المعنى السِّرَّاني للإسلام

 

محمد علي عبد الجليل

 

الدِّين، لغةً، هو السلطة والجزاء والحُكْم والخضوع. إنَّ الحقل الدلالي لكلمة "دِين" (بكسر الدال) يشترك مع الحقل الدلالي لكلمة "دَين" (بفتح الدال) في كونِ المفهومين ينطويان على تنفيذ التزام أو تأدية واجب. فالـــــدِّين والــــدَّين واحد. حيث يشير الدِّين بهذا المعنى إلى أنه لكي يتمكَّنَ المرءُ من إعادة الارتباط بالألوهة لا بدَّ له من أنْ يؤدِّيَ ما عليه، أنْ يوفِّيَ دَينَه، أيْ لا بدَّ له من أنْ يتخلَّصَ من جميع أعبائه الكارمية التي علِقَتْ به خلال رحلته عبر التجسُّدات. وهو ما يمكن فهمه من قول محمد:

يا أبا ذر! أَحْـــكِمِ السفينةَ فإنَّ البحر عميق، واستكثِرِ الزَّادَ فإنَّ السفر طويل، وخفِّفْ ظهرَكَ فإنَّ العقبة كؤود، وأَخلِص العملَ فإنَّ الناقد بصير.

وإنْ كان هذا الحديثُ ضعيفًا (رواه الألباني في "السلسلة الضعيفة والموضوعة"، 3/257) فهذا لا يعني أولاً أنَّ محمدًا لم يَــقُــلْه، ولا يعني ثانيًا أنه يتناقض مع جوهر الإسلام. بل يعني فقط أنَّ سنده التاريخي ضعيف ربما لأنَّ السلطة الإسلامية لم تشأْ أنْ تُدرِجَه في الأحاديث "الصحيحة" لعدة أسباب تاريخية وسياسية واجتماعية.

إنَّ وجودنا المادي بحد ذاته، أيْ سُــكْنانا في اللحم والدم، يُـفهَـم في أحد معانيه على أنه أعباء كارمية سابقة. فالروحُ أو النفس العليا لم تُسجَـنْ، بمعنىً ما، في الجسد المادي إلاَّ بهدف إتاحة الفرصة لها للتخلص من أعبائها ونفض الغبار عنها وسداد دَينها. وبهذا المعنى يمكن فهْــمُ الــــدِّين على أنه طريقة لوفاء الــــدَّين المتراكم من أعمار سابقة. الدِّين هو السجن في الجسد حتى سداد الدَّين أو جزء منه. بهذا المعنى يمكن أنْ نفهم قولَ نبي الإسلام لابن عمر:

دِينَــكَ دِينَــكَ، فإنَّما هو لَحمُكَ ودَمُكَ، فانظُرْ عَمَّن تأخذُ، خُذْ عنِ الَّذين استقاموا ولا تأخذْ عن الَّذين مالوا.

ولا ندري إنْ قال: "دِينُـــكَ (بكسر الدال) دَينُـــكَ (بفتح الدال)". ولكنْ سواء أقال: "دِينَــكَ دِينَــكَ" أم قال: "دِينُـــكَ دَينُـــكَ" فإنَّ الحديث يؤكِّد على أنَّ الــــدِّين هو اللحم والدم، هو الجسد. وبما أنَّ الجسد هو نتيجة كارمية للتجسدات السابقة، أيْ أنَّ الإنسان يُوْلَد في تجسُّد جديد (يُبعَث) على ما كان عليه في تجسُّدِه السابق، أيْ يستيقظ على الهيئة التي نام عليها، أو كما قال محمد: "يُبعث كلُّ عبد على ما مات عليه"، فإنَّ الــــدِّين، كمرادِف للجسد، هو الكارما [الكَرْمى] الفردية، أيْ هو استنفاد (استفراغ) الرصيد الكارمي للإنسان. وبالتالي فإنَّ أحد المعاني التي يشير إليها هذا الحديثُ هي أنَّ دِين المرء هو دَينه وهو جسدُه؛ فــــدَينُ المرء يُدِينُه. وعلى الإنسانِ أنْ يجعلَ وفاءَ هذا الدَّينِ همَّه ودَيدَنه ودِينه؛ إذْ إنَّ سِجْنَه في اللحم والدم (تجسُّده) ليس سوى نتيجةٍ لديونه الكارمية؛ أيْ أنَّ دِينه ودَينه وتجسُّـده وكارماه مسمَّياتٌ مختلفة لشيء واحد نُظِرَ إليه من زوايا مختلفة. وبهذا المعنى وحدَه، ووحدَه فقط، يمكن قبول فكرة عدم إمكانية الخروج من الدِّين، بمعنى أنَّ الإنسان لا يمكنه التهرُّب من ديونه، من كارماه، من نتائج أعماله السابقة مهما فعل، سواء انتقلَ من مؤسسة دينية إلى أخرى أو من مكان إلى آخر.

الدِّينُ دَينٌ كارمي لا مناصَ من تسديده. وتسديدُه هو الإسلام. وبهذا المعنى يمكن فهم الآية: "وله أسلَمَ مَن في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا" (آل عمران، 83)، أيْ أنَّ كلَّ من في الوجود خاضعٌ لقانون الكارما شاءَ أم أبى. أمَّا الإسلام السياسي الذي يشير إلى الشريعة المحمدية فهو إيديولوجيا ضارة بالنفس البشرية وغير صالحة بتاتًا لإنسان العصر الحالي لأنها تتنافى مع أبسط حقوقه ولا تُـعَــبِّر عن حاجاته.

مفهوم الدِّين هذا يركِّز إذًا على الطريقة الوحيدة لإعادة الارتباط أو الوصل بالألوهة، ألا وهي سداد الديون. فيومُ الــــــدِّين هو يومُ الحساب، أيْ يومُ سداد الــــــدَّينِ. ولكلِّ امرئ دَينُه وعبئُه وحِمْـلُه وإِصْرُه الخاص به، أي لكل امرئ شأنُه، "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه." (سورة عبسَ، 37) وبالتالي، لكل كائن دِينه الخاص به.

وبالتالي فإنَّ الانتساب أو الانتماء إلى أية مؤسسة دينية أو جماعة أو مذهب لا يساهم بحد ذاته في سداد الديون واستنفاد الكارما، بل يراكمها في أغلب الأحيان، لأنَّ هذه المؤسساتِ الدينيةَ أو الأديانَ تجعل من المنتسب إليها عبدًا تابعًا خاضعًا لإيديولوجيتها ولإرادة رؤسائها فلا يسعى للتخلُّص من أوساخه بل يُراكمُ أيضًا أوساخَ مؤسسته الدينية التابع إليها وأوساخ رجالها وما أكثرَ أوساخهم، مما يزيد من أعبائه الكارمية.

بناء على أحد معاني حديث محمد "دِينَــكَ دِينَــكَ! (دِينُكَ دَينُكَ) فإِنَّمَا هُوَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ" فإنَّ الأساس في الإسلام ليس الحفاظ على أفكار وإيديولوجيا وإيمان ومعتقدات والدفاع عنها بل الحفاظ على لحمك ودمك لتتمكَّنَ من سداد دِيونك بواسطة أداة الجسد. والحفاظُ على لحمك ودمك يتم أولاً بتأمين الحاجات المادية والنفسية لجسدك مع الانتباه إلى عدم مراكمة ديون أخرى ومع العمل على تسديد الديون السابقة. فالحفاظُ على لحم أخيك الإنسان ودمه يساهم أيضًا في الحفاظ على لحمك ودمك أولاً وفي عدم مراكمة ديون جديدة عليك ثانيًا. وبالتالي فإنَّ دفاعك عن أخيك الإنسان بما هو صورةٌ من نفسكَ جزء من دفاعك عن نفسك. بل إنَّ دفاعك عن إخوتك من الحيوانات وعن النظام البيئي ككل، أي عن أمك الكبرى الأرض، هو جزء من دفاعك عن نفسك.

الدِّين هو وفاءُ الدَّين. ولكن كيف؟ إن إحدى الطرق التي تساهم في وفاء الديون براحة ومن دون مراكمة ديون أخرى هي قبول القَدَر وعدم مقاومته بطريقة انفعالية من خلال ردود الأفعال. فالأقدارُ امتداد للأعمال، وتغييرُ أقدارِنا يكون بتغيير أعمالنا. ولا يُفهم من هذا أنَّ على الإنسان أنْ يكون جبريًا أو سلبيًا، بل أن يكون حاضرًا واعيًا منتبهًا لأفعاله فلا يقوم بِرَدِّ فعلٍ بل بفعلٍ حقيقي. وإنَّ القيام بهذا الفعل هو المعجزة. أمَّا الحكاياتُ والأساطيرُ التي تروِّج لها الأديانُ تحت اسم "المعجزات" أو "الأعاجيب" فليست سوى دعايات مضلِّلة لجذب أتباع لها والمحافظة على أتباعها.

هذا الحديث ("دينكَ دينكَ") لا يمكن فهمه وتطبيقه إلا على الصعيد الفردي. وبالتالي فلا يمكن فهم الدِّين بصورة عامة والإسلام بصورة خاصة إلا على صعيد فردي لا جماعي، أيْ أنه حالة فردية بحتة. وهذا المعنى لا يتحقق إلا بفصل الدِّين كحالة داخلية فردية عن الدولة كنظام سياسي خارجي جماعي. هذا المعنى الفردي للدِّين تؤكده عدة آيات وأحاديث مثل "ليس عليكَ هُداهم ولكنَّ الله يهدي من يشاء." (سورة البقرة، 272). "من يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيرًا يره ومن يعملْ مثقالَ ذَرَّةٍ شراً يره." (الزلزلة، 7، 8).

فإذا سوَّلَت للمسلم نفسُه فقالت له إنَّ الإسلام يحمل المعنيين (المعنى الكارمي السِّرَّانيّ) والمعنى السياسي التشريعي فهذا خطأ لأنَّ المعنيين متناقضان. فلا يمكن للإنسان أن ينشغل في إصلاح نفسه وإصلاح الآخر. إصلاحُ الآخر وهمٌ توهمه إياه نفسُه أو سلطتُه بهدف السيطرة. لأن إصلاح الآخر لا يمكن أنْ يتمَّ إلَّا بإصلاح النفس أولاً وأخيرًا. وإصلاحُ النفس جزء من إصلاح المجتمع. وهو الجزء الوحيد المطلوب من الفرد القيام به كمساهمة في إصلاح المجتمع.

إنَّ المعنى الرسمي للإسلام السياسي منذ نشأته إلى الآن هو المعنى السلطوي السياسي الذي يتناقض كليًا مع المعنى الفردي السراني. هذا الإسلامُ هو ضدَّ الدِّين وضدَّ التديُّن. فإيمانُ المسلمين بأنَّ هذا الإسلام هو ما جاء به محمد من شريعة وأحكام يجعلهم في تعارض وعداء مع محيطهم أولاً ومع بعضهم البعض ثانيًا. فمحيطهم العالمي لا يمكن أنْ يقبل بشريعتهم الإقصائية الرافضة التي تستمد أحكامها من القرون الوسطى. وهم في عداء بين بعضهم البعض لأنَّ كل جماعة منهم تفسر القرآن والشريعة بحسب مصالحها. إنهم يطبقون ويطالبون بتطبيق المفهوم السياسي والتشريعي للدِّين معتبرينه دِينًا! فيتلقَّون نتائجَ أفعالهم وفقًا للمفهوم السراني للدِّين. إنَّ أحكام الإسلام السياسي البالية لا علاقة لها بأحكام كارما.

هذا المعنى الفردي للإسلام (وهو قبول الكارما) هو معنى فطري لا يحتاج إلى تعليم ولا إلى كتاب مقدَّس لشرحه. فالطفلُ، حتى ولو لم يُـعلِّـمه أحدٌ شيئًا، تُـذكِّرُه التجربةُ بالقانون الطبيعي المتمثل في السبب والنتيجة. أما الإسلام السياسي بمعناه التشريعي المنتشر في العالَم فهو مُنافٍ للفطرة وللطبيعة.

وبالتالي فإن كل الجماعات الإسلامية التي تسعى إلى السلطة أو تعمل على تطبيق الشريعة لا علاقة لها بمفهوم الإسلام الثيوصوفي أو الإسلام السراني لا من قريب ولا من بعيد، بل يجب فهمها في إطار الحركات السياسية والاجتماعية. وما يسمونه بالإسلام وبِــ"طريق الإسلام" وبـ"تعاليم الإسلام" وبـ"شريعة الإسلام" ليس في حقيقته سوى طريق للوصول إلى السلطة أو للسيطرة على الآخر. فمن عرفَ حقيقةَ أنَّ الاختلاف هو الأصل قبِلَ بالآخر كما هو ولم يسعَ إلى جعل الآخر مثله، بل إلى اكتشاف نفسه هو بدلاً من تضييع وقته وجهده في "هداية" الآخر. وما تعبير "هداية" البشر الراسخ لدى أغلب المسلمين وخاصة الدعاة منهم سوى احتيال هدفه السيطرة على الآخرين. ماذا يهمُّ المؤمنَ الصادق الذي عرفَ "حقيقةً" ما، أو بتعبير أدق عرفَ "حقيقةَ نفسِه"، والذي فهِمَ القانونَ الكونيَّ الكارميَّ، والذي تشغله عيوبُ نفسِه عن عيوب الآخرين ويشغلُه إصلاحُ نفسه و"هدايتها" عن إصلاح الآخرين و"هدايتهم"، ماذا يهمه إنْ آمنَ الناسُ بما يؤمن هو أم لا؟ إذا لم يفهم المسلمُ ذلك فسترتدُّ عليه نتيجةُ عدمِ فهمِه على شكل أقدار. بحيث إنَّ ضربةَ القدَر تهدف إلى إيقاظه لا إلى معاقبته. وهنا أتساءل: إذا كانت كل هذه الضربات الموجعة عبر التاريخ لم تنجح في إفهام دعاة الإسلام السياسي أنَّ هذا الإسلام ضدَّ الإنسان وضدَّهم هم بما أنهم ينتمون إلى جنس الإنسان، فما هي حجم الضربة التي عليهم أنْ يتلقَّوها حتى يستيقظوا.

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني