|
في مديح الكذب!
قد يكون الكذب أحد أبرز وجوه الحقيقة نفسها، وقد تكون الأكاذيب صانعة للتاريخ أكثر من غيرها من العوامل. وكثيرًا ما اشتعلت الحروب التي غيَّرت مصير الإنسانية بكذبة كانت تبدو بسيطة، وهنا نظرة أخرى للكذب بعيون أبرز "أعلامه". ربما تكون وصايا الكذّاب الكبير باودولينو (بطل رواية الإيطالي أمبرتو إيكو التي تحمل العنوان نفسه) منسوخة بالكامل في كتاب سرِّي يتداوله المؤرخون الرسميون على مرِّ التاريخ، وهذا هو التفسير المنطقي للأكاذيب الكثيرة التي تمتلئ بها كتب التاريخ، وقد تحولت بذلك إلى ما يشبه كتب الأساطير، وربما يكون عموم المؤرخين قد تأثروا بوصية "باودولينو" التي يقول فيها: إن أردت أن تصبح متأدبًا أو أرفع شأنًا، إذا أردت أن تكتب ذات يوم أخبار، يستوجب عليك أن تكذب، وأن تختلق بعض الحكايا، وإلا كان "تاريخك" مضجرًا. وبعيدًا عن الكذب كان رفاعة رافع الطهطاوي، المصري الذي ذهب إمامًا إلى باريس ضمن بعثة محمد علي العلمية الشهيرة، وعاد منها ثائرًا على الوضع في أمته، وألَّف في هذا الصدد كتابه الشهير تخليص الإبريز في تلخيص باريز، يقول بأن الكتابة هي فن يعرف به التعبير عن المقصود بنقوش مخصوصة تسمى حروف الهجاء، أو أحرف المعجم، وأن "صناعة الكتابة" كثيرة النفع عند الأمم، ورأى بأنها "روح المعاملات" وإحضار الماضي وترتيب المستقبل، ورسول المراد، ونصف المشاهدة. ومن هنا جاء كتابه تلخيصًا جافًا لرحلته "الفرنساوية" تلك. وعلى عكس تلك النظرة "الطهطاوية"، فإن الكتابة عند آخرين لا علاقة لها بالإحضار والترتيب والرسالة، وقد تتجاوز نصف البهتان، إن لم يكن البهتان كله، وهذا ما نقرأه في سيرة ذلك "الخبيث، الكذّاب، الأشر، الرحالة" باودولينو التي نقلها إلينا الكتاب أمبرتو إيكو في سفر ضخم من 600 صفحة تقريبًا، عندما تختلط الحقيقة بالكذب والكذب المركَّب، إلى أن يختفي الرحالة ذاهبًا إلى مملكة "الراهب جان"، تاركًا "نيسيتاس" في حيرة من أمره سائلاً، وهو مدون أخبار بيزنطة: ماذا سيكتب، وماذا سيهمل؟ ولم يعد يعرف فرقًا بين الحقائق والأوهام. وقد نصحه بافنوزيو بإهمال كل شيء، قائلاً له: هل تود حقًا أن ترسخ في أذهان قرائك المحتملين فكرة أن الغرادال موجودة بين بقاع الثلج والصقيع وبين مملكة الراهب جان في بقاع يلهبها القيظ؟ ومن يدري لو فعلت كم من المعتوهين سيجوبون أرجاء الأرض بحثًا عنها، طوال دهور ودهور. ولما تأسف "المؤرخ" على مصير جمال الحكاية، طمأنه صاحبه قائلاً: عاجلاً أو آجلاً، سوف يأتي من هو أكذب ومن باودولينو ويرويها. وتحققت نبوءته فعلاً بعد قرون من ذلك، وجاء من هو أكذب من باودولينو، وهو أمبرتو إيكو نفسه، ذلك الأستاذ الجامعي والباحث المتخصص في الأدب واللغة، وصاحب الأثر المفتوح، وحدود التأويل، الذي أبدع في الكذب، واختلق حكاية باودولينو نفسها المليئة بالكذب إلى درجة أصبح المتلقي لحكاياته تلك أسوأ حالاً من المعتوهين الذين تكلم عنهم صاحبه، وهم يجوبون الأرض بحثًا عن "مملكة الراهب جان" بين القيظ والصقيع، وراح المتلقي في كل لغات العالم التي ترجمت إليها الرواية يدفع من مصروفه اليومي من أجل شراء تلك الكذبة الطويلة العريضة، التي قد تكون أكبر كذبة في التاريخ مجلدة في 600 صفحة من القطع المتوسط. وقد استغرق صاحبها في تلفيقها سنوات من عمره، ولم يخجل بذلك وهو الأستاذ الجامعي المرموق والعالم في مناهج البحث، فكان بالفعل أكذب من باودولينو، الذي كان بدوره كذبته الكبيرة. *** *** *** |
|
|