|
رسائل ريلكه ويوسا إلى الكاتب الناشئ
تكتمل تجربة الكتابة الخلاَّقة حين يستطيع صاحبها امتلاك القدرة الكافية للتنظير للكتابة، سواءً عبر حواراته أو ضمن رسائله النقدية الموجهة إلى الكتَّاب الناشئين، ووضع وصايا نقدية تهتم بالجانب الجمالي للنصوص وتنطبق على عموميات الكتابة الأدبية، ويعتبر هذا إنجازًا فكريًا يساهم في تميز خصوصية الخلاَّق. كما أن تجربة التواصل هي من الصعوبة إلى الحد الذي تظل فيه محصورة ضمن حدود الاحتمال والتراوح بين الحضور والغياب لعناصر واقع التجربة ككل. ماذا يحدث حين يريد المرء أن يكون شاعرًا مثلاً؟ هل هنالك مقاييس معينة يجب علينا تعميمها حتى يولد لدينا شاعر حقيقي؟! كذلك الأمر بالنسبة إلى المرء إذا أراد أن يصبح روائيًا. هل نستطيع الجزم أن أبوَّته محصورة في هذا الكاتب الكبير أو تلك المدرسة السردية؟ أسئلة كبيرة تخص تصوير مراحل تطور الإنتاج الأدبي، يضعها كتاب رسائل إلى شاعر ناشئ روائي ناشئ لخلاََّقين اتثنين شديدي التمرس بالنصوص الأدبية شعرًا وسردًا، هما راينر ماريا ريلكه وماريو فارغاس يوسا، بترجمة أحمد المدني وتقديمه (دار التكوين، 2010، دمشق). رسائل ريلكه على رغم انشغاله الكبير في إنتاج الشعر لم يتوانَ ريلكه عن إسداء النصح عبر رسائله التي كان يردُّ من خلالها على شاب يمتهن الحياة العسكرية ويجرب كتابة الشعر، لكنه في حيرة من أمر أبياته ومشاعره وحياته، فيحاول التواصل مع الشاعر ريلكه عله يسبر أسلوبه ويصنع خصوصيته الجمالية عبر ذلك الحوار الممتد على طول عشر رسائل اختارها المترجم من بين مجموعة كبيرة من رسائل ريلكه. هذا الشاب الذي يدعى رانز كرافر كابوس لم يصبح شاعرًا على الرغم من سنوات الحوار التي دارت بينه وبين ريلكه. في رسائله يدخلنا ريلكه إلى أبسط تفاصيل ظهور الحالة الأدبية لدى الشاعر، إذ يخاطب محاوره الناشئ حول ضرورة تخليه عن هاجس النشر وعدم الانزعاج إطلاقًا من رفض محرري المنابر الأدبية تبني أعماله. بالتأكيد لن يموت لو منع من النشر، فأهمية التمسك بالذات والاتجاه نحو الداخل تعتبر في رأي ريلكه الدافع الرئيسي لاختبار الشاعر قدرته على التوجه نحو جذور القلب، والعناية بحساسيتها الفنية لا تأتي من إطراءات الآخرين ومديحهم، لأن الخارج لا يعطي أجوبة ولا يصنع ذاتًا خلاَّقة، بل يشوش بعنف على التطور الداخلي للأديب. تلك الأفكار حاول ريلكه تعزيزها من خلال أمثلة واستنتاجات كبرى وصل إليها في تحليله لقضايا طبيعية يعيشها المرء على الدوام مثل الجنس، يقول: إن شهوة الجسد هي شيء من حياة الحواس في المستوى نفسه الذي للنظرة الطاهرة، إنها تجربة بلا حدود، العيب ليس في التجربة ولكن في العدد الكبير ممن يعيشونها ويسيئون استعمالها، يعتبرونها مجرد مهيج بالنسبة إليهم، واسترواح في الأوقات المتعبة من حياتهم وليس تكثيفًا لذواتهم. وفي الجمال: إن كل جمال هو شكل عار من الحب والرغبة. هكذا يرى الشاعر الألماني أن تلك الحياة ليست مرحلة ويجب فصلها عن الروح بل عليها أن تعاش طولاً وعرضًا بكل تفاصيلها وبوضوح الذوات، بحسب قانون كل إنسان، ويبدو الشاعر أكثرهم صخبًا وحاجة ليقول ذاته من دون أن يشبه أحدًا، وربما عليه أن يكون في أكثر الأحيان وحيدًا في لعبة الحياة، ومتوحدًا مع نفسه: أحِب وحدتك وتحمَّل وزرها، كن طبيعيًا مع من هم وراءك، لا تدوِّخهم بشكواك ولا ترعبهم بإيمانك وبحماستك، إنهم لن يستطيعوا فهمك، تواصل معهم في ما هو بسيط وصادق. في الجانب الآخر يطالب ريلكه ذاك الكاتب الناشئ بأن يذخر وأن يراكم، فالعطاء هو اكتمال. هذا العطاء لا يأتي بسرعة كما يريده الشباب عندما يعشقون، حيث يضيعون أدواتهم بين أشياء الصمت والوعود، والناس بقدر ما نظروا إلى الحب على أساس أنه مجرد متعة، جعلوا الوصول إليه سهلاً ومبذولاً وغير محفوف بأي خطر، كما لو كان متعة وفرجة. الكتابة الخلاَّقة هي في النهاية حالة جمال فنية، وصناعة هذا الجمال لا تأتي بسهولة، فالصبر على التثقيف والتأمل وتوطيد العلاقة مع الذات كما يبرره ريلكه هو قتل مرض الغرور، يقول: كن صبورًا مثل مريض، وواثقًا مثل ناقة، ولعلك هذا وذاك، بل لعلك أكثر، إنك أيضًا الطبيب، فأسلم نفسك لنفسك. لكن يوجد دائمًا في المرض ما لا يقدر الطبيب أمامه إلا الانتظار فلا بأس منه. إذًا، لا تغرق في ملاحظة نفسك، وتجنَّب أن تستخلص مما يجري أمامك من خلاصات عجلى... دع الأمور تمشي على سجيتها. وعليه، فإن الانتظار يولد النضوج، ويحرر الذات من عقد التشابه وتقليد الآخرين في الخلق من دون الشعور بذلك. في معظم رسائله يرى ريلكه أن الطفولة هي محور مفصلي للحقيقة الشعرية، حتى في الأماكن الفقيرة دلالة كما السجن مثلاً، بالرغم من أن جدرانه تخنق كل ضجيج العالم فسيبقى للشاعر دائمًا طفولته الثمينة تلك، حيث الغنى الملكي، كنز الذكريات. فالطفولة تقوي الوحدة وتصبح وحشة الوحدة ملاذًا مغلقًا على ضجيج الخارج، يؤوي إليه الخلاَّق في ساعات القلق اليومي. إن العمل الفني يكون جيدًا حين تلده الضرورة، ورصد الأعماق النفسية والجسدية والفكرية والخيالية يعطي الكاتب جوابًا عن سؤال: هل عليَّ أن أخلق؟ من هذا الجواب يرى ريلكه أن على الشاعر قطف الصوت من دون أن يضغط على المعنى. إن أبرز ما يمكن قوله في مجمل رسائل ريلكه، الصدق والواقعية التحليلية الذكية التي يتمتع بها، فهو بعد كل رسالة يطور ذاته الناقدة والشاعرة في آن واحد، حين تصله قصائد أو رسائل من الشاعر الناشئ كابوس كما يعترف له في آخر رسائله اعترافًا يندر أن يتفوه به أي شاعر آخر، يقول: إن هذا الذي يحاول أن يخفف عنك وزرك، بهذه الكلمات البسيطة والهادئة ليس بمنجى هو الآخر، من كثير من الصعوبات، وحياته ليست خلوًا من المتاعب والأحزان. ولو كان على غير هذا الوضع لما استطاع ملاقاة الكلمات التي يمنحك إياها بمحبة. رسائل يوسا يقدم الروائي ماريو فارغاس يوسا مجموعة نصائح نقدية إلى روائي ناشئ. مجموعة رسائل على شكل أحد عشر فصلاً يتضمنها الجزء الثاني من هذا الكتاب، حيث تطالعنا الدلائل الشرطية والتحليلية التي تثبت بلا جدل أن القص بصفة عامة كجنس أدبي، المعول فيه ليس على محكيِّه بل كيفية ما يحكى، ووسائط هذا الحكي مع الطرائق والخصوصية المرهفة، التي يتجلى بها، وهي عديدة متنوعة من قبيل الأسلوب وموقع السرد أو المواقع المتعددة التي يتخذها السارد وهو يعرض سرده بما يؤثر طبعًا على تلقينا له، والمنحى الذي يذهب فيه، ومنه أيضًا مقام الفضاء، والزمن، وقوة أو سلطان الإقناع، وغير ذلك مما يصنع البناء الفني لكل عمل سردي خاضع لنظام وطرق فنية محكمة. هذا ما يود يوسا تعريفه من خلال تلك الرسائل، والمثال الأوضح على ذلك في رسالته حكمة الدودة الوحيدة التي يشرح من خلالها أن الموهبة هي نقطة الانطلاق الضرورية للحديث عمَّا يحرك الكاتب ويقلقه، ودعم هذه الموهبة في حاجة إلى توافر ما يشبه الدودة الوحيدة في عقله حتى تنهال على الكتب وتقرأها تباعًا ومن دون عجلة، بحيث أن الاستعداد المبكر لخلق كائنات وحكايات يكمن في التمرد على ذاك المخزون المعرفي والثقافي وتجاوزه، على الرغم من أن عملية الكتابة الخلاَّقة تشبه العملية الدينامية وتحارب طواحين الهواء وتهدف إلى أن تحل وهمًا محل العالم المحسوس والموضوعي للحياة المعيشة، العالم الزائل للمتخيل. في باب آخر يتحدث يوسا عن الأصالة التي يشرح فيها معنى أن يكون الكاتب أصيلاً، يقول: إن التخييل من حيث التعريف، خداع، إي ما ليس حقيقة أو واقعًا ويوهم به، وكل رواية هي كذب يصطنع الحقيقة، خلق تكمن قوة الإقناع فيه تحديدًا في الاستعمال الفعال من لدن الروائي لتقنيات إيهامية وشعوذية شبيهة بصنيع الحوار في السرك أو المسرح. يمكن أن يحدث ذلك شريطة أن يخضع الروائي الأصيل بطواعية لفروض الحياة، بالكتابة في المواضيع التي تمليها، وبرفض ما لا يولد بحميمية من تجربته الخاصة ولا تصل إلى وعيه بالضرورة المطلوبة. وهذا كله من أجل ماذا؟ يجيبنا يوسا ببساطة: إن الأدب هو أفضل ما اخترع لمكافحة الشقاء. ترتبط فاعلية الكتابة الروائية بخاصيتين هما، يقول يوسا: التماسك وطابع الضرورة... الحكاية المنقولة في الرواية يمكن أن تفتقر إلى التماسك، لكن اللغة التي تعبر عنها لا بد أن تتسم به، لكي تسمح لانعدام التماسك هذا بالظهور كما لو أنه طبيعي وجزء من الحياة. وعليه، فإن صدق التجربة الحياتية يفرض الخصوصية في فرادة التجربة الروائية. يعرفنا يوسا إلى تقنيات السرد وتفكيك الأزمنة من خلال فصول رسائله، كما يتيح لنا فرصة التماس أمثلة مختلفة حول ما يقوله، بالإضافة إلى تعريف بسيط عن النقد الذي يشك باحترافه إذ يقول: يمكن النقد أن يكون مرشدًا ذا قيمة عظيمة لينفذ إلى العالم وإلى صنائع المؤلف، بيد أنه وحده حتى لو كان متينًا وكاملاً لا يستطيع استنفاذ ظاهرة الإبداع وشرحها في كليتها، ذلك أن النقد تمرين للعقل والذكاء أما الإبداع الأدبي فيدخل بكيفية حاسمة أحيانًا عناصر الحدس والحساسية والتخمين بل والصدفة التي تفلت من شباك البحث النقدي. إذًا، من المستحيل بحسب رأي كلٍّ من ريلكه ويوسا أن نعلِّم أحدًا كيف يخلق، وأقوى ما نستطيع هو تعليمه القراءة والكتابة! النهار |
|
|