|
حسب تأريخ أشعيا برلين وتأويله
يتبدى أحيانًا أن كل ما يفعله العاقل والعقلاني في منطقتنا العربية لا يعدو كونه مكافحة الرومنطيقية. فالقومية والأصولية الإسلامية والعنصرية أشكال متفاوتة الحدَّة من الرومنطيقية، تنضاف إليها في بلداننا الأفكار الصوفية المتصلة بالأرض والمستندة إلى قيم المسيحية أو ثقافات ما قبل الإسلام. حتى الماركسية المولودة من أحد أرحام العقلانية الغربية، حوَّلتها الحركات الثورية ابتداءً بثورة البلاشفة الروس في 1917، واحدة من نزعات الرومنطيقية ومذاهبها. وفي تناوله الأفكارَ اعتبر أشعيا برلين، أحد أبرز المفكرين السياسيين في القرن العشرين، وأحد أكثرهم قدرة على قول البسيط غير التبسيطي، أن الرومنطيقية أكبرُ الحركات المتأخرة زمنًا في تحويل العالم الغربي حياةً وقناعات. لا بل هي، حسب كتابه جذور الرومنطيقية، أهمُّ انعطاف تعرَّض له وعي الغرب، فيما الانعطافات الأخرى التي جدَّت في سياق القرنين التاسع عشر والعشرين، أقلُّ أهمية، إن لم تكن هي نفسها متأثرة بالرومنطيقية في صورة أو أخرى. وبرلين يؤثر الابتداء بالقرن الثامن عشر وبألمانيا. فهناك، وحينذاك، كان كلُّ شيء يسير بانتظام: العقل والعقلانية يتقدَّمان والكنيسة تتراجع فيما اللاعقل يستسلم للضربات الموجعة التي يوجِّهها «الفلاسفة» الفرنسيون. وهناك أيضًا يحلُّ سلام واستقرار وعمارة أنيقة واقتناع بإمكان تطبيق العقل الكوني ومعاييره على الشؤون الإنسانية، كما على الممارسة الفنية والأخلاق والسياسة والفلسفة. لكنْ فجأة يحدث غزو مفاجئ غير محسوب: انفجار عنيف للعواطف والحماسة. فالناس أضحوا يبدون اهتمامًا أكبر بالمباني القوطية ويغدون أشدَّ عُصابية وسوداوية كما يعبِّرون عن استحسان العبقرية العفوية والاستثنائية. وفي الوقت نفسه كانت تغيُّرات أخرى تحصل في أوروبا: إنها الثورة الفرنسية حيث قُتل الملك ثم انفتح الباب للإرهاب وعهده. وليست واضحة تمامًا تلك العلاقة بين هاتين الثورتين. لكنْ فيما نحن نقرأ التاريخ يطالعنا، حسب برلين، إحساس بأن شيئًا ما كارثيًا حدث أواخر القرن الثامن عشر. ففي البداية لاح كأن الأمور تتقدَّم بلطف نسبي، وعلى حين غرة طرأ انقطاع رحَّب به البعض ودانه البعض الآخر. لكن السؤال الذي بقي أمامنا: ما العلاقة بين ما يُسمَّى الثورة الرومنطيقية، أي ذاك الاختراق المفاجئ لعوالم الفن والأخلاق، وما بات يُسمَّى الثورة الفرنسية؟ وهل أن أولئك الذين رقصوا فوق خرائب الباستيل وقطعوا رأس لويس السادس عشر هم أنفسهم الذين تأثروا بالعبادة المفاجئة للعبقرية والظهور المفاجئ للعاطفية وتفاعلوا معهما؟ الجواب عند برلين هو: لا. فما لا شكَّ فيه أن المبادئ التي خيضت باسمها الثورة الفرنسية كانت مبادئ الكونية (اليونيفيرسالية) عقلاً ونظامًا وعدالةً. وهي ما لا يربطه رابط بحسِّ الفرادة والاستبطان العاطفي العميق وحساسية التمايز بين الأشياء والتقاط عناصر التنافر فيها، بدل عناصر التشابه والانتظام. وهذه كلها من المواصفات التي اتصفت بها الحركة الرومنطيقية. لكن ماذا عن روسو؟ فهو، بالطبع، وبحق، يُنسَب إلى الحركة الرومنطيقية بل يُعَدُّ، بمعنى ما، من آبائها. إلا أن روسو الذي كان مسؤولاً عن أفكار روبسبيير واليعاقبة الفرنسيين ليس روسو المشدود إلى الرومنطيقية. فهو، بالأحرى، الروسو الذي كتب العقد الاجتماعي، وهو بحث كلاسيكي، بل نموذجي، في حديثه عن عودة الإنسان إلى تلك المبادئ الأصلية والأولى التي يتشارك فيها البشر جميعًا، وعن أصل العقل الكوني الذي يوحِّدهم في مواجهة العواطف والنزعات التي تقسِّم. إنه كتاب في حاكمية العدالة الكونية والسلام الكوني ضدًا على الصراعات والتوترات والتقلُّبات مما ينفعل به البشر بحيث تنفصل قلوبهم عن عقولهم فيما يسود التشرذم بابتعاد واحدهم عن الآخر. الثورة الصناعية فإذا كان يصعب القول بعلاقة تربط الموجة الرومنطيقية بالثورة الفرنسية، بقي أن الثورة الصناعية امتلكت من الأدوار ما يصعب تجاهله. ولتقريب صورة التحوُّل الضخم الذي عرفته أوروبا بسببها، ما بين 1760 و1830، يرسم برلين لوحة عن القيم التي كان الرومنطيقيون يتمسَّكون بها في عشرينات القرن التاسع عشر. ذاك أن هذه إنما دارت حول التماسك الشخصي والصدق والاستعداد للتضحية والإصرار على مثالات تستحق أن تُعاش كما تستحق الموت في سبيلها. فهؤلاء لم تتجه أولويتهم إلى المعرفة أو تقدُّم العلوم، ولا كانوا مهتمين بالسلطة السياسية أو بالسعادة أو بالانسجام مع الاجتماع المحيط وفيه. وهم لم يأبهوا بالحسِّ السليم أو بالاعتدال في الموقف والرأي، بل آمنوا بضرورة قتال المرء في سبيل معتقداته حتى النفَس الأخير، وبقيمة الشهادة بغض النظر عن التدقيق في طبيعة القضية التي تستدعيها. وهم مالوا إلى اعتبار أن الفشل أنبل دومًا من النجاح. لكن كيف حصل الانتقال إلى هذه الطريقة في تعقُّل العالم؟ في القرن السادس عشر، إبان الحروب الدينية التي مزَّقت أوروبا، لم يكن ممكنًا لبروتستانتي مقاتل، أو كاثوليكي مقاتل، أن يقول إن خصمه على خطأ إلا أنه، مع هذا، صادق في خطئه، وأن صدقه ذاك مدعاة لاحترامه له. فصدقٌ في الخطأ كهذا كان ليرسم صاحبه أخطر وأشدَّ جنونًا في نظر خصمه. صحيح أن شجاعة العدو كانت يومها سببًا للتقدير، وهذا ما كان يحول دون تشويه جثة الخصم الشجاع بعد قتله. لكن هنا يقف الإعجاب لتنتصب الفوارق في المضمون التي تستدعي قتله كما تحرَّم التسوية معه. وصحيح أن الشهادة آنذاك كانت موضع إجلال، وهي دائمًا كانت كذلك، غير أن الشهادة المقصودة كانت الشهادة للصدق والحق: فالمسيحيون أكبروا الشهداء لأنهم كانوا شهودًا على ذينك الصدق والحق. فلو ماتوا شهودًا على الباطل لما استحقوا شيئًا من الإكبار. لكن في عشرينات القرن التاسع عشر، بدت الحالة الذهنية والحافز والنية متفوقة في الأهمية على أهمية الأثر المترتب على العمل. فطهارة القلب والتماسك الشخصي وتكريس النفس، لم تصر قيمًا محمودة فحسب، بل انتزعت لنفسها الصدارة: أولاً في أوساط الأقليات، ثم على نطاق أوسع فأوسع. ويعتمد برلين لشرح هذا التحوُّل مسرحية فولتير عن محمد: فالمسرحي الفرنسي الكبير لم يكن مهتمًا، على أيِّ نحو مميَّز، بالنبي العربي، وكان القصد الفعلي من المسرحية التذرُّع به لشنِّ الهجوم على المسيحية. على أيَّة حال، فقد أُظهر فيها محمد كخصم لكلِّ ما يدين به فولتير. لكن لننظر في ما قيل عن محمد، بعد حقبة مديدة: ففي كتابه عن الأبطال: عبادة البطل والبطولي في التاريخ، وصفه كارليل، الذي يُعتبَر من ممثلي الحركة الرومنطيقية، بأنه كتلة متوقدة من الإخلاص والصدق والقوَّة، وعدَّه ضمن نخبة أفراد اختارهم من التاريخ «أبطالاً» له. فكارليل، على عكس القرن الثامن عشر، ليس معنيًا إطلاقًا بحقائق القرآن، ولا بالبحث عن أفكار فيه يؤمن هو بها. ما أثار إعجابه في محمد دوره التاريخي الضخم وعيشه حياة كثيفة واستقطابه أتباعًا بالغي الكثرة، فضلاً عن فكرة الحياة أو السيرة بوصفها قصة ملهِمة. فأهمية محمد شخصه لا معتقداته. وهي نظرة كان مهدها ألمانيا كما انطوت على ما يكفي من الجدَّة يومذاك. وينقلنا برلين إلى المأساة (التراجيديا) تدليلاً على ما يعني: فالأجيال السابقة ظنَّت أن المأساة حصيلة خطأ ما، أخلاقي أو فكري أو عملي. فلو عرف أوديب أن لايوس كان أباه لما قتله. وهذا يصحُّ إلى حدٍّ ما في المآسي الشكسبيرية، إذ لو عرف عطيل أن ديسديمونا كانت بريئة، لأمكن تجنُّب الكثير من النتائج التي بلغتها المسرحية. هكذا تتأسَّس المأساة على الحتمي، أو ربما على ما لا يمكن تجنُّبه، أو على الافتقار إلى شيء ما، كالمعرفة أو البراعة أو الشجاعة الأخلاقية أو القدرة على الحياة، ما يعني أن الأناس الأقدر أو الأفضل أو الأقوى هم وحدهم من يستطيعون تجنُّب ذلك. وهذا، بدوره، ما اختلف مع أواخر القرن الثامن عشر ومطالع التاسع عشر. ففي مأساة شيلر السارقون، نجد أن كارل مور هو من ينتقم لنفسه بارتكابه عددًا من الجرائم. صحيح أنه عوقب، في النهاية، على جرائمه تلك، لكن الأسئلة المتعلَّقة بطبيعة عمله وصلاحه أو سوئه وما تبقى من معانٍ أخلاقية أو قانونية، لا تلقى أي جواب مقنع. وإذا عدنا إلى مأساة بوخنر موت دانتون وسألنا: هل كان روبسبيير مخطئًا في فعلته، لكان الجواب المتضمَّن في المأساة: لا. فدانتون، وإن ارتكب بضعة أخطاء، لا يستحق الموت لأنه ثوري مخلص. مع هذا فروبسبيير كان مصيبًا جدًا في قتله. أن نكون أبطالاً للمأساة إذًا، نحن حيال صدام من النوع الذي أسماه هيغل لاحقًا «الصالح ضدَّ الصالح». فالأمور لا تنجم عن خطأ بل عن نزاع من نوع يستحيل اجتنابه، كأن يكون بين قيم لا تقبل التصالح في ما بينها. وما يهمُّ هو أن يكرِّس المعنيون بالصراع أنفسهم تكريسًا كاملاً للقيم التي يحملونها. فإذا فعلوا ذلك كانوا أبطالاً مناسبين للمأساة، وإذا لم يفعلوا فهم تافهون وبورجوازيون وأفراد لا يستحقون حتى الكتابة عنهم. وفي عرف برلين أن الشخصية التي سيطرت على القرن التاسع عشر إنما هي شخصية بيتهوفن. فهو فقير وأمِّيٌّ وخشن وذو طباع وأخلاق سيئة. لكنه لا يساوم على ما فيه: ينعزل ويُبدع انفعالاً بالنور الذي يضجُّ في داخله. وهذا كل ما ينبغي للمرء أن يفعله، فهو يكفي بذاته كي يجعل منه بطلاً. وحتى لو أنه كان أقل عبقرية مما كان عليه، فإن مواصفاته تلك ترفعه إلى ذاك المصاف إذ تجمع بين تكريس الذات لمثال ما، والفوضى الشخصية والسلوكية المطلقة، والعزوف عن الدنيا. ومن الواضح أن شيئًا ما قد حدث وحوَّل الوعي هذا التحويل النوعي عن التصوُّر القائل بوجود حقائق كونية وبإفضاء كل الأنشطة إلى الصواب. وما يقال في التفسير الدارج أن انعطافًا كبيرًا قد طرأ باتجاه العاطفية، وأن اهتمامًا مباغتًا بالبدائي وبالبعيد، في الزمان والمكان، قد استجد. لكن لا يبدو واضحًا بالقدر نفسه كيف انعقدت العلاقة بين هذا المستجد وبين صعود عبادة الدولة والدعاية الألمانية للاكتفاء الذاتي اقتصاديًا والصفات السوبرمانية وتقديس الأبطال ونزعة التدمير الذاتي. ويعود بنا أشعيا برلين إلى بعض تعريفات الرومنطيقية التي تبدو دلالاتها سهلة للوهلة الأولى. لكن بالعودة إلى الأوصاف المتناقضة العديدة والأكثر ورودًا في كتابات كبار المفكِّرين والكتَّاب، يتبدى أن الرومنطيقيّة بدائية وعفوية وشباب وحياة وحس بالطبيعة وعطر ومرض وتفسُّخ ومرض عصر ورقصة موت، بل الموت نفسه، وأنها الجدَّة في أصفى أشكالها، وهي اللحظة الثورية ورعوية الريف وحس اللحظة وحس الحاضر وعدم المعرفة والمعرفة التامة بذاتها، فضلاً عن عشرات المترادفات والنقائض الأخرى. وهذا ما أصاب بعض النقاد ودارسي الأفكار باليأس من إمكانية العثور على تعريف للرومنطيقية، بل حملهم على إنكار وجودها أصلاً. وهؤلاء يخالفهم برلين جازمًا بوجودها وبأنها خلقت بالفعل ثورة هائلة في مجال الوعي نبقى مطالبين بأن نكتشف ماهيتها. هكذا، وعبر ما يسمِّيه «منهجية تاريخية هادئة وصبورة»، ينتقل المؤرِّخ إلى الهجوم الأول على التنوير بقيادة الرومنطيقية، وتنويرُ أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر يستدعي، عنده، بعض التعريف: فهناك، إذا حذفنا التفاصيل جانبًا، ثلاثة أعمدة يقف عليها التقليد الغربي بمجمله. وهذه لا تقتصر على التنوير، مع أن التنوير قدَّم عنها نسخة خاصة كما حوَّلها بطريقة معينة. والأعمدة أو المبادئ الثلاثة هي التالية: - أولاً: إن كل الأسئلة الحقيقية قابلة لأن تُجاب، فحين لا تكون الإجابة ممكنة فعندها لا يكون السؤال سؤالاً. فنحن قد لا نعرف الجواب، لكن شخصًا آخر يعرف. وقد نكون أضعف أو أكثر جهلاً أو غباء من أن نعرف، وعندها يتولى هذه المهمة من لا يشكو من هذه النواقص. هذه المعادلة هي العمود الفقري للتقليد الغربي. - ثانيًا: إن كل الإجابات إما معروفة أو قابلة لأن تُعرف عبر التعلُّم، وإلا فعبر تقنيات يصار إلى تطويرها مستقبلاً. - ثالثًا: إن الإجابات يجب أن تتجانس، فإن لم تتجانس عمَّت الفوضى. فلا يعقل لنتيجة منطقية أن تتعارض، في آخر المطاف، مع نتيجة منطقية أخرى. نسق كوني هذه هي المقدِّمات العامة للتقليد العقلاني الغربي، أكان مسيحي الجذر أو وثنيه، مؤمنه أو ملحده. أما الانعطافة المميَّزة التي أضافها التنوير إلى التقليد هذا فهي القول إن الإجابات الصحيحة عن الأسئلة الجدية لا تتحصَّل بالطرق التقليدية والمألوفة التي قد تكون مطعونًا في ذاتيتها أو نسبيتها أو غير ذلك من الشوائب، بل تتأتى فقط عبر الاستخدام الصائب للعقل، أي بالطرق العلمية الصرفة كما في الرياضيات وعلم الطبيعة. فليس هناك من سبب يقول إن إجابات كهذه، أنجزت ما أنجزته من انتصارات في الفيزياء والكيمياء، غير صالحة للتطبيق على حقول أشد اختلاطًا، كالسياسة والأخلاق والجماليات. فالخلافات الكثيرة بين التنويريين لا تلغي قاسمًا مشتركًا بين مفكريهم، هو مركزية المعرفة وكون الفضيلة مشروطة بها. وما يصحُّ في السياسة والقيم يصحُّ في الجماليات والفن أيضًا. أي أن هناك نوعًا من نسق يونيفيرسالي يعبِّر عنه الفنان في حقله كما يعبِّر الفيلسوف والعالِم عنه في حقليهما. فلئن كان فولتير أول من كفَّ عن كتابة تاريخ الملوك والفاتحين وكبار المغامرين، فقد أمسى التاريخ، في كلمات بولينغبروك، «تعليم الفلسفة عبر الأمثلة». فاهتمام فولتير بالتاريخ كان محكومًا بإظهار أن البشر لم يختلفوا كثيرًا في معظم الأزمنة، وكيف أن الأسباب المتشابهة تعطي نتائج متشابهة. والتعميم هذا نراه أيضًا عند هيوم الذي رأى أن معظم الناس، في معظم الحالات، يعملون استجابةً للأسباب نفسها ويتصرَّفون بطرق تكاد تكون هي ذاتها. وما دامت تلك العناوين هي التصوُّرات العامة للتنوير، بات واضحًا، في حالة الفنون، أن يكون المطلوب توكيد الشكلي والنبيل والمنسجم والمتوازن. طبعًا كانت هناك استثناءات لهذا، كما أن هناك من شذَّ عن ذلك، وهو ما يحصل في كل زمن ولجميع المدارس الكبرى. إلا أن أشخاصًا كفولتير وأصدقائه، كهلفيتيوس وفونتينيل، الذين مثَّلوا الوجهة العامة والسائدة، رأوا أننا نتقدَّم وندمِّر خرافات الماضي وضلالاته منشئين نوعًا من العلم يجعل البشر سعداء وأحرارًا وفاضلين وعادلين. غير أن الهجوم الراديكالي على هذه المعاني جاء من مكان آخر، من ألمانيا. فالحال أن الألمان في القرنين السابع عشر والثامن عشر شكَّلوا إقليمًا متأخرًا بمعنى ما: في القرن السادس عشر كانوا تقدميين وديناميكيين وأسخياء في تقديماتهم للثقافة الأوروبية مثل كل الشعوب الأخرى، وبالتأكيد كان ديورر رسامًا في عظمة أيِّ رسام عظيم آخر، كما كان لوثر وجهًا دينيًا لا يقلُّ وزنًا عن أيٍّ من الوجوه الدينية الكبرى للتاريخ الأوروبي. لكن إذا نظرنا إلى ألمانيا القرن السابع عشر ومطالع الثامن عشر، سيكون صعبًا علينا، وباستثناءٍ واحدٍ هو لايبنتز وفلسفته، أن نجد ألمانيًا ترك تأثيرًا على عالمه. لقد فشل الألمان في بناء دولة مركزية بالمعنى الذي فعله الإنكليز والفرنسيون وحتى الهولنديون. فالألمان في القرنين السابع عشر والثامن عشر كان يحكمهم 300 أمير و1200 أمير فرعي. وكانت للإمبراطور الروماني انشغالات بإيطاليا وسواها منعته من الاهتمام بأراضيه الألمانية. وأهم من كل ما عداه، كان التخريب والتفكيك والبعثرة مما أحدثه عنف حرب الثلاثين سنة. ففي هذه الأخيرة دمَّرت وقتلت جيوش لويس الرابع عشر وغيره قطاعًا واسعًا من السكان الألمان كما سحقت، تحت بحور من الدم، كل ما كان يمكنه أن يؤسِّس نهضة ثقافية. فالعدد الذي قُتل لم يُقتل مثله منذ جنكيز خان، كما تريَّفت الثقافة وأصابها التقطُّع الموازي للإمارات وحدودها. وفي ألمانيا لم تنشأ مدينة كباريس ولا نشأ افتخار ذاتي أو دينامية أو قوة. هكذا انجرفت الثقافة الألمانية إمَّا إلى حذلقة سكولائية قصوى تنسج على شكلية اللوثرية، لا على روحها، أو إلى انتفاض على هذه السكولائية باتجاه الانزواء في الحياة الداخلية للروح. الحركة الزهدية ولئن كانت اللوثرية الشكلانية قد حفزت على ذلك، فهو أيضًا ما دفع إليه شعور عميق بالنقص حيال الدول الغربية التقدمية، خصوصًا فرنسا، تلك الدولة اللامعة التي سحقت الألمان وأذلَّتهم فيما هيمنت على العلوم والفنون وسائر مجالات الحياة الإنسانية بشيء من العنجهية والنجاح غير المسبوقين. وما لا شكَّ في أننا لو قارنَّا مؤلِّفين موسيقيين كباخ ومعاصريه بالمؤلِّفين الفرنسيين لتلك الحقبة لوجدنا أن باخ، على رغم عبقريته التي لا يُقارَن بها الآخرون، انحصر فضاء موسيقاه بالحياة الدينية الداخلية لمدينة لايبزغ ولكل مكان آخر عاش فيه. فهو لم يكن مهمومًا بالاقتراب من بلاطات أوروبا الزاهية أو بالاستحواذ على إعجاب الجنس البشري في عمومه، وهو ما كانت تسعى وراءه الأعمال الفنية والموسيقية للإنكليز والهولنديين والفرنسيين. صحيح أن باخ ألَّف موسيقى بلاط في فايمار وكوتهن وغيرهما، كما أفرحته دعوة الملك له إلى برلين، لكن معظم أعماله أُلِّف في مناخ زهدي تبعًا للتقليد الديني الرائج ومفاده الانكباب على الذات وعزلها وقسرها على ذاتها، بعيدًا من البهرجة التي عُرفت بها فرنسا حينذاك. لقد وجدت الحركة الزهدية، وهي جذر الرمنطيقية، مهدها في ألمانيا. فهي فرع من اللوثرية تقوم على دراسة هادئة للتوراة واحترام عميق لعلاقة الإنسان الشخصية، لا سيما ألمه الروحي، بالله. هكذا انطوت على توكيد الحياة الروحية والاحتقار للتعلُّم كما للطقوس والشكل. وقد نجح سْبِنَر وفرانكي وزِنزاندورف وأرنولد، وهم جميعًا مؤسِّسو الحركة الزهدية، في أن يحملوا الراحة والشعور بالخلاص لبشر كثيرين مسحوقين اجتماعيًا وبائسين سياسيًا. لكن ما حصل كان تراجعًا في العمق: فقد يحدث أحيانًا في التاريخ الإنساني أن ينسدَّ الطريق الطبيعي أمام التحقُّق الإنساني فتتراجع الكائنات الإنسانية إلى ذاتها وتغدو معنية بهذه الذات وبأن تبني في داخلها ما حُرمت من بنائه في خارجها. وهذا بالتأكيد ما سبق أن حصل في اليونان القديمة حين بدأ الاسكندر الكبير بتدمير الدول المدن وبدأ الرواقيون والأبيقوريون التبشير بأخلاقية جديدة للخلاص الشخصي، وهو ما اتخذ شكل القول بأن السياسة غير مهمة، وكذلك الحياة المدنية وكل المثل العظمى التي رفعها بيرِكليس وديموثينيس وأفلاطون وأرسطو، وأن المهم فقط تلك الحاجة الملحة إلى الخلاص الفردي. وهو نوع بالغ التكرار من التراجع الروحي يؤدي إلى الانحباس في الذات ضدَّ «أمراض» العالم وإلى المضي في المكابرة. فإذا صادر أمير مقاطعتي أرضي، قلتُ إني لا أريد الأرض. وإذا لم يشأ الأمير أن يقرَّ لي بمكانة، قلت إن المكانة تافهة بذاتها. وإذا مات الأبناء من سوء التغذية قيل إن الأبناء شأن لا يُذكَر قياسًا بحب الله وخلوده. إن الرومنطيقي شخص لا يحبُّ أن يُجرَح، ولهذا الغرض يكمش نفسه عن العالم كي لا يعرِّضها للجَرح. هذا هو المزاج الذي تصرَّف بموجبه الورعيون الزهديون الألمان، وكانت النتيجة حياة داخلية كثيفة، الكثير منها مؤثِّر جدًا ولافت جدًا، لكن طابعها الشخصي بالغ وحاد. وهي ذات أدب عنيف في عاطفيته وفي كرهه للعقل ولفرنسا وللحرير وللصالونات وللفساد وللجنرالات والأباطرة، ولكل ما يدل إلى عظمة أو جلال في هذا العالم، ولكل ما ينمُّ عن الغنى أو الالتواء أو الشرِّ أو الخبث. وهذا ما كان ردَّ فعل طبيعيًا من جانب سكان ورعين زاهدين ومُهانين، إلا أنه شكل خاص من العداء للثقافة والعداء للغريب، وهو ما كان الألمان في تلك الحقبة ميَّالين إليه. هذه هي الريفية «الضيعجية» التي رفعها عاليًا بعض المفكِّرين الألمان في القرن الثامن عشر، والتي ضدَّها قاتل غوته وشيلر طوال عمريهما. ويجد برلين استشهادًا نموذجيًا يستقيه من زنزيندورف قائد الهرنهوتر، وهي نوع من فرقة تنتمي إلى الأخوية المورافية: «من يريد أن يلمس الله بعقله يصبح ملحدًا». وهذا ببساطة صدى للوثر الذي رأى أن العقل مومس ينبغي العمل على تجنُّبها. وهي حقيقة اجتماعية ليست بسيطة الأهمية في ما خصَّ أولئك الألمان من القرن الثامن عشر. فإن سألت من هم هؤلاء واجهتك حقيقة سوسيولوجية لافتة عنهم تؤيد الأطروحة التي اقترحها برلين، وهي أن الأمر كله نتاج حساسية وطنية جريح: ذاك أن المهانة جذر الرومنطيقية الألمانية. لقد صدر أولئك المفكِّرون الألمان عن خلفية اجتماعية بالغة الاختلاف عن التي صدر عنها الفرنسيون. فليسينغ وكانط وهيردر وفيخته ولدوا كلهم في أسر متواضعة جدًا، وشيلنغ وشيلر وهولدرلن انتموا إلى الشرائح الدنيا في الطبقة الوسطى. ولئن كان غوته من البورجوازية الثرية فإنه لم يحرز لقبًا مناسبًا إلا في وقت لاحق. ووحدهما كلايست ونوفاليس كانا ممن يُسمُّون اليوم خواجات الريف. أما الوحيدون من ذوي الروابط الأريستوقراطية الذين يمكن القول إنهم شاركوا في الأدب الألماني أو الحياة الألمانية أو الرسم الألماني أو أيِّ نوع من المدنية الألمانية، فهما الأخوان الكونتان كريستيان وفريدريك ليوبولد ستولبيرغ والبارون الصوفي كارل فون إخرتسهاوزن. وهؤلاء، بدورهم، لم يكونوا في الصدارة الأريستوقراطية أو في مراتبها الأولى. أما إذا فكَّرنا بفرنسيي تلك الحقبة، الراديكاليين منهم واليساريين والأشد تطرُّفًا في العداء للأرثوذكسية وللكنيسة وللملكية وللوضع الراهن، فهؤلاء كلهم أتوا من عائلات شديدة الاختلاف. مونتسكيو كان بارونًا وكوندورسيه كان ماركيزًا ومابلي وكوندياك كانا رجلي دين بارزين وبافون أصبح كونتًا وفولني كان من عائلة رفيعة ودالمبر كان ابنًا غير شرعي لنبيل وهلفيتيوس، وإن لم يكن نبيلاً، فإن أباه كان مليونيرًا وقريبًا من البلاطات. كذلك فإن بارون غرِم وبارون دولباخ كانا ألمانيين جاءا يعيشان في باريس. حتى فولتير جاء من طبقة وجهاء صغار، ووحدهما ديدرو وروسو كانا عاميين، أولهما جاء فعلاً من الفقراء، والثاني كان سويسريًا، وبالتالي فهو يقع خارج هذه الحسبة. هؤلاء الأشخاص تحدَّثوا بلغة أخرى: كانوا معارضين لكنهم معارضون لأناس من طبقتهم. لقد ذهبوا إلى الصالونات اللامعة وكانوا متحذلقين ومتعلِّمين وذوي مظاهر أنيقة ومرتبة، حتى أن مجرَّد وجودهم كان يثير حقد الألمان ويوتِّرهم: فحين وصل هيردر إلى باريس في مطالع سبعينات القرن الثامن عشر، لم يكن قادرًا على التواصل مع أيٍّ من أولئك. لقد تراءى له أنهم جميعًا مصطنعون وجافون وبلا روح وأنهم رجالات صالون لا مكان عندهم لغنى الروح، فيما تمنعهم معتقداتهم أو أصولهم من فهم المقاصد الحقيقية للبشر ولوجودهم على الأرض. وهذا ما فاقم الحساسية الفاصلة بين الألمان والفرنسيين التي لم يضعفها التثاقُف المتبادل. وهذا ربما شكَّل أحد جذور المعارضة الألمانية للفرنسيين والتي بدأت منها الرومنطيقية. جوهان جورج هامان وهناك، في رأي برلين، شخص واحد هو من وجَّه الضربة الأعنف للتنوير، والذي يصلح اعتباره مُدشِّن العملية الرومنطيقية برمتها. إنه رجل مغمور إسمه جوهان جورج هامان الذي ولد لعائلة بسيطة جدًا في مدينة كونيغسبرغ، ثم تربَّى في بروسيا الشرقية في بيئة زهد وورع. وهو لم يستطع الحصول على عمل فكتب قليلاً من الشعر وقليلاً من النقد، وكانت كتاباته جيدة لكن ليس إلى الحدِّ الذي يوفِّر له فرصة العمل التي يرغب فيها، فأعانه جاره وصديقه عمانوئيل كانط، الذي عاش في المدينة نفسها، ثم قضى ما تبقى من حياته في نزاع معه. بعد ذاك أرسله بعض التجار البلطيقيين الأغنياء إلى لندن لإنجاز مهمة تجارية فشل في أدائها، فراح يشرب ويقامر إلى أن أوقع نفسه في دين هائل. وفكَّر هامان في الانتحار إلا أنه تعرَّض لتجربة روحية إذ قرأ العهد القديم الذي كان آباؤه وأجداده الورعون يُقسمون باسمه، وفجأة تحوَّل كائنًا روحيًا. لقد أدرك أن قصة اليهود هي قصة كل شخص، وأنه حين يقرأ في العهد القديم يرى أن الله يتحدَّث مباشرة إلى روحه ويخبره بوجود حوادث روحية معينة تتمتع بأهمية لامحدودة وشديدة الاختلاف عن كل ما يظهر على السطح. وفي هذه الحالة من تحوُّله الروحي عاد إلى كونيغسبرغ وبدأ يكتب، ثم تابع الكتابة تحت أسماء مستعارة كثيرة وبأسلوب لم يكن مقروءًا، لا يومذاك ولا اليوم. في الوقت نفسه كان لدى هامان تأثير قوي جدًا ومميَّز جدًا على عدد من كتَّاب آخرين هم، بدورهم، كان لهم تأثيرهم البارز على الحياة الأوروبية. فقد أُعجب به هيردر الذي أجرى تحويلاً في كتابة التاريخ، وإلى حدٍّ ما دشَّن موقفًا جديدًا من الفن لا يزال ساريًا حتى اليوم. وكان له تأثيره على غوته الذي تمنى لو أنه يُعدُّ له أعماله ويحرِّرها، معتبرًا إيَّاه أحد الأكثر موهبة والأعمق روحًا في زمنه. كذلك أثَّر على كيركيغارد الذي عاش إلى ما بعد وفاة هامان، والذي قال فيه إنه أحد أعمق الكتَّاب الذين قرأهم حتى لو لم يكن دائمًا مفهومًا لقرَّائه بمن فيهم كيركيغارد ذاته. لقد ظنَّ هامان، المناهض لعقلنة العالم، أننا إذا ما طبَّقنا تعاليم العلوم على المجتمع الإنساني انتهينا إلى بقرطة مخيفة. فهو كان معاديًا للعلماء وللبيروقراطيين ولكلِّ من يرتِّبون أمور الحياة أو يضعونها في صناديق. هكذا رأى أن مبدأ التنوير في مجمله قاتل للحي المقيم في الكائن الإنساني. فعنده أن التنوير يعامل الكائن هذا بوصفه كائنًا اقتصاديًا أو لعبة مصنوعة أو موديلاً بلا روح. والسبب الذي يستدعي التركيز على شخص مغمور كهامان هو، في عرف برلين، أنه أول من أعلن الحرب على التنوير في شكل مفتوح وكامل وعنيف. فالقرن الثامن عشر كان قرن العلم، كما تقول العبارة التي ابتُذلت، وانعكس التحوُّل هذا على الدين، فتراجع الدين النظامي والمؤسَّسي وشرع تلامذة لايبنتز، في ألمانيا، مصالحة الدين والعقل، وهو ما فعله خصوصًا الفيلسوف ولف الذي سيطرت أفكاره على الجامعات الألمانية. هكذا بات كل ما لا ينسجم مع العقل باليًا، كما بات الدفاع عن الدين يستند إلى مدى توافقه مع ذاك العقل. وقد حاول ولف القول إن المعجزات قابلة للتصالح مع التأويل العقلاني للكون بافتراضه، مثلاً، أن يوشع بن نون الذي أوقف الشمس في أريحا، إنما استطاع هذا لأنه كان عالم فضائيات أعرف من سائر زملائه عهد ذاك. والشيء نفسه يصحُّ في المسيح الذي كان يفهم الكيمياء فهمًا عميقًا وإلا لما نجح في تحويل الماء نبيذًا. أمام تراجع الدين هذا، بحث البعض عن ملاذ يوفِّر لهم القناعة الروحية والأخلاقية. فإذا كانت الفلسفة العلمية الجديدة تؤمِّن السعادة والانتظام الاجتماعي، إلا أنها لا تخاطب الرغبات اللاعقلانية ومحفِّزات اللاوعي. لهذا فإن القرن الثامن عشر الذي يُعدُّ عصر العقل، هو نفسه الذي شهد أكبر عدد من اللاعقلانيين. ففيه انتعشت الفرق المسيحية، وفيه، لا سيما في نصفه الثاني، ازدهر الدجَّالون والمبشِّرون الهائمون على وجوههم والعلوم الزائفة، خصوصًا في الأجزاء الأقل تقدُّمًا من الإمبراطورية الألمانية. وهامان ليس سوى واحد من هؤلاء المندرجين في حركة الارتداد العنيفة، ولو كان أكثرهم شاعرية وأعمقهم لاهوتية. فالله، في هذه الحركة، ليس رجل رياضيات وهندسة، بل هو شاعر. وإذا نحن حاولنا إسباغ معانينا ومعاييرنا المنطقية على الله كنَّا نكفر ونجدِّف، ظانين أن المعجزات انتهت وأن أمور الكون قابلة للمعرفة، وأسئلته قابلة للإجابة عنها. ملحق نوافذ، جريدة المستقبل 28-11-2010 |
|
|