حقوقنا، وتلك هي جدلية المقايضة بين الفرد
والمجتمع. فصلاح المجتمع هو مسئولية الأفراد أولاً، والسلطة الحاكمة هي
مرآة لذلك المجتمع. فمن أين نبدأ؟ وهل يمكن القول بأن مجتمعاتنا مقيدة
بنا؟ أم أن سبب القيد هم حكامنا فحسب؟ في الحقيقة، لكي لا نقفز إلى
إجابات سريعة وسطحية تجعلنا منحازين إلى ذواتنا أو ضدها، لا بد من
الغوص أعمق من حاضر لم نعد نفقه منه شيئًا. ولكي ننصف أنفسنا لا بد من
فهم ما يحصل الآن ضمن سياق ما حصل في العقود الأخيرة من تاريخنا،
تجنبًا لحساسية وعبثية الخوض فيما قبله. فثمة أحداث قد عايشناها، كانت
قد تركت أثرها الواضح والفاضح على شكل أثلام في العقلية العربية، وتلك
الأحداث التي كانت تندرج ضمن "أسباب موضوعية" في وقت حدوثها، باتت
تنطوي تحت ما هو "ذاتي"، كون نتائجها وتداعياتها أصبحت جزءًا لا يتجزأ
من عقليتنا ذاتها، لفرط ما أثرت في صياغة وقولبة تلك العقلية في بضع
عقود لا أكثر. وقد كانت من ضمن ما بُذِرَ لنا... أو فينا.
ثمة ما يمكن تسميته بالمزاج القومي لكل شعب، وهو ما يمكن اعتباره
موازيًا لمفهوم [عقلية]. فكل شعب له مزاجه القومي الخاص به، الذي يختلف
من أمة لأخرى تبعًا لعوامل عدة، منها العرق أو المناخ أو العامل
الجيوسياسي. ولكن هناك أيضًا عوامل مهمة تؤثر على ذلك المزاج أو تطبعه
بطابعها. فالمزاج القومي، مثلاً، لكل أمة أوروبية على حدة، يختلف
اختلافًا شاسعًا بين ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، تبعًا
لما جلبته لهم الحرب من انتصارات أو هزائم. ويمكن أن يتفجر ذلك المزاج
فجأة وبجلاء. فمن يراقب الصدام الذي يحدث بين مشجعي الفريق الإنكليزي
والفريق الألماني في مباراة كرة قدم مثلاً، سوف يشعر بأن الحرب
العالمية الثانية لم تضع أوزارها بعد، أو أنها عادت مقَّنعة بوجه جديد،
ذلك أن آثارها ما تزال تغلي في النفوس على الرغم من مرور ما يزيد على
الستة عقود على انتهائها. فبأي حال هو مزاجنا القومي؟
إن في ذاكرة أي عربي ثمة أرقام راسخة بعمق، ويستطيع أن يحفظ أي أرقام
تصادفه في حياته اليومية بدون جهد، إذا تطابقت مع أي من تلك الأرقام
الراكدة في لاشعوره، مثل: 48، 67، 82، 91. أعني: النكبة، النكسة،
الاجتياح، الغزو. إلى ما هنالك من أحداث باتت تتوالى بإيقاع أسرع من ذي
قبل. ولا شك بأن كل حدث من تلك الأحداث كان بمثابة الزلزال في وجدان
العرب، وكذلك في مزاجهم القومي. وفي الواقع بأننا أمة لم تعايش أي فرح
قومي حقيقي في تاريخها الحديث، وكرامتنا القومية لم يكتب لها أن ترى
النور، باستثناء بعض الومضات المتفرقة التي ما نزال نتخيل من خلالها
شكل الشمس. حيث أننا لم نعايش في العقود الأخيرة من تاريخنا سوى
الهزائم والانكسارات والخيبات المتتالية، مما دفعنا للنكوص إلى ماض كنا
قد خبرناه في سالف الأيام. "لا ينشد بداية الطريق إلا الذين ضلوا في
آخرها" يقول جبران. ولكن المشكلة هي ليست في العودة إلى ملجأ وجداني
يبلسم لنا بعض جراحنا، التي زادت عما نحتمل. بل المشكلة هي أننا أصبحنا
نلجأ إلى أقرب حفرة نجد فيها أمننا الداخلي، لنسمي ذلك عقيدة، ولنعتبر
كل من هو خارج حفرتنا مارق وزنديق، ويستحق ما يستحق. فكيف لنا كمسلمين
أن نقبل بظلام الحفر وقد كنا لقرون خلت لا نقبل بأقل من العيش على ذرى
الجبال؟ ألم يكن التصوف بكل ما يحمله من التسامح والانفتاح على الآخر
بفلسفاته ومعتقداته هو اللغة الأكثر شيوعًا في القرن الثالث الهجري
ولقرون عدة تلت تلك الحقبة؟
يقول أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة:
إن
الإسلام ببساطة ككل ديانة وعقيدة أخرى، تحمل في كل عصر بصمات الزمان
والمكان. إن المجتمعات الواثقة من نفسها تنعكس في ديانة واثقة ومطمئنة
ومنفتحة. وتنعكس المجتمعات القلقة في ديانة خائفة ومتزمتة وغاضبة....
فالعرب كانوا ينتصرون ويشعرون أن العالم لهم. كانوا يؤولون عقيدتهم
بروح من التسامح.
أما الأصولية التي نعايشها هذه الأيام
فهي
ليست الخيار العفوي ولا الخيار الطبيعي أو الفوري للعرب أو المسلمين،
فقبل أن يغويهم هذا الطريق، كان لا بد من انسداد كل الطرق الأخرى.
وهو يذكر أنه في زمن جمال عبد الناصر مثلاً
كان
المنتسب لحركة إسلامية يُعتبر من قِبل رجل الشارع عدوًا للأمة العربية
وعميلاً للغرب في أغلب الأحيان.
وفي واقع الأمر، أنه في [تاريخنا الحديث] عندما كان ناصر في فترة حكمه
الذهبية، لم نكن نرزح تحت عبء نكسة حزيران، ولم نكن قد بكينا على
كرامتنا القومية أثناء اجتياح لبنان وما نتج عنه وما تلا ذلك من
اعتداءات عليه، ولم نكن قد جلسنا بعد ونحن نجتر عجزنا أمام شاشات
التلفاز أثناء غزو العراق ثم احتلاله لاحقًا وكذلك أثناء كل اعتداء على
غزة، والقائمة تطول. بالإضافة إلى أنه كان هناك اتحاد سوفييتي وأمل
وطموح وثقة بالغد وبالقومية العربية كانتماء مُشرف له الأولوية على ما
عداه. أما الحاكم العربي، فقد كان في أغلب الأحيان مقدمة لتلك الهزائم
أو نتيجة لها في أحيان أخرى، ولكنه كان أقرب إلى ردة الفعل من كونه
فاعلاً مؤثرًا، فخيوط اللعبة كان يديرها محترفون في العواصم الكبرى.
بينما كنا ندور في حلقة مفرغة كانت تضيق بنا، حيث كان المزيد من
الدوران يعني الانفجار، أو ما تم تسميته بالربيع العربي. فقد نهضنا
أخيرًا وسرنا للأمام، ولكن ما الأمام إذا كان المرء أصلاً قد أضاع
الجهات؟!
بما أن إسرائيل هي ليست مجرد احتلال عادي أو استيطان تقليدي، فهي تسعى
إلى جني ما هو أبعد من الرؤية الماكيافللية القائلة:
إن
الرجال يجب أن يُعاملوا معاملة رحبة أو أن يمحقوا محقًا تامًا. فهم
يثأرون لأنفسهم للإهانات التافهة، ولكنهم لا يستطيعون الانتقام للكبير
منها، ولذا فإن إهانتنا لإنسان لا بد أن تكون إهانة تغنينا عن أن نخشى
معها انتقامه.
فإسرائيل كانت تتطلع دائمًا إلى أبعد من انتصارات مرحلية، من خلال
السعي إلى خلق خلل في العقلية العربية والوجدان العربي، وليصبح ذلك
الخلل، هو ما يمكن المراهنة عليه في صراع وجودي غير محدد بزمن. ولو
تأملنا تاريخ صراعنا مع إسرائيل سنلاحظ بأن الأخيرة كانت تقوم دائمًا
باستفزازات وبردات فعل فيها الكثير من
المبالغة، وبهمجية ليس لها المبرر الكافي، أو حتى في غياب ذلك
المبرر، وبشكل قد يتراءى للمراقب بأنه استفزاز مجاني. مع أنه في
الحقيقة ليس كذلك. فمجازر صبرا وشاتيلا التي حصلت ضد العُزل بعد خروج
منظمة التحرير مع مقاتليها من لبنان. وقصف مخيمات اللاجئين عشوائيًا في
غزة، من دون أن يصدر منها أي طلقة، ودون استهداف أي شخص بعينه، الأمر
الذي كان يتكرر بأشكال مختلفة في بقاع أخرى، ولا سيما في فلسطين
ولبنان. وكذلك إصرار شارون على دخول ساحات المسجد الأقصى، على الرغم من
التحذيرات التي أتته من كل صوب وحدب، لم يكن أمرًا اعتباطيًا، بل كان
يأخذ طابعًا استراتيجيًا قد تمت دراسته بحنكة ودراية،
تبعًا لما يشي به منطق الصراع. فالمطلوب هو تفعيل الغضب العربي
إلى حدوده القصوى، استجداء لردة فعل قد تم تقييدها. والأمر أشبه بإثبات
الفعل ونفي رده، كمن يقوم بتفعيل الحركة والكبح في محرك ما، في آن واحد
ولمدة طويلة. فلا بد أن يحصل نوع من التآكل الداخلي أو العطب في داخل
المحرك، وحتى لو أزلنا أسباب ذلك العطب بعد حين، فإن المحرك سيكون قد
استهلك نفسه. فما العمل إذا كان ذلك العطب قد أصاب وجدان أمة بأسرها،
وأسباب العطب ما تزال قائمة؟ قد لا يمتلك أحد جوابًا سحريًا أو جاهزًا
لمعضلة كهذه، سوى التأكيد على أهمية وعي هذه المعادلة، "كمدخل للخروج
منها" كما يصف الباحث تركي علي الربيعو، آلية الخروج من التخلف.
إن ما يحصل للأمة العربية والإسلامية بأنها قد انقلبت على ذاتها وبدأت
تأكل نفسها من الداخل، بعد أن عجزت عن مواجهة الغبن والظلم الذي تتعرض
له من الخارج، فلم تجد خلاصًا إلا في الهرب من الجرح إلى السكين، من
خلال أصولية إسلامية هي في الحقيقة أشبه بالكنز الاستراتيجي لإسرائيل،
التي كانت تمهد لتلك الأصولية وتهيئ أسبابها، سواء بشكل مباشر أو غير
مباشر. و"العالم المتحضر" نفسه يميز بين إرهاب خبيث وإرهاب حميد، ما
دام هناك، مثلاً، في دولتين من دول الربيع العربي أصوليين يحاربون
جيوشهم الوطنية من حدود إسرائيل مباشرة، ويديرون ظهورهم لها آمنين
مطمئنين، في الوقت الذي ينقضون فيه على الطوائف والديانات الأخرى من
مواطنيهم وفي أوطانهم. فالأصولية الإسلامية باتت أشبه بسيف ذو حد واحد
مسلَّط علينا، وقد كنا نتلقى ضربات العدو ونعيد تصنيعها محليًا على شكل
أصولية، نضربه ونضرب أنفسنا بها. أما في زمن الربيع، فقد عدَّل العدو
آلية ضرباته وإيقاعها، فأصبحنا نتلقى الضربات ونعيد ضرب أنفسنا بها بلا
رحمة أو هوادة.
إن أمتنا الإسلامية قد استهلكت ماهية ماضيها، وصار حالها كحال فارس كان
يتباهى بسيف ذو غمد، ثم غافله الزمن وأضاع السيف، ولكنه لا يزال يتمسك
بالغمد ويريد مقارعة الأعداء به، وهذا هو حال من فهم المقدس على أنه
تقديس للحرف وتعفف عن المعنى. فنار الطائفية والمذهبية تشتعل وتتأجج،
ونفط الأخوة يتدفق بسخاء لحرقنا، وتقسيم المُقَّسم صار قاب قوسين أو
أدنى، وصار هناك فضائيات ومواقع للتواصل الاجتماعي، وصار اغتصاب
اللاوعي الجماعي أكثر سهولة وفاعلية من إرسال الجيوش لتحقيق هدف بعينه.
والكذبة، كما يقول لينين، تصبح حقيقة إذا تم تكرارها بما يكفي.
إن الوباء قد بدأ بالانتشار، ومناعتنا أصلاً ضعيفة. فهل ما يزال الوقت
بجانبنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ أم أنه حان الوقت لكي تنتحر العنقاء
على طريقتها وبطقوسها، أملاً في أن تنهض يومًا من الرماد، لتستنتج من
انتحارها العبر والدروس؟ إن الإجابة ما تزال مفتوحة على كل الاحتمالات.
فالربيع العربي لم يُفرغ كل ما بجعبته بعد.
ختامًا: أقتبس عبارة عن لسان حال الربيع العربي تقول:
سوف
لن تكف عن التذمر من مكر الخبثاء، إلى أن تعايش حماقة الطيبين.
كوبنهاغن، 29، 10، 2013
*** *** ***