|
تعريف البرَكة
ثمَّة مجموعة كاملة من الظواهر تجمع بينها صفات مشتركة، وهي: 1. أنها تساهم في رعاية ودعم وحماية وتعزيز الحياة الإنسانية والنمو الروحي للبشر. 2. أن آلية عملها ليست مفهومة تمامًا، كظاهرة الأحلام أو المقاومة الفيزيائية، أو غامضة كليًا، كالظواهر فوق الطبيعية، بالنسبة لمبادئ قوانين الطبيعة كما يفهمها تفكيرنا العلمي المعاصر. 3. أن حدوثها يتكرر دائمًا في أماكن محددة، وهو مشترك بين البشر قاطبة. 4. أن منشأها هو خارج نطاق إرادة الوعي البشري (رغم كونها قد تتأثر به) وخارج دائرة صنع القرار الواعي. ومع أن الظواهر المذكورة تعتبر، عادةً، مستقلة، فإني أميل إلى الاعتقاد بأنَّ خصائصها المشتركة تشير إلى كونها تجلِّيات لظاهرة واحدة: قوَّة قادرة، منشؤها خارج دائرة الوعي، ترعى النمو الروحي للبشر. فعبر مئات – أو حتى آلاف – السنين، قبل مفْهَمة conceptualization ظواهر كالأجسام الضدية، وحالات الأحلام، واللاشعور، ميَّز البشر دائمًا هذه القوة، مطلقين عليها اسم "البرَكة"، وغنُّوا صلوات لها من قبيل: "أيتها البركة المذهلة، ما أجمل صوتك الإلهي... إلخ". ما الذي ينبغي علينا أن نفعله إذًا، نحن الشكاكون وأصحاب التفكير العلمي اللائق، إزاء هذه القوة القادرة، الناشئة خارج نطاق وعينا، الراعية لنموِّنا الروحي؟ ليس بمقدورنا أن نلمس هذه القوة، ولا طريقة لائقة لقياسها تبدو في متناولنا، ومع ذلك فهي موجودة وحقيقية. أيمكن أن نتجاهلها فقط لأنها لا تلائم بسهولة مفاهيمنا العلمية التقليدية عن قوانين الطبيعة؟ إن هذا يبدو محفوفًا بالمخاطر! أنا لا أعتقد أنه يمكننا أن نأمل بفهم تامٍّ للكون ومكاننا فيه، وأن نعزز طبيعة النوع البشري دون أن نُضَمِّن إطار مفاهيمنا ظاهرةَ البرَكة. ولأنه لا يمكننا تحديد مكان وجود هذه القدرة، فقد تسنى لنا فقط أن نذكر أين لا توجد: في وعينا البشري. إذًا، أين تقيم؟ إن بعض الظواهر، كالأحلام، تقترح علينا أن البرَكة ربما تقيم في العقل اللاواعي للأفراد، بينما ظواهر أخرى كالتزامن Synchronicity والسرنمة Serendipity تشير إلى كون تلك القدرة موجودة خارج نطاق حدود الفرد. لا يعود سبب مواجهتنا صعوبة في تحديد مكان البرَكة ببساطة إلى كوننا علماء، فالمتدينون الذين يعزُون أصل البرَكة طبعًا إلى الله، ويؤمنون حرفيًا أنها محبته، عانوا عبر العصور من الصعوبة ذاتها في تحديد مكان وجودها. ثمة في اللاهوت تقليدان متناقضان مزمنان يتعلقان بهذا الموضوع: الأول عقيدة الانبعاث (السماوية)، وتعتقد أن البرَكة انبعثت من الله (الموجود خارج الإنسان) نحو البشر؛ والثاني عقيدة الباطن (حلول الله في الإنسان)، وتعتقد أن البرَكة مصدرها الله وتحلُّ في جوهر الوجود الإنساني (الله في الإنسان). هذه المشكلة، ومشكلة المفارقة برمَّتها، تنشأ في المقام الأول من رغبتنا في تحديد أماكن الأشياء. الموجود الإنساني لديه ميل عميق للمَفْهَمة Conceptualization بلُغة كمِّيات منفصلة متمايزة. نحن نعي العالم مكوَّنًا من كمَّات كهذه: سفن، أحذية، شموع، ومجموعات أخرى كثيرة. وبعد ذلك نميل إلى فهم الظواهر عبر تصنيفها ضمن زمر كالسابقة، ووصفها ككميات محددة: هذه أو تلك، لا الاثنتين معًا، السفن هي سفن وليست أحذية، أنا هو أنا وأنت هو أنت، كينونتي هويتي وكينونتك هويتك، ويرتبك كلانا تمامًا إذا اضطربت هوياتنا أو امتزجت. وكما لاحظنا آنفًا، فالبوذيون والهندوس يعتقدون أن مفهوم التجزئة والفصل هو وهم، أو "مايا"، والفيزيائيون المعاصرون، المهتمون بالنسبية، وظاهرة التموُّج الجزيئي والكهرومغناطيسية... إلخ، ينمو بالتدريج إدراكهم لمحدودية مفهومنا عن التجزئة والكميات. لكن من الصعب، مع هذا، الهروب من هذا المفهوم، فميلنا إلى هذا النوع من التفكير يرغمنا على تحديد مواقع الأشياء، حتى لو كانت هذه الأشياء هي الله أو البرَكة، وحتى حين نعلم أن ميلنا هذا يؤثر في إدراكنا لتلك الأشياء. أحاول أن أفكر أن الفرد ليس كينونة على الإطلاق، وحيث أن حدود إدراكي تجبرني على التفكير والكتابة بمنطق التجزئة، فأنا أتصوَّر حدود كينونة الفرد كغشاء نَفوذ للغاية، يشبه السياج، إذا شئتم، أكثر من الجدار؛ سياج ربما تتسلَّقه، أو تمرُّ من خلاله، أو تحته أو فوقه، كينونات أخرى. وكما أنَّ عقلنا الواعي ينفذ إليه لاوعْيُنا باستمرار، كذلك فإن لاوعْيَنا ينفذ إليه "العقل" الذي لسنا بالنسبة إليه كينونات منفصلة! ثمة وصف، أكثر كفاءة وأناقة لهذه الحالة من لغة قرننا الحالي العلمية عن الأغشية النَّفوذة، يعود إلى اللغة الدينية في القرن الرابع عشر (1393 م.) حيث يصف ديم جوليان، وهو ناسك من النروج القديمة، العلاقة بين البرَكة وكينونة الإنسان: كما الجسد يكسوه الملبس، واللحم يكسوه الجلد، والعظام يكسوها اللحم، والقلب يقع في هذا كله، كذلك نحن، الجسد والروح، ببرَكة الله محاطون ومغمورون، أجل ببساطة، لكلِّ من يتعب أو يتوه عن الدرب: برَكة الله تامة على الدوام. وعلى أية حال، وبصرف النظر عن علَّة حدوثها أو مكانه، فإن "المعجزات" تؤكد أن نموَّنا الروحي، كموجودات إنسانية، تسانده قدرة خارج نطاق إرادتنا الواعية. وحتى نذهب أبعد في فهم طبيعة تلك القدرة أعتقد أنه بمقدورنا الاستفادة من معجزة أخرى تحدث دون توقف، وهي عملية نمو وتفتُّح الحياة برمَّتها، وهو ما ندعوه بالتطوُّر. ترجمة: سامر زكريا *** *** ***
|
|
|