|
أدونيس: وليد الغيوم، شقيق الورد
عديدةٌ هي الدرجات التي ترتقيها الأفكارُ المكحِّلة للمشاعر وصولاً إلى "عين الحلم"، حيث مع كلِّ طعنةِ مرود تسيلُ دموعٌ سوداء، ومع كلِّ اختراقٍ معنوي تمطرُ اللفظة. تغلقُ الكتاب، تصفنُ، بينما مزيجٌ معايَر يبدأ في التفاعلِ داخل رأسك الحوجلي. الوجد المعلَّى، الحزن الرهيف، الحب والتثوير، والقليل القليل من فرحٍ متكاثفٍ على هيئةِ بخار فوق حواف الكلمات. هل ستبقى متأرجحًا على الحافة؟ وحدهُ التوازن الحبْلي – وذلك ما تتقنهُ دائمًا – يقيكَ من السقوط في كآبة مستحَقة أو ستبقى هكذا: مدمنُ واقع. يضعكَ دائمًا تحت الأمر الواقع. أو أنكَ بقرارٍ خلاق تعيدُ القراءة. هل نشرحُ شعر أدونيس أم نشرِّحُ ذواتنا كارتكاس أمام هذا الشعر؟ ونتساءل أيضًا – وليس لدينا غير الأسئلة المثارة –: هل الشاعر هو الكائن الذي يجمع الإلهي والإنساني في ضميرهِ وتكوينه؟ هل علينا أن نفكر في نقطةِ التقاطع بين: (ليس الماء وحده جوابًا عن العطش) و(ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، ونحدد أحداثياتها: (إلهي، إنساني) في عالم متعدد الأبعاد. فإذا كان وجود الماء والخبز شرطًا لازمًا غير كافٍ، فما هي الشروط اللازمة الكافية لنحيا؟ هذا هو المعنى مبسطًا بداهةً. ماذا عن الشعر؟ ماذا عن الحب؟ ماذا عن الرغبة؟ ماذا عن الورد؟ ماذا عن الحرية؟ ماذا عن الديمقراطية؟ ماذا عن الله غير المعروض على شاشات التلفزيون؟ ماذا عن (الهوية الفضاء)؟ وهنا يتوهجُ (احمرارُ الكتابة) أم أقول احترارُ فضاء (العروبة الورقي). ولماذا تسألُ الموج وتعرفُ أنه سيبتلعُ صوتكَ؟ ولماذا تسأل الريح؟ فهل نحاول جمعَ هذه الكلمات في جملةٍ مفيدة أو حياةٍ مفيدة؟ * * * من (غيمةٍ فوق نيويورك) يحلقُ أدونيس وصولاً إلى (غيمةٍ فوق قصابين) مرورًا بالبحر الميت وقرطبة والإسكندرية وأغادير، في طريق سماوي مدروس وموحى به من البداية.
هل يحقُّ لي أن أتخيل كيف نعبر بصورةٍ أخرى عن الحنين المتطاول مقوَّس النظر، كأننا أمام انتقال صوفيٍّ منحن، حيث انعدام قوة العطالة، انتقال من الغرب إلى الشرق، من نيويورك إلى قصابين، إلى القدس، انتقال في عالم لاإقليدي.
كنتُ من أية نافذةٍ نظرت، من قال إن الشعر لا يتحدى قوانين الفيزياء؟ وفي البحر الميت تتحقق النبوءة، فها هو على بعد أمتار عن القدس، ولكن ماذا يرى الواقف هناك غير
خط أوهن من بيت العنكبوت حيث الهواء نفسه جدارٌ لا ثقب فيه وحيث ظلام في أوجِ الشمس: تشعر، فيما ترى، أنك لا ترى. صفةُ هذا الانتقال الحنيني أنه مفجوع بـ شمس عربية عرجاء، خرساء. أية شمس تلك التي تلوح في الليل؟ بل أية شمس أصلاً تلوح في سماء عالمنا العربي الذي مازال يعيش عصره القبوي؟ أي هم يسكن الناس لا يعيشون، لا يموتون، من أجلِ راحة الرأس. أي وهم غيبي من أجل راحة اللغة. أي ضيق يستعمر صدر أدونيس، أية لوعة ينقلها إلينا عن طريق التنفس وهو يتساءل إن كانتْ (الشمس سترضع أطفالها غدًا) في الشرق. كأنك تنعي الإنسانية في روح العالم المعتمر (خوذته). * * * في قرطبة يعيش السرد متعة الكشف والاكتشاف، وفي الإسكندرية هاهو عاشق يعلن عن نفسه:
دمع الإسكندرية ودمع التاريخ ليس لأنه حديث العشق بل لأن النهر من طبعه الفيضان. وكعاشقٍ يدرس جغرافية جسد محبوبته يمرر أدونيس أصابعه على أنحائها، يخرج من فندق هيلنان-فلسطين، يدخل الأسواق، يداعب النخيل، يناغي البحر، يستقبل الشمس في الحي التركي، على جدران شارع فرنسا، يسائل الجوامع، ويخوض حتى قمةِ رأسه في المرفأ الغربي، المرفأ الشرقي، الكورنيش، ميدان عرابي، حي الأنفوشي وقلعة قايتباي، ويحاضر في مكتبتها الخالدة، يجالس جميع عشاقها: الإسكندر، كفافيس، لورنس داريل، يوسف زيدان، جمال الغيطاني، محمود مختار، وحتى مونتغمري ورومل. وإلى كليوباترة كمان وكمان:
شهوتي هي أن أقيم ثانية بين الإسكندرية وبينكِ وبيني، تاريخًا خاصًا إنه ارتحالٌ جارف في العشق على أجنحة الشعر. * * * في قراءتك الأولى استوقفتكَ عبارة لبضعِ ثوانٍ، وفي القراءة الثانية تقفُ من جديد واضعًا تحتها بعينيك أكثر من خط: ترى، ألن تعرفَ سماء العرب كيف تظلِّل شيئًا آخر لا يظلِّل القتل؟ القتل؟ كلمة مناسبة لتلتقطَ نفَسَك. بين اللوعة والقهر تقفزُ إلى ذهنكَ عبارة سلفادور دالي: تبدو لي السياسة سرطانًا في الجسد الشعري. لكنْ، هل تحدثَ أدونيس عن "سياسة" في نزيفه الشعري؟ صحيح أنه هناك توجد فلسطين، القدس، بيروت، بغداد، الخوذ، الصواريخ، الرمل، الأسلاك الشائكة، المنفى والقتل، لكن الأصح أنها تبدو كانقسامات حميدة في جسد الشعر الأدونيسي. ونتساءل: ألسنا لا زلنا نعيش "زمن القتلة" حسب تعبير رامبو في كتاب لهنري ميللر كان أهدانا إياه سعدي يوسف، ألم يقل أدونيس:
للسياسة لغةٌ * * * أغادير: رقصٌ على موسيقا الموج. أغادير: القيامة بعد الزلزلة. أغادير: شامةٌ على خصر المحيط. أغادير: شمسٌ مترجِّلة ورملٌ له (عمر التاريخ). أغادير: انطباعٌ عالٍ لنشوةٍ راجَّة. * * * قصابين: النداء. قصابين: العودة. قصابين: الطفولة المستيقظة. قصابين: شجرة التوت، العرزال، الفلاحين، الأم-القمر، الأب كثير الحضور، الأب-الشمس. قصابين: (البحيرات – العيون). انهض أيها الطفل – أدونيس – لقد وصلنا. * * * الغيوم؟ سؤالٌ يصفعُ عطشنا المتجذر، يناغي قلق الفلاح الساكن فينا، بكلِّ ما تحملهُ من بشارة السقيا. الشعر، العلم الجامع؟ سؤال مفتوح على اللانهاية، وحده يعطي العالم علة إنسانيتهِ. كيف نفهم هذا التطواف الغيميَّ ونفسره؟ في مكان آخر ومناسبة أخرى يقول أدونيس: أنا كائن متغرب، منفصل، غير مرتبط، مديني. "كلفٌ بالمطلق" وحدها عبارة كولن ويلسون تفسر أدونيس الظاهرة غير الطبيعية والفريدة في آن. بالمطلق الفاتح المخيلة على احتمالات لا نهائية. ومن غيره – الشعر – يفعل ذلك، جامع المتناقضات، البوتقة السحر، (لؤلؤة العالم). في شعر أدونيس تتكرر مفردات بعينها، تكرار يغْني؛ فالمفردة شكلاً هي ذاتها ولكن في تخلُّق جديد: الجسد، الشمس، الموت، الورد، الريح، الموج، ... هذه هي الشيفرة–المفاتيح التي يعزف عليها أدونيس نوتته المدوزنة على مقام: قَلق. فكلمة مثل (الجسد) تكررتْ أكثر من خمسين مرة، لكنها في كل مرة جسدٌ آخر، ونراها ترتبط عضويًا بـ (الشمس) التي تكررتْ نصف هذا العدد. حتى إنه في الغيمة القرطبية ناقشها بسرد هادئ لكنه يغلي. وفي مكان آخر وزمان آخر يجيب أدونيس: الجسد هو الكون كله في شهيق واحد وزفير واحد أو في ثوب واحد. ومثلها أيضًا كلمة (الورد) لا تتوقف عن التفتح؛ فـ (وصية الوردة) عبارةٌ لا تصلح إلا أن تكون عنوانًا لكتاب سماوي. أوصيكم بالشعر، هو عطري على شكل لغة. هل هذا ما قالته الوردة؟ حلق أيها الشاعر، وارتحل، وابق. نحن – الذين يختنق الهواء بنا لكثرةِ ما تنفَسَنا – نحلقُ من خلالك؛ فوحدهم صائغو الأفكار، و(جواهرجية) المعنى، هم الباقون. هل نشكر الشعر على اعتباره الفن العظيم، (العين العالية)، نبض العالم، ومقياس إحساسه وإنسانيته. أم نشكر الشاعر على اعتباره كما قال رامبو: العاجز العظيم، المجرم العظيم، اللعين العظيم، والعارف الأعلى لأنه يبلغ المجهول. *** *** *** المراجع: - ليس الماء وحده جوابًا عن العطش، شعر، أدونيس، دار التكوين، ط 2، 2010. - رامبو وزمن القتلة، هنري ميللر، ترجمة سعدي يوسف، دار المدى، ط 2، 2010. - حوار أدونيس مع الشاعر عبده وازن، نشر في جريدة الحياة، 2010.
|
|
|