|
رحلة قلبٍ أبيض:
لم تنتظر حتى السهرة التي نعدُّها لنسترجع معًا ذكريات أيامنا الأولى في الطبقة. كما هو حال من هم في عمري، أصبحت أنسى أين تركت قلمي أو نظارتي، ولكنني أبقى ساعات وأيام، أتذكر أحداثًا حلوة ومرَّة. أستعيدها بالتفصيل وأشرد وأبتسم وتدمع عيناي... أخيرًا تدمع عيناي. *** (المعلم قدَّم استقالته): قالها لي الصديق العزيز فهد دهَّان، مذهولاً، ومضى. أسرعت إلى غرفة مكتبك وحصلت مواجهة قاسية بيننا، ربما هي الوحيدة. كيف تفعلها يا أبا عبده؟ كنت (أنت الصديق الغالي مروان قولي) مديرًا لمركز الطبقة، في المؤسسة العامة لسد الفرات، وكنت (أنا) أحد مسؤولي المنظمة الشيوعية الجنينية التي نؤسسها هناك، مع الرفيقين رأفت كردي وموريس ضومط، بإشراف مباشر من الرفيقين يوسف الفيصل وعمر قشاش. التقاليد الحزبية كانت تستوجب إخبارنا. فهمت أنهم أوحَوْا لك أن هذا أفضل لكرامتك من أن يأتي تسريحك؟ كانت رحلة الطبقة أحد مشاريعك التي لم تكملها. بقيت دائمًا عاتبًا عليك: لماذا لا تكمل مشاريعك؟ حتى هذه المرَّة وأنت تودعنا؟ أسمع زفرتك: ليس أكثر. لم أعد أطيق مزيدًا من الحزن. السنوات التي أمضيتها في الطبقة كانت، كما وافقتني دائمًا، المحطة القصيرة ولكن الأغنى في حياتك وحياتنا. أتردد، غير مصدق: هل عشناها فعلاً؟ هل كنا هناك؟ أسأل أصدقائي الذين شاركت معهم تلك السنوات العشر الأولى: هل تذكرون حادثة فساد واحدة؟ هل عرفنا أيًّا من البشاعات التي تسللت إلى حياتنا بالتدريج؟ هل هو قانون علمي وطبيعي وتاريخي، كما آمنا بإخلاص، إلى حد البلاهة، أن نبدأ كما فعلنا في الطبقة، ثم ننتهي كما نحن الآن؟ بدون اتحاد سوفييتي وبدون كل تلك الآمال العظيمة بناسٍ من نوع آخر: طيبين يبتسمون دائمًا ولا يعرفون غير الحب والكرامة والفرح. بدأنا، يا صديقي، نطرح الأسئلة، متأخرين جدًا. كنا نعتقد أننا حصلنا، منذ زمن بعيد، على كل الأجوبة. أدركنا، الآن، أننا لن نتوقف عن طرح الأسئلة. ربما عليَّ أن أصف مكتبك و(غرفة) نومك في الطبقة، يوم لم نكن شهدنا، بعد، كيف تكون مكاتب المديرين وقصور بعض المسؤولين؟ بل سأترك الحديث عنها لأحبتنا: أحمد الراوي وأحمد الحسون رئيسَيْ ورشتَيْ الحفر الجيولوجي، في فترة التحريات الأكمل التي عرفتها مشاريعنا الهندسية، وجورج نعمة الميكانيكي البارع، وعبد الله الجندي البحَّار الشجاع من جزيرة أرواد، وحسين الهايس قائد زورق القياسات المائية، وحمود الكمكوم عامل المساحة الذي كان يلتقط العقارب من ذيولها بإصبعيه، وهو ينظِّف الأمكنة التي سنزرع فيها مراصدنا، وعبد السلام جالا النقابي المزمن حتى وفاته، صاحب الروح الأجمل، وعبد الجليل جرجنازي بطل الإنتاج الأول من سد الفرات، وأدهم عكاش ورامز سعد ونزيه السيد وهاشم عيسى ومحمد وليد المحمد، المتخرجين لتوِّهم، أو تريانتيف وتشوماكوف وكورنوسوف وبلباي وكوزين، القادمين من مدن باردة بعيدة. هل أستطيع أن أكمل تلك القائمة الطويلة التي تضمُّ مئات السوريين والسوفييت راسمي اللون الأجمل في اللوحة السورية المعاصرة؟ ربما ينقصنا ذلك التقليد الرائع للقاء (المحاربين القدامى) في حدائق موسكو يوم 9 أيار، من كل عام. لو أسسنا تقليدًا مثله، لكنا عرفنا، على الأقل، من بقي منَّا حيًا، ولحاولنا أن نفهم، مع هؤلاء الأحبة: لماذا تغيَّرنا كل هذا التغيُّر؟ لو حدث لقاء كهذا، أمس أو غدًا، لكنت يا أبا عبده الحاضر الأكبر فيه. ولكنا استعدنا بعض الثقة بأننا فعلنا، في حياتنا، أشياء لا نخجل منها: لقد ساهمنا في بناء مجتمعٍ فتيٍ متجانس، بسرعة هائلة، يضم أبناء الرقة وعفرين والسويداء والساحل وحلب ودمشق والأرجاء السورية جميعها. لم تظهر، في يوم من أيامنا تلك، عصبية تفرِّق أو حزبية ضيقة. لقد تشكَّل، بسرعة، نموذج المواطن السوري الناضج المبدع المدرك أن التنمية هي مشروع للحرية وللعدالة. في تلك المرحلة كنا نتوهم أن أبناء الأسر الدمشقية الميسورة لن يتحملوا ظروف الطبقة، وهم القادمون من بساتين الغوطة. كانت الطبقة قرية جرداء، ملتهبة في الصيف، مليئة بالغبار والعقارب، لا ترى فيها سوى اللون الأصفر الرمادي الشاحب. اللهم إلا شجرة يتيمة معمِّرة ملاصقة لنهر الفرات. تمنيت لو عرفت قصتها ومن زرعها ورعاها لتعيش سنوات طويلة، نقطة علام في محيط أجرد، قبل أن تغمرها مياه السد. المجد لك أيها الفلاح الفراتي المجهول. ولكن مروان قولي الدمشقي، أجاب بسهولة مفحمة: لم يتبرم، في أية لحظة، من العيش معنا، بل في مستودع لا تزيد مساحته عن خمسة أمتار مربعة ودون نافذة إلى الخارج. أتساءل: كيف كان يتنفس؟ وكذلك صمد، بشجاعةٍ، الصديق الجيولوجي الدمشقي سعيد زهراء، يوم سقط في حفرة للتحريات الجيولوجية من ارتفاع تسعة أمتار. انكسرت فقرات في ظهره وأجزاء أخرى من جسده، وعندما تعافى عاد ليلاحق طبقة البانتونايت اللزجة التي ظهرت تحت أساسات السد. *** أتذكر يوم زارنا على نحو مفاجئ، في يوم شديد البرودة من شهر كانون الثاني عام 1968، رئيس الدولة الأسبق المرحوم نور الدين الأتاسي، وهو ذاهب مع رفاقه إلى المناطق الشرقية. تولَّيت الترجمة (بوساطة لغتي التشيكية القريبة إلى الروسية) بين السيد الرئيس والخبيرين ديليس وتشوماكوف. لم يكن الأمر صعبًا أن أقوم بترجمة تلك الكلمات البسيطة التقليدية عن عمق العلاقات السورية السوفييتية. ولكن الصعوبة ظهرت في قصة طريفة لا علاقة لها بالترجمة، فقد طلب السيد الرئيس كأسًا من الشاي الساخن، وكان يشعر ببردٍ شديد. كلَّفني أبو عبده بالبحث عن الطباخ صليبا لتحضير الشاي. لم نكن مستعدين، بعد، لأبسط متطلبات الضيافة. تبيَّن أن جرة الغاز فارغة، وكنا ننتظر بديلاً لها من حلب. غادرنا السيد الرئيس دون أن يشرب الشاي. اعتذر منه أبو عبده، وقال له هكذا هي أحوالنا. لم تترتب بعد. عانقه السيد الرئيس وودعنا ومضى. *** ولكن لقاءنا الأول، مع أبي عبده، كان في نهاية عام 1959، في مدرسة تعلم اللغة التشيكية، ضمن غابة هوشتكا القريبة من براغ. سكنا معًا في غرفة واحدة مع الصديق عبد الحميد أتاسي، كنتما الأكبر ضمن مجموعة (الفارين) العشرة، من سورية فلبنان، بسبب الظروف السياسية القاسية في تلك الأيام. كان الرفيق رضوان مرتيني المسؤول الحزبي للمجموعة، وكنت الأصغر فيها. لم تبقَ بيننا طويلاً، بل غادرتنا إلى براغ لتحضير الدكتوراه. ثم ما لبثت أن عدت إلى الوطن، مسرعًا، يوم انتهت الأسباب السياسية لهجرتنا. كنت تعتقد، ربما، أن عليك متابعة عملك رئيسًا لبلدية الحسكة، فالمشاريع التي بدأتها ينبغي إنجازها. هكذا أنت دائمًا مستعجل ونزق، ولكن طيب وحنون، لماذا بتُّ أتخيل أن ثمة ما يجمع، أحيانًا، بين تلك الصفات؟ *** أتحسَّر، كثيرًا، لأن الله لم يمنحني موهبة كتابة الرواية، ولا قصَّ الحكايا. والداي وكل أجدادي، من الطرفين، كانوا قليلي الكلام. مرحلة عملنا في الطبقة مع أبي عبده ومع الألوف من (أصدقاء الفرات)، تستأهل أن تكتب عنها أكثر من رواية، شرط أن يحكيها بعض من عاشها. ولكن مروان قولي وصبحي كحالة وإبراهيم فرهود وكبير الخبراء خوخلايف وآخرين من الذين غادرونا، ستزيِّن بأسمائهم بعض ساحات مدينة الثورة وشوارعها ومدارسها. ليس من أجلهم ولكن من أجلنا، نحن الأحياء، بعد. من أجل قيم الحب والوفاء وعرفان الجميل. من أجل القيم السورية الأصيلة! العزيز أبو عبده: عندما أخبرت أم خالد الدهان، السيدة الفاضلة التي عملت في سد الفرات ما يقرب من عشرين عامًا، بوفاتك، قالت، وهي تنشج: ها هو قلب أبيض آخر يرحل عنا. قلب أبيض هرسته أحزان السنوات الأخيرة. ليتك بقيت لتشاركنا سهرة الذكريات الموعودة عن سنوات الطبقة. هل سنسهر بدونك؟ نعم سنفعل وستكون بيننا! النور، 382 (25-3-2009) |
|
|