مسلمون ومسيحيون في العالم

 

المطران جورج خضر

 

غاية في الصعوبة التكلُّم عن علاقة هاتين الجماعتين في العالم بسبب اختلاط المستوى الديني والمستوى السياسي فيهما. من حيث المبدأ، الدين والدنيا متلاقيان دائمًا في الذهن الإسلامي على ما يقول معظم العلماء. من حيث الواقع، المسيحية في الرؤية الإسلامية هي مسيحية الغرب التي كانت منذ الحملات الصليبية دائمًا مسيَّسة. هي كانت مدة مئتي سنة قتالاً بين الغرب الواعي مسيحيته والشرق. ثم جاء الاستعمار الذي استهدف بعض منه دار الإسلام. ولما كان الغرب دائمًا في حاجة إلى عدو أبدل عداءه للشيوعية بعداء لدنيا الإسلام وامتلأ هذا الغرب منذئذ بدراسات علمية عن الإسلام فيها الجيد وفيها السيئ.

المشهد هو أن أوروبا متقدمة حضاريًا على دار الإسلام بعد القرن الرابع للهجرة، وكان قبله المسلمون أصحاب الفلسفة والعلوم. وأخذ الشرق العربي الحامل الفكر الإسلامي يتقهقر وانكفأ هذا في ترداد نفسه وعمَّ الفقر الشرق بمعناه الحضاري والمعيشي، وهذا ما يفسِّر جزئيًا انتفاضته العاصفة في حركات إرهاب مزوَّدة السلاح المشترَى من أميركا التي صارت قلب الغرب أو السلاح الذي صدرته أميركا. بكلام آخر ينحر الغرب نفسه بأسلحة هو ينتجها ولا يشرف ظاهريًا على بيعها أو توزيعها. أي أنه هو الذي يغذي الإسلاموفوبيا ويذهل إذا تلقى نتائجها. في هذه الصورة من المسؤول عن إبادة مسيحيين في كنيسة عراقية؟

هذا يعني أن التلاقي بين المسيحيين (وهم غربيون دائمًا في عقل المسلمين) والمسلمين مستحيل، إذ ما هو قائم بالحقيقة ليس الإسلام والمسيحية ولكن الشعوب المسلمة والشعوب المسيحية الغربية. هذا ما يقودنا إلى سؤال أول هو قدرة العقل الإسلامي أن يفك نفسه عن مزج الدين بالدنيا أو الدولة أو العالم الإسلامي من حيث هو قوى مما يسميه القرآن الأولى بالمقارنة مع الآخرة، أي كيف يترجم سياسيًا قول الوحي: "والآخرة خير لك من الأولى" (سورة الضحى، 4)؟ هل للأولى استقلال كامل عن الآخرة بحيث تكون دار الإسلام مسلحة بالضرورة ضد الغرب المتغطرس والراغب في دوس الفقراء؟ والسؤال الثاني هل من قوى في الدنيا المسيحية شرقية وغربية قادرة أن تبرز كنيسة منزهة عن شوق سياسي؟ ليس عندي جواب واقعي عن السؤالين، لكن قناعتي اللاهوتية والتاريخية أن روسيا إذا استلهمت أرثوذكسيتها من جديد والبلقان الأرثوذكسي بعد انفصاله عن العثمانيين لا يكمن فيهما عداء للإسلام. الاتحاد الروسي فيه ما لا يقل عن عشرين مليون مسلم يعيشون في سلام. وأتاتورك بعد تخلصه من المسيحيين اليونانيين في الأناضول لم تبقَ في شعبه مشكلة مسيحية.

* * *

لعل هناك سؤالاً ثالثًا: كيف يعود الغرب الذي اعتنق فعليًا الرؤية الإسلامية بمزج الدين والدولة إلى صفاء مسيحيته التي لا تعرف هذا المزج؟ هل تستطيع الدول أن يديرها قديسون؟

أحد جوانب الوهم أن المسلمين مع محمد عبدو ورشيد رضا وربما المودودي اعتقدوا أنهم في حاجة وحيدة وهي أن يتبنوا العلم والتكنولوجيا من دون أن يغير هذا فهمهم للإسلام بسبب أن هذا فيه الرؤية الإلهية للإنسان وللكون ولا يحتاج إلى رؤية جديدة إلى الشريعة وإلى تفسير جديد للقرآن وإلى قراءة له تاريخية، والإسلام أبدي اللفظ وما تركه لنا السلف الصالح هو الحقيقة، أي إذ وحَّد بين الشرائع والفقه والتفسير من جهة وكلام الله من جهة. هذا كان رؤية مطلقة للإنسان والتاريخ الإسلامي مع أن الإطلاق هو وحده لكلمة الله. هنا عندنا مشكلة متروك حلها للمفكرين المسلمين. فهل من بروتستنتية ممكنة في الإسلام؟

من جهة مقابلة تعلمنت الدول المدعوة مسيحية وهذا يعني أن لا رجوع في الحياة الأوروبية والأميركية إلى الله في الحياة المجتمعية. أجل غير صحيح أن أهل الغرب انقطعوا عن الإيمان. من قال هذا لا يتابع الفكر المسيحي في العالم ولكن هذا منفصل عن الفكر السياسي.

هذا يعيدنا إلى لقاء فكر إسلامي مجرد عن السياسة وإلى فكر مسيحي ديني يشرف على السياسة ولا يتلقح بها، أي هذا يعيدنا إلى صفاء الحياة الروحية في الإسلام والمسيحية معًا، وإلى حوار بين العلماء والأتقياء بين الديانتين، وأريد بذلك إلى تديُّن حقيقي فيهما. إن هذا يفترض قراءة محبة صافية من خيار المسيحية للإسلام ومن خيار الإسلام للمسيحية تفرضان التحرر من منافع الأرض ومن الحس بغلبة فكر على فكر خاليين من العنف. أن تبسط إيمانك بسلام هو أن تحب القليل أو الكثير في الديانتين. العارفون في دينهم لا يخشون حركة مثل هذه غير أن هذا لا يمكن أن يتم في بلد يقوم على الطائفية السياسية. أنا لا أنكر على لبنان رغبته في درس الحضارات بهدوء ولكن هذا يقتضي علمًا بالآخر كبيرًا والسلام شرط للمحادثة.

هذا الحوار إذا كان قناعًا للتبشير أو الدعوة ليس بحوار. هو حرب بغير سلاح. أنا لا أنكر شرعية التبشير والدعوة لكن واقع الوجود يوحي لي بأن المليار والأربعة ملايين مسلم والمليارين من المسيحيين سيتكاثرون كلٌّ في جماعته إلى قيام الساعة. وهم كبير التفكير أنه يمكنك إسلام العالم أو تنصير العالم.

* * *

أيُّ تلاقٍ حقيقي صادق بيننا على مستوى العالم يفترض أن نستقل جميعًا عن انصهارنا في أية كتلة دولية. هذا وحده يضمن لنا السلام بمعناه السياسي فلا احتراب بعد اليوم بسبب من تحررنا من كابوس التاريخ الذي فصلنا وبانسلاخنا عن العوامل السياسية الحاضرة التي يبغي أصحابها انقسامنا.

قد ينقصنا هنا أن نذكر أن علماءنا عاشوا فترة في بغداد يتساجلون لاهوتيًا في البلاط العباسي بدعوة من الخليفة بروح سلام وعلم وتهذيب وكان الفكر يعطى للفكر.

كل دارس للأديان يعرف أن بينها قربى وبينها مباينات غير قابلة للتذليل في معظم الأحوال، ولكن الفارق ممكن فناؤه أو تجاوزه في أحوال، وهذا يتطلَّب دراسات مقارنة في الأديان ما يساعد على الرؤية السليمة لها.

إلا أن المقاربة التي أعرضها هي أن المسيحيين والمسلمين في بلدان عديدة عاشوا ليس فقط في وئام ولكن بتعاون. الموقف الأمثل على ذلك فترة أولى في الحكم الأموي حيث كانوا هم الموظفين الكبار في دولة الإسلام لعلمهم بشؤون المال والإدارة والبحرية، وكانوا عارفين بالإسلام وممارسين عباداتهم ويكتبون لاهوتًا مسيحيًا بالعربية، أي ليس موجهًا حصرًا إلى الرعية. والصورة عن الأندلس خلال ثمانمئة سنة من التعايش في ظل الحكم العربي أن التفاهم الاجتماعي وكثيرًا من تلاقي العلماء كان الوضع السائد.

الخلاصة من هذا الكلام أن التعاقد الاجتماعي بين أهل الديانتين مبدئيًا ممكن إذا تيقنَّا أن وحدة الدين ليست شرطًا بالضرورة للوحدة الاجتماعية، وذلك في ظل حكم مدني عصري في كل بلد. بإيضاح أعظم، حدة الانصهار في الاجتماع وبناء دولة واحدة أمران ممكنان من خلال الإدارة الطيبة للعيش المشترك. إن أمورًا أساسية كبرى في كل الحقول لا تحتاج إلى وحدة العقيدة الدينية، يكفينا الاحترام المتبادل في صدق.

غير أن هذا كله يتطلب جهدًا كبيرًا موصولاً يذهب بنا إلى حد النسك. في اللغة المسيحية هذا يقال له المحبة وفي لغة الإسلام هذا رحمة أو تراحم أو مودة.

من أين تأتي الناس هذه الفضائل؟ نحن نرى أنها تنزل عليهم إذا عرفوا العشق الإلهي أو ما يقاربه. لا صليبية، لا فتح، لا استعمار، لا نصر من الله. بلا كل هذه لله حق أن يسود بكرمه الدائم لنكون، مسلمين ومسيحيين، كأمة واحدة.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود