|
النسوية الإيكولوجية*
وجدت البحوث النسوية طريقها إلى القضايا البيئية ونشأ تيار النسوية الإيكولوجية تعبيرًا عن الارتباط بين أهداف الحركتين النسوية والبيئية. تقول روز ماري رادفورد رويثر Rosemary Radford Ruether في كتابها امرأة جديدة/كوكب جديد New woman/New Earth: ينبغي أن تدرك النساء أنه لن يكون ثمة تحرر لهن أو حل للأزمة البيئية في سياق مجتمع يتصف بأن النموذج الأساسي لعلاقاته هو السيطرة. ينبغي عليهن أن يوحدن مطالب الحركة النسوية مع مطالب الحركة البيئية لتقديم تصور لإعادة تشكيل جذرية للعلاقات الاجتماعية الاقتصادية الأساسية والقيم المبطونة في هذا المجتمع الصناعي الحديث[1]. فبأيِّ معنى تكون القضية البيئية قضية نسوية؟ تشير كارين وارين Karen Warren إلى أن النسوية الإيكولوجية ليست تيارًا متجانسًا بل أشبه بمظلة تضم تحتها منظورات متنوعة وتعكس فهمًا متنوعًا لطبيعة المشكلات البيئية المعاصرة. لكن ما يجمع هذه المنظورات هو ثلاث دعاوى أساسية: الأولى أنه ثمة ترابطات مميزة بين الهيمنات غير العادلة على النساء وعلى الآخرين البشر والآخرين من غير البشر، كالنباتات والحيوانات والطبيعة عمومًا. والثانية أنه ينبغي على النسوية والمذهب البيئي السعي لفهم وتحليل هذه الترابطات. والثالثة أن المشروع المركزي للنسوية الإيكولوجية يسعى إلى استبدال بنيات الهيمنة غير العادلة ببنيات وممارسات عادلة[2]. تُرجع رايان إيسلر Raine Eisler الترابطات التاريخية بين الهيمنة على النساء وعلى الطبيعة إلى الحقبة الواقعة بين الألفين السادس والثالث قبل الميلاد، عندما غزت القبائل الأوراسية المجتمعات الهندو-أوروبية. وتستعير إيسلر رمزي الزهرة والسيف لتشير إلى التحول الذي رافق هذا الغزو ونقل المجتمع من علاقات التعاون والسلام والمساواة والمشاركة إلى علاقات تتسم بالعنف والحرب والهيمنة الذكورية[3]. أما كارولين ميرخانت Carolyn Merchant فترى أن هذه الترابطات التاريخية أحدث عهدًا وترجع بها إلى التغيرات العلمية والثقافية التي رافقت النهضة العلمية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر وأدت إلى التحول من النظرة العضوية للطبيعة كأنثى لطيفة مباركة معطاء تلبي متطلبات النوع البشري في كون مخطط منظم، إلى النظرة العلمية التي تصف الطبيعة كأنثى أيضًا، إنما جامحة وحشية ينبغي إخضاعها، الأمر الذي قدم مسوغًا أخلاقيًا للتوسع الصناعي وتدمير البيئة[4]. ومن منظور اقتصادي اجتماعي لا تغيب عنه وقائع التقسيم العالمي بين بلدان متطورة مصنعة وبلدان نامية معرضة للنهب والاستغلال، ترى الباحثة الهندية فاندانا شيفا Vandana Shiva أن ثمة ترابطات بين استغلال النساء وأجسادهن وعملهن من جهة، واستغلال الطبيعة من جهة أخرى. وتنتقد في هذا الإطار البطريركية الرأسمالية لأنها تعامل كلاً من النساء والطبيعة كمصادر قابلة للاستغلال، هذا التعامل الذي بدونه لم تكن لتنشأ ثروة طبقة الرجال الحاكمة. كما تنتقد استراتيجيات النمو الزراعي المفروضة من قبل البلدان الغربية على بلدان العالم الثالث، وسياسات النمو المعتمِدة على مؤشرات اقتصادية معينة (كالناتج القومي الإجمالي) التي تحجب حقيقة الوضع الاجتماعي الذي يقبع وراء هذه المؤشرات والسياسات[5]. بل وتحاجج شيفا أن النمو الغربي هو في الحقيقة نمو ذكوري يقوم على افتراضات عديدة منحازة ذكوريًا تشكل أنموذجًا Paradigm راسخًا: الطبيعة غير فعالة إنتاجيًا، فالزراعة العضوية المعتمدة على دورات التجدد الطبيعية تؤدي إلى الفقر [وفق هذا الأنموذج]، والمجتمعات الفلاحية والقبلية والنسوية المرتبطة بالطبيعة غير فعالة إنتاجيًا أيضًا، ليس لأنه ثبت أن كل ذلك يؤدي إلى إنتاج بضائع أقل وخدمات أقل، بل لأن هذا الأنموذج يفترض أن الإنتاج يحدث فقط بتوسط تكنولوجيات لأجل الإنتاج السلعي حتى لو كانت هذه التكنولوجيات تدمر الحياة[6]. وإذ تعكس اللغة في ثناياها الفكر والقيم، فقد حاجج بعض مفكري النسوية الإيكولوجية بأنها عززت الهيمنات المشتركة على النساء والطبيعة. فاللغات الأوروبية–الأمريكية، مثلاً، مليئة بالمفردات التي تدل على الحيوانات وتطلق مجازيًا على النساء بقصد الازدراء والإهانة: فالنساء ثعالب، دجاجات، أفاعي،... والمرأة النقاقة هي دجاجة عجوز بلا جاذبية جنسية، ويشار، في لغات كثيرة، إلى التربة بالخصوبة وليس الفحولة، وإلى الأرض القاحلة بأنها عاقر كمثل المرأة غير القادرة على الإنجاب. فتأنيث الطبيعة في الثقافات البطريركية يقابل كونها، كالمرأة، في منزلة أدنى، ويسوغ استغلالها والسيطرة عليها. وكذلك فإن إضفاء الصفات الطبيعية أو الحيوانية على المرأة يحمل معه مسوغًا لاستغلالها والسيطرة عليها[7]. وثمة ترابطات ثيولوجية روحية تتناول الدور الذي أدَّاه الخيال الديني في التراث المسيحي اليهودي وكذلك في التقاليد الفكرية الغربية. فتزعم اليزابيث دودسون غراي Elizabeth Dodson Gray في كتابها الفردوس الأخضر المفقود Green Paradise Lost، أن تراتبية كائنات مدمِّرة تقبع في قلب الأوصاف التوراتية لقصة الخلق: في النظرة التوراتية لطبيعة الأشياء تأتي المرأة بعد الرجل وأدنى منه. فقد خُلقت المرأة، كما تقول التوراة من جسد الرجل (وليس من جسد المرأة كما يحدث طبيعيًا)... ثم يأتي الأطفال الذين لم يذكروا في قصة الخليقة... ثم الحيوانات التي لا تملك الروح البشرية الفريدة... ولذلك فالحيوانات أدنى مرتبة. وفي الأسفل بعد ذلك، تأتي النباتات التي لا تتحرك. وأدنى من الجميع، يأتي أساس الطبيعة ذاتها، أي الهضاب والجبال والأنهار والوديان – التي تقع أدنى من كل شيء، كما أن السماوات والقمر والنجوم القريبة من الله هي في أعلى كل شيء[8]. في هذه الهرمية التراتبية، كلما صعد الشيء إلى أعلى كلما اقترب أكثر مما هو روحي وعلوي. وتحاجج غراي بأن أساطير الخلق الدينية القديمة تحمل أيضًا نزعة بطريركية وطبيعانية Naturist: من الواضح أن ثمة نظام تراتبي للوجود حيث المراتب الدنيا – سواء كانوا نساء أو أطفالاً أو حيوانات أو نباتات – يمكن إساءة معاملتها وممارسة العنف عليها أو التضحية بها أو قتلها بموافقة المراتب العليا من الوجود الروحي المتمثلة في الرجال أو الآلهة. والطبيعة، التي ليست في أسفل هذا الهرم فحسب، بل ومليئة بالقذارة والدم والمفاجآت الشريرة البغيضة كالزلازل والفيضانات والعواصف، معرضة لأن تكون غنيمة مرشحة للسيادة القاسية عليها من قبل الجميع[9]. *** *** *** * من كتاب: من البيئة إلى الفلسفة، تأليف معين رومية، معابر للنشر، دمشق، 2011. [1] Quoted by Warren, Karen, Ecofeminism: Introduction, in Zimmerman et al., op. cit., p.253. [2] Warren, op. cit., p.254. [3] Ibid., pp. 255-56. [4] Merchant, Carolyn, The Death of Nature , in Zimmerman et al, op. cit., pp.273-76. [5] Shiva, Vandana, The Impoverishment of the Environment: Women and Children last, in Zimmerman et al, op. cit., pp. 287 – 90. [6] Ibid., p. 301. [7] Warren , op. cit., pp. 258 –59. [8] Quoted in Ibid., p. 260. [9] Quoted by Warren, op. cit., p. 261.
|
|
|