|
سجال المئذنة
-1- هل صلاة المسلم في مُصَلّى (أو في مكان) لا مئذنة له، صلاة باطلة؟ الجواب، كما يقول الإسلام، هو: كلا. يمكن المسلم أن يصلي في أي مكان يتاح له، سواء كان معمورًا، أو في العراء. فالمهم هو إقامة الصلاة، و "أينما تُولّوا فثمَّ وجه الله". سأطرح السؤال، إذًا، بصيغة أخرى: هل المئذنة شرط لا بد منه لإقامة الصلاة في أي مكان؟ والجواب هنا، استنادًا إلى الجواب الأول، هو أيضًا: كلا. يؤيد ذلك تاريخ الممارسة الدينية في الإسلام. هكذا، أطرح السؤال بصيغة ثالثة أخيرة، توكيدًا لجواب قاطع: هل المئذنة جزء عضوي وجوهري من الصلاة، بحيث لا تصح إقامتها إلا بها؟ والجواب استنادًا إلى ما تقدم هو، أيضًا، كلا. وليس في تاريخ الصلاة في الإسلام ما يناقض هذا الجواب. نقول، إذًا، تصح الصلاة في الإسلام، دون مئذنة. وغياب المئذنة لا يعني، بالضرورة، غيابًا للصلاة أو للإسلام. -2- ما الأصل، في ما يتعلق بالمئذنة؟ الأصل هو أن يدعى المسلمون إلى الصلاة من مكان عال، لكي يُتاح لصوت الداعي (المؤذن) أو لندائه، أن يُسمع بشكل أوضح وأوسع. وهي، إذًا، في الأساس، مجرد وسيلة، ولا تدخل في صلب المعتقد، كما هي الصلاة. إنها مجرد وظيفة إعلامية. وهي، بوصفها كذلك، مرَّت في مراحل متعددة من التطور، واتخذت عبر العصور أشكالاً هندسية مختلفة. وأصبحت أكثر علوًا وأكثر جمالاً مما كانت عليه في زمن النبوة. صارت شكلاً فنيًا، وارتبطت بفنية المعمار الإسلامي. ولو كانت ركنًا من أركان الدين، أوحي بها، لكان تطويرها أو تغييرها مروقًا وكفرًا. ولكان الحفاظ على شكلها الأول سُنَّة، على الأقل، يجب اتباعها، ولكان من الضروري دينيًا، تبعًا لذلك، أن تهدم جميع المآذن التي خرجت أو تخرج على هذه السنَّة، أي على شكل المئذنة الأولى في عهد النبوَّة. -3- كيف ينبغي، إذًا، أن نفهم الاعتراض على المئذنة في سويسرا أو غيرها من الدول الأوروبية؟ والجواب هو أنه لا يجوز فهمه بوصفه اعتراضًا على الإسلام في ذاته. إذ لا يجوز للمسلم، دينيًا، أن يماهي بين الإسلام والمئذنة بحيث يبطل إذا بَطُلت، أو بحيث يُرى عدم الارتياح للمئذنة كأنه عدم ارتياح للإسلام نفسه. فالإسلام شيء، والمئذنة، وإن كانت من لوازمه الوظيفية، شيء آخر، لا يدخل في ماهيته الأساسية. ثم إن الإسلام معترف به، رسميًا، في أوروبا، بوصفه أحد الأديان الوحدانية الثلاثة. الاعتراض، إذًا، هو على الخلل أو النشاز العمراني - الاجتماعي الذي تحدثه المئذنة في المدينة الغربية، بما لها من حضور طاغ في نسيج الحياة الثقافية، المعمارية، الاجتماعية، وفي الحضور الهندسي الخاص الذي يمثل إحدى سمات الهوية المدنية في المدينة الأوروبية. هكذا تظهر المئذنة في هذا السياق كأنها نوع من التحدي أو نوع من خرق لبعض المبادئ والقواعد. وسوف تبدو، إلى ذلك، نوعًا من مصادرة الحياة المدنية العلمانية التي دفع الأوروبيون ثمنًا عاليًا للوصول إليها، في نضالهم الطويل ضد الكنيسة. أو تبدو، على الأقل، نوعًا من التشكيك في هذه الحياة. وربما رأى بعض العلمانيين فيها تحريضًا غير مباشر، أو دعوة للعودة إلى أحضان الكنيسة. وفي هذا ما قد يفسر سرَّ اللجوء في سويسرا إلى الاقتراع الديموقراطي، وتجنُّب قرار حكومي من فوق. ولا أتخيل أنه سيكون مقبولاً بناء كنيسة بناقوسها في حي سَكنيٍّ... في مدينة إسلامية. ليس لأن المسلمين يكرهون المسيحيين، أو يرفضون المسيحية، أو لأنهم متعصبون، بل لأن هذه الكنيسة ستكون نوعًا من تشويش الحياة الإسلامية اليومية في هذه المدينة، ومن تشويش عاداتها وتقاليدها، وهذا لا ينطبق على دمشق مثلاً، أو بيروت، أو بغداد أو القاهرة، لأن المسيحيين في هذه المدن هم سكانها الأصليون حتى قبل البعثة النبوية الإسلامية، إضافة إلى أن لهم أحياءهم الخاصة. إن إلحاح المسلمين على ممارسة ما كان مجرد وظيفة، بوصفه ركنًا من أركان الإسلام، إنما هو مشكلة ثقافية خطيرة داخل الإسلام نفسه، قبل أن يكون موضع خلاف مع المجتمعات الأوروبية. فهذه الممارسة تشير إلى أن المسلمين يتمسكون بالدثار والشعار أكثر مما يتمسكون بالأصول والحقائق. وهي ظاهرة سائدة يستخدمها المتشددون من أجل تحويل الإسلام إلى مجرد أشكال وطقوس. وفي هذا كله، يبدو جمهور المسلمين كأنه لا يفهم الإسلام بأبعاده الإنسانية - الحضارية، بقدر ما يفهمه بوصفه طقوسًا وعادات. وفي هذا ما يثير مسألة الوعي لدى هذا الجمهور، ومسألة العلاقة بين المسلم وعصره، من جهة، والمسلم والآخر من جهة ثانية، إنها أزمة المسلم داخل نفسه ووعيه، قبل أن تكون أزمته مع الآخر. هكذا يبدو أن ذلك الإلحاح باسم الإسلام على الشكل والمظهر، خصوصًا في مجتمعات غير مسلمة، ليس تعديًا على حقوق الآخر غير المسلم، بقدر ما هو تعدٍّ على الإسلام ذاته. إنه يكشف عن القصور في قراءة الوحي الإسلامي، واستقصاء آفاقه وأبعادها. ويكشف كذلك عن نزعة لدى جمهور المسلمين، تعصبية مغلقة، ومدمرة، هي تقليص الإسلام واختزاله في الدثار والشعار، في المظاهر والاشكال، وإفراغه من المقاصد الإنسانية والحضارية الكبرى. إن في المدينة الأوروبية فضاء هندسيًا مدنيًا، وتاريخًا ثقافيًا اجتماعيًا مرتبطًا به، وعالمًا من الرؤى والقيم والتذوق والحساسية، لا تقبل ما يعبثُ بها. فالتجانس العمراني هنا خاصية أو سِمة ثقافية - اجتماعية، إلى جانب كونه سِمَة هندسية - فنية، فلكل مدينة طابعها ونظامها، ولكل منطقة ملامحها وهندستها. وهذا كله نقيض لما يحدث في فضاءات المدن العربية الإسلامية حيث لا معنى للمكان، خارج الشراء والبيع والربح، وحيث لا تاريخ لمدينة المجتمع، وقيمه الفنية. ففي البلدان العربية عشوائية عمرانية وثقافية، وامتهان للمكان والحياة المدنية المشتركة، وللحسِّ المدني. وهذا كله يشكل عدوانًا على الطبيعة وعلى الإنسان. وعلينا، إذًا، أن ندرك أن الاعتراض في المدن الأوروبية على المئذنة ليس اعتراضًا على المعتقد، وحرية الاعتقاد، وإنما هو اعتراض على ما يمكن أن يخل بالنسق العام، والنظام العام، والهوية العمرانية الاجتماعية. ويبدو المسلمون في ردود فعلهم السريعة على هذا الاعتراض، وفي تأويلاتهم الدينية - السياسية له، كأنهم لا يقيمون أي وزن لثقافة الآخر المضيف، وقيمه وأخلاقياتها، ولا يحترمون عاداته وتقاليده. ولا يدركون معنى أن يكون له، كمثلهم هم، هويته الخاصة. وفي ضوء ذلك، يبدو الإسلام كأنه مقتحم وهجومي. والأخطر من ذلك هو أن المسلمين يبدون في هذا كله، كأنهم يؤثرون الوظيفي العرضي، على الجوهري، الإنساني والإلهي. والخشية هنا هي أن يكون المسلمون وقودًا في اضرام نار عمياء، يستخدم فيها من يضرمها أو يشجع عليها، "كلمة حق لا يُراد بها إلا الباطل". في ضوء هذا كله، يبدو لي أن من المهمات الأولى للمسلمين اليوم، وبخاصة أولئك الذين يعيشون خارج بلدانهم في المهاجر، الأوروبية وغيرها، بين بشر ابتكروا الثقافة الكونية الراهنة، عبر تجارب عظيمة خاضوها في جميع الميادين، أقول إن من المهمات الأولى للمسلمين اليوم أن يبدأوا بالالتفات إلى عوالم الداخل الانساني، إلى عوالم الرؤى الخلاقة والإبداعات المتفردة، والبحوث المتطورة لكي يعرفوها ويتمثلوها ويندرجوا في آفاقها. وعليهم إذًا أن يبدأوا ببناء مآذن في قلوبهم وعقولهم، تصل بينهم وبين تراثهم الحضاري، وبينهم وبين تراثات الآخر - مآذن تكون توائم لأعلى المآذن في بلدانهم الأصلية. وعلى المسلمين، العرب خصوصًا، ألا يؤخذوا سريعًا بما يقوله أو يشيعه عربي مسلم مهاجر أو أكثر، هنا وهناك. إذ علينا أن نعترف أن معظم المسلمين في الخارج غير معنيين بمنجزات العقل، أو بما يبتكره الانسان المعاصر، وينجزه في ميدان العلم والصناعة وإدارة العالم. إنهم معنيون، على نحو خاص. بالمعيشة والعمل والكسب. وهذا ليس عيبًا عليهم، وليس خطأ منهم. إنه، بالأحرى، خطأ بلدانهم الأصلية وعيبها. لكن، في هذا كله ما يضغط، أحيانًا، على البصيرة فيضللها، وعلى البصر فيحول بينه وبين رؤية "الصراط المستقيم". *** *** *** الحياة، الخميس، 17 ديسيمبر 2009 |
|
|