بان ونرسيس وايكو
الأبعاد الميتافيزيقية والإيتيمولوجية والاجتماعية النفسية

نبيل سلامة

بان أحب إيكو، وإيكو أحبَّت نرسيس الذي لم يحب سوى نفسه.
مؤلف مجهول الاسم، القرن السابع ق.م.

إيكو هي ألهةٌ من آلِهَة الأولمب، وهي التي تهِب حبها كلَّه وتكرِّس نفسها له بالكامل دون أن تطلُبَ مقابلاً لقاءَ ذلك. لكنها لا تحب بان، الذي لا يكلُّ ولا يملُّ من ملاحقتِها.

يذكر الدكتور فيكتور د. ساليس في كتابه الميثولوجيا الحية ما يلي:

نرسيس هو ابن من سيفيزو Céfiso والحورية ليريوبه Liríope من بيوكيا Beócia (في بلاد اليونان). وُلِدَ نرسيس بأمرٍ من أفروديت إلهة الحب والجمال لأنها كانت تريد أن ترسِل على الأرض رسولاً لها، ذا جمال يفوق كلَّ شيء، لكي يردَعَ الرجال عن النزاعات والحروب وأن يجتذِبَهم إلى الحبِّ. إلا أنه عندما وُلِدَ تنبأ له العرَّاف تيريسياس قائلاً: "ستحيا لطالما أنك لا ترى نفسك". أو أنه كان محتومًا عليه تدمير ذاته تمامًا في اللحظة التي يرى فيها صورته.

أما قصة نرسيس كما يذكرها الدكتور ساليس في كتابه الميثولوجيا الحية:

ذات يوم وكان لا يزال شابًا نادرَ الجمال، انحنى وهو عائد من الصيد، نحو ينبوع لكي يشرب فرأى نفسه لأول مرة. وللحال أُغرِمَ بنفسه، وطفق يرغب كثيرًا الاتحاد بها. لكنه سقَطَ منهَكًا ويائسًا ألا يتوصَّل إلى ذلك، وأُغمِيَ عليه. وللحال، أعلَمَت طيور الغابة أفروديت بما حصل، وكانت هذه الأخيرة ترغب للغاية أن يطوف نرسيس في كل الأنحاء لكي يجتذِبَ ويوقِظَ الحب في الإنسانية، فعَمَلَت كل ما بوسعها لكي يستيقظ ويخرج من هذا الانذهال بذاته. لهذا بعَثَت إليه بالحوريتين "دريادِس" و"نايادِس"، (من أنصاف الآلهة وهما في غاية الجمال وكانت تسكنان في الغابات)، لكي تُحَاوِلا إيقاظَه من سباته المهلِك بجماله وفتنتِه. لكن، لم يُجدِ شيء نفعًا. وبعثَت الإلهة لنرسيس غيرَ مرَّة الإيفيبوس الأكثر جمالاً (وهم شبَّان فتيان ذوو جمال هائل مكرَّسون للإله أبولو) لكي يحاوِلوا إيقاظه، لكن مسعاها ذهب أيضًا أدراج الريح.

عندها بعثت إليه كحلٍّ أخير بالإلهة إيكو، لأن هذه كانت تعطي كل شيء دون مقابل. فمن يدري، هكذا يمكن لحبِّها أن يغويَه. لكن مسعاها ذهَبَ أيضًا أدراج الريح. وتروي الأسطورة أن ايكو حزنت لعدم مبادلته إياها الحب – لأن أحدًا لم يرفض حبها من قبل – فرَمَت بنفسها يائسةً من أعلى الجبل إلى أسفل. ومنذ ذلك الحين، يسمع كل من ينطِق بشيء ما في الجبال أو في الممرَّات الضيقَة ترديد ما نطق. هكذا، وُلِدَ الصدى، الذي يمثِّل الانكفاء الجذري إلى حدٍّ يصبِح معه المنكفئ مساويًا للذي يهِب (وهذه هي المجازفة الكبرى).

الأبعاد الميتافيزيقية والإيتيمولوجية والاجتماعية النفسية لأسطورة بان وايكو ونرسيس

البعد الميتافيزيقي لنرسيس

تقول نبوءة العراف تيريسياس لنرسيس نفسه: "ستحيا لطالما أنك لا ترى نفسك"!! يا للعجب، يا للأسرار هذا الكون... ومعظمها يختفي تحت عباءة الأساطير اليونانية. الفكرة تدور حول فكرة "الشيطان"، معظمنا لا شك يعلم اسم الشيطان الحقيقي؟!!

إنه كما نعلم يُدعى "لوسيفر"، ومعظمنا يعلم معنى الكلمة، وهي: "الفائق الجمال"، أي الأكثر جمالاً في الخليقة، وربما أفروديت إن هي إلا وجه من وجوه الألوهة، والجمال حسب المتصوفة هو وجه الألوهة. ومن هذا الجمال، ولنقل تجاوزًا أفروديت، أتى المخلوق الثاني بعد هذه الألوهة في الجمال وكان "لوسيفر"!!

ولكن، ماذا حصل للوسيفر؟! إنها قصة نرسيس نفسها، أو كما يقولون بداية المصيبة الكونية. فعوضًا عن التمحور والتمركز حول مبدأ كل جمال وكل وجود وكل حياة تمحور لوسيفر وتمركز حول ذاته وأصبح مركز ذاته ومركز وجوده، ففقد مركزه الحقيقي، وهنا كان هلاكه. وهذه قصة كل إنسان فينا بشكل أو بآخر. ويدلو علم النفس بدلوه ليحدثنا بأبعاد لا حدود لها بما يسميه "النرجسية"!

هكذا، إذن، كان ضياع نرسيس. وهكذا كان ضياع لوسيفر. إنها مأساة أبعادها لا تنتهي. فلقد سقط لوسيفر، وضاع نرسيس، وايكو، هذه الحورية الجميلة، هَوَت من أعلى الجبل، لأنها أحبت نرسيس، أحبت لوسيفر، الذي لم يستطع ولن يكون بمستطاعه مبادلتها الحب، فهو يعشق ذاته. وكيف لا؟ وهو أجمل مخلوق؟! لا شك أن ثمة تحدٍّ كبير لنا في هذه التراجيديا، الانفصال عن الذات الإلهية والتمركز حول الذات المخلوقة، وبالتالي بدء عشق الذات عوضًا عن عشق الذات الإلهية، هذا ما يعبر عنه اللاهوت، بعدة مدارسه، بالخطيئة الأصلية.

القصة التي ترويها الأسطورة في مراجع أخرى قديمة تقول إن نرسيس قد تحول إلى صنم عندما رأى صورته وهام عشقًا لها، وهذا له معنى واضح، لأنه بعبادته لذاته أصبح صنمًا لذاته. لقد فقد معاني العبادة للألوهة الحقيقية، التي هي نكتار هذا الكون أي رحيقه السرِّي، سعادته وغبطته وجماله الحقيقي غير المخلوق، وهكذا صار نرسيس صنمًا لذاته، لأنه افتقد الإله الحقيقي غير المخلوق.

ولكن، ما قصة ايكو؟ أي مصير هذا؟! أليست ايكو هي النفس البشرية؟ أفلا تذكرنا ايكو هنا ببسيكه التي هامت على وجهها حبًا وهوى بحبيبها ايروس؟!

لكن، ثمة سؤال يحزُّ في القلب. ايكو الحبيبة، والغالية، لماذا ارتكبت تلك الخطيئة برفضها "بان"، وذهبت وراء نرسيس؟! وبالتالي جرَّت على نفسها قدرًا أعمى!

و"بان" هذا من يكون؟! البعض يقول إنه ابن هرمس، وآخرون يقولون إنه رمز للكون، وآخرون يربطون اسمه بالكلمة السنسكريتية Pavana أي الريح، واعتقدوا أنه تجسيد للنسيم الرقيق. لعل الريح والنسيم الرقيق يذكرنا بـ"النسيم الرقيق" الذي أتى إلى ايليا النبي على جبل حوريب وكان هو الله، أو فلنقل "الروح". إن ايكو بعدم قبولها حب "بان" الذي هام بها على وجهه عبر الغابات والحقول دفعت الثمن غاليًا، ووقعت في إسار نرسيس "لوسيفر" الذي قادها إلى الهاوية. يا لبؤس المصير؟! وفي الهاوية لم نسمع من بقايا ايكو إلا "الصدى" فلقد ضاعت ايكو إلى الأبد!

هل بكَتْها أفروديت وبكتها الآلهة؟! هل بكاها "بان"؟! هل تخلى عنها إلى الأبد؟ أستطيع أن أرى "بان" وقد توحَّد بالمسيح على الصليب، وأستطيع أن أرى "بان" وقد توحَّد بالمسيح في نزوله إلى العالم السفلي بحثًا عن ايكو وإنقاذها وإعادتها إلى عالمها السماوي بين النجوم، وحينئذ نرسيس أو لنقل لوسيفر سيتفتَّح أو ينبثق زهرة من أعماق الجحيم الذي عاشه بعدما يكون قد تطهَّر. وما معنى الجحيم إلا انفصاله عن موضوع حبه الأزلي الجمال غير المخلوق. نعم، سوف ينبثق لوسيفر زهرة هي أجمل أزهار الكون قاطبة، تعبِّر عنها زهرة النرجس.

المعنى الإيتيمولوجي لاسم نرسيس

أثناء قراءتي كتاب الميثولوجيا الحية للدكتور فيكتور د. ساليس أوقفني كثيرًا تكراره كلمة نرسيس واشتقاقها اللغوي الذي يأتي من اليونانية narkissos والتي تعني "ذلك الذي جرى تخديره وشلَّه". ثم يقول الدكتور ساليس إن كلمة narcótico (تخديري، تنويمي) في البرتغالية، ومن هنا يأتي اشتقاقها، من حيث كون "نرسيس واحدٌ من أقدم المنوَّمين الذين نعرفهم، وذلك تحت تأثير مماثِل للخلاصات المأخوذة عن نبات الخشخاش" كما يقول الدكتور ساليس.

ههنا أوقفتني كلمة "شلَّهُ"، وربطتُها باللغة العربية واشتقاق لغوي آخر هو "الشكل" أليس "الشكل" في حدِّ ذاته نوعٌ ما من الشلل؟! وعندما نقع في إساره، أليس هو نوع من أنواع التخدير والتنويم أشبه بالتنويم المغناطيسي؟!

إن ما نسميه إغواءً ليس أكثر من فعل أو تأثير narcotico؟!

لستُ ضد الجمال فأفروديت تدعى أورانيا ملكة السماء، ولعلنا قرأنا حول مفعول حزامها السحري، ولعل المسيحيين أيضًا بدورهم يقدِّرون ما لزنَّار العذراء من مفاعيل عجائبية؟! هناك قديمًا حزام أفروديت، والآن في العالم المسيحي أصبح زنَّار العذراء؟! إن وجه العذراء ليس حكرًا على المسيحيين أبدًا، فهو وجهٌ عرفَتْه كل الشعوب تقريبًا كالمصريين من خلال إيزيس أم حورس ولها قصة من أجمل ما يكون عبَّر عنها أبوليوس فيما يُعرَف بأول رواية في التاريخ باسم "الجحش الذهبي" يعلِّقُ حولها أجمل التعليق العالِم الكبير في الأساطير جوزيف كامبل، وأيضًا الهندوس من خلال روح الحقيقة ساتي، أو "بارفاتي" الرائعة التي تستطيع أن تربح قلب الإله شيفا وتصبح زوجةً له، أو الاتحاد الخلاَّق في التانترا الهندوسية بين شيفا وقوَّته الخلاّقَة شاكتي، ولها أسماء أخرى عند شعوب كثيرة كأم الحياة... إلخ.

إذن، أنا لستُ ضد الجمال، ولا حتى ضد الشكل، ولكنني ضد الشكل عندما يصير narcotico، وبعبارةٍ أخرى عندما يشلَّني ويخدِّرني وينوِّمني تنويمًا مغناطيسيًا، وأصير عبدًا له أو أسيرًا في شِبَاكه، حينئذ فإن ايكو مصيرها السقوط من أعلى الجبل إلى الهاوية السحيقة!

مثلاً حاول عالم النفس الكبير إميلي كوِي تفسير الأمر بما أسماه الأثر العكسي، قائلاً إنه إذا دخلت الإرادة في صراع مع الخيال، فالخيال هو الذي ينتصر، ولا يوجد خيال من دون شكل، ولكن ما هي الآلية التي ينتصِر من خلالها الخيال، إنها آلية الأثر العكسي، وما هو الأثر العكسي؟ يفسِّر الأمر أحد حكماء التانترا على النحو التالي:

تخيل شخصًا مبتدئًا يتعلم ركوب دراجة. ربما يكون الشارع كبيرًا وعريضًا، ولكن إذا كانت هناك صخرة صغيرة على قارعة الطريق فسيخشى سائق الدراجة من الاصطدام بها. ورغم أن هناك احتمال واحد بالمئة في أن يصطدم بذلك الحجر، إلى درجة أنه حتى الرجل الأعمى من المرجَّح أن يتجاوزه بأمان، ولكن بسبب خوفه، فإن راكب الدراجة يكون متيقِّظًا للحجر فقط، فيتضخَّم الحجر في ذهنه ويختفي الشارع. فقد نوَّمه ذلك الحجر تنويمًا مغناطيسيًا، وسحبه نحوه، ثم يصطدم بذلك الحجر بالذات، والذي بذل كل ما في وسعه لينجو بنفسه منه. لقد كان الشارع كبيرًا عريضًا، فكيف حصل الحادث لهذا الرجل؟

ثم يعقِّب حكيم التانترا قائلاً:

ألم تلاحِظ أن العقل قد سُحِبَ ونُوِّم مغناطيسيًا من خلال الشيء الذي يسعى لتجنُّبه؟

لا شك، فثمة مصادفات عجيبة، فهنا حكيم التانترا أوشو يستعمل عبارة حجر، وهذا الحجر سَحَبَ الرجل إليه بعد تنويمه مغناطيسيًا؟!

إنه تمامًا ما أراد الدكتور ساليس أن يقوله لنا: الحجر هو نرسيس-الصنم، لقد أصبح كالثقب الأسود في علم فيزياء الكون يسحب كل شيء إليه حتى الضوء يمتصه، ويمتص المادة ويبتلعها معيدًا إياها إلى العدم أو ماذا لا نعلم. ألم يكن هذا مصير ايكو المسكينة؟ ألم يمتصها هذا الثقب الأسود أو هذا الحجر أو هذا النرسيس-الصنم؟!

إنها لمعضلة أساسية معضلة الإنسان المعاصِر مع عبادة الشكل النرسيسي، إنه يأسره ويمتصه محيلاً إياه رمادًا. ولكننا لا شك نعرف أسطورة الفينيق، إن الفينيق ينبعث من جديد من الرماد بعد أن يكون قد احترق. هكذا هي إيكو، وهكذا هي بسيكه. هذا هو الأمل. المسألة كلها كيف يكون بمقدورنا، أو على الأقل كي لا أكون ظالِمًا للآخرين، كيف يكون بمقدوري التحرر من إسار الشكل، وبالتالي معاينة الجمال الحقيقي لا المشلول فالشكل والشلل صنوان وهما الشيء نفسه!!

الجمال أو أورانيا، أي أفروديت ملكة السماء، أمرٌ آخر، إنه اللاموصوف، وبالتالي اللاشكل أو ما هو أبعد بكثير من الشكل. إنه حرية لا حدود لها. إنه إبحار في أعماق لا غور لها. إنه ما يسميه الشرقيون بالتأمل الذي يقود اليوغي أو الصوفي إلى السمادهي أي الغيبوبة الروحية، وهي شلل من نوع آخر. إنه يغيب عن الحس، ويغيب عن الشكل ويصبح في عالمٍ أوراني أفروديتي كوني من النور الخالص أو فلنقل من الجمال الخالِص كان قد عبَّر عنه شعراء عظام مثل وليم بلايك الإنكليزي، وغوته، وشيلر من ألمانيا، والشيرازي من فارس، وسواهم كثر.

البُعْدُ الاجتماعي النفسي لايكو

أحيانًا، علينا أن نضحكَ وأعماقَنا تبكي، كما يقول المثل الشعبي: "العصفور يرقص من الألَمِ"!!

والآن، الصدى، "ايكو"، ما هي حقيقته؟!

إن ايكو عندما تصطدِم بالقسوة، قسوة الصخور، ترتدُّ عبرَ الوديان والجبال حيث ليس ثمَّة إلا صخور. وايكو لا يبقى منها سوى صدى. كانت صرخة حب فتحوَّلت إلى صدى. ومن حوَّلَها إلى صدى؟! الصخور، والقسوة التي تخلو من أيِّ بعدٍ للرحمة في قلبها. فالصخور وحدها لا تعرف معنى للرحمة، لأن لا قلب لها.

هكذا، كانت صرخة ايكو عندما لم تعثر على تجاوبٍ على حبها، أو ربما على رحمة. وهكذا، فإن صرخة الحب لم تعُدْ ولم تصِرْ أكثرَ من صدى تردِّدُها قسوةُ الجبال، وقسوةُ الصخور.

وحينئذٍ، ترجع ايكو وترتدُّ إلى موطنها كالمغترِب الذي عاش عدة سنين في غربته على سبيل المثال، فلم يستطِع العثور على الحب هناك!

إن ايكو سرعانَ ما تسقط ضحيةَ "عقدة اضطهاد" لأن لديها استعدادٌ أن تحبَّ الجميع. لكن، عندما لا يتجاوَب الآخرون مع طيبة قلبِها، ربما أحدهم لنرجسيته، وآخر لقسوته، وآخر لصعوبة ظروفه... إلخ، فإن ايكو تجد نفسها أخيرًا وحيدةً، وتسقط من أعلى الجبل. إن سقوط ايكو من أعلى الجبل ليس أكثر من سقوطها في "عقدة اضطهاد"، لأن أحدًا لم يستطِع أن يفهمَ حبَّها البريء كالطفل، والذي لا تريد تلطيخه في وحل المصالِح الأنانية والغايات النفعية وحب السلطة والمال – طبعًا لا أريد الخوض في بحث التحليل النفسي لعقدة الاضطهاد فالموضوع هنا تأملي بحت –... إلخ.

إن حب ايكو بريء، وبسيط، وطيب حتى السذاجة!!

لكن، ايكو وإذ رجِعَت بعد عدَّة سنين حَسَبَ المثال المذكور آنفًا ولم تعُدْ في تلك البلاد بلاد غربتها حيث الغربة هي أين يجد المرء نفسه غريبًا، والغريب هو من لا يشعر بالحب في أية بقعة أرض حتى ولو كانت الوطن نفسه!. إذن، فلنعد إلى مثالنا إلى ذلك المغترِب الذي عاش عدة سنين في الغربة فهو الآن لم يعُدْ في تلك البلاد أكثر من صدى، لم يبقَ له من وجود، فهو هناك ليس أكثر من صدى، ولا وجود له، وإنما وجوده استحال إلى صدى!

ولكن، هل ايكو معصومةٌ أيضًا في وطنها كذلك المغترِب الذي عاش عدة سنين في الغربة ثم عاد إلى موطنه، هل هو معصوم مثل ايكو أن تتكرَّرَ مأساته، إذا لم يتجاوب الآخرون مع حبِّه؟!

أفلن يسقط من جديد من أعلى الجبل، وسقوطه حينئذ، أليس هو "عقدة اضطهاد" جديدة..؟!

هنالك فرق بين ايكو ونرسيس. نرسيس لا يستطيع إلا أن يكون قاسي القلب، أما ايكو فهي رقيقة الفؤاد، عذبة النفس، طيبة القلب، ولذلك فهي تعايش مأساة نرسيس، على نحوٍ سلبي وتغرق في "عقدة اضطهاد" سقوطها من أعلى الجبل!

إذن، من الممكن لهذا الحب الطاهِر، والبريء، والبسيط، والصادِق، والحر الذي تبحث عنه ايكو ألا تجد له صدى، فتصبح هي نفسها صدى لأن أحدًا لم يقبَل حبها ورفضها الجميع تقريبًا.

وحينئذٍ... أفلعلَّها "تنتحِر"؟! أم أنها تذهب إلى "مشفى للمجانين"؟!

لأن الأرض في حدِّ ذاتها، كما يقول أحد حكماء التانترا، ليست أكثر من مشفى هائل للمجانين، ومعظمنا يعرِف ما آل إليه الفيلسوف العظيم نيتشه، وكذلك معظمنا يعرف سيرة باولو كويليو كم مرة أدخله والده فيها إلى مشفى للمجانين، وأصبح فيما بعد من أشهر روائيي العالَم في القرن العشرين، بعد رائعته الخيميائي، والحاج كومبوستيلا، ولعله يحكي شيئًا من سيرته التي ذكرناها لتونا في روايته فيرونيكا تقرر الموت. وبعيدًا عمَّا ذكرناه يتحدث عن مساره الروحي في رواية لقاء الملائكة أو الفالكيري... إلخ.

نعود إلى حديثنا. نعم، عندما تخلو الأرض من الحب الطاهِر والبريء والبسيط والصادِق، فهي ليست أكثر من مشفى للمجانين!

وايكو ربما تصير واحدة منهم، أو تدخل عنوة مثل فيرونيكا إلى مشفى للمجانين حقيقي، تعيش معهم مثلما دخل أيضًا نيتشه قبلَها وكتب أعظم كتبه إرادة القوة، أيُّ مجنونٍ كما يقول حكيم التانترا اوشو يستطيع أن يأتي بكتاب مثل كتاب نيتشه إرادة القوة؟! لكن، المفارَقة هي أن نيتشه نادى بالقوة وإرادة القوة في مشفى المجانين لأنه لم يدرك أن القوة دون حب هي جنونٌ محض!!

نعود إلى ايكو. إذن، ربما يصير مصيرها مثل فيرونيكا في رواية باولو كويليو، أو مثل نيتشه حقيقةً وواقِعًا، وهناك في مشفى المجانين تردِّد الصدى، صدى الحب الأزلي وغير المفهوم من قِبَل البشر!

وربما هذا أيضًا هو السر العميق في رواية أعتبرها من أعظَم ما كتب دوستويفسكي على خلاف ما يعتبِر النقاد أن أخوة كارامازوف هي أعظم ما كتبَ فإنني أرى أن رواية الأبله لدوستويفسكي تستطيع أن تقول لنا كل شيء عن ايكو، ومصيرها الفاجِع، في عالَمِ لا يعرف الحب!

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود