|
قراءة في كتاب: "الهندوسية: تحضيرها لانعتاق الروح"
وفقًا للفلاسفة الهندوسيين، تعتمد صلاحية الخلاصة المتعلقة بإحدى الحقائق الروحية على ثلاثة عوامل: الكتب المقدسة، والمنطق، والتجربة الشخصية. لا تستطيع الفيدا ولا المنطق ولا التجربة خلق القناعة الصادقة. إن الاستناد إلى الكتب المقدسة فقط يجعل الفرد دوغمائيًا. والعقل بذاته لا يمكن أن يعطي اليقين، بل إن التفكير يخبئ في أغلب الأحيان عقلنة لرغبة الإنسان، فهو يثبت ما يريد إثباته. ولكن، من هي تلك الآلهة الفيدية التي تُعرَف بأسماء براجاباتي وإندرا وفارونا وياما ورودرا...؟ إنها تجليات لقوة البراهمان أو الحقيقة النهائية في عالم الظواهر. ولكن، المتعبِّد الذي يعبدها دون أي دافع أناني يحصل من خلال بركتها على طهارة القلب الذي يساعده في تحقيق الحقيقة. إن الرضى الذي ينشأ من علاقة متناغمة مع كائنات حية أخرى يحقق سعادة داخلية ويفتح بوابة الطريق إلى الحياة العليا. إن من يتعلق بالعالَم ويبحث عن السعادة فيه لن يستطيع بلوغ الانعتاق لأن ذلك غير ممكن إلا من خلال معرفة الذات أو براهمان الذي تصفه الأوبانيشاد. إن الحقيقة النهائية وفقًا للفيدا، هي روح أزلية منبثة في كل الأشياء، غير مخلوقة، ذاتية الإشراق، وهي الغاية النهائية للكون، والطاقة الكامنة وراء كل القوى الملموسة، والوعي الذي يحرك كل الكائنات الواعية، وهذه هي الفلسفة المركزية للهندوسي، وما ديانته إلا تأمُّل لهذه الروح، وصلاة توجِّه عقله في طريق الفضيلة والصلاح. تعتبر الهندوسية من وجهة النظر الفلسفية ديانة لا ثنائية، ومن وجهة النظر الدينية ديانة توحيدية. تؤكد الفلسفة الهندوسية على اللاثنائية الجوهرية لله والروح والكون. إن الدين وفقًا للهندوسية هو تجربة وليس مجرد قبول لبعض العقائد المأثورة أو المعتقدات. أن تعرف الله هو أن تصبح مثل الله. يمكن للإنسان أن يقتطف من النصوص وأن يشارك في الطقوس وأن يقوم بخدمات اجتماعية وأن يصلي بانتظام، ولكن طالما لم يحقق الروح الإلهية في قلبه يبقى كائنًا ظواهريًا وضحية لثنائيات الأضداد، فعندما يطهِّر الفاني نفسه من الرغبات العزيزة على قلبه يصبح خالدًا في هذا الجسد. ذلك أن بلوغ الخلود ليس حكرًا على قلة مختارة، ولكنه الحق الطبيعي للجميع. تشير كلمة براهمان بالمعنى الحرفي إلى كينونة لا يمكن لأحد أن يقدِّر عظمتها وقوتها واتساعها، أما كلمة أتمان فتعني وعي الإنسان الذي يختبر الأشياء الكثيفة في حالة اليقظة، والأشياء اللطيفة في حالة الحلم. والغبطة الناشئة عن غياب ثنائية الذات والموضوع في نوم بلا أحلام. "... إنه الذات الكامنة في القلب، أعظم من الأرض، أعظم من السماء، أعظم من الفردوس، أعظم من كل هذه العوالِم". غالبًا ما يصف الفلاسفة الهندوسيون براهمان المطلق بأنه الوجود – المعرفة – الغبطة. إن الوجود والمعرفة والغبطة ليست صفات الحقيقة بل هي مادتها الأساسية. إن الاختلاف والخوف والغيرة والتكتم والشرور الأخرى التي تعكِّر حياة الإنسان اليومية تنشأ كلها من وعي الثنائية. لذلك لا يوجد من وجهة النظر المتسامية عالم غير براهمان. وبما أن براهمان حر من السببية فإن مسألة الخلق غير مطروحة. لم يُخلَق أي شيء في أي وقت. عندما يرى الإنسان، بسبب الجهل، الأسماء والأشكال، المادة والصفات، السببية والارتباطات الأخرى لا يرى العارِف بالحقيقة إلا جوهرًا صرفًا. إن الطبيعة ذاتها هي بالنسبة للمستنير جوهر صرف. وبما أن الثنائية مجرد وهم فإن الجوهر الصرف المطلق هو الحقيقة الوحيدة. بما أنه من غير الممكن تخيُّل تغيُّر حقيقي في الجوهر الصرف، فإن مسألة الخلق لا تُطرَح. تقول الأوبانيشاد إن كل المخلوقات وُلِدَت من الغبطة، وبعد أن تولد تشكل الغبطة ركيزتها، وتدخل في نهاية الأمر في الغبطة. إن العقل المحدود هو بحد ذاته نتاجًا للمايا، لذلك لا يستطيع فهم طبيعتها الحقيقية... يظهر فقط أن سرًّا عميقًا يقبع في قلب الحقيقة، سرًّا لا يمكن سبره بالفكر. عندما يحرر المرء نفسه من مايا يرى العالَم كجوهر صرف. تتألف مايا من ثلاث غونات وهي الجدائل الثلاث التي تشكل حبل مايا والذي يصبح البشر بوساطته مقيدين إلى العالم الظواهري. توجد الغونات بدرجات مختلفة في كل الأشياء الكثيفة واللطيفة بما فيها العقل والفكر والأنا. وتُعرَف بأنها ساتفا وراجاس وتاماس. راجاس هو الطاقة التي يظهر تأثيرها في النشاط المستمر. تخلق راجاس التعلق والألم. وتتجلى تاماس بالسكون والبلادَة والإهمال. إنها أم الوهم. وهي تمثل قوة مايا الخاصة. أما ساتفا فتتجلى بصفات روحية وهي تتميز بالتوازن. عندما يوجد توازن بين الغونات الثلاث يبقى العالَم في حالة استتار أو تحلل، وعندما يضطرب هذا التوازن بسبب سيطرة غونا أو أخرى يبدأ خلق العالَم المادي. إن العنصر الأول الذي يتطور في بداية الدور هو أكاشا ويُتَرجَم عادة بشكل خاطئ على أنه الأثير أو الفضاء أو السماء. أكاشا هو الجوهر المادي غير الملموس المنبث في كل الكون. وبالتدرج تتجلى أربعة عناصر أخرى هي الهواء والنار والماء والتراب. إن مايا التي لا تختلف أساسًا عن براهمان هي العلة المادية، وبراهمان كذكاء صرف هو علة العالَم الفعَّالة. يعد صدور الأشكال كلها عن براهمان يدخلها بوصفه الحياة والوعي يحركها. هكذا يصبح براهمان المتسامي حالاً في العالَم. في العصور الحديثة تعبَّد راما كريشنا مايا بوصفها الأم المقدسة التي تحتضن في رحمها كل الكائنات الحية، والتي تدعمهم كالأم بعد أن تخلقهم ثم تسحبهم إلى ذاتها في نهاية الدور. وقد علِّم أن براهمان ومايا لا يختلفان، كالنار وقدرتها على الحرق. إن قبلت بأحدهما عليك أن تقبل بالآخر. إذا رأيت النار فعليك أن تعترف بقدرتها على أن تحرق. لقد حث راما كريشنا مريديه على النظر إلى مايا بوصفها الأم المقدسة. وعلَّم أن التعبد والانعتاق كلاهما من صنعها. بقوتها الغامضة يصبح الناس مقيدين إلى العالَم وبنعمتها يبلغون الانعتاق. بعد أن مارس الناس الديانة لفترة طويلة نشأت الرغبة ما بينهم وتراجعت الحكمة والحصافة، وبدأ الانحراف يرجح على الاستقامة، ثم عندما طغى الانحراف على العالَم قام الرب الخالِق الأول بتجسيد نفسه جزئيًا كإنسان، رغبة منه بتأمين استمرارية العالَم، ووضع الممتلك الأبدي للمعرفة والسيادة والقوة والقدرة والطاقة والنشاط مايا، الطبيعة الأولية المتميزة بالغونات الثلاث تحت سيطرته. ثم ظهر بواسطة مايا كأنه ولد وكأن له جسدًا وكأنه يبدي المحبة للناس، مع أنه في الحقيقة لم يولد ولم يتغير، إنه رب الكائنات المخلوقة كلها. وهو بطبيعته أبدي وطاهر ومستنير وحر. الفلسفة اللاثنائية ترى أن الجوهر الصرف هو الذي يُنظَر إليه من وجهة النظر الظواهرية بوصفه الإله الشخصي والذي يُعبَد من قِبَلِ أتباع الديانات المختلفة تحت أسماء مختلفة. إن إشراط براهمان بحسب الفيدانتا اللاثنائية ليس إشراطًا حقيقيًا، وإنما هو إشراط ظاهري فقط. إن براهمان المشروط هو جزء من العالَم الظواهري، وهو يبدو حقيقيًا طالما يُنظَر إلى العالَم على أنه حقيقي. إنه الموجة الكبرى في المحيط اللامتناهي للوعي الصرف. أما براهمان المطلق وبراهمان المشروط فليسا حقيقيين، الموجة لا تختلف في أساسها عن المحيط، فالبحر هو البحر، سواء كان ساكنًا أم مضطربًا. الروح ومصيرها تعتبَر الروح من وجهة النظر المطلقة لاثنائية، خالدة، طاهرة أبدًا، حرة أبدًا، مستنيرة دائمًا، وواحدة مع براهمان. ومثلما يصبح براهمان الصرف بالاشتراك مع مايا براهمان المشروط، أو إشفارا (الإله الشخصي)، يصبح كذلك بالاشتراك مع مايا ذاتها الروح الفردية أو جيفا. ورغم أن إشفارا وجيفا هما تجليات لبراهمان على المستوى النسبي، إلا أن الفرق بينهما واسع فهما يختلفان عن بعضهما مثلما تختلف الشمس عن سراج الليل، أو تختلف قمة إفرست عن حبة خردل. وهذا الاختلاف يعود إلى أن إشفارا يحتفظ بمايا تحت سيطرته، بينما تقع جيفا تحت سيطرة مايا. وتنسى جيفا وهي تحت سيطرة مايا طبيعتها الحقيقية، لكن إشفارا بمساعدة مايا، يخلق ويحفظ ويفني العالم. وهو رغم طبيعته الظواهرية يتحرك بحرية في عملية الخلق، كالعناكب على شبكتها، في حين أن جيفا محبوسة في العالَم، كدودة قز في شرنقتها. جيفا هو المتعبد وإشفارا بوصفه الإله الشخصي هو موضوع العبادة. يجب المحافظة على الفرق بين جيفا وإشفارا طالما أن الفرد واع للأسماء والأشكال، مثلما هو الاختلاف بين أسد وفأر من الصلصال، عندما تختزل الأسد والفأر إلى مجرد صلصال يفقدان اختلافهما، كذلك في التحقق اللاثنائي تصبح جيفا وإشفارا كلاهما واحدًا في براهمان. عندما تحقق الروح الظاهرة وحدتها مع الروح العليا يزول مصدر الأسى. ترتبط جيفا بأعضاء الحواس والعقل والبرانا أو النَّفَس الحيوي. توجد عشرة أعضاء للحس تخضع كلها للعقل بوصفه العضو المركزي. خمسة أعضاء للإدراك، وخمسة للفعل. تتضمن المجموعة الأولى الأذنين والأنف وعضو الذوق والجلد والعيون، وتتضمن الأخرى الأيدي والأقدام وعضو الكلام وأعضاء الإفراغ والتكاثر. إن الانطباعات التي تنقلها أعضاء الإدراك يعطيها العقل شكل أفكار لأننا لا نرى إلا بالعقل ولا نسمع إلا بالعقل. إضافة إلى أن العقل يحوِّل الأفكار إلى قرارات للإرادة. أحد أجزاء العقل، ويدعى الماناس، يخلق الشك. وهناك ثلاثة أجزاء أخرى للعقل: الفكر (بودهي) الذي يتخذ القرارات، و(شيتا) التي تختزن الذكريات، والأنا (أهام) الذي يخلق وعي الأنا. تعتبِر الفيدانتا أن كل الكيانات، من الأشياء الكثيفة والملموسة في العالَم الخارجي، إلى الجسد والحواس والعقل، تنتمي إلى فئة "المنظور" أو الموضوع، وهي جامدة ومتغيرة. إن الذات أو الوعي، أي الناظر الحقيقي أو الفاعل هي الذكاء الثابت، ولا يمكن أبدًا تخيل عدم وجودها. تعلن الأوبانيشاد بشكل واضح بأنه لا يمكن للمعرفة أن تغيب في العارف، فالوعي هو المادة الأساسية للعارف: هناك تطابق تام بين أتما في الإنسان وبراهمان في الكون. تبدو الذات التي تتألف بطبيعتها من وعي صرف أنها جيفا أو الكائن الظواهري الذي يخضع لمحدوديات العالَم الفيزيائي المتنوعة. ومن خلال الجهل الغامض ذاته تُسقَط صفات الذات على اللاذات، وتبدو اللاذات أنها واعية وذكية وممتلئة غبطة. وبسبب هذا الجهل أيضًا يبدو عالم الأسماء والأشكال أنه حقيقي، وهي خاصية تنتمي في الواقع إلى براهمان. إن الطريقة التي يدرك بها الفيدانتي الطبيعة الوهمية للعالم الظواهري تدعى أدهياروبا. أما الطريقة التي يخلص بها نفسه من هذا الوهم ويصل إلى معرفة براهمان فتدعى أبافادا. إن أبافادا هي الطريقة التي ينفي بها المرء من خلال التمييز الصفات المسقَطَة خطأً ويدرك طبيعة الشيء الحقيقية. وهكذا يكتشف المرء، بنفي صفات اللاذات، طبيعة الذات الحقيقية، وبنفي صفات العالَم النسبي يكتشف الطبيعة الحقيقية لبراهمان. تحلِّل الفيدانتا اللاذات إلى خمسة أغلفة أو كوشا: الغلاف المادي، غلاف البرانا أو النفَس الحيوي، غلاف العقل، غلاف الفكر، غلاف الغبطة. وهي تدعى أغلفة لأنها تشبه الغلاف الذي يخفي شيئًا، فهي تخفي الذات. الفلاسفة الفيدانتيون يعانون من وصف طبيعتها اللاحقيقية، ويشجعون الباحثين الروحيين على ممارسة التجرد عنها من أجل تحقيق الانتصار الحقيقي للذات. أما غلاف العقل فهو الذي يخلق فكرة تنوع الأنا واللاأنا، وتنوع الأسماء والأشكال. يدرك وجود العالَم الظواهري بسبب العقل الذي ينتجه الجهل، فيصبح العقل المضطرب بالرغبات واعيًا للأشياء الحسية الغليظة والرقيقة ويستمتع بها ويصبح متعلقًا بها. إن اختلاف الطبقة والمركز الاجتماعي وكذلك مفاهيم الفعل والوسيلة والغاية توجد في العقل وحده، وهو يخلق الأغلال لأن العاطفة والجشع والغضب يدنسونه وعندما يتحرر منها يظهر الطريق إلى الانعتاق. إن طهارة العقل التي يمكن بلوغها من خلال ممارسة التمييز والحيادية هو هدف التعليم الروحي. في العقل الظاهر يرى المرء انعكاس الذات. إن غلاف الفكر جامد لأن الفكر ذاته أداة. إنه يبدو ذكيًا وواعيًا لأنه يعكس ذكاء الذات. هذا الانعكاس يُدعَى جيفا أو الروح المتفردة التي ترتحل من جسد لآخر، وميزتها الرئيسية وعي الأنا. بتماثلها مع غلاف الفكر تختبر الذات الخير والشر في الحياة الظواهرية. إن التطابق المزيف الذي يفسِّر جيفا المتفردة لا تمحوه إلا المعرفة الحقة لبراهمان، وليس أية وسيلة أخرى كطقوس العبادة أو دراسة الكتب المقدسة أو محبة الإنسانية. الرجال كلهم يولدون مطبوعين بطباع تهيؤها لهم بشكل رئيسي أفعالهم في حيواتهم السابقة، رغم أن ملامحهم الجسدية تحدِّدها الوراثة. إن استعدادات الرجال الحالية هي نتائج لماضيهم، وأفعالهم الحالية تخلق مستقبلهم. إن الأفعال والرغبات غير المشبَعَة في الحياة السابقة تحدد ليس فقط طبيعة حياتنا الحالية وإنما مدتها أيضًا. الجسد هو الأداة التي تُشبع الرغبات من خلاله ولا يخدم أي هدف بعد إشباعها. وهذا ما يفسر موت الأشخاص في أعمار مختلفة. ومعرفة أن الذات واحدة مع براهمان هي الانعتاق. فالانعتاق ليس نتيجة للمعرفة ولكنه المعرفة ذاتها. إن تجسد الذات ظاهري وليس حقيقي. وبالتالي فإن ولادتها وموتها ظاهريان أيضًا ليس إلا. إذا اختبر الرجل المتمتع بمعرفة الذات المرض والشيخوخة والموت بقي ساكنًا لأنه يعرف أنها خصائص الجسد وليس الذات. كما أنه حر من الرغبة التي تنشأ عندما يتماهى الفرد مع الجسد. لأن الشخص إذا أدرك أنه براهمان اللامحدود والمنبث في كل شيء، وإذا رأى ذاته في العالَم والعالَم في ذاته، لا يمكنه أن يرغب بشيء. وبماذا يمكنه أن يرغب من وجد إشباع كل الرغبات في الذات؟ الانعتاق هو معرفة أن الذات هي براهمان، العديم الرغبات. إن بلوغ معرفة الذات ليس شرطًا جامدًا لا يمكن للروح أن تتجاوزه. هذه المعرفة تدل حقيقة على دخول الروح مملكة جديدة للوعي. ومن خلال حياتها وأفعالها تُظهِر الروح الحرة حقيقة براهمان، وألوهية الإنسان ووحدة الوجود. الأخلاق الهندوسية إن أخلاق الهندوسية ذاتية أو شخصية عمومًا، كونها تهدف إلى إزالة المدنسات الذهنية كالجشع والأنانية من أجل البلوغ النهائي للخير الأسمى. بدون القيود الأخلاقية يحدث عماء اجتماعي يضر بتطور الفضائل الروحية. إن مرحلة حياة الشخص، بصرف النظر عن الطبقة، هي التي تحدد واجباته في التقليد الهندوسي. الحياة التي تعتبرها الهندوسية رحلة إلى هيكل الحقيقة، تتسم بأربع مراحل لكل منها مسؤولياتها وواجباتها. في هذه الرحلة على الشخص الطبيعي ألا يترك تطلعًا مشروعًا دون إنجاز وإلا تلا ذلك مرض عقلي وجسدي يضع العقبات في طريق تقدمه الروحي. انطلق بالحقيقة. مارس دهارما. لا تهمل دراسة الفيدا... لا تحُد عن الحقيقة، لا تنحرف عن دهارما... لا تهمل دراسة الفيدا... عامل أمك كإله، عامل أباك كإله. عامل معلمك كإله. عامل ضيفك كإله... يدخل الإنسان مرحلة ثانية مع الزواج. عندما يتغضن الجلد ويشيب الشعر... يكون المرء مستعدًا للمرحلة الثالثة من حياته... في مكان هادئ. في هذه المرحلة تبدو ملذات وانفعالات الشباب تافهة، وتتقلص الحاجات المادية إلى حدها الأدنى. فالمرحلة الثالثة من الحياة مكرسة لدراسة الكتب الدينية والتأمل في الله. خلال المرحلة الرابعة يتخلى الرجل عن العالَم ويعتنق حياة الزهد. فلم يعد مقيدًا بالقوانين الاجتماعية لم يعد يستطيع مقاومة نداء اللانهائي حتى أن الإحسان والخدمة الاجتماعية يبدوان له غير مناسبين. ينتفض ضد الارتباطات الدنيوية والواجبات المحدودة والصداقات الضيقة. فهو صديق أخوته في الإنسانية والآلهة والحيوانات. لم تعد الثروات تغريه ولا التكريم أو السلطة. فالراهب يحتفظ بسكينة الروح تحت كل الظروف. وهو يبتعد عن عبثية العالم مكرسًا نفسه لتنمية الوعي الإلهي، صديق الإنسان الحقيقي هنا وفي العالَم الآخر. تبلغ الحياة المنضبطة كامل تفتحها أثناء المرحلة الرابعة. لقد أحسن من قال: يبكي الإنسان عند ولادته، ويضحك العالَم، ولكن دعه يحيا حياة بحيث يضحك عندما يموت ويبكي العالَم. إن تشبيه حركة الحياة بحركة الشمس تشبيه ملائم. إذ تشرق الشمس عند الفجر من وراء الأفق. ومع تقدم الصباح تمضي في بث الدفء والنور حتى تصل السمت في منتصف النهار، وتغيب بعد الظهر ساحبة نورها وحرارتها بشكل تدريجي، وتغرق عند الغَسَق خلف الأفق كتلة من الضياء لكي تنير مناطق أخرى. إن مفتاح الأخلاق الفردية والاجتماعية في الهندوسية هو مفهوم الدهارما الذي لا يمكن نقل كل مضامينه بتلك الكلمات الإنكليزية، مثل الدين أو الواجب أو الاستقامة. تُشتَق هذه الكلمة من جذر يعني "دعَمَ" وهي تعني قانون النمو الباطن الذي يدعم الشخص في مرحلة تطوره الحالية ويُظهِر له طريق تطوره المستقبلي. دهارما الشخص لا يفرضها المجتمع ولكنها شيء يولد معه كنتيجة لأفعاله في الحيوات السابقة. وهي تحدد موقف الإنسان الخاص من العالَم الخارجي وتحكم ردات فعله العقلية والجسدية في ظرف ما. إنها بالنسبة له ميثاق شرف. عندما ينجز واجباته كاملة بروح من التعبد، دون السعي إلى أية نتيجة شخصية ينتهي الإنسان إلى تحقيق الله الذي تجد فيه كل واجبات الحياة وقيمتها تمامها. على الإنسان ألا يتخلى عن دهارماه الناقصة التي تحددها ميوله الفطرية، فكل الأفعال تمتلك في ذاتها عناصر النقص. عليه أن يتبع دهارماه الخاصة وألا يقلد دهارما رجل آخر مهما كانت هذه الأخيرة كاملة. يجب ألا ننسى أن تحرر الروح من محدودية العالَم الظواهري هو الهدف النهائي للأخلاق. لقد قال فيفيكاناندا: الواجب هو شمس منتصف النهار التي تحرق نبتة الرومانسية الغضة. إن لم يكن الإنسان مفعمًا بالحب فلن يستطيع تأدية واجبه في المنزل والمكتب والمصنع والمعركة بسعادة. هذا الحب ليس عاطفة متكلفة بل قبسات من بصيرة الله في الكائنات الحية كلها. إن إنجاز العمل بدافع الواجب يعمِّق تعلُّق الإنسان بالعالَم، أما إنجازه بحب فيقربه من الانعتاق. يشجع الفلاسفة الهندوسيون على تأدية الواجبات. ولكنهم يحثون الناس على إنجازها بحب، وليس من قبيل الحس الإلزامي. تقول الغيتا: دع الإنسان يرفع من نفسه بنفسه ولا تدعه يهمل نفسه لأنه هو صديق نفسه وهو عدو نفسه. فمن هزم نفسه بنفسه هو صديق لنفسه، ومن لم يهزم نفسه تكون نفسه معادية له مثل عدو خارجي. إن القواعد الرئيسية للأخلاق الذاتية هي التقشف وضبط النفس والزهد والتجرد والتركيز. إن ضبط النفس يعني ضبط الحواس الموجَّهة عادة صوب الأشياء المادية والمستخدمة للبحث عن الممتع فقط من أجل خلق تلك السكينة الداخلية التي لا يمكن من دونها التقاط الحقائق الروحية العميقة. بصيرته يجب أن توجِّه حواسه على ألا يختار إلا الأشياء التي تساعد في تحقيق مثاله الروحي. إن العنصرين الأكثر أهمية في ممارسة ضبط النفس هما التمييز وقوة الإرادة. لقد مجَّدت البهاغافادجيتا، وكذلك بوذا، الطريق الوسط الذي يجعل الإنسان "معتدلاً في طعامه ولهوه، ومعتدلاً في ممارسته للعمل، ومعتدلاً في نومه واستيقاظه". إن الزهد قاعدة أخرى من أجل تحقيق كمال النفس. ويمكن أن نرى مثالاً جيدًا عليه في مؤسسة الرهبنة، يأخذ الراهب على نفسه عهد التخلي عن الملذات في "العوالم الثلاثة" أي الأرض والمنطقة الوسطى والسماء. الصلاح ثلاثي مادي وكلامي وذهني. يُعبَّر عن الصلاح المادي بالإحسان وإغاثة الملهوف وخدمة الجميع، وعن الصلاح الكلامي من خلال الكلام اللطيف الذي يريح الآخرين، وعن الصلاح الذهني من خلال اللطف والتجرد والاحترام... ومجمل القول إن الفضيلة هو ما يؤدي إلى سعادة الآخرين، والإثم هو ما يسبب لهم الألم والتعاسة. يقدِّر باتنجالي في فلسفته اليوغية الفضائل الهامة على الشكل التالي: اللاإيذاء، والصدق، والامتناع عن السرقة، والعفة، وعدم التعلق بالأشياء المادية. اللاإيذاء والصدق فضيلتان رئيسيتان يشدِّد عليهما كل الهندوسيين المتدينين من كهنة الفيدا إلى المهاتما غاندي. لقد طبق المهاتما غاندي اللاإيذاء كمنهج للفرد والأمة. وقد حفظت الهند تحت قيادته بوساطة اللاعنف خاصةً حريتها السياسية من الحكم الأجنبي. والصدق لكي يكون فعالاً يجب ألا يصدم مشاعر الآخرين دون ضرورة بما أن هدفه إسعاد الآخرين. عندما لا يخدم الصدق هذا الهدف يبقى الحكيم صامتًا. أما ممارسة العفة التي مجدها الفلاسفة الهندوسيون بشدة فتتضمن الامتناع عن الفسق في التفكير والكلام والفعل. ووفقًا لتعريف صارم كما يُطبَّق على الرهبان، لا يصبح الرجل آثمًا من خلال الفعل الجنسي فقط، بل حتى عندما يلفظ أو يصغي إلى كلمات بذيئة أو ينغمس في اللهو، أو ينظر إلى شيء يستثير الشهوة، أو يتبادل الأسرار مع شخص من الجنس الآخر، أو يعبِّر عن الرغبة، أو يقوم بمسعى من أجل الإشباع الجسدي. على الباحث الروحي أن يحافظ على جسده وقلبه طاهرين، فالجسد هو معبد الله والقلب مقامه. تتحدث البهاجافادغيتا عن الفضائل الروحية بوصفها "الكنوز الإلهية" التي يتزود بها التوَّاق في بحثه عن الله. أما نقائضها كالتفاخر والتكبر والشهوة والغضب والقسوة والجهل فتنتمي إلى هؤلاء الذين وُلِدوا لترثهم الشياطين. يمكن مقاربة الأخلاق اللاثنائية من وجهتي النظر النسكية، أو السلبية والإيجابية. لنقارب أولاً المظهر النسكي بتأثير من الجهل وعدم المعرفة، تظهر روح فردية تنظر إلى عالَم التنوع على أنه حقيقي. ينسى المرء أولاً الطبيعة اللاثنائية لروحه ثم يتبنى الاعتقاد الخاطئ بأنه منفصل عن الآخرين، فهو يرى محيطًا ماديًا واجتماعيًا يتفاعل معه بطرق مختلفة. إذ يبدي الحب أو الكراهية لبعض الأفراد ولا يبالي بالباقين. هكذا، فإن سبب العذاب ليس نسيان المرء لطبيعته الحقيقية فقط، وإنما تصور الأفراد الآخرين على أنهم منفصلون عن الذات. إن فكرة الأنا التي تنشأ عندما تتماثل الروح بسبب الجهل مع الجسد والحواس. وهي مصدر كل الشرور. فالأنانية خطيئة، لذلك على الإنسان الباحث عن الانعتاق والسلام أن يتخلى عن التماثل مع الجسد والحواس وكل التعلقات الخاصة والشخصية. ولهذا السبب تبشر الأخلاق اللاثنائية بالطريقة النسكية أو السلبية لكبح "الأنا". لنقارب الآن المظهر الإيجابي للأخلاق اللاثنائية. ليس الإنسان مجرد ذات ضيقة ومحدودة بل هو أكثر من ذلك، إنه براهمان، الكل، ومن واجبه الاعتراف بوحدته مع الكل. لكن الاعتراف النظري ليس كافيًا، عليه أن يثبت ذلك من خلال عمله اليومي. على الرجل الذي يحاول أن يفهم طبيعة علاقته مع الآخرين أن يعلم أن كل الأفراد متماثلين في ماهيتهم لأنهم من طبيعة روحية واحدة. وبالتالي عليه أن يتجنب التمييز بين كائن وآخر، وأن ينمي مشاعر اللطف والمحبة للجميع. بالنسبة للاثنائي، لا يقتصر الحب على البشر بل يمتد إلى كل الكائنات الحية. إن حب المرء لجاره يعني الحب لكل كائن حي، وهذا الحب الشامل يرتكز إلى واقع أن لكل الكائنات الحية أرواح. رغم أنها قد لا تكون بلغت درجة التطور الروحي ذاتها. فإن الحب الشامل الذي تعلِّمه اللاثنائية يرتكز إلى تحقيق الوحدة الأساسية لكل الكائنات الحية. إن الفرق الظاهر بين كائن وآخر يعود إلى الجهل بشكل كلي. إذ يرى الحكيم الروح ذاتها في كل مكان، وحتى الحب الخاص الذي يبديه الجاهل هو تعبير عن الحب الشامل الذي يرتكز إلى لاثنائية الروح. سواء عرف المرء أم لم يعرف، فإن وحدة الوجود هي المصدر الوحيد للجاذبية المتبادلة. الرجل لا يحب زوجته من أجلها فحسب، وإنما من أجل الروح الكامنة في كليهما. إن خلاص الفرد يتم من خلال الحب والنعمة اللذين ينتميان إلى مملكة الروح. لا يمتنع عن الشر بسبب الخوف من العقاب، ولا يقوم بعمل الخير أملاً بالمكافأة، تصبح الفضائل الأخلاقية صفاته الطبيعية ونتاج حريته الروحية. وهذا ما تعبِّر عنه الأوبانيشاد بقولها: إن الشر لا يتغلب عليه ولكنه يتسامى بالشر. يصبح عفيفًا طاهرًا حرًا من الشكوك وعارفًا للحقيقة. المناهج الروحية 1. الكارما يوغا إن معظم الرجال الذين يؤمنون بالواجبات الاجتماعية ولا يتبرؤون من العالم والأنا الفردية بوصفها وهمية يتبعون منهج الفعل. إنهم يبحثون عن السعادة هنا وفي العالَم الآخر. ولكن قلة من الأشخاص الذين يرون في معرفة الذات واجب الحياة الأسمى، والمقتنعين بالطبيعة العابرة لكل التجارب المادية، سواء على الأرض أو في السماء، يتبعون منهج الزهد ويبحثون عن الانعتاق من محدودية العالَم النسبي. عندما يُنجَز العمل دون أية رغبة بكسب شخصي يصبح فعلاً روحيًا. والسؤال الذي ينشأ الآن هو معرفة كيف يمكن للإنسان أن يتجنب قيد القانون النسبي وأن يعمل كشخص حر. الكارما يوغا هي الحل. الكارما يوغا هي سر الفعل. فهي تمنح الفاعل رزانة العقل أمام الربح والخسارة النجاح والفشل. يجب ألا يتعلق المرء بإحساساته حتى لو كانت لذيذة لأنه سيفقدها بعد زوالها، أو أنه سيشعر بالملل إذا استمرت طويلاً. يجب ألا تكون النتيجة دافعًا للفعل. فالشخص المستنير لا يعمل من أجل نتيجة. تقول البهاغافادجيتا "لك الحق بالعمل فقط وليس بثماره". "بائس هو من يعمل من أجل النتائج". إذا أُنجِزَ الفعل دون تعلق بنتائجه فإن رزانة العقل آتية بالتأكيد. يجب أن يكون الفعل طبيعيًا وتلقائيًا تفرضه متطلبات الموقف. عندما ترى شخصًا محتاجًا يجب أن تساعده تلقائيًا إن كنت قادرًا، دون أن تأخذ بعين الاعتبار ما قد تجنيه بالمقابل. إن سر الكارما يوغا هو التخلي عن التطلع إلى نتائج الفعل وليس التخلي عن الفعل بحد ذاته. لطالما يعي الإنسان واجباته الاجتماعية أو يرى الأخطاء تُرتكَب بحق الآخرين عليه ألا يبقى عاطلاً. يجب ألا يرفض المرء واجبًا لأنه منفر ولا أن يتعلق به لأنه ممتع، المطلوب هو التخلي في الفعل وليس التخلي عن الفعل. يجب ألا ينفر المرء من واجبات الحياة العادية، وإنما عليه أن يكبح أنانيته. لنلخص أسرار الكارما يوغا. أولاً: توقف عن التفكير بثمر الفعل، فالتفكير يورث التعلق، والتعلق يورث رغبة التملك؛ ثانيًا: لا تكن متسولاً، أعط كل ما تستطيع ولكن لا تسل عن النتيجة أبدًا. ليس العمل ما يضني المرء وإنما التفكير المستمر بثماره؛ ثالثًا: انتبه لتفاصيل العمل بقدر ما تهتم بهدفه النهائي. ما أن تتكون لديك صورة ذهنية عن الهدف المجيد الذي تتوقع بلوغه عليك أن تطردها من فكرك في الحال، وأن تنشغل بشأن التفاصيل المتعبة. وكنتيجة للفعل اللاأناني يصبح قلب المتعبد طاهرًا، حرًا من الأنا والجشع والشهوة. الرجل الطاهر يرى في قلبه كما في قلوب الآخرين انعكاسات حية لله. يعامل كل الكائنات بالمثل ويبلغ غاية التعبد لله، تفيض من قلبه الكوني محبة لامتناهية. 2. البهاكتي يوغا يمكن مقارنة فعل الإنسان بتحليق الطير الذي يتطلب من أجل حركته الرشيقة جناحين وذيلاً. فهو يوازن نفسه بالجو بواسطة الأجنحة ويحافظ على مساره بوساطة الذيل الذي يشبه دفة السفينة. وبالنسبة للفاعل يشكل الحب والمعرفة الجناحين، والتأمل الذيل. وهي عندما تعمل متناغمة تجعل الفعل رشيقًا. وسنناقش فيما يلي الحب كمنهج روحي، وهو ما يدعى البهاكتي يوغا أو يوغا الحب الإلهي. يعمل الحب كقوة جاذبية على ثلاثة مستويات مختلفة: المادي والإنساني والروحي. فهو يضم جزئيات الأشياء المادية إلى بعضها البعض على المستوى المادي، ويجمع بين الأصدقاء والأهل والأطفال والزوج والزوجة على المستوى الإنساني، ويوحِّد الإنسان مع الله على المستوى الروحي. إن المصدر الحقيقي للجاذبية هو روح الله. إذ لا يستطيع جزيء من المادة أن يجتذب جزيئًا آخر من تلقاء نفسه. ولأن الله كروح ينبث في العالَم بكليته، ولأنه الذات الكامنة في كل الكائنات، يرى المرء قوة الجاذبية فاعلة في كل مكان. لا يوجد اختلاف أساسي بين شكل متدن من الجاذبية كجاذبية العشيقة لحبيبها، وشكل أعلى من الجاذبية كجاذبية الطفل لأمه. أما الاختلاف الظاهر فيعود إلى اختلاف الأقنية التي يعبِّر الحب عن نفسه من خلالها. إن الحب قوة خلاقة، ومن خلال الخلق يبحث المرء عن المتعة والخلود. يجد المحب سعادة في الجمال وينفر من البشاعة. إن الحب المرتكز إلى الجاذبية المادية والذي يدعى حبًا دنيويًا قصير العيش، غير مرضٍ وغير كافٍ، لأن موضوعات مثل هذا الحب أشياء مادية مؤقتة ومحدودة. وهو يتبدل باستمرار. الحب المرتكز إلى الجاذبية الفكرية أكثر تجريدًا واستمرارية. لذلك عندما تستند الصداقة أو الحب الزوجي إلى اهتمامات فلسفية أو فنية أو فكرية مشتركة تدوم أكثر من الحب المستند إلى العوامل المادية التي تحتوي بذور التراجع السريع. إن الحب الأكثر إشباعًا هو المرتبط بالله. والمحب لله لا يهتم بالحب الدنيوي، المادي أو الفكري. لا يمكن للمرء أن يتمتع كليًا بحب الله إلا إذا ترفَّع فوق كل الجاذبيات الدنيوية. الحب الدنيوي ليس فارغًا لأنه هو أيضًا حب الروح. ورغم أن المادة الفانية تعيقه وتشوهه فهو يزوِّد النفس المتعطشة للحب بخطوات متعددة يمكن في النهاية أن يتحقق من خلالها حب الله. من خلال هذه الخطوات المتتابعة تتحول جاذبية التملك تدريجيًا إلى حب إلهي يتنكر للذات. إن التجربة التي يكتسبها الإنسان من خلال التمتع بالحب الدنيوي تعلِّمه أن هذا الحب مؤقت ثم يشعر بجاذبية الله التي لا تُقاوَم، فهو يجذب الكائنات الحية إليه بشكل مستمر وكأنه مغناطيس ضخم. إلا أن الإنسان لا يشعر بقوة هذه الجاذبية بسبب المدنسات الذهنية التي يخلقها التعلق بالعالَم. ولكن عندما يصبح عقله طاهرًا من خلال ممارسة التجرد يشعر بجاذبية الله ويتطلع لأن يتحد به. إن الحب الروحي أو بهاكتي موجَّه فقط إلى الله الذي يُخجِل تألقه "مليون شمس ومليون قمر ومليون آلهة جمال". إنه الإله الشخصي أو الروحي في شكل شخص. تقول إحدى نصوص البهاكتي: "إن الحكماء المشبعين بالذات العليا والمتحررين من كل ارتباط بالعالَم يظهرون للإله الشخصي حبًا لا يعرف سببًا، هكذا هي عظمة الله" فالرب بطبيعته الخاصة حب لا يوصَف. عندما يحصل الإنسان على حب الله يحب الكل ولا يكره أحدًا ويصبح راضيًا إلى الأبد. عندما يكتمل حب الله تمامًا ينسى المحب العالَم والجسد الغاليين على الجميع. لا يمكن استغلال هذا الحب لأي هدف دنيوي، لا للصحة ولا للثروة ولا للعمر المديد ولا للسعادة في السماء. لا يمكن أن يكون خالصًا إذا أظهر المحب أدنى تعلق بالعالَم. لا مكان فيه للغيرة أو الكراهية لأن المتعبد يرى كل شيء كتجلٍ لله. البهاكتي هي مثال الحياة الروحية أو التحضير لبلوغها. ينبغي على المرء الذي يأمل تنمية حب الله أن يتبصَّر بطعامه، إذ تقول الأوبانيشاد إن العقل يصبح طاهرًا عندما يكون الطعام طاهرًا ويساعد الجزء الكثيف من الطعام على بناء الجسد، أما القوة اللطيفة الكامنة فيه فتصنع الفكر. يعطي شانكارا شاريا معنى أوسع للطعام. فهو لا يعني ما يذهب إلى الفم فقط وإنما كل ما يؤخذ عن طريق أعضاء الحواس غير اللسان، إن موضوعات الحواس يجب أن تؤدي إلى تنمية الحياة الروحية، وبالتالي يجب تطبيق التمييز على ما نراه ونلمسه ونسمعه ونشمه ونأكله. ثانيًا، على المتعبد أن يضبط رغباته المفرطة بالأشياء المادية. إذ لا تكون الأشياء مفيدة إلا بقدر ما تدفع بالحياة الروحية. إنها تحضير للنهاية وليست النهاية بذاتها. ويجب كبح الرغبة في تملُّكها إذا كانت تؤدي إلى الانحباس في العالَم. ثالثًا، بما أن التقدم لا يتم أبدًا بمستوى ثابت، عليه ألا يضطرب بسبب ما يحدث من مد وجزر في حياته الروحية. أثناء فترة الجزر يجب أن يتمسك بالتقدم الذي سبق وحققه، وأثناء المد عليه أن يعرف كيف يتقدم إلى الأمام بسرعة. رابعًا، لا يمكن أبدًا للرجل الأناني أن ينمِّي الحب الإلهي. خامسًا، على المرء أن يمارس الطهارة باستمرار. وهذا يتضمن الصدق والاستقامة والشفقة واللاإيذاء والإحسان. الله هو الحقيقة، وهو يكشف عن نفسه للإنسان الصادق. وقد قيل إن المرء، إذا لم يحد عن الحقيقة أبدًا مدة اثنتي عشر سنة، أصبحت كلماته معصومة. والاستقامة تعني ببساطة وسذاجة الطفل البريء الذي يفضله الله بشكل خاص. ويسيطر الرجل على جشعه وأنانيته بوساطة الشفقة كما يمتنع المتعبد عن أذية الآخرين بالفكر أو الكلمة أو الفعل. أما الإحسان فلا فضيلة أعلى منه. إن من يصل إلى حد إيذاء نفسه بينما يساعد الآخرين يتلقى النعمة الإلهية. سادسًا، على المرء أن يتجنب القنوط لأن الدين ليس غمًا. إن فرح المتعبد يأتي من إيمانه بالله. هناك شكلان للحب الإلهي: تحضيري ونهائي. تكون بعض أشكال المساعدة الخارجية ضرورية أثناء المرحلة التحضيرية. على الطالب أن يقابل المعلم باحترام وعرفان بالجميل وأن يسأله أسئلة ذكية. تقبل البهاكتي يوغا عقيدة تجسد الله. إن بنيتنا وطبيعتنا الإنسانية تجعلنا ننشد الله في الإنسان. يستطيع الإنسان – الإله أن ينقل الروحانية إلى الطالب بلمسة أو نظرة أو مجرد أمنية. ولكن المعلم الأقل كمالاً يستخدم طرقًا أكثر موضوعية. غالبًا ما يستخدم كلمة مقدسة تدعى مانترا محملة بقوة روحية. بتكرار مثل هذه الكلمة وتأمُّل معناها يبلغ التواق الكمال تدريجيًا. مثلما تقبع شجرة البلوط العظيمة مختبئة في قلب ثمرة البلوط الصغيرة كذلك هو الله بصفاته اللامتناهية يختبئ في اسمه. إن الله واسمه لا ينفصلان. كل الديانات في العالم تعترف بما لاسم الله من قوة. تتحدث الهاكتي يوغا عن عبادة بدائل لله. يوجِّه المتعبد عقله بورع لرمز يعتبره الله ولكنه ليس الله. تتحدث الفيدا عن العقل والشمس وبدائل أخرى تشكل عبادتها نوعًا من الطقوسية وتُحدِث نتائج مناسبة. تأتي بعدها عبادة الصور المقدسة التي يوجد فيها تجل خاص لله. فإذا عُبِدَ الله من خلال الصورة نما حب الله وبلغ الانعتاق في نهاية الأمر. إن تعبد الله بواسطة صورة هو أن تروحن الصورة نفسها. بعض أعظم قديسي العالم عبدو الله من خلال صور. ورغم أن المتعبد عليه احترام كل هذه المثل إلا أنه يبقى مخلصًا تمامًا لمثاله الخاص. يجب حماية الشجيرة الفتية بالأسيجة حتى تصبح شجرة لأن نبتة الروحانية الطرية العود يجب ألا تتعرض إلى تغير مستمر في الأفكار والمثل وإلا فإنها تذوي. إن المتعبد الحقيقي كالمحارة التي تذكرها الحكاية الهندوسية تطفو إلى السطح لتلتقط حبة مطر ثم تغوص عميقًا إلى قعر المحيط وتقبع هناك حتى تنجح في تشكيل جوهرة جميلة منها. إن الإخلاص لمثال واحد ضروري للمبتدئ في ممارسة الحب الإلهي. إن موضوع تركيزه هو بالطبع مثاله، سواء كان تجسدًا أو شكلاً من أشكال الإله الشخصي. ويجب اتباع الطريق الوسط فيما يتعلق بالراحة والعمل والنوم. ومع تأمل المتعبد لمثاله، لا يرى أولاً إلا أجزاء من جسمه دون تمييز، فالعالَم الخارجي ما زال حقيقيًا بالنسبة له. ومع تعمق التأمل تصبح صورة المثال أكثر واقعية ويصبح العالَم المادي كالحلم. وفي النهاية يختفي العالَم المادي كليًا ويظهر المثال المختار كشخص حي يتحدث ويعطي التوجيهات للمتعبد، وحتى عندما يعود المتعبد إلى وعي العالَم الظواهري، لن يكون العالَم بالنسبة له ما يراه الآخرون. منذ تلك اللحظة، كيفما عاش وكيفما عمل، سيكون عقله موجَّهًا دائمًا صوب الله، مثلما تشير إبرة البوصلة إلى الشمال دائمًا. بعد ممارسة قواعد المرحلة التحضيرية يبدأ المتعبد بالشعور بالحب العلوي لله. يرتكز هذا الحب العلوي إلى الزهد. لا يوجد يوغا حقيقية دون زهد. لا تقول البهاكتي يوغا "استسلم" ولكنها تقول "الحب هو أسمى الأشياء". إن الله بالنسبة للمتعبد هو موضوع الحب الوحيد، وكل الموضوعات الأخرى تعكس جمال الله. "بإشراقه تشرق كل الأشياء، وبنوره كل الأشياء تضاء". لذلك فإن الحب السامي لله يُفقِد الإنسان تعلُّقه بالأشياء الدنيوية. إن الروح المباركة التي انتشت بهذا الحب لا تهتم بالاسم وبالشكل، ولا ترى فرقًا بين رجل وآخر، بل تعاين الله في الكل. محبوبها يشرق من خلال كل وجه، وهي وحدها تعرف معنى الأخوة الإنسانية. يشبِّه سوامي فيفيكاناندا حب الله السامي بمثلث الزوايا. زاوية الحب الأولى هي أنه لا يعرف الصفقات. إنه حب لا ينتظر شيئًا بالمقابل، ولا حتى الخلاص، إنه الحب من أجل الحب. فالمتعبد يحب الله لأنه يُحَبُّ لذاته. إذ لا يستطيع أن يتمالك نفسه عن حب الله، مثلما لا يستطيع المرء أن يمتنع عن حب غروب جميل. إن مجرد فكرة الحب تجعل العاشق سعيدًا. والزاوية الثانية هي أن هذا الحب السامي لا يعرف الخوف. والزاوية الثالثة هي أن هذا الحب لا يعرف منافسًا. فيه يعاين العاشق تجسد مثاله الأعلى. فهو يجد في إلهه المحبوب نهاية الجمال والرفعة والقوة. إن المتعبد الذي بلغ مثل هذه الدرجة السامية من الحب لا يبحث عن دليل على وجود الله. فالله كالحب بديهي بذاته. ولا يحتاج للبحث عنه في المعابد أو الكنائس أو السماء أو النصوص إذ لا يوجد مكان لا وجود لله فيه. ولكن مثل هذا الحب لا ينشأ عندما يكون هناك أدنى رغبة في قلب المتعبد، ولا حتى رغبة الانعتاق أو الخلاص أو النرڤانا. يتبدى العالَم مليئًا بالحب وبالحب وحده لمن يحب الله. مبارَك إلى الأبد من يمتلك مثل هذا الحب، سعيد إلى الأبد. فهو الذي يستطيع معالجة قساوة وأنانية وعنف عالَم مجرد من الحب. إن إله البهاكتي يوغا هو الأقنوم المجرد والمعمَّم. في حبه يحب المرء العالَم بكليته وكل الكائنات المخلوقة. إن العالَم المرئي هو الله المتجلي من خلال عدد من الأسماء والأشكال. لذلك إذا أحب الإنسان الله أحب العالَم وقدَّم الحب لكل فرد ولكل حياة ولكل مخلوق. إن حب الله هو القاعدة الروحية للخدمة الاجتماعية التي يمارسها الثنائيون. بالنسبة للمتعبد كل الأشياء مقدسة لأنها كلها أبناء الله وجسده وتجلياته. كلما اقترب المرء من الله رأى الأشياء كلها فيه. في العالَم المتلاشي، حيث لكل شيء نهاية، يستخدم المتعبد حياته أفضل استخدام واضعًا إياها في خدمة الآخرين. 3. الجنانا يوغا إن الجنانا يوغا التي تناقشها الفيدانتا هي منهج التمييز الفلسفي الذي يمكن بوساطته بلوغ الجنانا، أو معرفة براهمان. إن القواعد الرئيسية الأربع للفيدانتا هي التالية: 1. التمييز بين الحقيقي والوهمي، وينبع هذا التمييز من الاقتناع الحدسي بأن براهمان الخالد والثابت وحده حقيقي، وكل الأشياء الأخرى عابرة ووهمية. 2. الزهد، الذي يعني اللاتعلق بكل الملذات، ابتداء من التمتع بالأشياء الملموسة الموجودة على الأرض وصولاً إلى السعادة التي تختبرها النفس الصالحة في السماء. لا يكفي أن يتمتع الدارس للفيدانتا بقوة فكرية ثاقبة من أجل التمييز بين الحقيقي والوهمي، وعليه أيضًا أن يمتلك قوة صارمة من أجل التخلي عن الوهمي. غالبًا ما يبدو لنا الوهمي على هيئة حقيقي، وغالبًا تنقصنا القوة للتخلي حتى عما نعرف أنه وهمي. 3. تأتي بعد ذلك مجموعة الفضائل الست، وهي التحكم بالجسد والحواس والسيطرة على العقل، ومنع الحواس، بعد السيطرة عليها، من العودة إلى موضوعاتها الخاصة، التحمل، التركيز الكامل، الإيمان... من خلال ممارسة التحمل يبقى الطالب رابط الجأش أمام الحرارة والبرودة، اللذة والألم. وثنائيات الأضداد الأخرى. وبوساطة التركيز يبقي عقله في مثاله. والإيمان يؤهله للاستماع باحترام إلى تعليمات المعلم وتوصيات الكتب الدينية. وهذا الإيمان ليس اعتقادًا ميكانيكيًا، ولكنه موقف عقلي إيجابي فيما يتعلق بوجود الحقيقة، في مقابل موقف سلبي مستخف. إن الرجل الدائم الشك ينتهي إلى الخيبة والحزن. 4. التوق للانعتاق: إن التوق يجب ألا يختلط بالرغبة المؤقتة التي تخلقها الخيبة أو الخسارة الدنيوية. إن الزهد الحقيقي والتوق للانعتاق هما القاعدتان الحيويتان التي يمكن للقواعد الأخرى أن تثمر من خلالهما. بدونهما لن تخلق الفضائل الأخلاقية إلا سرابًا من الروحانية. تذكر الأوبانيشاد أن معرفة الذات لا تكشف عن نفسها إلا للمرء الذي يتوق إليها بشدة. وفقًا للاثنائيين تتحقق الطبيعة الحقة لبراهمان من خلال طريقة النفي، كل فعل نفي يترك خلفه بقايا إيجابية. لذلك بعد نفي الأفعى يبقى الحبل، وبعد نفي الحبل يبقى شيء آخر. بعد نفي كل التراكبات المتغيرة يبقى الوجود، أو سات، وهو وعي صرف. يمكن الاقتناع كما يحاول بعض الفلاسفة البوذيين، بأنه عندما تصل صيرورة النفس إلى نتيجتها المنطقية لا يبقى إلا الفراغ. وهذا يعني أن الحقيقة النهائية هي فراغ أو لاوجود. وردًا على ذلك يمكن القول بأنه لابد من وجود وعي مدرك متنبه للفراغ، وهذا الوعي هو براهمان تلك التي لا يوجد شيء بعدها، والتي تلتمع خلف مايا، والأعظم من العالَم بكثير. الذات الكامنة في الكل. الواحد الأحد، (الوجود – المعرفة – الغبطة) المطلق، تلك اللانهائية والثابتة – ذاك البراهمان هو أنت. تأمل ذلك في عقلك. إن الكسل والسهو ألد أعداء الحياة الروحية والأكثر ضررًا من كل الخطايا القبيحة. إن السهو والغرور والأنانية والعبودية والألم هي الحلقات المتتالية في سلسلة الحياة الدنيوية. بما أنه يتأمل وحدته مع براهمان، ينشأ في داخله حالة ذهنية تجعله يشعر أنه هو براهمان الحر دائمًا والمغتبط دائمًا والمستنير أبدًا. تدمر هذه الحالة الذهنية بالتدريج جهله وشكوكه حول براهمان. منذ الآن ليس براهمان بالنسبة له إلا حالة ذهنية أو موجة في العقل ومع تعمق التأمل يفنى العقل الذي يُعتبَر تجليًا للجهل وشكلاً من المادة. إن الحواجز الرئيسية الأربعة هي: الخمول، والتلهي، والتعلق، والتمتع بالغبطة. إن التمتع بالسعادة التي تنشأ من التجارب فوق المادية تجعله ينسى هدفه أحيانًا. ومعالجة هذه العقبة تكون بعدم سماح التواق لعقله بالبقاء طويلاً في أية تجربة عابرة. يجب أن يخلِّص نفسه من كل أشكال الغبطة الفكرية مهما بدت فاتنة وألا يتوقف حتى يبلغ الهدف. 4. الراجا يوغا تكون قوى العقل مشتتة عادة، إلا أن تركيزها ممكن بحيث تصبح نورًا كاشفًا قويًا قادرًا على إضاءة عالَم الإنسان الداخلي بكليته. إن التركيز هو الطريقة الوحيدة التي يستطيع المرء بوساطتها أن ينمِّي قوة العقل الداخلية، وأن يتعلم ليس فقط أسرار العالَم الخارجي بل أسرار العالَم الداخلي أيضًا. ينبغي على كل الناس المبدعين الذين يتمنون النجاح في عملهم أن يمارسوا التركيز العقلي. كما أن قيمته لا تقدَّر في عالَم التجربة الدينية. يتألف العقل من عناصر مادية لطيفة، وهو أداة التيقن الباطن في مقابل الأعضاء الخارجية التي يمكن بوساطتها إدراك العالَم الخارجي. وهو يعمل بأربع طرق مختلفة، ويطلَق عليه أسماء خاصة بوظائفه، كالماناس (العقل)، وبودهي (الفكر)، وشيتا (مادة العقل)، وأهام (الأنا). إن العقل والحواس الجامدة يستمدون قوة إنارة الأشياء من أتمان أو الروح الباطنة، مصدر كل نور. كيف ينشأ الإدراك؟ تنقل الحواس الإحساسات بالأشياء الخارجية عبر الأعصاب إلى مراكز الدماغ حيث يتم تقديمها إلى العضو الباطني، ويخلق ماناس أو العقل، وهو أحد مظاهر العضو الباطني، الشك فيما يتعلق بطبيعة هذه الإحساسات. أما بودهي، أو الفكر، فيصل إلى قرار ما عن طريق مقارنتها بإحساسات مختزنة في شيتا أو مادة العقل ثم يلعب أهام أو الأنا دوره، لذلك يقول أحدهم: "أرى وردة"، "أسمع موسيقى". ولكن العضو الباطني، المادي أو المجرد عن الذكاء بطبيعته، لا يمكنه أن يعمل كما سبق وذكرنا، إلا إذا فعَّله نور أتمان. تتأثر طبيعة الحالات الذهنية بالغونات الثلاث، ساتفا وراجاس وتاماس، التي تكوِّن العقل وكل الأشياء المادية اللطيفة أو الكثيفة. لذلك يستطيع الشيء نفسه أن يخلق مشاعر مختلفة في عقول مختلفة. إن الرجل الذي تطغى عنده راجاس قد ينظر إلى امرأة جميلة بأسى إذا كان خائبًا، وبفرح إذا كان رجلاً ناجحًا يطلب الزواج. أما القديس الذي تطغى ساتفا على عقله فينظر إليها بسكون. وهي تكاد لا تثير أي شعور في عقل ممتلئ بالتاماس. العقل شفاف بطبيعته وقادر على كشف الطبيعة الحقيقية لأتمان ولكن يبدو أنه فقد نقاءه بسبب زيادة في الراجاس والتاماس التي يمكن ضبطها من خلال المناهج الروحية المناسبة. إن أعضاء الحواس غير المضبوطة والواقعة بتماس الأشياء المادية تجذب العقل صوب الخارج بشكل مستمر وتخلق الأمواج. واليوغا تهدف إلى فصل العقل عن الحواص وتفحّص ميوله الخارجية. عندها فقط يصبح بمقدوره أن يعكس طبيعة أتمان الحقيقية. إن الرجل العادي يتماثل مع واحدة أو أخرى من حالات العقل، ويختبِر الحزن أو الخوف أو السعادة. وفقًا للراجا يوغا، يمكن ضبط موجات العقل من خلال ممارسة اللاتعلق. إن اللاتعلق يعني السيطرة على التطلع إلى أي شيء لا يرتبط بالهدف الذي يسعى اليوغي إلى تحقيقه. هذا الهدف هو انعتاق الروح. وصف باتنجالي مناهج متنوعة لتهدئة العقل وهو يقول في واحدة منها إن على دارس اليوغا تنمية موقف الصداقة تجاه السعداء، والشفقة تجاه التعساء، والسعادة تجاه الخير، واللامبالاة تجاه الشر. يحاول اليوغي أن يقوِّم الشرور التي يراها أمام عينيه إذا رآها. إنه ينذر نفسه لراحة الآخرين الروحية بعد أن يكون قد بلغ الاستنارة. يمكن أيضًا تهدئة العقل بالتنفس المنتظم، أو من خلال التركيز على الضوء أو حلم جميل أو شيء ممتع. إن التعبد لإشفارا أو الله هو طريقة أخرى لتهدئة العقل. إن الكلمة التي تعني الله هي أوم. بتكرار هذه الكلمة وتأمل معناها ينمي التواق تفحص النفس ويتجاوز العراقيل إلى الحياة الروحية. ينظر الهندوسيون إلى هذه الكلمة بوصفها رمزًا فعالاً لبراهمان. لكل فكرة نظيرها في كلمة أو صوت. فالكلمة أو الفكرة صنوان لا يفترقان: إن الجزء الخارجي من الشيء هو الكلمة، والقسم الداخلي من الشيء نفسه هو ما يمكن أن ندعوه فكرة. وفقًا لباتنجالي توجد علاقة فريدة بين الله وكلمة أوم. تمثل أوم عندما تُلفَظ بشكل سليم سلَّم إنتاج الأصوات بكامله، مثلما لا تستطيع أية كلمة أخرى. لذلك فهي تمثل المادة الأولية لكل الأصوات، وبالتالي أكثر الرموز ملائمة لله. إنها الكلمة التي يقول عنها القديس يوحنا: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله". تعبِّر الأحرف الثلاثة لكلمة أوم عن المظاهر الثلاثة للخلق والحفظ والفناء. يشير الحرف "أ" إلى المظهر الخلاق للألوهة لأن "أ" هي بداية كل الأصوات. ويشير الحرف "و" إلى المظهر الحافظ لأنها تحافظ على الصوت الذي تنتجه الحنجرة أثناء تدحرجه عبر الفم. وأخيرًا ترمز الـ "م" إلى مظهر الألوهة لأن الأصوات كلها تنتهي عند إغلاق الشفاه. كما يوجد صوت لامتمايز يأتي في نهاية لفظة أوم، ويرمز إلى الوعي الصرف أو براهمان المجرد من الصفات إلى الرمز والكينونة المقصودة به هما دون أجزاء أو علاقات. وفي النهاية يندمج الصوت اللامتمايز بالصمت وهو التجربة النهائية للمتصوفة. إن كلمة أوم لم يخترعها أي رجل. إنها الصوت الأساسي اللامخلوق الذي يسمعه المتصوفة المستغرقون في التأمل عندما تكون عقولهم وحواسهم منسحبة من العالم. إن التركيز المكثف على طبيعة الذات يخلِّف موجة عارمة تبتلع تدريجيًا كل الموجات الأخرى التي خلقتها الانطباعات الماضية. وفي نهاية الأمر يؤدي اللاتعلق التام وفعل إرادة علوي إلى تكسُّر الموجة الأخيرة، فيصبح العقل حرًا من كل الانشغالات، ويكتسب حالته الطبيعية من الطهارة، ويعكس الطبيعة الحقة للروح الباطنة. تتألف الراجا يوغا من ثمانية أذرع أو أقسام. يشير القسمان الأولان ياما ونياما بصورة عامة إلى ضبط النفس، وتتضمن قاعدة الياما اللاعنف والصدق وعدم الجشع والعفة وعدم قبول الهدايا، والنياما تعني بعض العادات والتقاليد، كالصرامة ودراسة الكتب الدينية والقناعة وطهارة الجسد والعقل والتعبد لله. إن الذراع الثالثة لليوغا هي الأسانا أو الوضع. وينصح بالوضع الأسهل على الطالب. الذراع الرابعة هي البراناياما التي تدعى بشكل عام ضبط التنفس. يتألف الكون وفقًا للفلاسفة الهندوسيين من عنصرين أساسيين هما أكاشا وبرانا مصدرا المادة والطاقة على التوالي اللذان تظهر من خلال تفاعلهما كل الأشياء الملموسة إلى الوجود. أما البراتياهارا، وهي الذراع الخامسة لليوغا، فقوامها تمرين العقل على الانفصال حينما يشاء عن أية حاسة من الحواس. يستطيع اليوغي بوساطة البراتياهارا أن يكبح الميل الخارجي للعقل وأن يحرِّره من عبودية الحواس. إن الذراع السادسة لليوغا هي الدهارنا، والتي تعني تثبيت العقل على أحد أجزاء الجسم فقط دون كل الأجزاء الأخرى. كأن يكون اليوغي متنبهًا لأرنبة أنفه فقط. الذراع السابعة لليوغا هي الدهيانا، أي التأمل. يكتسب العقل في هذه المرحلة قوة التفكير في موضوع ما دون انقطاع. أي أن تدفق عقل اليوغي تجاه الموضوع لا ينقطع. تدعى الذراع الثامنة والأخيرة لليوغا السامادهي أو الاستغراق الكامل. هناك منطقة واسعة خارج العقل، وهي مملكة الوعي الأعلى التي لا يمكن إدراكها إلا بوساطة مَلَكَة أرفع من العقل تدعى الحدس أو الوحي أو الإدراك المباشر والفوري. يمكن تحويل الغريزة إلى عقل والعقل إلى حدس أو إدراك مباشر من خلال المناهج المناسبة. كل التجارب الدينية العميقة ترتبط بمنطقة الوعي الأعلى الذي يستمد منه الكهنة والمتصوفة معرفتهم. إن التجربة الروحية تشبه الثروة العادية، يتمتع بها المرء بدرجة أكبر عندما يكون قد اكتسبها بجهده الخاص ولم تُقحَم عليه إقحامًا. وكل التجارب الروحية تنشأ مما يتجاوز العقل. فالعقل يقود الباحث عن الحقائق فوق الذهنية إلى حيث يستطيع، ثم ينحني مودعًا. لقد شدَّد راما كريشنا وتلميذه فيفيكاناندا في القرن التاسع عشر بشكل خاص على تجلي الله في الإنسان. وقد اختبر راما كريشنا النتيجة العليا لكل مناهج اليوغا، واتحد مع الله بطرق مختلفة، لكنه قال في النهاية إن تجلي الله في الإنسان هو أكثر ما يروقه. وقد طلب من مريديه أن يخدموا الناس بوصفهم صورًا لله والتخفيف من ألمهم. إن خدمة الجائع والمريض والجاهل بروح صالحة فعَّال كأي منهج روحي آخر. على مدى عدة أيام قبل رحيله علَّم راما كريشنا مريده كيف يلبي الاحتياجات الروحية للإنسان، وقال أيضًا مرات عديدة بأنه سيكون راغبًا بالعودة إلى الأرض حتى على صورة كلب إذا أُعطِيَ امتياز خدمة الآخرين.
الله هنا قبلك أنت لقد قال فيفيكاناندا قبل وفاته: هل يمكن لي أن أولد مرة إثر مرة، وأعاين آلاف العذابات، بحيث أتمكن من عبادة الله الواحد الأحد الذي أومن به: الحاصل الكلي لجميع الأرواح. التانترا كطريقة للتحقُّق تدعى سات – شيت – أناندا وفقًا للتانترا شيفا – شاكتي، وهي الكلمة الموصولة التي توحي أن شيفا، أو المطلق، وشاكتي قوته الخلاقة، في تزاوج أبدي: مثلما هي الكلمة ومعناها. لا يمكن التفكير بأحدهما دون الآخر. المايا، وفقًا للتانترا، تحجب الحقيقة وتقطبها إلى ما هو واعٍ، وما هو غير واعٍ، ما هو موجود، وما هو غير موجود، ما هو محبب، وما هو مكروه، ومن خلال التقطيب يصبح اللامتناهي متناهيًا، واللامتمايز متمايزًا، واللامحدود محدودًا. رغم أن الحقيقة تتطور بوساطة قوتها الغامضة الخاصة إلى العديد من المراكز الحسية والجامدة، إلا أنها تبقى دائمًا من حيث طبيعتها النهائية وعيًا صرفًا ووجودًا وغبطة. في حالة التطور لا تكف الحقيقة عن أن تكون ذاتها رغم أن التانترا لا تنكر الفعل ولا حقيقة التطور. هكذا لا يكف أي مركز محدود في أي موقع كان على منحني التطور عن أن يكون نقطة من الحقيقة الصرفة يتفتح اللانهائي من خلالها. ومن خلالها يمكن بلوغه. عندما تواجه جيفا هذه النقطة لا تكون سوى الحقيقة، وعندما تقفل راجعة وتواجه حجاب مايا تكون محدودة ومشروطة ومقيدة بالقيود. هكذا يوجد في كل مركز لجيفا عناصر فردية وأخرى لامتناهية، عناصر ظواهرية وأخرى حقيقية. إن أحد اتجاهات عمل مايا، والذي يدعى "التيار الصادر" هو الذي يخلق مركز جيفا مع قيوده. وهناك في الاتجاه المعاكس "التيار الراجع" الذي يكشف عن اللامتناهي. تُظهِر التانترا طريقة تحويل التيار الصادر إلى تيار راجع محولاً ما يقيد جيفا على محرِّر يطلق سراحها... فالدوافع والرغبات المرتبطة بالتيار الصادر تشكل ما يمكن القول إنه شبكة العالم الظواهري التي علقت جيفا بها. والسؤال الوحيد هو كيف يمكن أن نحوِّل دوافع التمتع المادي الأساسية (بهوغا) إلى تجارب روحية (يوغا)، أي كيف يمكن الوصول إلى تصعيد الرغبات؟ إذا تحقق ذلك انقلب عمل القيود، وحققت جيفا المحدودة تماثلها مع الحقيقة اللامتناهية. تشعر جيفا العالقة في التيار الصادر بالثنائية، وتشعر أن مفاهيم اللذة والألم، والقبول والرفض، والجسد والروح، والعقل والمادة عزيزة عليها. ولكن إذا كانت لاثنائية شيفا وشاكتي اللاثنائية الوحيدة الموجودة كما تؤكد التانترا، فكل هذه الفروقات يجب أن تكون نسبية. لكي تتمكن جيفا من معرفة أنها في الحقيقة شيفا (المطلق)، يجب أن تتخلص من كل أنواع الثنائية، وتدرك حقيقة أن كل ما يوجد ويعمل على المستوى المادي أو الأخلاقي هو شيفا – شاكتي، الحقيقة التي لا تنفصل أبدًا وقوتها. أما التقنية الخاصة بالمنهج التانتري هي تحويل تيار التنوع الصادر إلى تيار الاندماج التدريجي الراجع من أجل جمع الانفصال والقطبية وحتى التضاد في التماثل والتناغم والسلام. أما التانترا المختلفة في تقنيتها، فتصف منهج التصعيد. لا شك أن جسدي الرجل والمرأة المنطلقين مع تيار الصيرورة الكوني الصادر، يختلف أحدهما عن الآخر، إلا أنه يمكن تصعيدهما بوساطة التيار الراجع إلى مبادئ كونية وتحقيقهما بوصفهما الكل الواحد. ذاك هو شيفا شاكتي. وبعكس التيار الصادر على التواق أن "يوفِّق" بين المتكاملات أو الأقطاب بحيث يحقق هويتها، هكذا يتم تصعيد اتحاد الرجل والمرأة الجسدي إلى الاتحاد الخلاق لشيفا شاكتي. وتعتمد التقنية على جعل الرغبة الجسدية، التي تشكل أقوى أغلال الإنسان الحيواني، نافذة أو قناة لاختبار سات – شيت – أناندا. إن اتباع الطريق الصحيح واستكمال كل الشروط يوفر للتواق النجاح في سعيه. تتألف التانترا في التصعيد من ثلاث مراحل: التطهر، والترفع، وإعادة تأكيد الهوية على مستوى الوعي الصرف. على التواق أن يخلِّص نفسه أولاً من رداءة كثافة المادة وذلك بأن يقلب التيار الصادر إلى تيار راجع. تقول التانترا إن المبادئ الكونية الطاهرة تجتاز الخط في مرحلة ما من صيرورة التطور، وتتحول إلى مبادئ دنسة تشكل مملكة الطبيعة التي تشبه منحنى ملتفًا تحتبس فيه الجيفا، وتهيم عالقة في شبكة من الحتمية الطبيعية لا مفر منها، إلا إذا انحل المنحنى الملتف وفتح قناة من أجل تحررها وصعودها إلى مملكة المبادئ الكونية الطاهرة. وإلى أن يحدث ذلك تسبح جيفا في التيار الصادر وتتحرك معه، وتهتم بالرغبات الدنيئة أو الجسدية. وسواء أثمرت اللذة أو الألم تشد هذه الرغبات السلاسل فوق جيفا بأغلال إضافية. وهي تأمل في انحلال التفاف الطبيعة الذي أطبق عليها. ويدعى هذا بلغة التانترا التقنية استيقاظ الكونداليني أو قوة الأفعى الملتفة على نفسها. والذي ينتقل المرء بوساطتها من مستوى المبادئ الدنسة إلى مستوى المبادئ الطاهرة. يكون رأس هذه الأفعى الملتفة متجهًا إلى الأسفل، ويجب أن يتحول إلى الأعلى. إن هذا التغيير في اتجاه قوة الأفعى الذي تبقى جيفا بعد تفتحها كامنة فيه يدعى تطهرًا. والمرحلة الثانية هي الترفُّع، أي قلب النظام الذي تسير فيه المبادئ الكونية مع التيار الصادر والبدء بالتيار الراجع. ويجب أن يتم الصعود في الاتجاه المعاكس للاتجاه الهابط. وفقًا للتانترا، توجد الكونداليني على شكل طاقة كونية في كل شيء، حتى في جزيء المادة. ويعمل منها جزء واحد فقط هو الطاقة الحركية في حين يبقى منها مقدار هائل، هو الطاقة الكامنة، ملتفًا دون استثمار عند الجذر الأساسي. إنها مخزن هائل من الطاقة، تشكل الطاقة الفاعلة، كطاقة الجزيء الحركية، مجرد جزء منها. ونجد أيضًا في مركز الجيفا الطاقة الكامنة للكونداليني التي تشكل مخزن البدن (المادي واللطيف والسببي) من الطاقة، والطاقة الفاعلة للكونداليني المسؤولة عن حركة الجيفا وفعلها. إن كونداليني الملتفة هي المحور الرئيسي الذي تتحرك وتدور حوله كلية البنية المركبة للجسد والعقل. الحب والإيمان يعملان كرافعة قوية لإيقاظ الكونداليني الملتفة، وكذلك هي مناهج الراجا يوغا والجنانا يوغا. إن ترديد اسم الرب أو مانترا مقدسة وحتى الموسيقى يساعد في هذه العملية. ينبغي على دارس التانترا أن يُضمر في عقله المظهر النفساني لعملية صعود الكونداليني، وهي عملية تفتُّح وتوسُّع وترفُّع للوعي أكثر من كونها صعودًا ميكانيكيًا لقوة متزايدة متصاعدة. تلعب المانترات دورًا هامًا في المنهج التانتري. وكلمة مانترا تعني حرفيًا "ذاك الذي يمنح التحرر عند التفكير فيه". وهي المكافئ الصوتي للإله أي شيت أو الوعي. إن الصورة الخارجية هي الشكل المادي للمانترا، والاهتزاز الصوتي هو التجلي الأول لشيت والأقرب إليه. إنه الوسيط بين الوعي الصرف والموضوع المادي. تعتبر التانترا أن الاهتزاز هو تجلٍّ للطاقة الكونية أو شاكتي، فالمانترات ليس مجرد كلمات بل هي أشكال من الفكر المركَّز ذات القوة الفائقة. تختبئ الاستنارة في المانترا مثلما تختبئ الشجرة في البذرة. وما أن يتم التعبير عن هذه الاستنارة حتى تصبح المانترا ذات قوة عظيمة وتكشف عن الطاقة الكونية الكامنة فيها. تعتقد التانترا أن بعض المانترات الأساسية لم تخلقها الأدمغة البشرية، بل هي موجودة منذ الأزل، وأن التوَّاق يبلغ من خلال ترديدها الكمال. وتستخدم في الطقوس التانترية رسوم صوفية تدعى يانترا، وهي المكافئ المرسوم للآلهة، تمامًا مثلما أن المانترا هي المكافئ الصوتي. إن صورة الآلهة التي يتحد الفرد من خلالها مع الحقيقة العليا هي أيضًا تجسيد للوعي وليست مجرد صورة من خشب أو حجر. إذا أنجزت العبادة بشكل ملائم تحولت الصورة والمانترا واليانترا وملحقات العبادة الأخرى المتنوعة إلى أشكال وتعبيرات عن الوعي مثلما يتحول الخبز والنبيذ في المناولة إلى جسد المسيح ودمه. ويهدف التأمل إلى تمكين المتعبد من الإحساس بوحدته مع الآلِهة. وهذا التأمل في الوحدة هو الموضوع المركزي للعبادة التانترية. فاماشارا أو الطريق اليساري يرتكز طقس هذا الطريق، ككل الممارسات الروحية الصادقة، إلى مبدأ التيار الراجع الذي يسعى إلى قلب العملية التي تخلق الإنسان الحيواني. ويستخدم الإنسان الذي يتبع هذا الطريق خمس مواد، هي: الحبوب والأسماك واللحم والنبيذ والاتحاد الجنسي. والمبدأ الأساسي للفاماشارا هو التشديد على واقع أن الإنسان يتقدم في الحياة الروحية ليس من خلال التجنب الجبان والمزيف الذي يجعله يسقط، وإنما من خلال التمسك بها وتصعيدها بحيث تصبح تحضيرًا للانعتاق. يوصى لأحد أنماط التواقين، وهو النمط البطولي، أن يُكْثِر من شرب النبيذ ويمارس الاتحاد الجنسي. ويبيِّن المعلم بحذر أنه يجب استخدام المتعة والإثارة التي تنشأ عنها من أجل الارتفاع بالعقل عن المستوى المادي. على سبيل المثال: يُطلَب أولاً من التوَّاق أن يقدم النبيذ للآلهة ومن ثم يتناول منه بوصفه تقدمة أضحوية. وينطبق الأمر ذاته على الحبوب والسمك واللحم، إذ يتم تصعيد اللذة الناجمة عن التمتع بها تدريجيًا. ويُعلَّم المريد أن الاتحاد الجنسي عملية مقدسة تهدف إلى خلق حياة جديدة، وبالتالي يجب ألا يلجأ إليها بطريقة غير مسؤولة. يمتلك الاتحاد الجنسي معنى روحيًا عميقًا لأنه يكشف خلف الثنائية عن وحدة موجودة في كل التجارب الظواهرية. المرأة التي ترتبط في الممارسات التانترية بمساعدة الرجل على تحقيق زهده، هي موضع احترام كل مدارس التانترا. إذ يُنظَر إليها بوصفها تجسد شاكتي أو القوة التي تطلق العالم وتتخلله. كتب شانكاراشاريا لشاكتي الأزلية: أيتها السيدة العلية. فلتكن كل وظائف عقلي تذكرًا لك، وكل كلماتي صلاة لك، ولتكن كل أفعالي طاعة لك. تقسم التانترا السادهاكا أو التواقين الروحيين إلى ثلاث مجموعات وفقًا لاستعدادهم الذهني. يتحرك الرجل ذو الاستعداد الشهواني (بازو) مع التيار الخارج، ويستحق الثواب والعقاب عن أعماله الدنيوية. لم يترفع بعد فوق حلقة العرف الشائع ولم يقطع العقد الثلاث، عقد "الكراهية والخوف والخجل"، تدنسه أهواؤه، وتستعبده الدوافع الستة المعادية، الجشع والشهوة والتكبر والغضب والوهم والرغبة. ولا يُسمَح له حتى بلمس المواد الخمس المخصصة للطقس اليساري. إن الطالب المؤهل لخوض طقس المواد الخمس الخطر الذي وصفناه للتو يُدعى بطلاً (فيرا). فهو يمتلك القوة الداخلية لكي "يلعب بالنار" ويحرق بها أغلاله الدنيوية. وهو متمكن من ضبط النفس التام لذلك لا ينسى نفسه حتى في أكثر الظروف تجربة وإغواء. إنه رجل ذو همة لا يعرف الخوف، يبث الرغب في قلوب المندفعين وراء رغباتهم. طاهر في دافعه، لطيف في حديثه، قوي البنية مقتدر وشجاع وذكي ومغامر ومتواضِع، ويهتم بالأمور الخيرة فقط. أما السادهاكا ذو الاستعداد الإلهي فقد ترفع فوق كل قيود الرغبة ولم يعد له ما يصعده. لا يحتاج في تعبده إلى مساعدات جسدية من أجل تصعيد انفعالاته الروحية. مزاجه التأملي عفوي وهو في نشوة دائمة مستمتع بالمرأة والنبيذ الداخليين. وهكذا تحث التانترا السادهاكا على تمرين الإرادة والجهد الذاتي وممارسة الاستسلام الذاتي، وتوسل البركة الإلهية. لا تعِد التانترا بالتمتع بالسعادة الدنيوية فقط، وإنما بالتحرر أيضًا، وتعلن أنه يمكن إيقاظ قوة الكونداليني بوساطة المتابعة الصادقة للمناهج الروحية التي تنصح بها كل ديانات العالَم العظيمة. تكشَّف لراما كريشنا العالَم بوصفه لعبة شيفا-شاكتي. وعاين قوة الأم الإلهية وجمالها في كل مكان. ولم ينبذ العالم كمدرِّس فيدانتي بوصفه مايا، بل أسبغ عليه حالة روحية، إذ رأى فيه تجلٍّ لشيت وأناندا. لقد انكسر الحاجز بين الروح والمادة بالنسبة إليه، ورأى بالفعل أن حبة الرمل والعشبة تهتز بالطاقة. تبدَّى له العالَم كبحيرة زئبق أو فضة، وتراءت له العلة الأساسية للكون كمثلث مضيء ضخم يلد عددًا لامتناهيًا من الأكوان في كل لحظة. كل امرأة بالنسبة إليه هي تجسيد لشاكتي المقدسة. وقد علَّم أن أكثر الطرق فعالية لكي يتغلب الرجل على الرغبة الجنسية هي النظر إلى المرأة بوصفها تجليًا للأم المقدسة. على أي حال، لقد منع مريديه من ممارسة الطقوس الموصوفة للسادهاكا ذي الاستعداد البطولي. "أن تنتبه أو تعي لا يعني أن عليك أن تفكر أو تكون واعيًا بأنني أفعل هذا أو ذاك" كلا، فالأمر على عكس ذلك تمامًا، فما أن تفكر بأنني "أفعل هذا" تصبح واعيًا لذاتك، وعندئذ أنت لا تعيش في عملك بل في فكرة "أنا موجود"، والنتيجة أن عملك يفسد. يجب عليك أن تنسى نفسك تمامًا وأن تضيع فيما تفعل. إن هذا الانتباه، هذا الوعي المتيقظ لنشاطاتنا الذي علَّمه بوذا يقوم على أن نحيا الحاضر في العمل نفسه. وهكذا فمهما فعلت يجب أن تكون على انتباه كامل وأن تكون واعيًا لعملك في اللحظة نفسها التي قمت به فيها. وهذا يعني أن عليك أن تعيش اللحظة الحالية في العمل الحالي. وهذا لا يعني أن تتخلى عن التفكير في الماضي والمستقبل، بل يجب على العكس، أن تفكر بهما ولكن في علاقتهما مع الحاضر. مع الفعل الحاضر في اللحظة الحاضرة، أي ومتى حدث ذلك في مثل هذه المناسبة. إن الناس بوجه عام لا يعيشون في أفعالهم، في الحاضر، بل يعيشون في الماضي أو في المستقبل، ورغم ما يظهر في أنهم يفعلون شيئًا ما صار في اللحظة نفسها، فإنهم يكونون في مكان آخر، في أفكارهم، في مشاكلهم، وفي اهتماماتهم الداخلية، ضائعين غالبًا في ذكريات الماضي أو منجرِّين وراء رغبات وتأملات عن المستقبل، فهم لا يعيشون إذن فيما يفعلون في اللحظة ذاتها لأنهم لا يستمتعون بها، لأنهم تعساء مستاؤون من الحاضر، من عملهم، فهم طبعًا عاجزون عن أن يقدموا كل اهتمامهم لما يبدو أنهم مشغولون بعمله. تتنفس كالمعتاد دون أي جهد أو إرغام. والآن تركز عقلك على الشهيق والزفير وتراقبهما، اجعل عقلك متيقظًا على شهيقك وزفيرك. يمكن أن يكون تنفسك طويلاً أحيانًا وقصيراً أحيانًا. هذا لا يهم. تنفس طويلاً. يجب أن تعي بأنك تتنفس طويلاً. وعندما تتنفس قصيرًا يجب أن تكون واعيًا لذلك. وبعبارة أخرى يجب أن يكون عقلك مركزًا تمامًا على تنفسك بحيث تعي تمامًا حركاته وتغيرات إيقاعه. وانسَ ما عدا ذلك كل ما حولك، لا ترفع عينيك، لا تنظر إلى شيء. وبعد مدة من الوقت ستأتي لحظة قصيرة يتركز فيها ذهنك على تنفسك ولا تعود تسمع ضجيج الجيران، ولا يبقى العالم الخارجي موجودًا بالنسبة لك. هذه اللحظة القصيرة ستأتي لك بتجربة كبيرة جدًا مشحونة بالفرح والسعادة والهدوء حتى لترغب في أن تطول. وستطول شيئًا فشيئًا. وتلك هي اللحظة التي ستضيع فيها نفسك تمامًا في الانتباه إلى تنفسك. فطالما بقيت واعيًا لنفسك فإنك لن تستطيع التركيز أبدًا على أي شيء. البهافانا البوذية في معناها الصحيح هي الثقافة العقلية بالمعنى الصحيح للكلمة، وهي تهدف إلى تخليص العقل من الرجاسات، مما يجعله مضطربًا بالرغبات الحسية والبغضاء والنية السيئة واللامبالاة والارتباك والاضطرابات والشكوك، وإلى تثقيف وتهذيب حالات التركيز والانتباه والذكاء والإرادة والنشاط وملكة التحليل والثقة والفرح والهدوء ومؤدية في النهاية إلى الحكمة العليا التي ترى الأشياء كما هي، والتي تبلغ الحقيقة السامية العليا "النيرڤانا". |
|
|