|
لم يعد الهدف هو إمتلاك الشجاعة للتكلُّم
نترجم في ما يلي الحوار الذي أجراه كزافييه تيرنيسيان مع السوسيولوجي سيغيل لوميو حول كتاب جون ميلتون أريوباجيتيكا. من أجل النشر دون طلب ترخيص ومن دون رقابة. نُشر في الملحق الثقافي لجريدة لوموند لهذا الأسبوع، ضمن زاوية "الكتب التي غيرت العالم" التي استحدثتها لوموند منذ أسابيع حول إعادة نشر كتاب مهم يكون قد ساهم في خلخلة المناخ الثقافي الذي صدر فيه. أثير فيه في السابق مثلاً كتابي مستقبل وهم وأصل الأنواع لكل من سيغموند فرويد بالنسبة إلى الأول وشارل داروين بالنسبة إلى الثاني. ويتم إجراء حوار مع كاتب معين يقع الكتاب في مجال تخصصه، يناقش أفكاره مؤيدًا لها أو معارضًا. يتم التعرض فيه اليوم للصرخة المبكرة لشاعر الفردوس المفقود ضد الرقابة وذلك منذ أواسط القرن السابع عشرة. لما عمد البرلمان سنة 1643 إلى إبطال حرية الصحافة. عبد الله كرمون * * * كيف طبع كتاب أريوباجيتيكا مرحلة مهمة من نشأة حرية التعبير؟ هو أول نص يدافع عن الفكرة التي تعتبر أن الرقابة تصرف غير مشروع ويخلو من كل فائدة. قال ميلتون بأن الجمهور ناضج بما فيه الكفاية كي يحكم من تلقاء نفسه على قيمة الكتابات التي نرغب في منعه من قراءتها. إنها فكرة جريئة بامتياز! لأن ما ينشر على عامة الناس كان خاضعًا، في ذلك العهد، لسلطة المؤسسات السياسية والدينية المستبدة على عموم أوروبا. فلم يتم، أبدًا، اعتبار الناس العاديين قادرين على إصدار أحكام مستقلة. صحيح أن البروتستانتية والمطبعة (وهما ظاهرتان يعتبرهما بعض المؤرخين بأنهما متصلتان) قد ساهمتا من قبل بشكل جدي في الحد من هذه الرؤية. وذلك في إنكلترا ميلتون الثورية أكثر منه من فرنسا. لذا لزم انتظار حلول سنة 1758 لنتوفر على نص فرنسي يمكن مقارنته بـ أريوباجيتيكا بظهور مذكرات حول المكتبة والذي ألفه مالزيغب. هذا التأخر يفسر لماذا كان المثال الإنكليزي هو المرجع الأساسي للثوريين الفرنسيين إبان 1789 بخصوص حرية الصحافة. وهذا، ربما، يفسر أيضًا أننا نحن الفرنسيين نربط علاقة أقل ليبرالية من الأنجلوسكسونيين مع حرية التعبير.
هل تمكنا اليوم من التوصل إلى وضعية انتفت فيها بشكل نهائي كل أشكال الرقابة؟ لم يرسخ إطار حرية الصحافة في فرنسا إلا بعد تأخر كبير، وذلك بموجب قانون 1881، والذي لا يزال، إجمالاً، ساري المفعول (استمرت الرقابة على المنتوج الفني إلى سنة 1906. المترجم). كما أن هذا النظام القانوني قد وضع حدًّا للرقابة، بشكل بديهي، في بلدان غربية أخرى، مع ورود بعض الاستثناءات، وذلك لصالح قضايا القذف أو السب العلني. لقد حُققت، إذًا وعلى العموم، مطالب ميلتون: يمكن نشر كل شيء، وإن كان كل ما ينشر ليس في مأمن من التفنيد أو من متابعات قضائية محتملة. تظل هناك إذًا عقوبات وممنوعات. في الحقيقة يصدق هذا حتى على النظام الأميركي، ليس هناك البتة إقرار تام بفكرة وجود خطاب من دون أي إكراه. لأنه قد بدا أن غياب احترام حدود القول قد يؤدي إلى إطلاق عقال العنف الرمزي الذي يمكنه أن يعرض للخطر كل إمكانية للنقاش العمومي، وينقلب بهذا الشكل ضد حرية التعبير نفسها.
ما هي المعوقات الجديدة في أيامنا؟ لا تزال قضية الرقابة الميلتونية (نسبة إلى ميلتون)، بطبيعة الحال، راهنة. فالأمر جلي في العديد من بلدان المعمورة، لكن ذلك هي حال فرنسا أيضًا، إذا أخذنا في الاعتبار الكثير من أفعال الرقابة والرقابة الذاتية داخل أجهزة الصحافة ودور النشر. مع أن مشكلة حرية التعبير لا يمكن اختزالها بعد في هذا الجانب وحده. إن إحدى الأسئلة الجوهرية التي تفرض نفسها اليوم تتجلى في معرفة كيف يقرر الصحافيون، في عالم قد صار حرًّا، ولو شكليًّا، ماذا يستحق، في مجال الإخبار، أن نوريه للناس. ما هي المعايير التي يركزون عليها كي يمكِّنوا من نشر خطاب معين أو رفضه؟ كيف يتعاملون مع "السوق"؟ هل عوضت مسألة الولوج إلى حلبة الظهور الإعلامي أمر الرقابة؟ في الوقت الذي لم تعد فيه حواجز مبدئية لأخذ الكلمة، وحيث لم يزداد عدد الذين يرون بأنهم مؤهلون لأخذها، لم يعد الهدف هو امتلاك الشجاعة للتكلم، وإنما هو امتلاك القدرة على شد الانتباه. نلحظ هذا من خلال تطور التواصل في كل جوانبه، نلحظه أيضًا مع الإنترنت. إنه إذًا، وبشكل لا يقبل الجدل، فضاء دمقرطة التعبير العمومي، وإن كان علينا ألا ننسى أن أصحاب الشواهد يتواجدون فيه كذلك، وبشكل كبير. هو إذن فضاء تكون فيه إكراهات التعبير أقل شدة منها في وسائل الإعلام التقليدية، إذ لا يتعلق الأمر فيه بفضاء تتوفر فيه حرية التعبير بشكل تام: يوجد هناك إطار قانوني، ولكن أيضًا تنظيمًا ذاتيًا لمجموع مستعملي الشبكة. المشكل هو أن متابعة القراء هي التي تكون ضعيفة جدًّا. فمواقع النقاشات السياسية الأكثر زيارة تعرف 25000 زيارة يوميًا، ما يساوي عدد قراء أسبوعية محلية. ولا علاقة لهذا بالسبعة ملايين مشاهد الذين يتابعون كل مساء نشرة أخبار القناة الفرنسية الأولى. هنا تتجلى محدودية الإنترنت: يمكننا أن نكتب بشكل حر، ولكن، لا يقرؤنا، حتمًا، عدد كبير من الناس. ليست هناك رقابة وليس هناك كذلك تلقٍ مهم في غالبية الوقت. لا يتم شد انتباه الناس بشكل واسع. هذا يفسر لماذا يركز الوِّيبْ على أنشطة وسائل الإعلام التقليدية التي تعتبر حَكمًا ما زال يلعب حتى اليوم دور Gatekeeper أي منتخِب الخطابات والصور، بما فيها تلك المتأتية من الويب نفسه، والتي "تستحق" أن يتم عرضها على جمهور واسع.
لماذ هوس الويب هذا بوسائل الإعلام الكلاسيكية؟ أعتقد بأن الأطروحة المسماة بـ "المثقفين المكبوتين" التي عرضها بعض المؤرخين، مثل البريطاني مارك كورتيس، حول بعض مراحل التاريخ، يمكن أن تساعد في الإجابة. وإذا طبقناها على فرنسا أيامنا، يدفعنا هذا إلى القول بأنه جراء تعميم التعليم العالي، فإن مجتمعنا ينتج عددًا كبيرًا من ذوي الشواهد العليا، والذين يرون بأن لهم الحق بأن يفكروا بأنهم يمتلكون موهبة على الأقل مثلهم مثل الصحافيين، المثقفين، الفنانين ورجال السياسة الأكثر حضورًا في وسائل الإعلام، في الوقت الذي يكونون فيه هم مرغمين على مزاولة مهن عادية لكسب قوت يومهم، ويظلون مغيبين. الإنترنت هي وسيلة إعلام تمكنهم من نشر نتاجهم على الجمهور وإظهار مواهبهم. إنه أيضًا وسيلة إعلامية تمكنهم من التعبير عن شعورهم بالغبن، عارضين نقدًا لهذه المؤسسة التي لا تقدر وزنهم حق تقدير، كما يفضحون الآليات التي تجعل الوصول إلى الظهور العمومي مسيجًا. التآمرية التي راجت سوقها في الأنترنت، ليست سوى ذلك الفضح الأقصى للسيطرة من طرف قلة قليلة على الحق في تحديد ما يستحق أن يُعرض وأن يقال لأكبر عدد من الناس. إذا كان المسعى النقدي، بلا شك، تقريبًا فإن المشكلة المطروحة، مشكلة التعتيم والتعسف لدى سياقات الدخول إلى الحلبة العمومية أمر واقعي. لكن، هل حرية التعبير مضمونة على الإنترنت نفسه؟ ألا يشكل استئثار غوغل، بشكل خاص، على البحث عن المعلومات خطرًا توتاليتاريًّا؟ يستبد غوغل بكل الكتابات ويحتكرها لصالحه. لا يتعلق الأمر، بلا شك، بمشروع سياسي أورويلي (نسبة إلى جورج أورويل) بقدر ما يتعلق بحلم القوة السلعية العظمى. لكن النتيجة تظل واحدة. هذه الحالة توضح مشكلاً أعم وهو أننا نادرًا ما نتحدث عن الأشكال التي نستعملها في إيصال نقاشاتنا. فالذي يشارك، في الغالب الأعم، في برنامج تلفازي لا يتحدث عن حجم البرنامج، عن مدة الحديث، التركيب. الشيء نفسه صحيح بالنسبة إلى استطلاعات الرأي: فالصحافيون يعلقون بشكل مستفيض عن نتائجها، دون أن يتساءلوا، عمومًا، عن طرق إنتاجها. إنه لربما الرهان الكبير الذي يخص حرية التعبير اليوم: لم يعد يتعلق الأمر فقط بالدفاع عن حق الجميع في التعبير، لكن الأمر يتعلق أيضًا بالتوصل إلى جعل الإطارات، التي يُمنح لنا التعبير من خلالها، وكذا كيفية اختيار المعلومات، التي تصلح لنقطة انطلاق نقاشاتنا، محط نقاش هي أيضًا. ترجمة وإعداد: عبد الله كرمون *** *** *** إيلاف |
|
|