|
هل كان المسيح أسطورة؟
سأبدأ بالقول بأني لا أتفق مع النشرة التي روَّجت خطابي حول فرضية أنَّ يسوع كان أسطورة، في الحقيقة إنَّ عبارة "يسوع كان أسطورة" قد يُفَسَّر معناها بأنَّ يسوع لم يكن شيئًا آخر. لم أكن أعلم بأمر هذا العنوان، في الحقيقة أنا شخصيًا مقتنع بحقيقة وجود يسوع التاريخي، مع أني كملحد أرفض وضعه كمسيح أو وجود علاقة فريدة ومميَّزة كانت تربطه بإله غير موجود برأيي. وحتى هنا، عليَّ أن أعترف أنَّ وجود الله هو احتمال بعيد جدًا، لكن هذا الاحتمال ضئيل جدًا برأيي حتى أني أودُّ القيام بقفزة تحفيزية – لأغراض عملية – في افتراض أنَّ الله غير موجود. بالنسبة للمسيح، فأنا قادر على تقبُّل وجوده كشخص، وحتى الاعتراف بعبقريته الفذَّة كنبي، ولا شيء أكثر من ذلك. في أوائل القرن العشرين قام عدد من الباحثين والعلماء بدعم فرضية أنَّ المسيح لم يكن أكثر من مجرَّد أسطورة. ومن ضمنهم جي. م. روبرتسون، دبليو بي سميث، وإي دوجاردين، هم الذين جادلوا أنَّ هوية المسيح قد تمَّ اختلاقها وتلفيقها اعتمادًا على إله ما قبل مسيحي يسمى يسوع (أو يوشع/ جوشوا – ربما قد يكون النبي يوشع نفسه). آخرون مثل درو مثلاً جادلوا أنَّ المسيح كان مستعارًا من شخصية المسيَّا/المسيح في سفر إشعيا، وآخرون أمثال ب. ل. كوشو لام القديس بولس لاختراعه شخصية المسيح. لكن آخرون أمثال ت. ويتاكر، ل. ج. ريلاندز، بي. ألفاريو، أ. بايت، ماتشيورو، ر. ستاهل، ب. فان إسينغا، إلخ[1]. في كتيّب صغير وممتاز نشر في عام 1926 (يسوع: أسطورة Jesus: A Myth) لخَّص فيه الناقد الدنماركي جورج براندس حججهم بوضوح – وضوح شديد في الحقيقة، حيث أنَّ الحجَّة ضدَّ وجود المسيح تصبح جلية جدًا. كيف أمكن لحجَّة عدم وجود المسيح أن تصبح رائجة إلى هذا الحدِّ؟ في الواقع لأنَّ جميع الوثائق والمدوَّنات عن وجود المسيح مبعثرة ومتفرِّقة. وحتى اسمه يشير إلى وجود عملية اختراع وتلفيق بدلاً من شخص حقيقي، حيث أنَّ كلمة "مسيح" تعني: المدهون أو الممسوح – شخص مدهون بالزيت لتأدية مهمَّة مقدَّسة. لذلك يمكننا ببساطة ترجمة اسم يسوع المسيح بعبارة "يوشع الممسوح"، وإذا أرجعنا اسم يوشع إلى جذره الأصلي: جوشوا Joshua= Jahweh [أو إله]/ "يهوه ينقذ"، فإنَّنا نكون أمام تشكيل لغوي مثير للاهتمام، "الله ينقذ الممسوح". ويمكن القول "أنا أؤمن بمنقذي"، "الله يحفظ الممسوح". والمزعج أيضًا أنَّ الكُتَّاب غير المسيحيين المعاصرين للمسيح لم يذكروه في كتاباتهم. المؤرِّخون الرومان بعد جيل واحد من ظهور المسيح قد قاموا بتأريخ تواريخ اجتماعية وطبيعية كان ينبغي أن يأخذوا إنجازاته بعين الاعتبار، لكنهم لم يوردوا أية إشارة من أي نوع على حياته أو الظروف التي مرَّ بها. لم يكن هناك أي سبب يدفعهم للتغاضي عنه، فقد كانوا يبحثون عن القصص الأصلية والغريبة، حسب تعبير آني بيسانت عام 1987: لا يمكن إثبات وجود يسوع من خلال الكتابات والنصوص والوثائق المعاصرة لزمانه. الطفل الذي بشَّر بمولده نجم ظهر في السماء والذي يرشد الحكماء والعقلاء الغرباء إلى يهوذا، مجزرة ارتكبت بحق جميع الأطفال الرضَّع في إحدى المدن الرومانية على يد قائد روماني تابع للإمبراطور، معلِّم يشفي المرضى بداء الجذام، الأعمى، الأخرس، الأطرش، الأعرج، ويقيم الأموات وهم جثث متحلِّلة، ملكٌ على اليهود يدخل مدينة القدس بموكب مهيب ومنتصر، بدون أن تعترضه فيالق القيصر، زعيم حراك ثوري متَّهم بالعصيان يتمُّ القبض عليه من قبل أبناء قومه وتسليمه إلى الحاكم الإمبراطورية، ثائر حكم عليه بالموت وفقًا للقانون الروماني، ثلاث ساعات من ظلام لفَّ جميع أنحاء الأرض، هزَّة أرضية تفتح القبور...، أعداد هائلة من الأشباح الهائمة في جميع أنحاء مدينة القدس، جثَّة مصلوبة تبعث من جديد إلى الحياة، وتظهر على مرأى من حوالي 500 شخص، رجل يبعث من بين الأموات ويصعد بجسده نحو السماء من دون تستر... هكذا أخبرونا، أنَّ جميع هذه الأحداث قد وقعت، لكن من دون أي إشارة لحدوثها في الأدب المعاصر لها[2]. بمعنى آخر، ربما كان المسيح موجودًا، لكن ليس هناك أي توثيق أو دليل كتابي مدوَّن يثبت وقوع جميع هذه الأحداث التي ورد ذكرها في الكتاب المقدَّس. هناك كاتبان رومانيان تجاهلا وجود المسيح يمكن إدراجهما بشكل خاص. إذ أن كلاً من سينيكا (3ق.م-65 ب.م) وبليني الكبير (23-79 ب.م) وضعا تواريخ تذكارية سُجِّلت فيها جميع الظواهر الطبيعية العظيمة في ذلك الوقت – زلازل، مذنبات، خشوف وكسوف، إلى ما هنالك. كتاب سينيكا التساؤلات الطبيعية يتألف من مجلدين، وعمل بليني التاريخ الطبيعي يتألف من عشرة مجلدات. وكلاهما لا يشيران في عمليهما الضخمين بأي إشارة من أي نوع إلى هذه الأحداث الحياتية للمسيح التي ذكرتها آني بيسانت، وكأنها لم تقع ببساطة. بليني كان مأخوذًا بظاهرة الكسوف والخسوف بشكل خاص حيث أنه ناقش إمكانية حدوث كسوف جزئي عندما قتل قيصر، لكنه لم يذكر شيئًا عن الكسوف الكلي المفترض الذي دام ثلاث ساعات كاملة والذي يفترض أنَّه وقع خلال عملية صلب المسيح بعد ذلك بسبعين عامًا. كيف يمكن حدوث هكذا كسوف عملاق من دون ذكر أية تقارير أو أخبار عنه ضمن عمل بليني الضخم في التاريخ الطبيعي؟ المؤرِّخ اليهودي جوزيفوس (37-100 ب.م) من المفترض أنَّه ذكر يسوع في فقرة أو فقرتين، لكن يتمُّ التعامل معها الآن كمحاولات تزييف واضحة تمَّ إدخالها على يد مؤلِّفين مسيحيين في فترة لاحقة. وتعتبر هذه حالة واضحة جدًا من حالات الدَّسِّ والتزييف حيث تمَّ استبعاد وإقصاء الفقرة من الطبعات الحديثة من أعمال جوزيفوس. هناك مؤرّخ روماني يدعى تاسيتوس (حوالي 55-117 ب.م) أشار في الحقيقة للمسيح عندما تحدَّث عن "الكريستوس" Christus كمؤسِّس لفرقة دينية ألقى نيرون اللوم عليها لإشعال حرائق دمَّرت جزءًا كبيرًا من روما خلال عهده. ويمكن اقتباس المقطع بكامله من السجلاَّت بكليته كإشارة رئيسية إلى المسيح من قبل كاتب روماني خلال فترة المائة وخمسون عامًا التي تلت وفاته. [لتبرئة نفسه من إشعال الحريق الذي دمر روما] ألقى نيرون اللوم على فئة مكروهة بسبب هرطقاتها وأنزل على أفرادها أشدَّ وأفظع أنواع العذاب، يسمُّون "المسيحيين" بين العامة. المسيح، أو الشخص الذي يستمدُّون منه اسمهم، عانى كثيرًا وأنزل فيه أشدَّ العقاب خلال عهد تايبيريوس على يدي أحد ولاتنا، بونتيوس بيلاطس، والخرافة الأبشع – حتى هذه اللحظة – لم تقتصر في انتشارها على مملكة يهوذا فقط، أصل كل الشرور، بل حتى في روما، حيث أنَّ كل هؤلاء البؤساء والأشقياء من جميع أرجاء الأرض وجدوا ضالتهم ومركزهم وأصبحوا هم الأشياع. وفقًا لذلك، تمَّ إلقاء القبض على كل من وُجِدَ مذنبًا، ثمَّ، اعتمادًا على معلوماتهم تمَّت محاكمة جموع غفيرة منهم، لكن ليس بتهمة إحراقهم للمدينة، بل بتهمة أنهم مكروهون ومنبوذون. تمَّت السخرية منهم بأقذع وأبشع الأشكال قبل موتهم. وتمَّ تمزيقهم إربًا من قبل الكلاب حتى اختفوا بعد أن تمَّ إلباسهم جلود الوحوش ووضعت في رؤوسهم رؤوس حيوانات، أو كان يتمُّ صلبهم، أو رميهم في النيران وحرقهم، لينيروا بهم الطرقات، عندما كان يجنُّ الليل[3]. يبدو أن المؤرِّخ الروماني سيتونيوس (65 ب.م-؟) يؤكِّد تصريح تاسيتوس: "المسيحيون، هم عرق من البشر يعتنقون خرافة خيالية، أو سحرية، تمَّت معاقبتهم". وقال سيتونيوس أيضًا عن الإمبراطور كلاوديوس: "دفع اليهود، الذين عاثوا في روما فسادًا وتخريبًا حسب أوامر المسيح/كريستوس، للخروج منها". بليني الصغير (62-113 ب.م) والشاعر مارشال (43-100 ب.م) والفيلسوف الرواقي إيبيكتيتوس (50- 138ب.م) والإمبراطور والفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس (121-180ب.م) يبدو أنهم أشاروا جميعهم إلى المسيحيين، لكن من دون أن يذكروا المسيح بشكل خاص. ربما تكون الإشارة الأهم إلى المسيح جاءت من المؤرِّخ بلوتارخ (46-120 ب.م) الذي كتب مقالة بعنوان خرافة، ربط فيها المسيحية مع بعض الفرق والمذاهب المعاصرة الأخرى ووصفها بأنَّها "خرافية"، حيث أنَّ كلاً من تاسيتوس وسيتونيوس كانا قد سبقاه في استخدام كلمة "خرافة" لوصف تلك الفرقة الجديدة. عامل بلوتارخ هذه الخرافة بنفس المقت الذي عامل به كل من تاسيتوس وسوتونيوس المسيحية، لذلك من المحتمل أنَّه وجَّه ملاحظاته وتعليقاته بشكل كلي أو جزئي ضدَّ المسيحيين. هل يحتمل أنَّه كان هناك فرقة أخرى ببال بلوتارخ ليصفها بالخرافة التي "تزرع الخوف من معاناة أبعد وأطول من الحياة نفسها" مع مفهوم الجحيم الذي وسَّع أفق مخيلة أتباع تلك الخرافة: تفتح بوابات الحاوية إلى العالم السفلي على مصراعيها، أنهار من النار وفروع من الستيكس تختلط ببعضها، يعمُّ الظلام مع خيالات للعديد من الأشكال الغريبة التي تهاجم ضحاياها بهيئات مرعبة وسيماء كالحة وهي تصدر أصواتًا مخيفة ومليئة بالألم، وبجانب كل هذا، ترى قضاةً وجلاَّدين ومعاقِبين يفغرون، الخلجان والأعماق السحيقة تعجُّ بالبلاوي والأهوال والويلات. هذه الخرافة التعيسة والمقيتة، من خلال غلوِّها ومبالغتها في التحذير من المحاولة لتفادي كل شيء يوحي بالفزع والهول، تعرِّض نفسها بشكل غير متعمَّد ومن دون قصد لجميع أشكال الأهوال وعظائم الأمور[4]. ينبغي الاعتراف بأنَّ بلوتارخ لم يحدِّد المسيحية بالاسم أو يذكر يسوع بالتحديد، لكن كافة الإشارات والأوصاف تشير إليها، والعلاقة واضحة وضوح الشمس. هذا كل ما لدينا من أخبار من مؤرِّخين غير مسيحيين تحدَّثوا عن يسوع حتى عهد ماركوس أوريليوس الذي انتهى في عام 180م. والقسم الأكبر من تاريخ المسيحية تمَّت كتابته بعد هذه الفترة، لكن في الواقع لم يُشِر إلى المسيح بالاسم سوى مؤرِّخين رومانيين هما تاسيتوس وسوتونيوس، وقد فعلا ذلك فقط لتعريفه كمخترع لخرافة مذهبية توصف بالمسيحية. إذن، لفهم دور المسيح ما علينا إلا أن نرجع إلى الأناجيل الأربعة ورسائل القديس بولس. والحال أنه ليس هناك أيَّة مصادر موثوقة يمكن اعتمادها كأساس لمعلومات فعلية. رسائل بولس المكتوبة في فترة أبكر لا تقول الكثير حول سيرة حياة المسيح ولا تقتبس أقواله بشكل فعلي. كما أنها لا تشير إلى معجزاته، تعاليمه الأخلاقية، أو حتى مولده، ما عدا إشارة بولس في سفر رومية أنَّ المسيح "مِن نَسلِ دَاوُدَ مِن جِهَةِ الجَسَدِ" [1: 3]، والتي من الواضح أنها تناقض التأكيد بأنَّ المسيح كان بذرة زرعها الرب مباشرةً في رحم مريم كما جاء في إنجيل كل متَّى ولوقا. علاوةً على ذلك، هناك فترة زمنية تتجاوز جيلاً كاملاً أو جيلين على الأقل تفصل بين لحظة وفاة المسيح وزمن كتابة الأناجيل. الإنجيل الأول، مرقص، كتب بعد مرور حوالي ثلاثين عامًا على صلب المسيح، أمَّا الأناجيل الأخرى فكتبت بعد ذلك بفترة طويلة، فإنجيلي متى ولوقا كتبا بعد ذلك بما لا يقل عن أربعين عامًا، أمَّا إنجيل يوحنَّا بستين عامًا على الأقل. والأمر المثير للدهشة والعجب هو أنَّ بعض المعلومات السِيَرية المتوفرة في الأناجيل تتجاوز أقوال المسيح ومعجزاته. وليس هناك أي إشارة واضحة على الفترة التي مرَّت منذ بداية مسيرته النبوية كنبي حتى لحظة صلبه – ربما كان سنة، أو ثلاث سنوات أو حتى خمسة. علاوةً على ذلك نجد أنَّ الأناجيل تناقض بعضها الآخر باستمرار. حيث تمَّ العثور على ما بين 150000 إلى 175000 تناقض فيما بينها[5]. والأهم من ذلك، اثنان من الأناجيل فقط، متى ولوقا، يشيران إلى مولد المسيح، وهناك اختلافات جذرية بين الروايات التي يرويانها. والمشكلة نفسها تحدث مع حادثة بعث المسيح وعودته إلى الحياة، فهناك العديد من الاختلافات الفعلية في التسلسل والأشخاص المشاركين في هذا الحدث والمرتبطين به خلال الأيام الثلاث الأخيرة من حياة المسيح (أو ربما لم تتجاوز الحادثة مدَّة اليوم ونصف اليوم؟) بين لحظة صلبه وصعوده إلى السماء، حيث أنَّ هذه الشهادة بكاملها سترفض من قبل أيَّة محكمة قانونية في هذا العصر[6]. ضمن مجتمع مثقَّف ومتعلِّم حيث تمَّ نشر هذه الأناجيل وتوزيعها بسهولة نسبية، يمكن ترجمة هذا التشويش والارتباط بأنه يوحي بالأصالة، لكن في مجتمع لم يتثقَّف بعد فإنَّه يوحي بوجود عملية تناقل شفهي للخبر خارجة عن السيطرة. حتى العلماء المسيحيون الأكثر احترامًا وسمعةً حسنة يعترفون بصعوبة إثبات أي شيء جوهري بشأن المسيح، وذلك مردُّه إلى التناقضات والاختلافات بين الأناجيل. راندل هيلمس يقتبس أقوال أربعة من هؤلاء العلماء في مقدِّمة كتابه من كتب الأناجيل[7]، ومن ضمنهم اثنان من ألمع كتَّاب سيرة المسيح المعاصرين، كروسَّان ومييَر: روبرت فنك: العلماء الإنجيليين لم يقدروا على حسم مسألة ما إذا كانت الروايات والقصص الكتابية تروي أحداثًا حقيقية أو خيالية. ولم يقدروا على تحديد أيها الحقيقي وأيها الخيالي. الاختبار هنا بسيط للغاية: هل القصص المصوَّرة في الإنجيل قد حدثت فعلاً؟ هل الأناجيل خيال أم سيرة واقعية؟[8] جون كروسَّان: لكن لا يمكننا صرف [إعادة بناء] أو البحث عن يسوع التاريخي كعملية إعادة بناء، وكأن إعادة البناء أبطلت كامل المشروع بشكل ما. لأنه ليس هناك سوى إعادة بناء[9]. جون مييَر: ما تقوم به الأناجيل ضمنيًا [يتضمَّن] ادِّعاء تقديم الحقيقة حول بعض الأحداث التي وقعت (من وجهة نظر الإنجيليين) في التاريخ البشري الحالي. هذه المزاعم حول الحقيقة، في الواقع الفعلي، قد تكون صحيحة وقد لا تكون. لكن أيَّة طريقة نقدية لا تستطيع معالجة الادِّعاءات الأساسية المتأصِّلة في الأدب الإنجيلي تكون قد فوَّتت جزءًا كبيرًا ممَّا كانت تدور حوله الأناجيل بوصفها بروباغندا دينية إغريقية-رومانية في القرن الميلادي الأول[10]. رودولف بلتمان: [إنَّ أي إنجيل هو]... مصدر أساسي للحالة التاريخية التي خرج منها، وهو مصدر ثانوي للتفاصيل التاريخية للحالة التي يمدُّنا بالمعلومات عنها[11]. وحتى الإنجيل حسب رواية يوحنا يعترف بأنَّ الدقة لم تكن ذات أهمية لإقناع الأتباع: 30 وآياتٍ [معجزات] أخرى كثيرةً صنع يسُوعُ قُدَّامَ تلاميذه لم تكتب في هذا الكتابِ. 31 وأمَّا هذه فقد كُتبَت لتؤمنوا أنَّ يسُوعَ هوَ المسيحُ ابنُ اللهِ، ولكي تكُونَ لَكُم إذا آمنتُم حياةٌ بِاسمِهِ. [يوحنا 20: 30-31] بمعنى آخر، اعترف يوحنَّا بأنَّه شعر بالحرية لإقصاء المعلومات وعدم الحاجة إليها، قاصرًا نصَّه على الروايات والقصص التي تعزِّز الإيمان وتقوِّيه. بمعنى آخر، هناك دليل إيجابي صغير يثبت الوجود التاريخي للمسيح، لكنه يكفي فقط لتبرير هذا الافتراض. لقد أشار كل من تاسيتوس وسرتونيوس إلى المسيح، بغضِّ النظر عن سطحية وصفهما، ومهما كان يوحنا واثقًا من وجود المسيح عندما أعلن عن نيته في وصف انتقائية المسيح من أجل تحسين صورته. في الحقيقة كل هذا مردُّه إلى ثقته بالوجود البشري للمسيح بالإضافة إلى دوره كابن للرب أرسله لنشر دعوته والتبشير بها بأحسن طريقة ممكنة. في بدايات عام 1913، وبشكل ملحوظ تمامًا، قام الباحث الميثولوجي والموقر السير جيمس فريزر بإكمال المجلد السادس من موسوعته الغصن الذهبي[12] حيث كتب يقول فيه: ظلال الشك الملقاة حول الحقيقة التاريخية للمسيح هي في رأيي لا تستحق منَّا كل هذا العناء والاهتمام[13]. وبالتأكيد فإنَّ أغلب العلماء اليوم يقبلون بالوجود التاريخي للمسيح، بغضِّ النظر عن وضعه وحالته الأسطورية أو اللاهوتية. ولايسعنا إلا أن نتوصَّل إلى نتيجة مفادها، حسب تعبير جوزيف مكَّابي: أنه من المحتمل أو بالتأكيد كان هناك نبي يهودي، ثائر ومتمرِّد ضدَّ الديانة الرسمية لقومه، تمَّ إعدامه في القدس، وليس هناك أيُّ مصادر أخرى موثوقة يمكن اعتمادها كأساس لمعرفتنا عنه[14]. على أيَّة حال، تبقى مشكلة واحدة وهي من أصعب المشكلات التي تواجهنا في قبول واقعية قصَّة المسيح: تتلخَّص في تشابهها مع قصص وروايات الأديان التي سبقتها والتي من الواضح أنها مجرَّد أساطير. المسيح نفسه يبدو حيًا في الأناجيل، لكن أهم الأحداث التي وقعت في حياته هي نسخة عن قصص لآلهة وثنية كانت تُعبَد في نفس الفترة – في الحقيقة كانت عبادة هذه الآلهة تنافس ديانة المسيح خلال القرنين الثالث والرابع. إذن، فإنَّ كافة إنجازات المسيح تبدو أنها كانت تحقُّقًا مستنسخًا لجميع الحاجات والضرورات التي كانت منشودة في قصص هذه الشخصيات الدينية الوثنية والتي من الواضح أنها كانت أسطورية وخرافية. والجميع سيتَّفق على أنَّ: تلك الآلهة الأخرى كانت من صنع المخيلة، لكن قصَّة يسوع (والتي جاءت بعد هذه القصص بفترة طويلة في التاريخ القديم) قد جاءت إلى الأرض ويمكن اعتبارها حقيقية بالكامل. وهذا على الأرجح يساعد على تفسير التحوُّل الهائل الذي حدث من الديانات الوثنية إلى المسيحية. ونستنتج من هنا أنَّ حياة المسيح وإنجازاته العظيمة والهائلة كانت نتيجة النزعة البربرية وأكل لحوم البشر من جهة المسيحيين المتأخرين الذين استعاروا من الديانات الأخرى كلَّ ما لبَّى وأشبع حاجتهم الماورائية مهما يكن، والذي تمَّ دمجه لاحقًا مع الدعوة الماورائية للمسيح. المضحك في الأمر، أنَّ المدافعين اللاهوتيين المسيحيين في القرن الثاني للميلاد جاستن الشهيد وترتوليان دافعا عن هذا التشابه بين الطوائف والديانات الوثنية وبين المسيحية لكن أضافا حجَّة أنَّ الشيطان حاول الإيقاع بالمسيحية وبذلك قام بتغييرها وتحريفها لتحاكي ديانات وثنية وذلك لإدخال الارتباك والحيرة والشك في قلوب المسيحيين المؤمنين. بمعنى آخر، كان الشيطان يتشارك مع الرب قدرته كعالم بكل شيء، لذا كان قادرًا على محاكاة الآلهة والإلهات المبكرة التي تشابهت قصصها مع قصة المسيح بهدف إرباك المؤمنين المسيحيين بفرض احتمال عبثي بأن يكون المسيحيين قد استعاروا من ديانات وثنية سابقة، وليس العكس. ربما قد يكون الأمر كذلك، لكن التفسير الأبسط سيكون في أنَّ المسيحيين قد قاموا فعلاً باستعارة وتزيين القصص الوثنية ليضفوا على يسوع نوعًا من الحالة التنافسية مع الآلهة التي كانت معبودة من قبل معاصريهم. في الواقع تحوَّلت المسيحية إلى وثنية بهدف تحويل المؤمنين الوثنيين. لكن لأي مدى بلغت في وثنيتها؟!! هذا هو السؤال الرئيسي... الاستعارات من هذا النوع كانت ممكنة في ذلك الوقت، كما سبق وقلنا: 1. بما أنَّ قصَّة يسوع تمَّ تناقلها بشكل حصري عن طريق التراث الشفهي لأكثر من ثلاثين عامًا وقد تصل إلى المئة عام (أو ما يسمَّى بالعصر الرسولي)، 2. بما أنَّه كان هناك ازدهار ملحوظ لتشكيلة واسعة ومتنوِّعة من الديانات الوثنية في ذلك الوقت، و 3. بما أنَّ جميع الديانات قد أخذت من بعضها وتبادلت الأفكار فيما بينها عن طريق ما يسمَّى بـ"الحركة التوفيقية" syncretism و"الاختلاط المتبادل" theocrasia حيث استعارت المفاهيم والدوافع من بعضها البعض حيثما أمكن ذلك. من بين هذه الديانات العديدة، وكل واحدةً منها تمتلك مزاعمها الخاصة المتعلِّقة بصحَّتها وصلاحيتها، كانت المثرائية، المانوية، الغنوصية، والعبادات المنفصلة (ديانة تؤمن بإله سامٍ، إذا لم تكن توحيدية بالكامل) لهيراكليس، سيبيل، إيزيس، أوزيريس، أورفيوس، ديونيسوس، والإله سيرابيس كانقسام منفرد بعد أن جرت عملية دمج بين أوزيريس وديونيسوس. أمَّا الديانة اليهودية فإنَّها قد تجنَّبت إلى حدٍ بعيد هذه السوق الدينية التنافسية بين الديانات. والحال أنَّه كان هناك تماثل كبير وكافٍ بين المسيحية والديانات الوثنية في زمن المسيح حيث لا يسعنا سوى التوصُّل إلى نتيجة مفادها أنَّ الديانة المسيحية، كغيرها من باقي الديانات والفرق والألغاز، "نمت عن طريق امتصاص الأفكار اللاهوتية المنافسة ودمجها"[15]. بالإضافة إلى النجاح الذي حقَّقته الديانة المسيحية في منحها يقينًا ملموسًا للأساطير الوثنية، أود أن أضيف هنا أنَّها خلقت التوازن الصحيح بالضبط بين اليهودية وعبادة الخصب عند الوثنيين والتي كان الطلب عليها أوسع بكثير بين الجماهير. وبشكلٍ خاص، يبدو أنَّ المسيحية ربطت بين الهوس الأخلاقي عند اليهودية وبين عبادة مختلف آلهة البعث الربيعية الشرقية المتوسطية وبين الإسكاتولوجيا الزرادشتية [أو دراسة المفاهيم الأخروية عند الديانات كالبعث ويوم القيامة والحساب والجنة والنار وما إلى هنالك. المترجم] والتي أكَّدت على وجود صراع كوني عظيم بين الخير والشر وقرار يوم الحكم الأخير [يوم القيامة] بين أولئك الذين سيرسلون إلى الجنة والنار. وكنتيجة لذلك، يمكن عبادة يسوع المسيح على أنَّه المسيَّا اليهودي (كما جرى التنبُّؤ به في سفر إشعيا 7: 14، ميخا 5، وزكريا 9:9)[16] الذي مات وجرى بعثه (كديونيسوس، أوزيريس، وباقي الآلهة)، ثمَّ صعد إلى السماء ليحكم إلى جانب الرب في يوم القيامة (كما تنبَّأ زرادشت). كما أنَّ هناك عملية تثليث توفيقية تمَّ إدخالها: النبوءات اليهودية عن المسيَّا، التضحية الوثنية من أجل الخصوبة، والإسكاتولوجيا الفارسية. وقد نجح الأمر – لكن ظل ليس حقيقًا بالضرورة. لإزالة كافة هذه الترسُّبات الوثنية والتخلُّص منها للوصول إلى لبِّ الديانة المسيحية، سأجادل أنَّه من المهم جدًا حسم استعاراتها التوفيقية كعملية ترويج معيدة وفعَّالة خلال القرون الثلاثة أو الأربعة التي تلت صلب المسيح. سواء كان "دَين" المسيحية لهذه الديانات الوثنية عرضًا أم لا، فإنَّ الفكرة الرئيسي في جدلي هنا هي أنَّ دافعها ليس أقل أسطورية من دوافع تلك الديانات، وستتمُّ معالجتها والتعامل معها على هذا الأساس. وهذا ينطبق بشكلٍ خاص على ميلاد المسيح من عذراء، معجزاته، عشائه الأخير، وأخيرًا، وليس آخرًا، موته وبعثه. من خلال منهج الاختزالية الفكرية أو التخيلية Eidetic Reductionism، وهو مفهوم من مفاهيم الظاهراتية لهوسرل والتي يمكن تطبيقها هنا، أقترح أنَّنا يجب أن نسعى وراء جوهر المسيحية من خلال إقصاء جميع هذه الخصائص والسمات المحدَّدة من اعتبارنا والمشتركة مع العبادات الوثنية في الوقت الذي ظهرت في المسيحية لأول مرة. والأهم في هذه العلمية هو التشابه مع المثرائية، وهي الديانة التي سادت في روما لأكثر من قرن كامل من الزمن قبل اعتناق الإمبراطور قسطنطين للمسيحية خلال العقد الأول من القرن الرابع للميلاد. هناك الكثير من هذه التماثلات، وينبغي استبعادها كلها بصفتها استعارات محتملة. وهذا يشبه إلى حدٍّ كبير أو ضئيل ما حاوله تولستوي في عمله التوفيقي تعاليم يسوع، وسنقوم بالأمر نفسه. والسؤال لم يعد ما إذا كانت قصة المسيح أسطورة، بل كيف وإلى أي مدى، وما الذي بقي لدينا عندما تمَّ استبعاد الأسطورة وإسقاطها؟ إذن، ما الذي يبقى من المسيحية إذا عرِّيناها من التماثلات والمصادر الوثنية؟ أقل بكثير ممَّا نتوقَّعه. وفي الواقع، يقول البعض، لا شيء على الإطلاق. فالمسيحية كانت ثانوية بالكامل. وحتى مضمونها اليهودي كان مستعارًا. يقول جوزيف مكَّابي، على سبيل المثال: ولا واحدة من الآراء والأفكار الدينية [الأناجيل] المنسوبة ليسوع يمكن اعتبارها أصيلة أو مبتكرة[17]. هومر سميث يجادل بطريقة مماثلة بأنَّ الطقس فوق الجبل ربما مأخوذ من الكتاب الذي بات مفقودًا الآن (Logia أو نص Q) لأقوال المسيح التي تناقلها أتباعه، لم يكن شيئًا أكثر من عمل تجميعي توفيقي من المزامير، سفر إشعيا، كتاب سيراخ، أسرار إنوخ/ إدريس، كتاب شمعون ليسره (كتاب صلوات عبرية)، ومصادر أخرى[18]. لكن، مرةً أخرى، يتوجَّب عليَّ دعم إمكانية وجود المسيح، وأعتقد حرفيًا من خلال اعتباري وتقديري لنجاحه الباهر في نشره وترويجه لأخلاقه بكثافة وزخم لم يسبق لهما مثيل في أي مكان – وأيضًا تفنُّنه المذهل – وخواصَّه الفريدة التي تميِّزه ككائن بشري ("ابن الإنسان"، ليس أكثر) ليس أقل تعقيدًا وفرادةً من أفلاطون، شيشرون، أو أي كاتب ومفكِّر وحكيم قديم. المسيح الذي أميِّزه في نهاية الأناجيل الأربعة من غير الممكن اختراعه أو ابتكاره من قبل هيئة أو تجميعه وتلفيقه بعملية ابتكار ذكية. لقد كان حقيقيًا – لكن ربما بشكل قد لا يريح أغلب المسيحيين. حكم المسيح وأقواله وأمثاله مذهلة بحق، كما هي قدرته على الإقناع الأخلاقي، لكني مندهشٌ أيضًا ببذخه العدواني السلبي في مكافأة البراءة الصافية ببركة أبدية، في الوقت الذي يودع فيه أغلب الجنس البشري على حدٍّ سواء في الجحيم إلى الأبد – وحتى أولئك الذين يحملون في رؤوسهم أفكارًا فظيعة أو الذين يجرؤون ولو لمرة واحدة على إهانة شخص آخر ولو بكلمة غير مؤذية. "أيها الجهَّال والعميان" كان الإنسان ليعاقب في الجحيم إلى الأبد على هكذا تعبير، لكنه مع ذلك يستخدمه بنفسه مرتين ليصف به الفريسيين مرة (متى 23: 17) والماموسيين "يا أغبياء" (لوقا 11: 40). والأمر المدهش أنَّ الإنسان لا يستطيع أن ينظر إلى الآخرين نظرة شهوة (وهذا ما يفعله أغلبنا معظم الأوقات). فمن الأفضل أن نقطع أطرافًا منًّا – أعيننا، أيدينا، أو أي شيء آخر – على أن نخاطر بالسقوط في الجحيم إلى الأبد: قد سمعتم أنَّه قيل للقدماء: لاَ تَزنِ. 28 وأمَّا أنا فأقول لكم: إنَّ كلَّ من ينظرُ إلى امرأةٍ ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبهِ. 29 فإن كانت عينكَ اليمنى تعثركَ فاقلعها وألقها عنك، لأنَّهُ خيرٌ لكَ أن يهلكَ أحدُ أعضائكَ ولا يلقى جسدكَ كلُّهُ في جهنَّم. 30 وإن كانت يدك اليمنى تعثركَ فاقطعها وألقها عنكَ، لأنَّهُ خيرٌ لك أن يهلكَ أحدُ أعضائكَ ولا يلقى جسدكَ كلُّهُ في جهنَّم. [متى 5: 27-30] مرةً أخرى، نلاحظ وجود عدائية سلبية تظهر نفسها؛ فهو يأمر بالحب والإحسان والصدقة، أو الجزاء يكون النار إلى الأبد. ويستمرُّ في طمأنته لنا بأنَّ الطريق إلى الجنَّة مضمون، لكنه ضيِّق – باستثناء قلَّة يستطيعون اجتيازه. لكن الأمر الأكثر إزعاجًا هو أنَّ المسيح رفض العائلة بالفعل، تمامًا كما تخلَّى شكسبير عن آن هاثواي، وكان برتراند رسل يمتلك أربع زوجات وخليلات لا يمكن إحصائهنَّ. بالنسبة لأغلبنا، العائلة أمر مهم جدًا – لا بل إنها أهم شيء على الإطلاق. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للمسيح، الذي تحتل العائلة بالنسبة له مكانًا ثانويًا بعد الدين، و– كما حذَّر ميلتون فيما يتعلَّق بالحقيقة – في إحدى المرَّات أنزل من منزلة الزواج ليصبح أبعد من المرتبة الثانية بكثير. وتمامًا كما تلوَّى جورج دبليو بوش بغبطة في نقاشه الثاني عندما تكلم عن إعدام ثلاثة مساجين (وقد تبيَّن أنهما اثنان) بتهمة ارتكابهما جريمة قتل، فقد تكلَّم المسيح بنفس الحماس غير المعتاد عندما تحدَّث عن ترك المرء لعائلته وأهله في سبيل الدين. وهذا كان خيار المسيحي في عمل بونيان "Pilgrim's Progress"، وذلك من أجل الفوز بالحياة الأبدية في الجنة: لذا رأيت في منامي أنَّ الرجل بدأ يركض. والآن لم يخطو خطوة واحدة أبعد من عتبة داره، لكن زوجته وأولاده، يدركونه، ويأخذون بالبكاء عليه لكي يعود، لكن الرجل يضع أصابعه في أذنيه، ويجري مبتعدًا، وهو يصرخ ويبكي: حياة! حياة! حياة أبدية! لذا لم ينظر إلى الخلف، لكنه اندفع نحو الأمام إلى وسط السهل. ومن هنا تبدأ الحبكة حيث يهرب المسيحيون من العائلة من أجل الفوز بالدخول إلى الجنة. والشيء نفسه قيل في إنجيل متى حيث جادل المسيح أنَّ: لا تظنُّوا أنِّي جئتُ لألقي سلامًا على الأرضِ. ما جئتُ لأُلقيَ سلامًا بل سيفًا. 35 فإنِّي جئتُ لأُفرِّق الإنسانَ ضدَّ أبيهِ، والابنةَ ضدَّ أُمِّها، والكنَّةَ ضدَّ حماتها. 36 وأعداءُ الإنسان أهلُ بيته. 37 من أحبَّ أبًا أو أمًّا أكثرَ منِّي فلا يستحقُّني، ومن أحبَّ ابنًا أو ابنةً أكثر منِّي فلا يستحقُّني، ومن لا يأخذُ صليبهُ ويتبعني فلا يستحقُّني. [متى 10: 34-39] قد يستغرب البعض كيف يمكن للمسيح أن يكون مدركًا لأهمية الصليب بشكلٍ جيد قبل أن يصلب، لكن الرسالة سهلة وواضحة: هي أنَّ المسيح كان يريد تفكيك العائلات بغية تحقيق الخلاص لأتباعه. إنَّ محبَّة المسيح كانت أكثر أهمية من محبَّة الأقرباء والأهل. وهذه حالة مميَّزة جدًا من جنون العظمة موجودة ضمن هذه الكلمات. لكن المسيح تحدَّث بشكلٍ مقتضب أكثر في إنجيل لوقا: إن كان أحدٌ يأتي إليَّ ولا يبغضُ أباهُ وأُمَّهُ وامرأتهُ وأولادهُ وإخوتهُ وأخواتهِ، حتَّى نفسهُ أيضًا، فلا يقدرُ أن يكونَ لي تلمِيذًا، ومن لا يحملُ صليبهُ ويأتي ورائي فلا يقدرُ أن يكونَ لي تلميذًا. [لوقا 14: 26-27] ومرةً أخرى، يجادل المسيح في إنجيل متى: 29 وكلُّ من تركَ بيوتًا أو إخوةً أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًّا أو امرأةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي، يأخذ مئةَ ضعفٍ ويرثُ الحياة الأبديَّة. [متى 19: 29] ثم في نفس الإنجيل "متى" عندما يطلب أحد التلاميذ العودة إلى عائلته ليحضر جنازة والده، يجيبه المسيح: "اتبعني، ودعِ الموتى يدفنُون موتاهم" [متى 8: 22]. في إنجيل متى، عندما يعيد المسيح تأكيد رفضه للطلاق[19] بحجَّة أنَّ "الذي جمعه الله لا يفرِّقه إنسان" سأله تلاميذه عن السبب في دفاعه وهجومه على مسألة الزواج في آنٍ معًا، وقد برَّر المسيح ازدواجيته هذه من خلال قوله أنْ "ليس الجميع يقبلون تعاليمه"، لكن تمامًا كما أنَّ هناك خصيان منذ ولادتهم وخصيان هم كذلك نتيجة خيار الآخرين. إذ يمكن للمسيحي أن ينال الخلاص من دون أن يكون خصيًا، فكلاهما – المسيحي والمخصي – بإمكانها الالتزام بهذه الحالة، وكلاهما لديهما فرصة جيدة لنيل الخلاص والحياة الأبدية في الجنة. هذه كلمات قاسية جدًا؛ إمَّا أن تخصي نفسك أو تتعلَّم كيف تفكِّر وتتصرَّف كشخص مخصي، لتضمن الخلاص. لكن ما هذا الخلاص؟ وماذا عن فضيلة الزواج وإنجاب أولاد وتربيتهم؟ حتى أنَّ المسيح قام باستبعاد الزواج من الجنة في إنجيل متى "لأنَّهم [الأزواج والزوجات] في القيامةِ لا يزوِّجون ولا يتزوَّجونَ، بل يكونون كملائكة الله في السَّماء" [متى22: 30]. لماذا كل هذه المعاداة للزواج؟ ألا يدفعنا ذلك للشك في أنَّ يسوع كان يعاني من مشاكل مع عائلته الخاصة، وترد إشارة على ذلك في نفس الإنجيل: 46 وفيما هو يكلِّم الجموع إذا أمُّه وإخوتهُ قد وقفوا خارجًا طالبين أن يكلِّموه. 47 فقال له واحدٌ: «هوذا أمُّك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلِّموك». 48 فأجاب وقال للقائل له: «من هي أمِّي ومن هم إخوتي؟». 49 ثمَّ مدَّ يده نحو تلاميذه وقال: «ها أمِّي وإخوتي. 50 لأنَّ من يصنع مشيئة أبي الَّذي في السَّماوات هو أخي وأختي وأمِّي». [متى 12: 46-50] من هو ذلك الشخص الذي يترك عائلته يقفون عند عتبة الباب، العتبة التي لا يستطيعون تجاوزها للدخول. إنَّ إشارة يسوع الوحيدة إلى العائلة التي تربى في كنفها وردت في سفر متى عندما قال لتلاميذه: "ليس نبيٌّ بلا كرامةٍ إلاَّ في وطنه وفي بيتهِ". [متى 13: 57]. إذن هنا نقطة أساسية أخرى في تعاليم المسيح التي تحرِّك فضولي التفسيري. فهناك تركيز كبير جدًا على إسكاتولوجيا الجحيم والعقاب – وخصوصًا في إنجيل متى – كما أنَّ هناك تركيز شديد على رفض العائلة وإنكارها من أجل قيم وأهداف روحية. ما هي الصلة التي تربط هذين الهوسين مع بعضهما؟ نحن لا نمتلك الوقت والمكان الكافيين لتناول هذه المسألة بالتحديد، لكنها تؤكِّد ما أصبو إليه: 1. أنَّ رؤيا المسيح كانت في النهاية نتيجة الكاتب نفسه وليس نصِّه (وهذا معناه أنَّ المسيح كان موجودًا بالفعل ككائن بشري)، و 2. أنَّ نصَّه أفلت التنقيحات التحريرية الفعَّالة بما يكفي للتخلُّص من العواطف والمشاعر الخارجة عن السيطرة جزئيًا (والتي تنزع لتأكيد حقيقة أنَّ أكثر أفكار المسيح قسريةً هي من بنات أفكاره الخاصة). بمعنى آخر، المسيح نفسه قفز من فوق القمَّة كما فعل كل من أفلاطون، شكسبير، وعلى الأرجح العديد غيرهم في تاريخ الحضارة الغربية. من المؤكَّد أنَّ المسيح كان موجودًا، لكن آراءه يجب أن تعرض بعناية وأن تُغَربَل بحذر شديد مقارنةً مع تجربته الخاصة. معظم تعاليمه مفيدة وصالحة بالتأكيد، لكن هناك تعاليم أخرى خطيرة ومؤذية بالنسبة لأغلب الناس. ختامًا، يمكننا استنتاج ما يلي: أنا نفسي لا أستطيع تقبُّل فكرة ألوهية المسيح، ولا الإسكاتولوجيا الخاصة به والتي تبشِّر بالجحيم والعذاب الأبديين، كما لا يمكنني قبول أخلاقه القائمة على الخوف، إذ أني لا أوافق على المبادئ الأخلاقية القائمة على الثواب والعقاب في حياة خيالية أخرى. وبصراحة أنا مروَّعٌ من عدوانيته تجاه الدين، والتي لا يستطيع تجاهلها والتغاضي عنها إلا كل مسيحي أعمى القلب والبصيرة. لكني ما زلت مأخوذًا بعبقرية المسيح الفذَّة والتي تمثَّلت في تمكُّنه من تشكيل وصياغة رؤية لالتزام شخصي ضروري وهام جدًا لتاريخ الحضارة الغربية اللاحق. شاب أعزب وبمفرده، في بدايات مسيرته على الأقل، سعى لتحقيق إنجازات حضارية قريبة من العلمانية، ممهِّدًا الطريق للدخول في عصور مظلمة ووسطى، وفي الصراع الديالكتيكي بين الاعتقاد الأرثوذكسي واللااعتقاد العلماني خلال القرون الأربعة الأخيرة. ترجمة: إبراهيم جركس *** *** *** [1] انظر مكابي، ص 334-5. [2] بيسانت، ص 193-94. [3] السجلاَّت، كتاب xv، المقطع 144، مكتوب حوالي عام 107 ب.م. [4] الأخلاق، كتاب بلوتارخ، المجلد الثاني، ص 467. [5] سميث، ص 180. مينكين، ص 220. [6] انظر: س. دينيس مكينسي، موسوعة القصص والمغامرات الكتابية، ص 29. C. Dennis McKinsey, The Encyclopedia of Biblical Errancy. للاطلاع على قائمة من عشرة أمثلة الأكثر سطوعًا. [7] Randel Helms, Who Wrote The Gospels. [8] روبرت فنك، من مقالة نشرت في عام 1997 بعنوان في تمييز الخيال التاريخي عن القصَّة الخيالية. Robert Funk, On Distinguishing Historical Fiction from Fictive Narrative, 1997. [9] جون كروسَّان، يسوع التاريخي، ص 426. John Crossan, The Historical Jesus [10] جون مييَر، يهودي هامشي، ص 418-419. وأكرِّر للضرورة والتأكيد: "مزاعم حول الحقيقة" بدلاً من "حقائق"، وعبارة "بروباغندا دينية إغريقية-رومانية في القرن الميلادي الأول"! John Meier, A Marginal Jew, pp. 4198-19 [11] رودولف بلتمان، الوجود والإيمان، 1960، ص 38. Rudolph Bultmann, Existence and Faith (1960) [12] James Frazier, The Golden Bough [13] انظر: مكَّابي، موسوعة العقلاني، ص 333-35. Joseph McCabe, A Rationalist Encyclopedia [14] المرجع السابق، ص 332. [15] Smith, p. 181 [16] "ولكن يعطيكم السَّيِّدُ نفسه آيةً: ها العذراءُ تحبلُ وتلد ابنًا وتدعو اسمهُ «عمَّانوئيل»". [إشعيا 7: 14] "أمَّا أنت يا بيتَ لحمِ أفراتة، وأنت صغيرةٌ أنْ تكوني بين ألوف يهوذا، فمنكِ يخرج لي الَّذي يكونُ متسلِّطًا على إسرائيل، ومخارجهُ منذُ القديم، منذُ أيَّام الأزل" [ميخا 5: 2]، "اِبتهجي جدًّا يا ابنة صهيوْنَ، اهتفي يا بنت أُورشليم. هوذا ملككِ يأتي إليك. هو عادلٌ ومنصورٌ وديعٌ، وراكبٌ على حمارٍ وعلى جحشٍ ابنِ أتانٍ" [زكريا 9:9.] [17] McCabe, p. 332 [18] Homer Smith, p. 186 [19] وجاء إليه الفرِّيسيُّون ليجرِّبوه قائلِين له: «هل يحلُّ للرَّجل أن يطلِّق امرأتهُ لكلِّ سببٍ؟» 4 فأجاب وقال لهم: «أما قرأتم أنَّ الذي خلق من البدءِ خلقهما ذكرًا وأنثى؟ 5 وقال: من أجل هذا يترك الرَّجل أباهُ وأمَّهُ ويلتصق بامرأتهِ، ويكون الاثنان جسَدًا واحدًا. 6 إذًا ليسا بعد اثنين بل جسدٌ واحدٌ. فالذي جمعه الله لا يفرِّقه إنسانٌ». 7 قالوا له: «فلماذا أوصى موسى أن يُعطَى كتابُ طلاق فتُطَلَّق؟» 8 قال لهم: «إنَّ موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلِّقوا نساءكم. ولكن من البدءِ لم يكن هكذا. 9 وأقول لكم: إنَّ من طلَّق امرأته إلاَّ بسبب الزِّنا وتزوَّج بأخرى يزني، والذي يتزوَّج بمطلَّقةٍ يزني». 10 قال له تلاميذه: «إن كان هكذا أمر الرَّجلِ مع المرأة، فلا يوافق أن يتزوَّج!» 11 فقال لهم: «ليس الجميع يقبلونَ هذا الكلام بل الذين أُعطِيَ لهم، 12 لأنَّه يوجد خصيَانٌ وُلِدُوا هكذا من بطون أمَّهاتهم، ويوجد خصيَانٌ خصَاهُمُ النَّاسُ، ويوجدُ خصيَانٌ خَصَوا أنفسهم لأجل ملكوتِ السَّماواتِ. من استطاع أن يقبل فليقبل». [متى 19: 3-12] |
|
|