|
هل حقًا "الشعر الشاغل الأكثر براءة بين المشاغل كافة"؟
في تأويل الفيلسوف هيدغر لهذه العبارة التي اقتبسها من رسالة للشاعر هولدرلين كتبها إلى أمه عن وحشته وغربته الشعرية رأى هيدغر أن ما قصده هولدرلين بالبراءة الكامنة في الشعر تنطلق من أن الشعر هو لعب خفي بالصور يقوم به الشاعر دون حاجة إلى الرصانة والجدية التي يحتاجها الفعل المادي، لذا فهو يرى بأن ليس أقل إيذاءً ومسالمة من اللعب بلغة خالصة؛ لعب يقارب ببراءة لعبه لَعِب الأطفال بما حولهم من أشياء حتى بالأكل والشرب وأحيانًا بالغائط؛ هذا اللعب لا يحقق أية حاجة نفعية مادية إلا إشباع غريزة اللعب لدى الكائن الإنساني، الذي افتراضُ جماليًا أنه وُجد ليلعب بوجوده وأشياء هذا الوجود؛ بما يعنيه اللعب ليس كفوز أو خسارة كمن يلعب بالمال والقوة ولكنه لعب يحاول به الكشف عن جمال وجوده في هذا الوجود، كشفٌ قدر المستطاع أجمل، للوصول ما أمكن إلى إشباع الروح الذاتية التائقة إلى جوهر أو جواهر الحياة التي لا تستطيع تجارة أو صناعة أو أي شغل أن يصل إليه، لأنه بالبراءة وحدها يُخلق الجميل، وهذا ما ينطبق على باقي الفنون حيث المحرك الأساسي لخلق الجمال هو الجمال ذاته كما يقول كانط. ولكن إذا كان الفن هو البحث عن الجميل لخلقه من خلال صورة مادية حسية (وسيط) تكمن في داخلها طاقة روحية جمالية؛ وإذا ما اتفقنا مع من قال "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"؛ وبأن الإشارة تغني عن العبارة، فإن الاقتصاد المادي الوسيط يلعب دورًا كبيرًا في براءة الشعر؛ ليس فقط أكثر من المشاغل غير الفنية وحسب، بل ومن باقي المشاغل الفنية الأخرى التي تتشابه معه في خلق واكتشاف الجميل. فمقارنة بسيطة بينه وبين تلك الفنون تكشف أن استهلاكه المادي (الوسيط) لإنتاج الصورة هو أقل وبنسبة تكاد تكون كبيرة عن غيره من الفنون، رغم أن الطاقة الجمالية للشعر التي تتفجر من صوره الحسية لا تقل بل تكاد تكون أقوى من الطاقات الجمالية التي تنبثق عن الفنون الأخرى رغم وسيطها المادي الأكبر، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفردية والذاتية التامة التي يتولد عنها الفعل الشعري مقارنة مع فنون لا يمكن أن تتم إلا بفعل جماعي كالمسرح والسينما أو ما شابهما، فإن هذه الميزة تزيد من براءته، إضافة كما قلنا إلى استهلاكه الأبسط للوسيط، حتى في الغناء الذي يحتاج إلى صوت كخامة ربانية على الأقل مع الكلمات، وهذا ما ينطبق على الرقص من خلال خامة الجسد، أما العزف الفردي فيحتاج إلى آلة لتكون وسيطًا للطاقة الجمال، وكذا التشكيل بمواده المختلفة. فكل الفنون – إلا إذا استثنينا فن الصمت وهو أصعب الفنون – تحتاج بالمطلق إلى وسيط مادي أكثر مما يحتاجه الشعر، الذي لا يحتاج لأكثر من الكلمات كوسيط حسي للطاقة الجمالية الوجدانية التي يريد بثها، حتى إذا ما قارناه بالأجناس الأدبية الأخرى (قصة، رواية،...) التي وسيطها الكلمات أيضًا، فإن استهلاكه لهذا الوسيط أقل وقد يكون بنسبة كبيرة، فمقارنة قصيدة ولتكن مطولة مثل وتريات ليلية لمظفر النواب مع إحدى أصغر بل وأكبر روايات نجيب محفوظ مثلاً توصل إلى أن – رغم الفارق الكبير في الاقتصاد – الوتريات تخلق طاقة جمالية نوعية أكبر بوضوح من تلك الرواية. لذلك نجد أن تشبيه الشعر بالمعادن المشعة التي بكمية صغيرة منها ننتج طاقة عظيمة في محله. طبعًا هذه البراءة المادية للشعر لا تلغي الأهمية والطعم الخاص لكل فن من الفنون، ولكنها تجعله ذا بساطة و مقدرة معًا. هذه البساطة والمقدرة تجعله من زاوية أخرى، أي من جهة المتلقي، أصعب الفنون، وبالتالي أقلها استهلاكًا، فيكون الشاعر البريء بشاعريته أقل الفنانين تفكيرًا بالمردود المادي رغم عظمة ما يقدمه من رؤى وتطلعات متمردة، تساعد على التطور البشري والإنساني. إن هذه النظرة إلى الشعر تكفي ليفرض براءته إذا ما فكرنا بالاقتصاد المادي نوعًا وكمًا دون الاقتصاد الانفعالي العاطفي الذي يستهلكه الشاعر في عملية تكثيف واختزال الوسيط الحسي مقارنة مع غيره من الفنانين، وإذا ما تمعنا في هذا الجانب – الانفعالي والعاطفي – فأنا أجزم من وجهة نظري بأن ما يتكلفه الشاعر من مجاهدة عاطفية انفعالية تنعكس على جسده ونفسيته وحياته الاجتماعية والمعيشية تكاد تكون عند الكثير من الشعراء أكثر بكثير من غيره، فالشاعر يحتاج إلى المكابدة على كافة صعد الحياة ليحقق شاعريته – الصوفي خير مثال على اعتبار أن الصوفي يحاول الاشتعال في الحقيقة بالكلمات – ما يجعله، أي الشعر، ليس الأكثر براءة بين المشاغل جميعها ولكن الأكثر "مازوسادية" الناتجة عن لوثة الشعر لما يمكن أن يفعله بالشاعر من عذابات، حدًّا يقارب نفي الذات والوجود، ومقارنة بغيره من باقي الفنون فإن المردود المادي بشكل عام هو الأكثر ضعفًا وبؤسًا فيها، لذا يقترب الشاعر من الذهان والعصاب والفصام أكثر من غيره، وهذا ما حصل مع الكثير من الشعراء ومنهم هولدرلين نفسه، الذي اتهم الشعر بالبراءة العذبة لدرجة أنها أودت بعقله. *** *** ***
|
|
|