|
ملخص لكتاب الفكر الشرقي القديم
إعداد: نبيل سلامة
أهم تيار فكري–فلسفي في الفكر الشرقي القديم هو التيار المشهور باسم "السامخيا"، وفيها لا يمكن لما هو ذات مطلَقَة أن يُصبِح موضوعًا قط. وما هو موضوع لا يمكن أن يكون ذاتًا مطلقة. كما أن الخبرة وما تجده هما شيء واحد على نحوٍ أساسي. وتذهب "السامخيا" إلى القول بأن تصوُّر نتيجة ما هو تصور للسبب في حالة التحوُّل. كما أن وجود "البوروشا" (الروح) هو الذي يفسِّر تطور البراكريتي (المادة)، فليسَت المسألة أن للبوروشا بالفعل أية علاقة بالبراكريتي، وإنما قوام الأمر أنه بسَبَب وجود البوروشا، وحضوره يتعرَّض توازن البراكريتي للاختلال، وتبدأ عملية التطور... والخلاصة هي أن عالَم "البراكريتي"، الذي هو عالَم الموضوعات، يوجد من أجل عالَم آخَر. الأمر الذي يُبَرهِن على وجود مبدأ آخَر خلاف البراكريتي، وهذا المبدأ هو "البوروشا". فلسفة "المايا" أو ما تعنيه المايا في "السامخيا" في غمرة الإدراك تتم رؤية محتوى التجربة الحسية على أنه ثعبان، بينما هو في الحقيقة حبل. والنتيجة هي الزعم الخاطئ بأنه تمت رؤية ثعبان. ومعنى ذلك أن المعرفة الإدراكية الحقة هي إدراك ما هو مدرَك على ما هو كائن عليه بالفعل، والخطأ هو إدراك شيء بخلاف ما هو عليه بالفعل. وثمة خمسة أنواع أولى للمعرفة الحسية، وتؤدي أنواع المعرفة هذه إلى إدراك غير معين، أو إلى مجرد التجربة الحسية الأساسية ذاتها. أما النوع السادس من المعرفة الحسية، وهي معرفة داخلية، فهو أمر يتعلق بالشعور بالتجارب الحسية، وإدراكها باعتبارها هذا الشيء أو ذاك، وهو يتطابَق مع الإدراك الحسي المعين المألوف. فلسفة "الآتمان" أو ما يعنيه الآتمان في "السامخيا" "كل شيء هو آتمان"، وعندما يُعرَف الآتمان، يُعرَف كل شيء حيث "لم يكن في البدء سوى الوجود المحض... كان واحدًا لا ثاني له"، و"كل شيء هو براهما" و"هذه الذات هي البراهمان"، و"إني أنا البراهمان". فلسفة "الثالوث الإلهي" في "السامخيا" في التصور الهندوسي للثالوث الإلهي برهما يخلق، وشيفا يدمِّر، أما فيشنو فيحافِظ على العالَم. ولما كانت التجربة الإنسانية الشامِلَة على وجه التقريب تقول إن الحب يغذِّي الحياة، ويبقي عليها، فمن الطبيعي أن يتمَّ النظَر إلى فيشنو، بوصفِه المحافِظ على الوجود، على أنه التجسيد للحب، وهو تجسيد يبدو واضِحًا، كأقصَى ما يكون الوضوح، في تجلِّيه باعتبارِه كريشنا، ولكن كريشنا ليس إلا تجليًا من تجليات فيشنو، وتكمن وظيفتُه الخاصة في الحفاظ على الوجود وتظهَر بطرق عديدة مختلِفَة. وعلى هذا النحو يذهب التراث الهندوسي إلى وجود عشرة تجليات رئيسة لفيشنو: الإله الأعلى، والرب الحافِظ للكون. وكل تجلِّ من هذه التجليات، باعتباره شكلاً من أشكال فيشنو، هو تجلِّ لبراهمان الواقِع المطلَق، أو الحقيقة النهائية... وعلى نحو ما يقول كريشنا لأرجونا في البهاجافادجيتا: ما أن تضمحل الاستقامَة ويزدهِر الاعوجاج، يا ابن الهند، حتى أنطلِق بذاتي قُدُمًا، من أجل الحفاظ على الخير، من أجل القضاء على الشر لإرساء دعائم الاستقامَة أجيء إلى رحاب الوجود دورًا بعد دور. فلسفة الحياة في "السامخيا" تكمن هذه الرؤية للإله كطفل يلهو متحررًا في مزيد من الحماس والحيوية. تمكَّنَ الهندوس من تأكيد أهمية التلقائية واللهو والمتعة في الحياة الإنسانية، فهي تشدِّد على أن الحياة ينبغي أن يُحتَفَى بها. ويعلِن كريشنا، الطفل الإلهي، للعالَم أن جوهَر الإلهي ذاته هو النشوة الطروب المتوهِّجَة بالحيوية والحماس، ولأنه طفل صغير فمن الممكن الدنوَّ منه مباشرة وبجلاء ودونما طقوس شكلية، وبغير حذر مثقَل بالاهتمام. ويذكِّر كريشنا أتباعه، وهو في هيئة شاب مفعَم القلب بالحب لراعيات البقر، بأن التحقيق المنتشي لأعماق أشواق الإنسان في عناق المحبوب يرمز إلى العلاقة المفعمَة حبًا بالرب. إن الخلاص الإنساني المطلَق، حيث يمكِّن الإخلاص المفعَم حبًا المسمى "بهاكتي"[1] الفرد من التحرُّر من جدران مركزية الذات التي ينحصر بداخلِها. ومن خلال الاستسلام المفعَم حبًا لكريشنا يتم السماح لحب المتعبد بأن يقدم أساسًا جديدًا للوجود يُخلِّف وراءه صغار الاهتمامات الأنانية، والمتاعِب الدنيوية، ويتم الانتقال إلى عالَمٍ من النشوة الإلهية، ترمز إليها ممارسة كريشنا للحب على ضفاف نهر يامونا في فراندافا. وأعمال كريشنا لا تعلن أن الحب هو التعبير الأكثر كمالاً وبهجة عن الحياة التي يمكن للبشَر أن يعرفوه فحسب، وإنما كذلك أن حب الإله هو كمال الحب البشري ذاته. وكريشنا إذ يريد الطريق إنما يدعو البشرية إلى المجيء إليه من خلال الحب واللهو والجمال، فتلك هي أعمق أبعاد الحياة الإنسانية والصفات الإلهية للرب نفسِه. ما تعنيه رقصة كالي إن رقصة كالي الرهيبة هي في حقيقة الأمر رقصة تقضي على الشر، فكل من يقدم إليها لائذًا برحابها، وملقٍ بنفسِه عند قدميها، تبادر إلى إنقاذه. وهي تقضي على الشر من أجله تمامًا على نحو ما فعلَت للإلهة والإلهات عندما ألقى شيفا بنفسه تحت قدميها. اليقظة الروحية والحب إن اليقظة وحدها ليست كافية ويتعيَّن تفعيل قوة الحب الكامنة في كل الكائنات. والحب هو القوة الروحية التي تتحرك بها هذه الكائنات، فمن خلال الحب يتجلَّى الإله أو الحقيقة. الغاية من وجود الإنسان ووحدة الوجود الصوفية في "السامخيا" يشير رادا كريشنان إلى أن تجربة الواقِع المطلَق، أي تحقيق الآتمان، هو هدف حياة البشَر. والحل الذي يطرحه رادا كريشنان هو تفسير براهمان لا على أنه وجود ساكن، ولكن باعتباره وجودًا ديناميكيًا، فالبراهمان هو الواقِع المطلَق الذي يتيح الأساس لكل وجود، ويضفي الوحدة على الكون، وكل الأشياء تتحد في براهمان، الذي يُعَدُّ منبَع كل وجود وأساسه. وانطلاقًا من هذا التأويل لبراهمان، يمضي رادا كريشنان لينظر إلى النفس باعتبارها الموضِع الذي يحل فيه براهمان، بوصفِه الروح المطلقَة، ذلك أن الشخص يجمع بين الروح والمادة. ويطرَح رادا كريشنان هذه النقطة من خلال النفس التجريبية، أو الأدنى، وبين النفس الروحية أو الأسمى التي تتوحد في نقائها مع الروح المطلقة. وجوهر السعي الدّيني هو الذي يُفسَّر الآن باتجاه تحوُّل النفس – وليس القضاء عليها، ولا إنكارها؛ في التوحّد مع مصدرها، أي آتمان – براهمان. إن الغرض الرئيسي من الدين هو مساعدة الشخص في الارتفاع عن القيود التي تفرضها عليه المادة، والحياة، والوعي. وإدراك أكبر للنفس الأكثر جوانية متطابقة مع الروح المطلقة، ومتحررة على نحوٍ تام من القيود الكامنة في التوحُّد مع نمط خاص، نمط بعينه أو وظيفة بعينها للروح. وهذا الإدراك ليس ممكنًا إلا من خلال النشاط العلمي، وهو نشاط للوجود أكثر منه معرفة... ويقول رادا كريشنان إن هذا الإدراك الروحي الذي نجده في الوصية التي أفضى بها أدالاكا لابنه الذي يُدعَى شفتاكيتو فيناديه شفتاكيتو إنك أنت هو... (براهمان). إذن ليس الوجود الإنساني، في وعيه الذاتي الأسمى من وجود أشكال الحياة المادية وغير الواعية، هو البقاء عند مستواه الراهِن، وإنما تجاوز ذاته، والانتقال إلى مستويات أسمى للوجود على نحو ما انتقلَت مستويات كانت في السابق أدنى من مستويات الوجود وصعدت إلى مستوى الوجود الإنساني. التطور الروحي كيف يمكن للبشر أن يوجهوا مسار تطورهم؟ إن إجابة شري أوروبيندو هي أنه يتعيَّن علينا ممارسة ضبط النفس (اليوغا) الذي يحقِّق الاحتواء الكلي، دونما تجاهل لأي جزء من وجودنا، علينا أن ندمج الجوانب والخواص المختلفة لوجودنا، بحيث أن الأدنى يخضع لسيطرة الأسمى وتوجيهه، مما يسمح لنا تدريجيًا بأن نحيا في كل قوانين الروح المستقرة في أعماقنا، باعتبارها محور وجودنا ذاته. وهذا يقتضي، ضمن أمور أخرى، توفير الأوضاع المادية والاجتماعية إلى ما يتجاوز أنفسنا والارتقاء بوجودنا إلى أن نصبح هذا الوجود الذي هو "الحياة الإلهية". مفهوم التعلُّق ويمضي بوداجهوزا في إيضاحه للتمييز بين المجموعات ومجموعات التعلُّق إلى القول: عندما تكون هناك صورة، أيها الكهنة، فإنه من خلال التعلق بهذه الصورة، من خلال الاستغراق فيها، ينشأ الاقتناع المتمثِّل في مثل هذه العبارات (هذا ملكي، هذا هو أنا، هذه هي ذاتي). عندما يكون هناك إحساس، عندما يكون هناك إدراك حسي، حيثما كان هناك استعدادات مسبَّقة، عندما يكون هناك وعي – أيها الكهنة – فإنه من خلال التعلُّق بالوعي، من خلال الاستغراق في الوعي، ينشأ الاقتناع: (هذا ملكي، هذا هو أنا، هذه هي ذاتي)"..... ودون هذه الذات، النفس الزائفة، التي لا تعدو أن تكون من خلق الجهل فحسب، لن يكون هناك تطلع إلى الماضي، ولا تحسر على ما ضاع، ولن يكون هناك تطلُّع إلى الأمام نحو المستقبَل، ولا بكاء على ما لم يقبِل بعد. ودون هذه الذات – النفس، فإن الحياة يمكن أن تعاش بكامل إملاء اللحظة الراهنة دونما تمييز ولا تقسيم ولا تعلق. ومن هنا فإنه ما أن يُزال هذا الجهل، فسيُعثَر على الحياة كامِلَةً وتامة على نحو ما هي عليه تمامًا.... فلا عجب إذن أن إدراك أن الذات غير واقعية، وأنها نتاج الجهل، يُحَرِّر المرء من الأسباب الأساسية للمعاناة. النرڤانا يُنظَر إلى عنصر "النرڤانا" بصورةٍ شامِلَة باعتباره فوق الوصف والتعريف. ولكن عندما كان الفلاسفة يشعرون، بين حين وآخَر، بأنهم مضطرون إلى قول شيء بعينه، فإنهم كانوا يطلقون عليه وصف الجوهَر غير القابل للتجديد للعناصر المختلفة المشروطة في وضع ساكِن. إن تعاليم بوذا تدفع باتجاه "سكينة" عناصر الوجود. وحيث أنه من المستحيل النظر إلى الفناء التام كنوع من الخلاص، فإن الفلاسفة قد نصوا على أن الخلاص، أو النرڤانا ينبغي أن تتمثَّل في سكينة العناصِر المشروطَة. وبذلك يتَّسِق مبدأ الأبهيدارما هذا مع تعاليم بوذا القائلة إنه لا وجود لنفس في أي موضع، وإن كل الدهارمات هي بلا نفس، وأن الاستنارة تقتضي التخلي عن كل تعلق بالأنا. بتعبير آخر فإن النفس المستنيرة هي ما هي عليه فحسب، وبما أنه ما من شيء يمكن أن يُقال عنه إنه على ما هو عليه، بدلاً من محاولة جعله شيئًا محددًا، فإن من الأفضَل أن يُشار إليه باستخدام اللااسم "بما هو كذلك". مدرسة "المدهياميكا" لقد اعترض فلاسِفة مدرسة "المدهيامكا" كذلك على إلحاق الاسم "شخص" أو "بودجالا" بالنفس المستنيرة وكان اللااسم الذي أطلقوه على النفس المستنيرة هو شوناتا أو الفراغ. فلسفة "الوجاكارا" و"الفيبهاشكا" دار فلاسفة "اليوجاكارا" دورة كاملة حول وجهة نظر "الفيبهاشكا"، ففلاسَِفة "الفيبهاشكا" يحددون العناصِر الأساسية للواقِع الخارجي باعتبارِها مطلقة. وكل شيء آخَر له واقع نسبي لهذه الدهارمات الأساسية فقط. وقد نظر فلاسفة "اليوجاكارا" إلى هذه العناصر باعتبارها نسبية للوعي، ومنحوا الوعي نفسه وضعية الواقع الأساسي والمطلق في النسق. وتعرِّف هذه الرؤية أن كل موجود، كائنًا ما كان، يوجد بالنسبة للوعي وحده – تُعرَّف بالمثالية.
الكتاب: الفكر الشرقي القديم *** *** *** [1] في اليوغا ذات الفروع الخمسة حيث الأول هو الهاتا يوغا وهو يتعلق بالممارسة الجسمانية لوضعيات مختلفة تساعد تيار الطاقة المرافق للتنفس أي البرانا لكي تمنح الممارس الصحة واللياقة التي تؤهِّله للفرع الثاني وهو الراجا يوغا، وهذا الفرع يتناول الوضعية أولاً بشكل أساسي وضروري للاعتكاف أي سحب الحواس إلى الداخل كما تسحب السلحفاة نفسها إلى داخل قوقعتها، الأمر الذي يدفع إلى المرحلة الثالثة، أية بعد اتخاذ الوضعية الملائمة، وسحب الحواس، فهنا تسهل عملية التركيز وهي أساسية في الراجا يوغا، إن عملية التركيز بدورها تنقلب وتصبح تأملاً على نحو تناوبي، حيث التأمل عندما يبلغ أقصاه ينقلب تركيزًا، وهذا الأخير أيضًا في أقصاه يصبح تأملاً حيث التأمل هو حالة اللاعقل، وكلما تقدم الممارس في الطريق فإن التأمل والتركيز باتحدهما يدخل المريد في المرحلة الأخيرة التي تشمل تحولاً كليًا للوعي يقود إلى الوعي الكوني أو ما يسمى بالسامادهي أو الاستغراق أو ما يُعرَف بالغيبة التي تقود بدورها إلى الغاية المنشودة من وجد صوفي ورؤيا قدسية يتحد من خلالها المريد مع الكون بأكمله ومخلوقاته والخالق نفسه. هذا إذن الفرع الثاني من اليوغا وهو يمهد للجنانا يوغا، وهذا الفرع معناه المعرفة التي تمنحها ممارسة اليوغا للمريد، والجنانا يوغا أي المعرفة تقود المريد إلى الفرع الذي يتعلق بما أسميناه أعلاه في النص المذكور بـ"البهاكتي" وهنا تأخذ "البهاكتي" معنى العبادة الإلهية أو العشق الإلهي وفق مصطلحات المتصوفين على اختلاف مشاربهم، وأخيرًا الفرع الخامس ويتناول "الكارما يوغا"، والكارما تتناول حصاد المريد لثمرة أفعاله في حيواته السابقة، وإذاك فهي تصبح يوغا العمل التي يتوخى المريد أن يكون عمله نزيهًا لكي لا يثقل نفسه بكارما سلبية تعرقل تطوره إلى سلالم السماء والخلاص النهائي، الذي أشار إليه مؤلف الكتاب في الفقرة أعلاه بـ"البهاكتي". |
|
|