|
نقاش في المواطنة
المواطن CITIZEN عضو في جماعة سياسية يتمتع بحقوق المواطنة ويؤدي واجباتها. والجماعة السياسية، هنا، هي "المجتمع المنظم" أو "الأمة المنظمة" أو الشعب، أي إن المواطن عضو في دولة حديثة يتمتع بما تقرره المواطنة من حقوق مدنية وسياسية وما تعينه من واجبات مدنية والتزامات قانونية، وفق تعريف الدولة بأنها "مجتمع سياسي" (مقابل المجتمع المدني)، أو "مجتمع منظم" أو "أمة منظمة"، أو شكل الحياة السياسية والأخلاقية لشعب من الشعوب، بحسب ما يكون المدخل إلى التعريف اجتماعيًا (سوسيولوجيًا) أو ثقافيًا وأخلاقيًا أو سياسيًا أو قانونيًا. هذا التعريف العام الواسع نجده، مع قليل من التغيير والاختلاف، في أعمال المؤلفين المعاصرين الذين يتخذونه مدخلاً لتحديد معنى المواطنة. ومع ذلك فإن نقطة البدء هذه مرجع جدير بالثقة، لأنها تحيل على تاريخ المفهوم وتغير دلالته من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر ومن تجربة تاريخية إلى أخرى. (راجع معنى المواطنة عند أفلاطون[1]). لكن ما هو مؤكد اليوم اقتران مفهوم المواطنة ومفهوم الدولة الوطنية أو القومية الحديثة، على اختلاف الأنظمة السياسية. فلا يمكن الحديث عن المواطنة، في القرن الحادي والعشرين، بمعزل عن المجتمع المدني والدولة الوطنية الحديثة، دولة الحق والقانون والمؤسسات، بما هي مقدمة ضرورية للدولة الديمقراطية. فإن المواطنة بركنيها الأساسيين: المساواة والحرية هي ما يجعل من الديمقراطية نظامًا تواصليًا مفتوحًا على أفق إنساني، بقدر ما هو مفتوح على النمو والتقدم. بل لا يمكن الحديث عن المواطنة التي تستحق اسمها إلا بالانطلاق من قاعدة إنسانية واعتماد معايير إنسانية. المرجع الجدير بالثقة، في هذا المجال، هو الشرعة العالمية لحقوق الإنسان والعهود والمواثيق الملحقة بها، مضافًا إليها حقوق المواطن، كما أنضجتها التجارب السياسية الأكثر تقدمًا والأقرب إلى الديمقراطية. ولعله من قبيل اللغو ومحاولة الالتفاف على هذا المرجع العالمي حديثُ بعضهم عن ميثاق عربي أو إسلامي لحقوق الإنسان، كأن العرب أو المسلمين جنس آخر غير الجنس البشري والجماعة الإنسانية، ومن ذلك ما يسمى "التحفظات" العربية والإسلامية على المعاهدات والمواثيق الخاصة بتمكين المرأة وحقوق الأقليات. المواطنة، وفق هذين المرجعين، حقوق الإنسان وحقوق المواطن، هي انعتاق سياسي من التبعية والاستبداد، ومقدمة ضرورية للانعتاق الإنساني[2] من جميع الشروط التي تهين الكرامة الإنسانية. لقد أشرنا في غير مكان وفي أكثر من مناسبة إلى أن الإنسانية أو الإنسية هي أساس الوطنية ورافعتها. فلا يمكن أن يعترف أحدنا بتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات إذا لم يعترف أولاً بتساويهم في الكرامة الإنسانية. الإنسانية والمواطنة صفتان لا تقبلان التفاوت والتفاضل؛ فليس من فرد إنساني هو أكثر أو أقل إنسانية من الآخر، وليس من عضو في دولة معينة هو مواطن أكثر أو أقل من الآخر. تجدر الإشارة هنا إلى تقليد سياسي رديء عندنا حين نصف هذا الشخص أو ذاك أو نحكم عليه بأنه وطني، وعلى آخر بأنه غير وطني، أو حين نحكم على حزب أو اتجاه فكري وسياسي بأنه وطني وما عداه غير وطني، فإن نزع صفة الوطنية عن شخص أو حزب أو اتجاه سياسي هو هدم لمبدأ المواطنة، لا ينم على جهل بما هي المواطنة فقط، بل ينم على استبداد. الجهل والاستبداد صنوان، والمستبد هو أجهل الجاهلين، لأنه ليس في حاجة إلى أن يعرف، بل في حاجة إلى أن يريد فقط. لأن المواطنة غير معيشة في الواقع حولناها إلى حكم قيمة، وهكذا بقية المفاهيم الحديثة. ولا ينتبه من يطلقون هذا النوع من الأحكام أن أحكامهم ذات أصل ديني أو مذهبي، فالتخوين في الخطاب السياسي كالتكفير في الخطاب الديني سواء بسواء، ويعني في الحالين إخراج الآخر من الملة وإحلال دمه وماله وعرضه. فليس من قبيل المصادفة أن الأحزاب الأيديولوجية، القومية والاشتراكية والإسلامية كلها، تحولت إلى ملل ونحل وطوائف جديدة معادية للحرية ومهينة للكرامة الإنسانية، مثلها مثل الملل والنحل والطوائف أو الأرثوذكسيات الدينية. الأحزاب الأيديولوجية هي عفن المجتمع التقليدي وقد صار أحزابًا "سياسية"، هي طائفية المجتمع التقليدي وهمجيته في إهاب "علماني" زائف. هذا العار يجب نشره على الملأ. ألا تكفي ممارسات الأحزاب القومية والاشتراكية والإسلامية التي اغتصبت السلطة في غير مكان دليلاً على ذلك؟ الفرق بين نقاشات فلاسفة القرن الثامن عشر ونقاشات المعاصرين، في موضوع المواطنة، ذو دلالة مهمة، إذ كانت فكرة المواطن لا تزال ملتبسة بفكرة الرعية حتى لتبدو هي ذاتها في النظام الملكي (المونارشي)، أي إن فكرة المواطن لم تكن قد تحررت بعد من ماضيها الرعوي (نسبة إلى الرعية)، (كما أشار هوبز)، أو إن بينهما علاقة تناقض (كما في قراءة بعضهم لاقتراح أرسطو[3]). هذه المسألة أقل مركزية اليوم حين نميل إلى افتراض أن الديمقراطية الليبرالية هي نقطة الانطلاق في تفكيرنا. ولكن هذا لا يعني في جميع الأحوال أن المفهوم بات غير خلافي. فبعد عصر طويل من الهدوء النسبي تزايد الاهتمام بالمواطنة على نحو دراماتيكي منذ أوائل تسعينات القرن العشرين. ثمة تحديان يواجهان المنظرين ويوجهان عملهم في إعادة فحص المفهوم وتعيين حدوده وتحريره من ماضيه: الأول هو تقدير ما أنجزه الديمقراطيون الليبراليون، وفق اختلاف النظم السياسية وتعدد النماذج الديمقراطية واختلاف مبادئها وقوانينها. والثاني هو ضغط العولمة الشديد على كل ما هو محلي، وبروز مفهوم "المواطن العالمي". فلا يزال الناس يتحدثون، في اللغة السياسية والدبلوماسية، عن "رعايا الدولة"، وعن "دولة الرعاية"، التي ترعى مصالح مواطنيها، وتدافع عن حقوقهم، لا في إقليمها فقط، بل أينما يكونون، عن طريق سفاراتها وقنصلياتها. لا بد أن نذكِّر هنا بالتشابه بين رعايا الدولة ورعايا أبرشية معينة أو رعايا الكنيسة للكشف عن الدلالات الأعمق غورًا لمفهوم الرعية. أما في اللغة والتراث العربيين فلا بد من الذهاب إلى مفهومي الراعي والرعية. والرعية في جميع الأحوال هو التابع الخاضع الذي لا إرادة له ولا حول ولا طول. ولا تزال هذه الدلالة تبطن مفهوم المواطن في الفكر الإسلامي وأيديولوجية الجماعات الإسلامية والجماعات القومية أيضًا، ولا سيما تلك التي تتماهى لديها العروبة بالإسلام السني خاصة. المواطن، في الفكر الإسلامي، وفي "الدولة الإسلامية" المفترضة، ماضيًا ومستقبلاً هو المسلم ومن عداه ذمي أو كافر أو مشرك؛ وفي الفكر القومي العربي، وفي "الدولة القومية" المفترضة، ماضيًا ومستقبلاً، هو العربي، ومن عداه مولى تابع أو أعجمي مستبعد؛ والمعنيان بعيدان كل البعد عن المعنى الذي أنضجه الفكر الإنساني وتجارب الدول الوطنية أو القومية الحديثة. يجمع الباحثون اليوم على أن للمواطنة ثلاثة أبعاد أساسية أو ثلاثة مجالات: - أولها أن المواطنة حالة قانونية، أو وضع قانوني، فهي، بهذا المعنى، ترادف "الجنسية" التي يكتسبها الفرد من عضوية الدولة. يتحدد هذا البعد بالحقوق الاجتماعية، المدنية والسياسية، التي تترتب على علاقاته الاجتماعية والإنسانية بالآخرين، المادية منها والمعنوية، إذ كل علاقة بين طرفين ترتب حقوقًا وواجبات. فالمواطِنة أو المواطِن هنا "شخص قانوني" حر، في أن يعمل ما يريد وفق القوانين النافذة. وله الحق في أن يطالب بحماية الدولة، أي حماية القانون، لحياته وكفالة حقوقه وصون حريته وكرامته، إزاء أي اعتداء عليها أو تهديد لها. - والبعد الثاني، بعد اجتماعي/سياسي، بالمعنى الواسع للكلمة، قوامه النظر إلى المواطنين بصفتهم قوة اجتماعية/سياسية يشاركون بنشاط في الشؤون العامة وفي حياة الدولة من خلال مؤسسات المجتمع المدني، كالجمعيات والنقابات وجماعات الضغط والأحزاب السياسية. وتعد الانتخابات المحلية والتشريعية من أهم أوجه النشاط التي تعبر عن حيوية المجتمع، وهذه لا تقتصر على أوقات الاقتراع، كما في المجتمعات الراكدة، بل هي نشاط دائم موضوعه الحقوق والحريات الخاصة والعامة وقضايا التنمية البشرية والاقتصادية، وتحسين نوعية الحياة العامة وشروطها المادية والمعنوية، فضلاً عن مراقبة عمل السلطات المحلية والمركزية والحيلولة دون تجاوزها على حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم. - أما البعد الثالث فيتعلق بالهوية الوطنية التي يستمدها الفرد من عضويته في "جماعة سياسية"[4]، ويعرِّف نفسه بها لغير مواطنيه، كأن يعرف أحدنا نفسه بأنه سوري، عندما يكون خارج سورية؛ فالجماعة السياسية، أي "المجتمع المنظم" أو "الأمة المنظمة" أو "المجتمع السياسي"، هي المصدر الوحيد للهوية بأبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية. ما يعيِّن فارقًا جوهريًا بين الأصل والهوية من جهة، وينفي أن يكون العرق أو الدين أو المذهب أو الطبقة الاجتماعية أساسًا للهوية الوطنية، أو أن تكون الهوية الوطنية تعيُّنًا للعرق أو الدين أو المذهب أو الطبقة الاجتماعية، أو امتدادًا لأي منها، أو نتيجة من نتائج انتماء الفرد إلى أي منها. لذلك نتحدث عن عرب سوريين وكورد أو آشوريين أو أرمن... سوريين، وعن مسلمين سوريين ومسيحيين سورين وطبقة عاملة سورية... إلخ. السورية، هنا، هي الانتماء إلى جماعة سياسية، وهذا الانتماء التعاقدي، أو التشاركي، الطوعي الحر هو أساس الهوية الوطنية. وفي جميع الأحوال إن معنى الهوية هو الأقل وضوحًا، مع أنه يتصل اتصالاً مباشرًا بالبعدين القانوني والاجتماعي السياسي، بصفته مؤسسًا عليهما معًا وناتجًا منهما معا؛ إذ يضع الباحثون والمفكرون تحت عنوان الهوية عناصر شتى، منها العمل والإنتاج والإبداع، فهوية الفرد، وفق هذا المعطى، هي ما ينتجه الفرد أو ما يصنعه على الصعيدين المادي والروحي، في زمان ومكان معينين، بوصفه عضوًا في مجتمع. أي إن هوية الفرد هي ما هو بالفعل، هنا والآن، وما يريد أن يكونه، في شروط اجتماعية اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية معطاة، وكذلك هوية الأمة[5]. ولا بد من الإشارة هنا إلى العلاقة الوثيقة بين الهوية والانتماء، والتفريق القطعي بين الانتماء إلى مجتمع مدني حديث وجماعة سياسية حديثة، وبين الانتماء إلى جماعة/جماعات غير سياسية وما قبل مدنية، كالانتماء إلى العائلة الممتدة والعشيرة أو القبيلة والجماعة الإثنية أو الدينية أو المذهبية. هذا التفريق يعيِّن فروقًا وحدودًا واضحة بين هوية وهوية، أو بين رؤيتين لما هي الهوية: رؤية تقوم على الرعوية، أي على التبعية، وأخرى تقوم على المواطنة، أي على الحرية. 2 المواطنة في العربية من الجذر (وطن). وفعل وَطَنَ يعنى أقام في المكان، فالتحديد الأول لمعنى وطن هو علاقة بالمكان. ويقال وطَّن الأرض، هيأها للإقامة فيها، ووطِّن نفسه على الأمر هيأ نفسه، فتهيئة المكان للإقامة فيه لا تنفصل عن تهيئة النفس للإقامة في هذا المكان دون غيره، ما يشي بأن التوطن مقترن بالاختيار، وأنه فعل من أفعال الإرادة الحرة. وصيغة واطَن، على وزن فاعَل، تعني المشاركة، ومنها المواطنة، أي التشارك في الوطن تشاركًا حرًا أو نابعًا من الإرادة الحرة. لكن هذه الدلالة اللغوية لا ترقى إلى مستوى المفهوم الذي نحن بصدده إلا إذا وضعت في سياق التحضُّر أو التمدُّن، أي الإقامة في الحواضر أو المدن، إقامة دائمة، على سبيل التملُّك، الذي يعين جملة من الحقوق والواجبات على كل فرد من أفراد الحاضرة أو المدينة بصفته مواطنًا، ومن هنا جاء معنى المواطنة عند اليونان وأخذه عنهم النهضويون الأوروبيون. فالعلاقة بالمكان لم تعد عرضية أو عابرة، كعلاقة البدو الرحَّل بالأماكن التي ينزلون فيها ثم يرحلون عنها، بل غدت علاقة تملُّك تنشئ حقوقًا وواجبات. ومفهوم التملك، هنا، أوسع من نواته الأولى، التي تعني بسط الإرادة الفردية على شيء خارجي، من عقار أو مال؛ فالتملك بمعناه الواسع متصل بالمعرفة والعمل أو المعرفة/العمل والإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي على السواء. وقد عبر عنه هيغل والهيغليون الشباب، ومنهم كارل ماركس، بمفهوم التموضع (راجع مخطوطات 1844 الفلسفية والاقتصادية لكارل ماركس). التموضع هو تملك العالم بالمعرفة والعمل تملكًا يتعدى الملكية الخاصة للأرض والمال ووسائل الإنتاج إلى نوع من تملك جماعي تتعين بموجبه السمات الخاصة لجماعة من الجماعات أو شعب من الشعوب أو أمة من الأمم. ومن هنا يكف الوطن عن كونه مجرد مكان إقامة عابرة أو مجرد "أرض" أو بيئة طبيعية، ويكتسي طابعًا رمزيًا ذا دلالات اجتماعية اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية عامة، يكاد أن يختفي فيها معنى الملكية الخاصة. لذلك يقال الوطن لجميع أبنائه. ومن هنا تولد نزعة حب الوطن لدى كل فرد من أفراده والاستعداد لبذل الغالي والنفيس للدفاع عن حريته واستقلاله وسيادته، وتولد العاطفة الوطنية والنزعة الوطنية أو القومية، ولا فرق. وما كان للوطن أن يأخذ هذه الدلالات والقيم لولا كونه إقليم الدولة وبيئتها الطبيعية والاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية وبيئة مواطنيها جميعًا. لم يعد مفهوم الوطن مقصورًا على العلاقة بالمكان، بل تعداها إلى العلاقة بالشعب الذي يمنح المكان خصائصه الإنسانية الذاتية ثم يستعيد موضوعيتها في ذاته وفي ذات كل فرد من أفراده، مرة تلو مرة. وما كان ممكنًا لعلاقة الأرض بالشعب أن تنشأ على هذا النحو لولا الدولة وسيادتها المطلقة على إقليمها، بدءًا من المدينة/الدولة عند اليونان وغيرهم. لذلك يعرف الحقوقيون الدولة بأنها أرض وشعب وسلطة عامة عليا وسيِّدة. نحن إذًا إزاء مفهوم جديد وحديث يتعدى الدلالة اللغوية، ويندرج في تاريخ التحضر والتمدن وتاريخ الثقافة، الذي هو تاريخنا جميعًا. فالمواطنة CITIZENSHIP تعني المشاركة في الوطن، على أسس الحرية والمساواة والتكافؤ؛ أي إن المشاركة في الوطن نابعة من اختيار حر أو إرادة حرة. الإرادة الحرة أساس العقد الاجتماعي الذي ليس، ولا يجوز أن يكون، عقد إذعان، وليس ناتجًا من غصب أو غلبة أو قهر أو استتباع أو صهر وتذويب قسريين، كعمليات التعريب الحمقاء التي مورست عندنا على غير العرب، ولا سيما الكورد. والشركاء في الوطن متكافئون، بحكم ما بينهم من خصائص مشتركة، أهمها الحاجة إلى الاجتماع المنظم وإلى الأمن والسلم والحياة الحرة الكريمة. ومتساوون في الحقوق المدنية والسياسية. وإلا كفت المواطنة عن كونها مشاركة وتحولت إلى نوع من تساكن أو تعايش. نقول: واطن فلانٌ القومَ، أي عاش معهم في وطن واحد، فصار مواطنًا شريكًا في الوطن وعضوًا في الدولة، يتمتع بالحقوق التي يتمتع بها أبناء مجتمعه ودولته، فهو مواطنهم وهم مواطنوه. ومن ثم، فالمواطنة ترتب للمواطنة والمواطن جملة من الحقوق المدنية والسياسية والحريات الشخصية والعامة، تقابلها جملة من الواجبات المدنية والالتزامات القانونية تُلقى على عاتقها وعاتقه، بصفته كل منهما عضوًا كامل العضوية في الدولة التي تمنحه جنسيتها، أو في المجتمع السياسي، أو الجماعة السياسية، التي تمنحه هويته السياسية. فإن مفهوم الهوية السياسية يرتكز على المواطنة، أي على عضوية الفرد في الدولة وانتمائه إليها وولائه لها. فإذ يعرِّف أحدنا نفسه بأنه (مواطن سوري)، فإن السورية هي هويته السياسية، لا أصله الإثني ولا منبته الاجتماعي ولا موقعه الاجتماعي، ولا انتماؤه الديني أو المذهبي، ولا ميوله الفكرية أو السياسية، فهذه جميعًا خصائصه الشخصية ومحمولاته وتحديداته الذاتية. الهوية غير الأصل، وغير الاعتقاد. هذه أوليات، ولا شك، أو مبادئ أولية، ولكن أهميتها تنبع بالضبط من كونها مبادئ أولية بسيطة، أي قابلة للبناء عليها. فإذا ما حللنا أي بنية فكرية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية نجد المبادئ الأولية البسيطة في أساسها، وفي جميع تفاصيلها. والمواطنة طاعة ومقاومة أو معارضة كلتاهما ضروريتان لكل مواطن، طاعة للقوانين ومقاومة لكل قسر أو إكراه أو ظلم أو تسلط واستبداد؛ الأولى، أي الطاعة، ضرورية لحفظ نظام المجتمع، والثانية، أي المقاومة، ضرورية لصون الحرية. والطاعة هنا طاعة للقوانين العامة فقط، لا لأي فرد ولو كان من أفراد السلطة التنفيذية مهما علت مرتبته، ولا لأي قوة غير قوة القانون. فقد نشأ العقد الاجتماعي ووضعت القوانين لكي لا يخضع أي فرد لنظيره. (الفرد دومًا أنثى وذكر). أما المقاومة فهي مقاومة أي قسر أو إكراه خارجي يتعرض له المواطن أو المواطنة بالطبع، في حياته أو حياتها الخاصة والعامة، من أي جهة أتى، بما في ذلك القوانين الجائرة التي لا تتسق مع حرية المواطن وحقوقه الطبيعية والمكتسبة وكرامته الإنسانية، كقانون الأحوال الشخصية عندنا، وعدة قوانين جزائية وجنائية. المقاومة أو المعارضة حق أصيل للمواطن، وبعدًا أصيلاً من أبعاد المواطنة، فلا بد أن ننزع عن المعارضة الصفة القيمية السلبية التي اقترنت بها في تاريخنا، ولا سيما في أذهان الحكام وبطانتهم وأتباعهم. المعارضة ليست أكثر أو أقل قيمة من الموالاة، والعكس صحيح. المعارضة والموالاة موقفان متعادلان ومتكاملان، كالقبول والرفض، فما من معارضة مطلقة وثابتة ودائمة أو موالاة مطلقة وثابتة ودائمة إلا في نسق الاستبداد، وما من قبول مطلق ورفض مطلق وولاء مطلق وبراء مطلق إلا في النسق ذاته. لذلك كانت الموالاة والمعارضة النسبيتان والمتحركتان والمتغيرتان بعدين من أبعاد المواطنة. لا يمكن فهم السلطة، أي سلطة على الإطلاق، إلا بدلالة المقاومة، والعكس صحيح. فلا سلطة بلا مقاومة من داخلها ومن خارجها. الطاعة الضرورية لحفظ نظام المجتمع، أي إن إطاعة القانون لا تتحقق بالفعل إلا إذا كان القانون المطلوبة إطاعته يسري على جميع مواطني الدولة بالتساوي، بلا استثناء ولا تمييز. فإذا ما كان هناك ولو شخص واحد فوق القانون يفقد القانون جوهره العام، وينفتح باب الاستثناء من القانون، والتمييز بين المواطنين، بحسب درجة ولائهم لأشخاص السلطة أو بحسب مواقعهم الاجتماعية وانتماءاتهم الإثنية والدينية والمذهبية. لذلك عُدَّت المساواة تجسيدًا فعليًا للعدالة. وقد أشرنا غير مرة، في غير مكان، إلى أن المساواة مساواة في الحقوق والواجبات، لا في مقادير هذه وتلك، وتكافؤٌ في الفرص وتساوٍ في الشروط. ويمكن القول إن المساواة شيء والتكافؤ شيء آخر، فالمساواة لغة هي اتفاق شيئين في الكمية، بحيث يمكن استبدال أحدهما بالآخر من دون زيادة ولا نقصان، أما المشابهة فاتفاق في الكيفية، والمتشابهان متكافئان وإن لم يكونا متساويين في الكمية. التشابه أو التماثل هنا تشابه أو تماثل في الإنسانية وفي المواطنة فقط، واختلاف في كل ما عدا ذلك، والاختلاف يمنع المساواة مهما كان طفيفًا. المساواة في علم الأخلاق هي المبدأ الذي يقرر أن الإنسان من حيث هو إنسان مساو لأخيه الإنسان في الحق والكرامة. ولهذه المساواة نوعان: مساواة مدنية ومساواة سياسية. المساواة المدنية هي المبدأ الذي يوجب معاملة جميع الأفراد معاملة واحدة من حيث دعوتهم إلى القيام بالواجبات الملقاة على عواتقهم، ومن حيث تمتعهم بالحقوق المعترف لهم بها في القانون، دونما تفريق بينهم بحسب نسبهم وحسبهم أو ثروتهم أو طبقتهم. وأما المساواة السياسية فهي المبدأ الذي يعترف لجميع الأفراد بحق الاشتراك في الحكم وبحق تسلم الوظائف العامة، بما فيها رئاسة الدولة، وفق الشروط التي يحددها القانون، والتي يفترض أن تكون خاضعة لمبدأ المنافسة أو المسابقة أو الانتخاب الحر، دونما تمييز بينهم حسب ثروتهم أو حسبهم أو طبقتهم أو انتمائهم الإثني أو الديني أو المذهبي، بحيث يكونون متساوين أمام القانون لا يختلفون إلا من حيث كفاءتهم واستحقاقهم أو جدارتهم. فإذا نص القانون على خلاف ذلك وجب على المواطنين مقاومته. وإلى جانب المساواة المدنية والسياسية ثمة مساواة مادية، (وهذه مساواة مثالية أو صورية)، كتساوي رجلين أو أكثر في الثروة أو الدرجة العلمية أو في مختلف الظروف الواقعية. وهي مقابلة للمساواة القانونية أو السياسية. المواطنون متساوون بالمعنى الدقيق للمساواة المدنية والسياسية، لأنهم متماثلون في الكيفية، الإنسانية والوطنية. أما بصفتهم مختلفين في كل شيء عدا الإنسانية والمواطنة، فهم متكافئون. وأما المساواة المادية فتقابل التفاوت، وتكاد تكون مستحيلة، لأن ثمة تفاوتًا بين الأفراد لا يمكن حذفه أو إلغاؤه من دون حذف الفردية ومحو الشخصية أو إلغائها، حتى لو ألغيت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ليس الغرض من القول بالمساواة إنكار الاختلاف الطبيعي بين الأفراد، بل الغرض منه تحقيق العدالة الاجتماعية في جميع مناحي الحياة. المساواة هي التعبير العملي عن العدالة، فلولا الاختلاف والتفاوت لما كان الناس في حاجة إلى المساواة. وما تجدر ملاحظته هنا أن الاختلاف يمنع المساواة نظريًا وواقعيًا، مهما كان الاختلاف طفيفًا. ولما كان الأفراد إناثًا وذكورًا مختلفين اختلافات لا حصر لها كانت المساواة المدنية والسياسية، على نحو ما ذكرنا، مساواة في الحقوق والواجبات، لا في مقاديرها، ومساواة في المشاركة في الشؤون العامة وفي حياة الدولة، ولا سيما ما يتعلق منها بتسلم الوظائف العامة، سواء في السلطة التشريعية أو في القضاء أو في مؤسسات السلطة التنفيذية. المساواة في الحقوق والواجبات مؤسسة على المساواة في الماهية الإنسانية وفي المواطنة. ولذلك قيل: المواطن هو تجريد الفرد الطبيعي، زيد أو عمرو، من جميع صفاته ومحمولاته وتحديداته الذاتية. والدولة هي تجريد المجتمع المدني من جميع صفاته وخصائصه وتجريد كل فرد من أفراده. هذا معنى أصيل وعميق، وإن بدا غامضًا بعض الشيء. فإذا ما جردنا الفرد الطبيعي، زيد أو عمرو، من جميع صفاته وخصائصه الفردية، ومن جميع محمولاته، أي أفكاره وتصوراته وعواطفه ومعارفه ومعتقداته... ومن جميع تحديداته الذاتية التي يحدد ذاته بها كأن يصف نفسه بأنه عربي أو كوردي، مسلم أو مسيحي، ليبرالي أو اشتراكي، يساري أو قومي أو إسلامي... إلخ، إذا جردنا الفرد الطبيعي من هذا كله لا يتبقى لدينا سوى الإنسان، على الصعيد الوجودي، الماهوي، والمواطن على الصعيد القانوني، إذ لكل شكل من أشكال الوجود قوانينه الخاصة. وعلى هذا القياس نقول الدولة تجريد المجتمع المدني من جميع خصائصه الطبقية أو الفئوية والإثنية والدينية والمذهبية ومن التفاوت في المرتبة الاجتماعية، في الغنى والفقر والحسب والنسب والقوة والضعف... إلخ. وليس هنالك أدق من تعريف ماركس للدولة بأنها "الإنسان مموضعًا". فإن نص الدستور السوري على أن "دين رئيس الجمهورية الإسلام" ينزع صفة المواطنة عن غير المسلمين، وهم نسبة غير قليلة من السكان. والنص على أن يكون رئيس الجمهورية عربيًا ينزع صفة المواطنة عن غير العرب، وهم نسبة غير قليلة من السكان أيضًا. التعلل بالأكثرية والأقلية العدديتين، في هذا الموضوع، باطل ولا قيمة له، وفق ما توجبه مبادئ المواطنة، ولا سيما مبدأ المساواة السياسية التي تضمن حق أي مواطنة أو مواطن في المشاركة في حياة الدولة، أي في شغل أي منصب تشريعي أو قضائي أو إداري في مؤسسات الدولة، بما في ذلك رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الوزراء. التفريق بين المساواة المدنية والمساواة السياسية ضروري، وعلى درجة كبيرة من الأهمية، ولا سيما حين نتحدث عن تساوي الجماعات في الحقوق والواجبات، فضلاً عن تساوي الأفراد. المساواة المدنية تتعلق بعضوية الأفراد والجماعات في المجتمع المدني. فجميع منظمات المجتمع المدني من جمعيات ونواد ونقابات وأحزاب ومؤسسات دينية متساوية في الحقوق والواجبات، وهذا متفق عليه، كما أظن. لكن ما يحتاج إلى نقاش هو تساوي الجماعات الإثنية والجماعات الدينية والمذهبية في الحقوق المدنية، بغض النظر عن عدد أفراد كل منها، لأن المساواة في الحقوق مطلقة، لا تتعلق بالكم، ومقاديرها نسبية، كما أشرنا. المبدأ الوطني والإنساني في هذا الموضوع يقضي بتساوي جميع الإثنيات والأديان والمذاهب في القيمة الإنسانية والروحية، وفي الحقوق المدنية والواجبات المدنية، بغض النظر عن عدد أفراد كل منها، لأن الكم لا يضيف شيئًا إلى ماهيَّةِ إثنيةٍ معينةٍ أو دين معين أو مذهب معين ولا ينقص منها شيئًا. وهذا مطَّرد في علاقة الكم والنوع؛ الكم لا يضيف شيئًا إلى النوع ولا ينقص منه شيئًا. ومن ثم فإن كثرة العدد أو قلتها، هنا، لا تنتج منها ولا تترتب عليها أي نتيجة سياسية. أما المساواة السياسية فمساواة بين الأفراد، بصفتهم مواطنين. تُستثنى من ذلك الأحزاب السياسية، انطلاقًا من صفتها هذه، أي انطلاقًا من كونها أشخاصًا سياسية. (الحزب السياسي، شخص قانوني وسياسي) مع أن الأحزاب السياسية من منظمات المجتمع المدني، إلا أنها تقع على الحد الفاصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، كما أشرنا، ولأن عضويتها لا تقتصر على أبناء إثنية معينة أو على أتباع دين معين أو مذهب معين، وهذا ما يمنحها طابعًا وطنيًا، إضافة إلى مضمون برامجها وأهدافها. ولأن بوسع الحزب أن يرشح أعضاءه في الانتخابات التشريعية، باسم الحزب، أو بصفتهم ممثلي الحزب، وبوسعه تأليف الحكومة إذا فاز بأكثرية أصوات الناخبين. ولا يكون الحزب وطنيًا إذا كان فرعًا لحزب مركزه خارج البلاد، أو إذا كانت له فروع خارج البلاد. هذه أيضًا مبادئ أولية للوطنية والمواطنة، يجب الوقوف عندها والتمسك بها، من أجل حياة سياسية سليمة. فلا يجوز أن يكون للحزب السياسي الوطني طابع إثني، عربي أو كوردي، على سبيل المثال، أو طابع ديني أو مذهبي. ولا يجوز أن يكون امتدادًا لحزب مركزه خارج البلاد أو أن تكون له امتدادات تنظيمية أو فروع خارج البلاد. كثيرًا ما يستعمل مفهوم التعايش بدلاً من مفهوم المواطنة، للالتفاف أو الاحتيال على الحقوق المدنية والسياسية المتساوية للمواطنين. وهو، أي مفهوم التعايش، على وزن التحايل والتكاذب، مفهوم رديء، يدل، في الواقع، على التعايش قسرًا، أو على مضض، ويعبر عن حالة جماعات ما قبل مدنية وما قبل وطنية مناهضة للدولة بالتساوي، وتغلف مناهضتها بمفهوم التعايش ومفهوم "الديمقراطية التوافقية" السائدين في لبنان، واللذين يلقيان رواجًا في العراق، وقد تأثر بهما بعض السوريين بكل أسف، وعبر عن ذلك بعض السياسيين وبعض المثقفين، على استحياء، بتقاسم السلطة تبعًا لتقاسم السيادة "بين الدولة والدين"، بدلاً من الاحتجاج على تقاسم السيادة، إذا كان ثمة من تقاسم لها بالفعل، أو بالدعوة إلى "ديمقراطية توافقية" أو بالدعوة إلى إقامة مرجعية إسلامية سنية واحدة، يرجع إليها جميع المسلمين السنة في العالم. وما كنا لنعبأ بمثل هذا الهذيان الطائفي لولا أن لمثل هذه الأقاويل أنصارًا ومؤيدين ممن يرون في العروبة الإسلامية أو الإسلام السني، العربي، هوية سياسية، مقابل الإسلام الشيعي الذي بات هوية لدى اليمين الإيراني المحافظ، من دون أن يكون هؤلاء السوريون من جماعات الإسلام السياسي، ولو كانوا كذلك لهان الأمر وخف المصاب. إن جمعًا غير منسوج من الإثنيات والأديان والمذاهب المتحاجزة والمتفاصلة، والمتعايشة على مضض، لا يشكل مجتمعًا مدنيًا، ولا يشكل أمة وشعبًا، ولا ينتج من علاقاته الاجتماعية الاقتصادية والسياسية دولة حديثة، بل تنتج منها سلطة مؤسسة على الغلبة والقهر، تنحل وتتشكل كلما اختلت نسبة القوى الإثنية أو الدينية أو المذهبية، لأسباب محلية أو خارجية، أو كلما غيرت هذه القوى ولاءاتها وتحالفاتها الداخلية والخارجية أيضًا، لبنان والعراق نموذجان على قدر كبير من الوضوح. ويمكن تفسير هذه الحالة بأن العقد الاجتماعي هنا عقد بين جماعات مغلقة تعيِّن كل منها هوية أعضائها، لا عقد بين مواطنين أحرار يتمتعون بحقوق مدنية وسياسية متساوية. الجماعات المغلقة في كل مكان مناهضة للدولة وعقبة كأداء في طريق نشوئها وتطورها، ولا ينخدعن أحد بالأعلام والأناشيد التي تسمو عليها الرموز الإثنية والدينية والمذهبية، ولا بالدساتير والقوانين "الحديثة" التي لا تُحترَم ولا تطبق ولا تشكل وازعًا أخلاقيًا ولحمة قانونية لهذه الجماعات وأفرادها تنتظم بها الحياة الاجتماعية. في هذه الحال تتقاسم الجماعات المغلقة السلطة وفق نسبة القوى المتغيرة، كما أشرنا، وتتقاسم السيادة لو كان اقتسامها ممكنًا، إذ لا ينطبق مفهوم السيادة على السلطة أولاً، لأنه مفهوم لصيق بالدولة الوطنية، ولا على سلطة من هذا النوع تفتقر إلى العمومية، أي إلى الوطنية، ثانيًا، لذلك يظل شبح تقسيم الوطن إلى كانتونات ماثلاً في ثنايا الحياة السياسة، وتتحول القوى السياسية المحلية إلى استطالات لقوى خارجية، ويتحول الاستقرار السياسي والتعايش الاجتماعي إلى هدنة بين حربين تقصر أو تطول. فليس ثمة من بلاء أعظم من اقتسام السلطة وفق نسبة القوى الإثنية والدينية والمذهبية. 08-10-2011 *** *** *** سؤال التنوير [1] فرَّق أفلاطون بين الفرد الطبيعي المسوق بسائق حاجاته ورغباته وأهوائه وبين المواطن، بما هو عضو في المدينة/الدولة، يتمتع بالحقوق ويلتزم الواجبات، ويتعلق بالقيم الاجتماعية والإنسانية العامة، قيم الخير والحق والجمال. [2] راجع في هذا الصدد كتاب المسألة اليهودية لكارل ماركس، ترجمة الياس مرقص، صدر عن دار الطليعة ببيروت. [3] فرَّق أرسطو بين المواطن الحر وبين التابع، فعرَّف التابع أو العبد بأنه "من ضعف روحه وقلت حيلته فأتبع نفسه لغيره". ولا يخفى أن أرسطو كان يحمل العبيد والنساء مسؤولية عبوديتهم ليبرئ النظام الاجتماعي القائم على الاستتباع والاستعباد. وإذ كان أرسطو يساوي بين العبيد والنساء، كان ينظر إلى الأطفال على أنهم "مواطنون ليس بعد"، وإلى الشيوخ على أنهم "مواطنون فات أوانهم". وقد كان لأفكار أرسطو خاصة حظوة كبيرة في الفكر الغربي الحديث. [4] يجب التفريق دومًا بين "الجماعة السياسية" التي هي الدولة أو "المجتمع المنظم" أو "الأمة المنظمة" أو "الشعب"، بوصفه مصدر الشرعية والسيادة ومصدر جميع السلطات، وبين الجماعات المدنية، كالطبقات الاجتماعية وما تقيمه كل منها من تنظيمات اجتماعية خاصة وعامة. والأهم من ذلك التفريق بين هذه الجماعات المدنية والجماعات الطبيعية، ما قبل المدنية، كالأسرة والعائلة الممتدة والعشيرة والجماعة الإثنية (القومية) أو الدينية أو المذهبية. وإلا فنحن في السديمية والاختلاط. [5] لا بد أن نفرق دومًا بين الأمة المنظمة في دولة، والأمة غير المنظمة، إذ الأولى، أي الأمة المنظمة، أساس الدولة ومضمونها، والمعادل الثقافي والأخلاقي للمجتمع المدني، والشعب هو المعادل السياسي لكليهما. أما الأمة غير المنظمة فمثالها "الأمة العربية"، في الفكر القومي، و"الأمة الإسلامية، في الفكر الإسلامي، وهي جماعة من الناس تشترك في صفات أو خصائص معينة، وتجمع بين أفرادها روابط إثنية/لغوية و/أو دينية. هذه الروابط وتلك الصفات والخصائص لا تحتم أن تنتظم هذه الجماعة في دولة واحدة، والأمثلة على ذلك كثيرة. لذلك يمكن تعريف الدولة بأنها مجتمع منظم أو أمة منظمة، أو بأنها التحديد الذاتي للشعب، وشكل حياته الأخلاقية، كما عرفها كارل ماركس.
|
|
|