|
مستحيلات الوسط غير الذهبي
نصف الحلم ... في المنتصف، كانت وقفتي الراجفة، ولا صوت أن اخلع نعليك يناديني، ولا وادٍ تسوَّلَ قداسةً يحويني... في الحقيقة الشاردة كشبح، كنتُ أعودُ كما كانوا حافيًا... كما يليق بأشقى أبناء الأرض... كما لو كنت راعيًا... لكن صوتًا لا يفتأ يتصاعد طرقًا، هدمًا، زلزلةً، في الداخل، في الخارج. لا أعلم! بين شجرة وطن آوت إليه أسراب غربان لا يفارقها الترقُّب، وجماعة ضباع تبدأ طقس الطبيعة باستعراض الناب والمخلب، وذاك الصوت الغامض المزلزل، يُحاصر الوسط المنتصف حيث ترتفع قامتي على حافيتين، تلحان على خرائب الذاكرة في لحظات تبدو في مرآة الغريزة أخيرة محتضرة. حكاية رحم: تتراخى الدنيا أمامي سهولاً مترامية، تتخللها جبال شاهقة، في قمتها أسهم ثلاثة متقاطعة. الحياة تسري رغدة جميلة طالما يسري الدم في فقط العروق هادئًا. تتطابق الأسهم. ينقلب كل شيء. حمحمة الخيول، وقع حوافرها، اخضرار السماء، التماعات اثنتي عشر من نجومها... أواه! هو الدم يعتريه نزوع إلى الترقرق على النصال. يغلي الدم الوُرِقّي في عروق سيدة نبيلة تنسل من مخدعها الوثير إلى البريِّة. أحيانًا للغريزة منطق غير منطق اللذة. كيف لا؟! وهي تُعرض عن كل رجالات القصور وتصطفي راعيًا حافيًا. تضاجعه بجوار صخرة. تحبل فتلد عنها الصخرة. ينتصب الوليد مقاتلاً عاتيًا يدير مقاليد الرياح بمشيئة النجوم. حتى ينفضَّ تطابق السهام. تصفو السماء. تخضع الأرض. ينسل صورتي أمه وأبيه في آلاف وآلاف من البنات والأبناء، من الحفيدات والأحفاد. لكن نزوع الدم دائم ولو سكن دهرًا. تتطابق الأسهم وتفترق. ودائمًا ثمة سيدة نبيلة، تنسل إلى البراري فتضاجع راعيًا، وصخرة تنتظر جماعًا لا كالجماع لتلد. ذات تطابق طال انتظار الصخرة. كأن نومًا تعربش في غير أوانه، في غير مكانه. كأن عقمًا تسربل في براعم الخصب. والصخرة تنتظر فلا سيدة وراعٍ يذوبان خصبًا. تتحول الحمحمات إلى خبب. تدك الحوافرُ المتلاحقة بلا نهاية الصخورَ، الطيورَ، الزهورَ، تهرس كل شيء. تختلج النجمات، تتناثر في البرودة المظلمة، تسقط واحدة أهرع إليها. هناك على ضفاف الكوبان وسهوبه أفتش عما بقي منها عليَّ أجد شيئًا غير المقابر. واو... باء... خاء... ترنيمة لكل البدايات إذا أزفت نهاياتها، بينما تهوي في أشداق الأمواج السوداء آلافُ السيدات. غرق ونجاة. غرق هو طريق قصير إلى العدم، نجاة هي درب طويلة إلى وجود. وأي وجود؟! ألف ستناي سيقت إلى بازار النخاسة. ألف سرسوقة تشرد في وطن مرتحل كلما ارتحلت المخيمات. واو... باء... خاء... آه من المجد إذا صار في الشتات!! آه من العجز حين تعقم الأبجديات!! حكاية نطفة: (خذها كما أخذتَ منا الملكَ والوعدَ! قد أصبتَ منها ما يُتخم أقوى الرجال من المرأة. وما هي إلا جارية مهما كان نسبها. في بطنها ابنك؟! صحيح! وليس لكل صحيح معنى. الآن تأخذُها بالذي في بطنها. ارمِ بها بعيدًا بعيدًا. دعها لقدرها فهناك سيخرج من بطنها ابنك. ستكون يده على كل الناس. وأيدي كل الناس عليه. الآن تتركُها في واد غير ذي زرع. تتركُه يصيرُ أبًا لجمهور من الرعاة الحفاة...) بعد حلم الملك الموعود صارت في الوادي المقفر تمسّها ألوان من الجزع والجوع والعطش مع آلام المخاض. يخرج الغلام كعاصفة من نار. عواطفه الأولى أصناف من غضب. تضرب إحدى حافيتيه الأرض فيتفجَّر الماء. تظهر عواطف أخرى: عشقه للخيل، عشقه للنساء. على ظهر فرسه الحرون العاتي يقتحم مضارب قريبة. يخطف فتاةً. يستولدها. يخطف أخرى وأخرى، وبنوه صورٌ له، يتتابعون مئات فمئات. في رحلات الصيد يهوى الملوك أشدَّ الطرائد وأخطرها. يقتلون أبناءه. تظهر منه عاطفة جديدة، يا لها من عاطفة! هكذا ولأول مرة يقف على الأطلال. يتعاظم نسله على شهوات الملوك. تكثر خيوله. تردّ عادات الملوك وطوابير الغزاة. يجتاح بنوه الأرض. ينتزعون الملك من الأحلام المتخمة بوعود الآلهة. يدخلون أسواق النخاسة. يشترون سيدات باكيات نجون في الشمال من تغريق وتحريق وسنابك العاديات. يصرن زوجات لملوك كانوا حتى البارحة رعاة حفاة. يصرن ملكات. لكن عاطفة تظل مشبوبة. عشقهم وعشقهن للخيول يؤجج مروق الدم واشتهاءه للنصال. ملكان شقيقان يراهنان على خيل. جريان دم أحدهما هو خاتمة الرهان. مع كل رهان يغيب ملك تسقط ملكة وترتفع أطلال. هكذا بعد حين من الدهر غاب كل الملوك والملكات. امتدت صحراء بلا واحات تتزاحم فيها الأطلال... نصف اليقظة أي صمت ختم على حناجر هذه الغربان؟! ما لهذه الضباع كالحجارة سكنت؟! هيا! هلموا! فأنا الوسط. أنا المُحاصر، وما كان يحتاج سقوطي إلى حصار. أتحسبون أني أكرهكم؟ كلا! كلا. مذ عرفت أن الحياة أمًا تنقصها العفة. مذ عرفت أنكم بعض أبنائها ولو كرهتُ... غراب وضبع! لا معنى إذن لاستنكار أكل الجثث. أتعلمون؟! أقسى ما يمكن أن يكابده أي كائن هو الحصار! وأشنعه حصار يُضرب من الداخل! فيه تتقطَّع كل الحبال السرية بين الكلمة والدلالة، تصبح الأشياء والأحوال موبوءةً بالثنائية الضدية ولا تكامل. في هذه الحال لا يمكن للمحاصَر إلا أن يكون مجوسيًا. محال أن يكون طاويًّا. ولا تحسبوه يبرأ ولو كسر حصاره وبدا يختال وعليه كل أمارات العافية. عند أسوار عكا، مع انصرام المئة الثالثة عشر، كسر أعمامي وأخوالي الحصار الرهيب المديد. عند أسوار عكا تكاتف الجنوب والشمال فابتلع البحرُ حشودَ الغرب وامتصتْ الأرضُ سنابكَ الشرق. ثم ماذا؟! استحال في المنتصرين، المحاصَرين في الأمس، كل شيء... اليوم، وبعد سبعة من قرون الخواء، ها أنا ذا أحمل، ولا أبرأ، نفس أعراضهم واستحالاتهم. تذوي الكلمات بين شفتي حتى تغدو صوتًا، مجرد صوت يبدو في الظاهر جميلاً ويحضر في الباطن غياب المعنى. فألعنهم في السر والعلانية كلما جأر في داخلي مستحيل. لكني ما حسبتُ مرة أني قد بلغتُ شطآن كرههم إلا ورأتُني في أعماق حبهم. اليوم أذكرهم والدنيا تنكرني إذ أفعل. تجأر في وجهي أن لا براءة لهابيل الذي قتله قابيل مرة فعاد ليقتله ألف ألف مرة. ليتني أستطيع أن أتعفَّر بتراب أطلالهم، أتبلل حتى التجمد بظلمة مياه ازدردت أجسادهم، أشتهي بكل روحي أن أرمي بوردة على مقابرهم المائية، أتلو ترنيمة على أطلالهم الترابية. عليّ إذ أفعل أصنع في داخلي السلام. هذا أيضًا محال! إنهم مازالوا في الأعماق وكأن موتًا لم يطوهم ولا لفَّهم غياب. ما بالكم تشيحون بوجوهكم البرية عني؟ أيتها الضباع! يا من لا تقتاتين إلا على الجيف! أيها الغراب ورأسك لا ينحني في غير بارد خلفه الموت! أقبلوا! أتراكم تعافونني؟! معكم حق. إنكم تستغلون الموت لحياتكم. أما أنا، أنا مع الأموات. تسربل الموت في حياتي. كلا! لم أكن مختارًا، فاتني نبل المجوسية! ثم من حيث لا أعي أقمتُ لحدي من حدّين ضدين. وفي داخلي أطلال ومقابر. فماذا أنتظر؟ لا أعرف، لا أعرف ماذا أو من أنتظر. معكم حق، حين تنفصم العرى بين الموضوع والذات، تتناثر الحياة قواقع، حدودها مستحيل، لا ينتهي إلا إلى قواقع. حين يرتدي الماضي قفطان الحاضر لن يستر عورة المستقبل غير الأكفان. كتلة من المستحيلات أنا! محال يوازي آخر، يتقاطع مع آخر، يتداخل في ألف آخر وآخر لينسدل نسيجًا كثيفًا ثقيلاً يكفن جسد الحياة. هذا أنا، قوقعة فوقعة فقوقعة تجاورها هو قوام الذات. يقترب الصوت المبهم أكثر فأكثر. تتراءى من البعيد صورة فرس يتطاير من وقع حوافرها شرر. تتفرق الضباع مذعورة. تتلاشى الغربان. تقف أمامي بلا مبالاة، كأنها تسلمني أمانة. أتناول من على سرجها كتلة بيضاء. أبسطها. إنها كفن! حجازيٌ، قفقاسيٌ، لا فرق. هو كفن، رسالة لا يهم من أرسلها إنما من يستلمها. الكفن هدية من أدمن الانتظار. *** *** *** ٭ كاتب من سوريا.
|
|
|