الــحــرب

رالف والدو إمرسون٭

 

أن يبدوَ مشروعُ السلامِ غايةً بعيدة المنال لفئة كبيرة من العقلاء؛ وأن تجده مجموعةٌ أخرى من الناس مدعاةً للسخرية والضحك؛ أو يعتبره صاحب الوقار وحَسَنُ الخُلُق سبيلاً محفوفًا بالمصاعب العملية؛ فذلك أمر طبيعي جدًا. يقولون: "هوذا مجتمعك البائس، ولن يتمخض عنه خير قط. السلام! عمَّ تتحدث؟ نحن جميعًا في حال سلام أصلاً. ولكن إن تعمَّدت أمة إهانتنا أو تجرأت على نهب قوافلنا أو، في أسوأ الأحوال، أوعزت لسفنها بأن ترسو على شواطئنا لتنهب وتسلب وتقتل، فلن تجد بيننا من سيقعد تحت وابل السرقة والذبح؟ إنك بذلك تخلط الأزمنة وتبالغ في تقدير فضائل الرجال. ولعمري أنك تنسى أنَّ المسالم الذي ينام قريرًا في مدينته، ويرقد في مزرعته تاركًا عربته دون حراسة وكوخَه دون قفلٍ، فهو إنما يفعل ذلك متكئًا على مبدأ قبله كافة الرجال: أنِّ بارودَ البندقية وحبلَ المشنقة وقضبانَ السجن ستكون هناك، متأهبةً دومًا وعلى أتم استعداد، لمعاقبة من ستسوِّلُ له نفسه تعكير هذا الصفو. الكلُّ يقرُّ بأن سياسة السلم هي الفضلى، ولكن فقط لو كان العالم بأكمله كنيسة، وكان الرجال فيه جميعًا خيرة الرجال، ولو أذعن سوادهم الأعظم لهذه القاعدة، ولكن من العبث لأمة واحدة أن تسعى لبلوغ ذلك لوحدها".

في المقام الأول، نجيب على ما سبق بأننا لا نولي بالغ اهتمامٍ لأي اعتراضٍ يحترم فحسب الحالة الحقيقية لعالمنا في اللحظة الراهنة من الزمن، وإنما لتلك المواقف التي تعترف بصلاح هذا المشروع في عمومه، وتقرُّ بتفوق هذه الرؤية في شكلها الدائم. فما هو نافعٌ يصير في النهاية حقيقةًَ، والحقيقية بدورها – أي ما هو في صالح الناس ويقبله سواد القوم – يجب أن تسود في نهاية المطاف، وتتفوق على العراقيل والاعتراضات كافة. فليس من خيرٍ ينعمُ به المجتمع اليومَ، إلا وكان يومًا مدعاة للجدل ومعرضًا للحوار والتفكير كما هي الحال مع مشروع السلام هذا، وإنَّ الميل لتحقيق المصلحة الحقيقية للإنسان هو ما يجعل هذه المصلحة غاية هذا الإنسان وهدفه الأسمى.

وعلى ذلك، فإنه لدرسٌ يعلِّمهُ التاريخُ للحكماء من الرجال أن يضعوا ثقتهم في الأفكار، لا في الظروف. لقد نشأنا جميعًا على مشهدٍ لفرقاطةٍ أو ثكنة عسكرية؛ لحصونٍ منيعة وجزرٍ حصينة؛ ولترسانات وميليشات. ويكفي أن تستعلم من أي مكتب خارجية ليحدِّثك عن آلاف بل ملايين الرجال تسوقهم أقدارهم إلى الجندية خدمةً للمصالح الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية أو روسيا أو النمسا أو فرنسا، فالمرء إذن يتهيب من التفكير في الكلفة الحقيقية للحفاظ على السلام في هذا العالم. هذا الجهازُ الهائل من العَتاد والأساطيل والمعاقل الحجرية والخنادق والأسوار المنيعة؛ وتلك الوتيرة الأزليةُ لخطى الفيالق العسكرية؛ والتلويح المتواصل للرَّايات الوطنية؛ ونفير استيقاظ الجند في الفجر؛ وهدير مدفع انصرافهم في الليل؛ وموسيقى الحرس التي تصدح دون توقف؛ والمسيرات العسكرية التي لا تلأى؛ والأغاني الحربية التي لا تكلُّ؛ كل ذلك يبدو وكأنه فريضةٌ لا مناص عنها، وواقعٌ لن يحيد عن مساره لقرون قادمة أمام بعض أصوات الاستهجان الخافتة لحفنةٍ قليلةٍ من دعاة السلام.

وهكذا، فلطالما كنا نتهيب من المظاهر فلا نرى أن قيمتها إنما تستقر هناك في القعر، في غيهب الحالة الذهنية. إن ما شيَّد هذه المؤسسة الحربية العتيدة كان محض فكرة، والفكرةُ أيضًا هي ما سيكون كفيلاً بإزالتها من الوجود. والحال أن كل أمة وكل إنسان إنما يحاصر نفسه مباشرة بجهازٍ ماديٍّ يتطابق وحالته الأخلاقية والذهنية. تأمَّلْ كيف أنَّ لكلِّ حقيقةٍ أو خطأ أصلٌ لفكرةٍ في ذهن إنسان، فكرةٌ تلبس ذاتها لبوس المجتمعات والمنازل والمدن واللغة والمناسبات والصحف. تأمَّل في الأفكار السائدة في زماننا هذا: من العقيدة، والشك، والتباشير، والتعليم العام، والاعتدال، والمناهج المناهضة للماسونية والرق، وانظر كيف جسَّدت كلُّ من هذه المفاهيم التجريدية نفسها في جهازٍ فرض ذاته في بنيان المجتمع، وكيف تدفَّقَ الخشبُ والطوب والصخر والجير في الشكل المناسب سمعًا وطاعةً لفكرة شاملةٍ وجدت مستقرَّهَا في أذهان العديد من الناس.

فقد تسمع ذات يوم عن خاطرةٍ عبرت خيالاً جامحًا لإنسانٍ ما في خضم تأمُّلاته السرية، من وحيِ قسمٍ سرِّي شائن. إرجع مرة ثانية، بعد عام أو اثنين، ولسوف ترى كيف تمخضت هذه الخاطرة عن أبنيةٍ عظيمةٍ من الخشب الصلب والطوب والملاط، ولسوف تشهد مائة من المطابع تصدر مليون صفحة، ولسوف ترى رجالاً وجيادًا وعجلات مسخَّرةً لتمشي وتجري وتَدرُج في سبيلها: لقد رُصد هذا البنيان المادي العظيم كلُّهُ لخدمة هذه الفكرة العتيدة الواحدة لهذا الإنسان. هذا الأمر يحدث بيننا يوميًا، وسنويًا، يحدث مع أنصاف أفكارٍ غالبًا ما تكون مصحوبة بكذبٍ أشر، أو جزءٍ من سياسةٍ أو فرضيةٍ ما. ومع رعايةٍ جدية، قد تصمد هذه أعوامًا ثلاثة أو أربعة قبل أن تختفي دونما أدنى أثر. ولكن عندما تتجلَّى حقيقةٌ ما – شأن تلك الرؤيا التي بَرَقت في ذهن كولومبوس حول جزيرةٍ في البحر الغربي، فكان وحده من بين سائر الرجال من آمن بها – فإن هذه الرؤيا سوف تبني سفنًا وأساطيل تحمل على متنها نصف بحارتها من إسبانيا والنصف الآخر من بريطانيا، ثم تغدو مستعمرةً، فدولةً، ثم أممًا، ثم تتحول إلى نصف كرةٍ جديدٍ يعجُّ ببني البشر.

إننا لنحاصرُ أنفسنا دومًا، بقدر ما نملك من قدرة وما نحوزه من حرية، بصورٍ حقيقيةٍ لأنفسنا في الأشياء، سواء كانت سفنًا أو كتبًا أو مدافع أو كنائس. فالجيش المستنفر، والترسانة، والمخيمات، والمشانق، كلها ليست ذات صلةٍ مباشرة بالإنسان، فهي ليست سوى مؤشرٍ يرينا أين هو الإنسان اليوم، وكم بلغ مزاجه من الجلف والجموح، وكم صار قبيحًا بين جيرانه، وإلى أيِّ درجةٍ أحجمت أوصاله عن المحبة، وإلى أيِّ دركٍ تدنَّت آمالُهُ. فمَنْ يهوى حدَّ الحربةِ لا يرى في شعاعها إلا ما كان يشعرُ به من قبلُ في خفاقةِ قلبه: إنه ذلك الطمعُ وتلك الكراهيةُ، وهي تلك الشفاهُ المرتعشةُ، وتلك النظرات الحاقدة الباردة، هي ما بنى مخازنَ الأسلحة وعنابر البارود.

والحق، أن أدنى تغييرٍ يصيب المرء يستتبعه بالضرورة تحول في ظروفه، سواء كان ذلك أقلَّ نموٍّ يمكن سبره في أفكاره، أو أدنى اهتزازٍٍ يصيب مشاعره في صلاته مع بقية الناس. أَنْ تلهِمَهُ على سبيل المثال شِغافُ رحمةٍ أو رأفةٍ تبرُّ بها أرواح البشر، فيشعر بأن كل إنسانٍ بات بالنسبة له ذاته الأخرى التي بمقدوره أن يلتحم معها كما تلتحم اليد اليسرى مع اليمنى. إن أيَّ درجة من درجات ارتقاء هذه المشاعر سوف يقابلها بالضرورة تغييرٌ صارخٌ في الظاهر من الأشياء: عندها سوف تُضربُ الخيام ويتقادم السن برجال الحرب على الشطآن، وستتلفُ الأسلحةُ من الصَّدأ، وتتحوَّلُ المدافع إلى تماثيلَ على النواصي، والحرباتُ إلى رماحٍ لصيد السمك، وأفواجُ الجنودِ الزاحفةِ تغدو قوافلَ من المهاجرين ورواد السلام تعبر مناهل الواباش وميسوري. هذا ما يجب أن يحدث وهذا ما لسوف يكون: الحرابُ والسيوفُ عليها في البدء أن تنسحب قليلاً من حالةِ الاختيالِ التي تسِمها اليومَ إلى أن تختفي بعدئذٍ عن الأنظار، لتفسح المجال لدعوة الأصدقاء والأقارب فقط، وبعدها، وفي نهاية المطاف، تُنقَلُ إلى المتاحف ليَنْظُرَها الفضولي كما ننظر إلى أدوات السمِّ والتعذيب في متاحفنا اليوم.

وهكذا يصوغُ الحربُ والسلم ذاتيهما في هذه الحالة الزئبقية من التخَلُّق: الإنسانُ في مرحلةٍ من مراحل تطوره يقاتل إذا امتلك إلى القتالِ متاعًا من قوةٍ أو فطنة. ثمَّ في مرتبة أعلى، يتورَّعُ عن المبادرة بالهجوم على أنه يبقى متأهبًا لصد العدوان بعزيمة وشجاعة. ثم يصل في مرتبة أعلى إلى حالة من القداسةِ تبارحُهُ معها نوازعُ الشَّغفِ، وتتحول طبيعته المحاربة إلى حالة علاجية نشطة، فيضحي بنفسه ويسارع بابتهاجٍ إلى تقبل المهام الجسام التي للإنكار والإحسان؛ وعندما يتعرض للهجوم، يصبر، ويدير خده الآخر للمعتدي، فهو بذلك مجاهدٌ من خلال وجوده ذاته، ليس لخدمة فردٍ بعينه، وإنما للروح الجامعة لسائر بني البشر.

منذ أن طرحت مسألة السلم أمام الوعي العام، قُوبِلَ أولئك الذين آمنوا بحقِّ وعدالةِ هذا المبدأ باعتراضات متباينة الشدة. فثمَّةَ قضايا لطالما تذرع بها الفضوليون – قضايا أخلاقية شبيهةٍ بمسائل الرياضيات التي يعصر السذَّجُ في سبيلِ حلها أدمغتهم خلال أمسيات الشتاء الطويلة. فيقال عمومًا: إما أن تقبل بهذا المبدأ على حسناته وسيئاته وتتمسك به حتى النهاية فتصطدم بنتائجه المزعجة، وإلا فإنك إن آثرت بأن ترسم لنفسك خطًا افتراضيًا فتقول: "إلى هذا الحد وليس أبعد من ذلك"، فعليك إذًا أن تحيد عن هذه السبيل وتتحرى الحدَّ الذي قبل به عموم البشر، والذي يرى في الحرب الهجومية جرمًا، وفي الحرب الدفاعية حقًّا. أمَّا لو قررت الالتزام بالمبدأ، فسيكون لزامًا عليك إذن أن تتبع منهجًا متسقًا فتتخلى كليةً عن الدفاع عن النفس في طريقك، في عقر دارك. فهل لك الجَلَدُ على المضيِّ إلى هذا الحد؟ هل لك أن تبقى قابضًا على إيمانك باللامقاومة عندما يتعرَّض صندوقك الصلب للخلع والفتح، وحين تتعرض زوجتك وأطفالك للإهانة أو الذبح على مرأىً منك؟ إذا أجبت بنعم، فلكأنك تدعو اللصوص والقتلة إلى صدر بيتك، وحينها ستسحق ثلة من المجرمين القلَّةَ المتبقيةَ من الأخيار من الرجال.

وللرد على السذاجة التي تنطوي على هذه الفرضية المتطرفة للسلم كما يظهر من نتائجها المفترضة، أجدني أقول إن خلاصة كهذه إنما تلامس شطر الحقيقة فحسب، إذ أنها ترى الوجه السلبي لصاحب السلم وتعجز عن إدراك دريئة نشاطه وعمله. من الحريِّ بنا أن نعتقد أَنْ ليس من إنسانٍ اعتنق يومًا مذهب السلام والإحسان هذا وغايتُهُ القصوى ومَرْضاتُهُ أن يتعرَّض للذبح والنهب، فالإنسانُ لا ينشُدُ مرتبة الشهادة ما لم يملك غاية حقيقية أو دافعًا موازيًا أو محبة متقدة. لو قدِّر لك بأن تجد أمةً بلغ رجالها هذه المرتبة الأخلاقية التي تنأى بهم عن إعلان الحرب أو حمل السلاح، من رجالٍ شحَّت رؤوسهم من هذا العبء الثقيل من الجنون، فستكون تلك أمةً من المحبين والمحسنين، من ذوي القدرة والمجد. ابحث عن أمة كهذه ولسوف لن تجدها خاضعةً خانعةً تدلت فيها الأذرع من على جانبي الجسد، بل ستجد فيها رجالاً يكرزون بالمحبة والشرف والحقيقة؛ رجالاً ذوي صنعة هائلة؛ رجالاً بلغ أثرهم تخوم الأرض كافة؛ رجالاً حملوا في صدى أصواتهم وعلى جباههم سيماء الحشمة والشرف، فتسخَّرت جميع القوى لخدمة طاقاتهم وحكمتهم. إننا على ثقة من أن أيَّ أمة تجودُ بمذهب السلام لن تكون أمة مستباحة، بل تلك التي وثَّقت أواصر صداقتها في صميم كل إنسان على الأرض كان عنيفًا أو وضيعًا؛ أمة لا يزدهر في مواجهتها أي سلاح، وينظر إليها على أنها ملاذ للجنس البشري برمته، فاستحقت بذلك بركات وأدمع كل الناس.

وفي المقام الثاني، وفيما يتعلق بطبيعة رد فعل المرء في الأزمات والمواقف الصعبة، نجرؤ على القول إن امتحانًا كهذا نادرًا ما يواجه إنسانًا صالحًا وعادلاً، ولا نتورع في المقام ذاته عن القول، أو حتى معرفة، ما ينبغي القيام به للنجاة من هذا النوع من المحن. إن الحكيم لا يُرتَهنُ مستقبله وردوده أبدًا، ولا يقرِّر مسبقًا ما ينبغي القيام به في ساعة الكرب، فالطبيعة والرب كفيلان بإرشاده في تلك الساعة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بطبيعة الحال: كيف لهذا الطموح الجديد والواعد للعقل البشري أن يصير جليًا وحقيقيًا؟ وما هي السبيل إذن لتمرير الأفكار إلى جوهر الأشياء؟

وأجزم، بدايةً، أن ذلك لن يكون بسلوك طريق الروتين والشكليات السائدة – وهي الوسيلة الأكثر شيوعًا في السياسة الحديثة؛ ولن يكون ذلك بتنظيم المجتمع وإطلاق القرارات والبيانات العامة ليتم اعتمادها رسميًا من قبل الناس وإدراجها تباعًا في النشرات الصحفية؛ لقد جربنا هذه اللعبة حتى السقم. ففي بعض مدننا يختارون مبارزًا مشهورًا ليصبح رئيسًا أو ضابطًا في مجتمع لا يأبه بالمبارزين. والرجال الذين يمجدون هذا الغرور المتضخم المسمى بالرأي العام، لسان حالهم يقول إن كل شيء سيكون على خير ما يرام ما أن تُطرَحَ تُرَّهاتهم خلال ما يكفي من الاجتماعات والخطابات، في واحدة أو اثنتين أو ثلاثة من الجلسات العامة، لكأن في وسعهم القيام بأي شيء: يصوتون مرارًا وتكرارًا، ويصيحون (مرحى) لهذا الجانب ثم لذاك. ليس هناك من يتحمل أدنى مسؤولية، وليس هناك من يهتم قيد أنملة. وفي الموسم التالي، يندلع نزاع هنا مع الهنود، وتتعرض تجارة هناك لغارةٍ من قبل المالاوي، أو يكون الحزب الذي يصوت لصالحه هذا الرجل في معرض طرح مشروع جديد أمام مجلس الشيوخ، وعلى الفور يشيح برأسه في الاتجاه الآخر مناديًا: الفوضى، الحرب!!

وهكذا فلن يكون ذلك إذن بمعيَّة الرأي العام، وإنما على العكس بجريرة الوعي الخاص، والقناعات الخاصة، وبتفشي المحبة الخاصة وأواصرها الجادة والصادقة. فالأملُ في إنقاذ هذه الغاية إنما يرتكز حقيقةً على تعزيز البصيرة، وسبيلُ ذلك إنما يكمنُ في التعليم العفوي للروح في خفايا تجاربها وتأملاتها، أنَّ الوقت قد حان للانتقال من حالة الوحش إلى حالة الإنسان؛ لقد آنَ أوانُ الإنصاتِ إلى نداء الرَّب يطردُ الشياطينَ التي نخرت في بنيان الإنسان ومزقت أشلاءه، لتغادره حالاً، وتعَافَهُ يرتدي كساءَهُ ويسيرَ على صراط وعيهِ الصادق. وفي المقام الثاني، فإن فريضة السلام لن تصير واقعًا بوازِعِ الخوف، ومن المحال أن يدافع عنها أو يوَفَّقَ في أدائها الجبناء. فالغايات العظيمة لا ترى النور إلا بروحٍ من المجد والعظمة، والإنسانية التي رقدت طويلاً في سباتها، عليها أن تجهد لتحقيق غاية السلام، فتفقد الحرب في النهاية سحرها، ويصير السلام مبجلاً بين البشر.

على أن غاية السلام ليست غايةَ الجَبَانةِ، ولو أن الحفاظ على السلم والذود عنه كان لحماية المترف وصاحب العظم الخرع لكان السلام شينًا، ولكان في كينونته زائفًا ومهينًا. الحربُ في هذه الحالِ أفضل، والسلامُ لن يسلم من الكسر. وإذا قُدِّرَ للسلم بأن يستقر، فقدره أن يستقر بعزيمة الشجعان من الرجال الذين سمت عزائمهم لمرتبة الأبطال إذ أقبلوا طوعًا على حمل الأرواح على الأكف وبذلها، في كل لحظة، في سبيل غايتهم، بل ممن ترفَّعوا فوق مرتبة الأبطال بدرجة إضافية إذ أحجموا عن سلب حياة رجل آخر – رجالٌ أدركوا قيمتهم الذاتية، سواء بما اكتسبوه من بصيرة أو بما بلغوه من سمو روحي، فهم لا يعتبرون أملاكهم أو حتى أجسادهم متاعًا قيمًا يتوجب الذود عنه باللجوء إلى مبدأ منحط كهذا الذي يتعامل مع الرجال كالخراف.

فإن كانت الصيحةُ العالمةُ للإصلاحِ ضدَّ هذه الوفرةِ من الإساءاتِ المترسخةِ التي يدور في كنفها المجتمع، وكان سعيُ طائفةٍ كبيرةٍ من الشباب بحثًا عن مرابع الإيمان والأمل، من معين فكرٍ أو بئرِ عقيدةٍ، سعيًا أوشك على أن يبلغ غايته – إذا كان كل ذلك بارقة خيرٍ يمكن الاستبشار بها؛ وإذا واصلنا البناء في بحثنا وعملنا على الأغوار الخصيبة التي لم تُسبَر بَعدُ لهذا المركَّب الإنساني، وعزَّزنا جهودنا للكشف عن السنن التي تكتنف الأخلاق، وارتيادَنَا للمناهل الغنية التي تنبثق عن الأمل والثقة، في الإنسان بدلاً من بطون الكتب، وفي الحاضر بدلاً من تخوم الماضي؛ وإذا نجحنا في تحفيز الأجيال الشابة على التفكير في عبث الخوض في رجس الماضي، ووُفِّقْنا في حثِّهم على تذوُّق الغنائم السخية التي تعود بها مكارم التقشف والفضيلة؛ إذا نجحنا في ذلك فإن شمسَ الحربِ لا محالةَ ستغربُ قريبًا، والدم سيحجم في النهاية عن التدفق.

وليس بأمرٍ ذي شأن أن ندرك بأي وسيلة، ومن خلال أي أجهزة، سيتسنى لعقيدة الرحمة والقداسة هذه أن تتحقق، فمقترح مجلس الأمم هو لا شك النقطة التي يلتقي فيها النسيج الحالي لمجتمعنا والمسار الراهن للأحداث. على أن الوعيَ، حين ينصاع لسلطان المبادئ، لن يعجز عن إيجاد الوسائل للتعبير عن إرادته. تلك هي أعلى نقطة التقاء في المكان والزمان حيث ستبدأ هذه المؤسسة عملها. ليس في إحدى تلك الزوايا النائية، ولا في أوروبا الإقطاعية، ولا في المواريث العتيقة التي لا تتيح السير خطوةً واحدةً للأمام دونما تمرد، سوف تنغرس بذرة السلام هذه في تربتها، وتروى بدموع الأمل؛ وإنما في مرابع أمريكا الرب والإنسان الواسعة، حيث الوريقات الصفر بدأت للتو تعلن عن خريف غاباتها، والأرض الخضراء تشرع أبوابها لاستقبال الخلق من براري القهر والذنب. هنا، لن تكون عائلة واحدة ولا حتى مجموعة من الناس، بل البشرية بأسرها، من سيعلن عما سيصير بين الناس واقعًا؛ وهنا سوف نسأل: هل ستكون الحرب؟ أم سيكون السلام؟

في مارس/آذار 1838 – بوسطن

ترجمة: نورس مجيد

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ ترجمة لمقال الحرب لـ رالف والدو إمرسون كما ورد في كتاب هوارد زين سلطان اللاعنف، أطروحات دعاة السلام The Power of Nonviolence. استثنى هوارد زين بعض المقاطع من المقال الأصلي ولم يوردها في كتابه، ولم ترد ترجتمها هنا. [المترجم]

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود