|
جبران خليل جبران
يوسف الحويك - جبران خليل جبران - 1909 - 1910 جبران فنّان وشاعر وكاتب باللغتين العربية والإنكليزية. من مواليد قرية بشرّي، هاجر جبران مع والدته وإخوته إلى الولايات المتحدة وعمره 12 سنة. عاد إلى لبنان لدراسة العربية وزار باريس ونيويورك وقابل وتأثّر بأمين الريحاني. بدأ كتاباته الأدبية في 1904 في صحيفة مرآة الغرب التي يملكها نجيب دياب ثم في صحيفة الفنون. كذلك أسس الرابطة القلمية في 1920 مع إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد ورشيد أيوب وندرة حداد ونسيب عريضة ووليم كاتسفليتس، والتي تفككت بعد وفاته. عاش بين الولايات المتحدة (بوسطن، نيويورك) ولبنان وفرنسا (باريس). من أهم مؤلفاته العربية: دمعة وابتسامة، الأرواح المتمردة، الأجنحة المتكسرة، والعواصف. وبالإنكليزية: النبي، المجنون، رمل وزبد، يسوع ابن الإنسان، وحديقة النبي. أعماله الفنية ثرية ومنشرة في مختلف أنحاء متاحف العالم.
الفكر السياسي والاجتماعي عند جبران خليل جبران: مبدع من "عندنا"
بيد أنّ الغربيين كانوا في الماضي يتناولون ما نطبخه فيمضغونه ويبتلعونه محوّلين الصالح منه إلى كيانهم الغربي، أما الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه ولكنه لا يتحول إلى كيانهم، بل يحولهم إلى شبه غربيين، وهي حالة أخشاها وأتبرم منها لأنها تبين لي الشرق تارةً عجوزًا فقد أضراسه، وطورًا كطفلٍ بدون أضراس (...) أعني أن الشرق أصبح مقلّدًا للمقلّدين وظلاً للأظلال. مستقبل اللغة العربية، 1923
ليس هناك سوى أمر واحد يستطيع الشرقيون أن يتخلوا بواسطته عن سلطة الغرب، هو الرجوع إلى العمل.. إلى المغزل والنول.. إلى استثمار الأرض وإخراج كنوز الأرض.. إلى الاستقلال في صنع الحاجات اليومية. عقيدة جبران، 1922، ص97
خذوها يا مسلمون كلمةً من مسيحي أسكن يسوع في شطرٍ من حشاشته ومحمدًا في الشطر الآخر (...) إن لم يقم فيكم من ينصر الإسلام على عدوه الداخلي، فلا ينقضي هذا الجيل إلا والشرق في قبضة ذوي الوجوه الباهتة والعيون الزرقاء. جبران ميتًا وحيًا، 1913، ص38
*** لا يمضي عام إلا وتصدر، في أكثر من لغة، ترجمة جديدة لكتاب النبي. كتابٌ، وزّع الجيش الأميريكي منه مليون نسخة على جنوده الذاهبين إلى جبهات قتال أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، ما لبث أن تصدّر لائحة المبيعات في الولايات المتحدة بعد الكتاب المقدّس مباشرةً. فارتبط اسم جبران به بحيث أصبح عنوانه الوحيد، حتى في قلب العالم العربي. وتبدّى جبران على صورة حكيم أو فيلسوف مثالي؛ وانبتّت علاقته أو كادت بجذوره الأولى. إن في ذلك لمفارقة كبرى لمن يعرف جبران عن كثب؛ فحكمة النبي لم تأتِ طفرةً عجائبية حين استبدل العربية بالإنكليزية بل استكمالاً لمواقف نشأت مع بدئه الكتابة، وبالعربية بالطبع، حيث تشكل فكره الذي تجلّى لاحقًا في النبي. وجبران لم ينظر يومًا إلى نفسه فيلسوفًا بل فنانًا أو مبدع أشكال، حسب تعبيره في إفضائه الحميمي لماري هاسكل، فكيف يُبتَسر إلى حكيم؟ وجبران الذي طالما طعنت الكنيسة الشرقية في إيمانه وحالت دونه ودون الشبيبة، بل وفكرت بحرمانه من الكنيسة (حسب مذكرات صديقه يوسف الدويهي، ابن شقيق البطريرك الماروني آنذاك)، فكيف ينتصب الآن مرشدًا روحيًا تتلى "آياته" في كنائس العالم ومعابده؟ وجبران، عماد النهضة العربية في المهجر، لِمَ لَمْ نعترف بعبقريته إلا من خلال مؤلِّف إنكليزي اللغة، وبعد أن كرّسه المجتمع الغربي "نجمًا" بزَّ كافة كتّابه في القرن العشرين مبيعًا وقراءةً؟
إن حقيقة جبران غير صورته الشائعة، ولا أقول هذا غمزًا من قامته العالمية، بل تكريسًا لها بنسبتها إلى مراجعها الحقيقية. إنه فنان متجذّر في بيئة جغرافية وإنسانية حملها معه في تجواله المستمر، وناضل في سبيل تحررها السياسي والاجتماعي، وفي ثقافةٍ عشقها إلى حدّ المغالاة وساهم مساهمة حاسمة في تطويرها. تبدّت لي ملامحه بعد مجاهدةٍ طويلة لكشف ما تستّر تحت دفقٍ لغويٍّ عارم يغري بشاعريته بقدر ما يصدّ بغماميته؛ فعرضتها في أطروحة لنيل دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية؛ وكانت الخيط الرفيع الذي هداني إلى مفاصل الأدب العربي الحديث كما تتجلى من نظرة داخلية لا من إسقاط صورة خارجية جاهزة. وعنه تمخّض مشروع تاريخ الأدب العربي الحديث الذي ساهم فيه عدد من الزملاء الأخصائيين المرموقين، وصدر الجزء الأول منه على أن تصدر الأجزاء الستة المتبقية تباعًا. وأكتفي هنا ببسط أهم هذه الملامح، الأدبية أولاً ثم الانتروبولوجية، بالاعتماد حصرًا على كتاباته العربية الصادرة في "المجموعة الكاملة" أو المتفرقة في دراسات كثيرة أهمها عالم جبران الفكري لوهيب كيروز، وعقيدة جبران لجان داية، وجبران حيًا وميتًا لحبيب مسعود.
جبران - الغروب - 1912 إبداع جبران الأدبي يكتفي النقد الأدبي العربي عادةً بالإشارة إلى مؤلفات جبران العربية (الممتدة من الموسيقى 1905، إلى المواكب، 1919) على أنها تعبير عن ثورة رومانسية ضد المؤسسة الإقطاعية والدينية، تُمهّد للفن الروائي الذي يؤرّخ له برواية زينب (1914). وقد يضيف إليه أحيانًا بعض مقاطعه الشعرية التي أشاعها صوت فيروز. والغريب أن الشعراء وحدهم يرون، وفي نثره بالذات، بذرة التجديد الشعري. غير أن هذا النقد، باعتماده مفهوم الواقعية معيارًا للفن الروائي، قد قصّر في إدراك الجانب الإبداعي المتجلّي خاصةً في الأجنحة المتكسّرة، وفشل بسبب ذلك في تقويم تراث النهضة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تقويمًا علميًا سليمًا. وقد أوضحتُ أن نشوء الرواية العربية لا يرتبط بالمدرسة الواقعية بل بتيار التنشئة (أو الرواية التكوينية)، الذي منه انطلقت أيضًا الرواية الغربية الحديثة في القرن التاسع عشر، كما تشير إلى ذلك أعمال تأسيسية مثل مغامرات تيليماك (1699) للفرنسي فينيلون (ترجمها الطهطاوي في منتصف القرن التاسع عشر)، وكلاريسا (1784) للإنكليزي ريشاردسون، وتوم جونز (1749) لفيلدينغ، وسنوات تكوين فيلهايم مايستر (1821-1829) للألماني غوته. وتسعى هذه الروايات إلى رسم مسار شاب ينتقل من سن المراهقة إلى سن النضج والانخراط في العالم، عبر تجارب متنوعة، تبدأ باكتشاف الحب بؤرةً لصياغة موقف من الآخر (المرأة) ومن الحياة ومآلها، تتفتّق بعدها طاقاته الفكرية والفنية والمهنية فيصبح عضوًا فاعلاً في المجتمع. وذلك بالذات ما تبسطه الأجنحة المتكسرة؛ إذ يبدأ الراوي الضائع في "سديم الإحساس والجهل" باكتشاف الحب في وجه سلمى، فيتعرّف إلى ذاته بوصفه حلقةً في سلسلة عائلية (مبدأ أساسي في بناء الشخصية، أقرّه على النفس فيما بعد) وتنبسط أمامه آفاق "الشعور والمعرفة" فيبني لنفسه رؤية للحياة ومعناها ويعطي للجسد بعده الحقيقي، والبعد الجنسي شديد الحضور عند جبران، على نقيض النظرة الروحانية الشائعة عنه، ويكتشف الحب "ناموسًا" يتحكّم في العلاقات الإنسانية والكونية ليبثّ فيها الحرية ويعتقها من أسر الشريعة البشرية. انطلاقًا من هذا المبدأ يدرك الراوي مأزق مجتمعه المرهون لسلطة المال (الإقطاعي) ورجال الدين، مدعومةً بسطوة التقاليد العمياء، ويتطلع إلى مجتمع قائم على "ناموس" الحب، تكون المرأة لولبه ونموذجه الفردي والجماعي. بذا ينعتق الفرد من الاستغلال والتسلّط، وينتزع حريته الشخصية والاقتصادية والسياسية وتؤلّف الجماعة "شعبًا" بالمعنى الحديث. لا تكتمل التنشئة إلا حين يتمثّل الراوي تراثه الثقافي المتجذّر في روح الحضارات الشرقية العريقة، ومن البابليين إلى المصرين القدماء فالفينيقيين، ومن الحضارة السامية المتمثّلة بنشيد الأناشيد والأنبياء ووجه يسوع إلى الحضارة البيزنطية والرومانية، فإلى الوريث الشرعي الراهن، الحضارة العربية التي أطلقت الدعوة المحمدية طاقاتها الكامنة. فإذا بمفهوم للقومية، حضاري ثقافي منفتح على مطلق إنسان، ينتصب لحمةٍ لقوم تعددت منابعهم وأصولهم الإثنية والتقوا في بؤرة حضارية بها يبنون مستقبلهم المشترك ليشهدوا به أمام العالم. وذلك في الواقع مفهومه لكلمة "سوريا" وإن هي إلا امتداد لوعيه الصارخ بمسقط رأسه قرية بشرّي بجماله الطبيعي الساحر المرتبط بجمال "قلب" أهليه؛ مفهومٌ لا حدود جغرافية واضحة تحدّه إلا الثقافة البكر واللغة التي بها تتجلّى العربية.
جبران - صورة ذاتية - 1908 من منظور تيار التنشئة هذا، تنتصب الأجنحة المتكسرة عملاً فنيًا ناجزًا، على ما فيه من وهنات، يضارع، في سياقه العربي، الأعمال التأسيسية المذكورة آنفًا في الأدب الغربي. أما التيار الواقعي فمنحى آخر يشتد عوده لا مع زينب بل مع محمد تيمور وميخائيل نعيمة، إلى أن يبلغ نضجه الكامل مع نجيب محفوظ، تمامًا كما نشأت واقعية بلزاك وزولا وغيرهما من تيار التنشئة السابقة لهم. ومن شأن هذا المنحى أن يلقي ضوءًا جديدًا على كتابات عربية سابقة، كثيرًا ما أهملها النقد لأسباب إيديولوجية ويعاد الآن اكتشافها، من أمثال الساق على الساق في ما هو الفارياق (لأحمد فارس الشدياق، 1855) والمدن الثلاث (لفرح أنطون، 1903) وحديث عيسى بن هشام (للمويلحي، 1907)؛ وهي أعمال لا تتضح جدّتها إلا بمفهوم رواية التنشئة. وكذا القول عن أعمال لاحقة، لا علاقة لها بالواقعية على عكس ما يقال، مثل عودة الروح وعصفور من الشرق (لتوفيق الحكيم، 1934، 1937). هكذا يقوم جبران مَعلَمًا روائيًا بارزًا، ورائدًا في باب النقد والشعر (الرابطة القلمية) وخاصة في باب التجديد اللغوي. وأهميته في هذا المضمار أنه أقفل باب الإحياء المعتمد على المهارة اللغوية ليعود إلى منابع اللغة الحية فتصبح لغة الشعب المتمثِّلة للتراث الشفوي الحي بما فيه التراث الديني (الطقوس المسيحية الشرقية والمحفوظات القرآنية) بوتقةً تنصهر فيها لغة القواميس وقواعدها فتتصفّى ويتسرّب نحوها وصرفها بشكل مبسّط إلى اللغة الشعبية الأم؛ وتنشأ لغةٌ حية تحترم أصول النحو دون أن تستغرق فيه. وبتعبير آخر، يقلب جبران منطق الإحياء الذي ينطلق من اللغة القاموسية ليعتمد لغة الحياة ويرقى بها إلى نصاعة الأسلوب الأصلي، تمامًا كما حاول في عصره المنفلوطي وغيره (وهو الأسلوب الذي فرض نفسه لاحقًا)، أو كما حاول دانتيه ورابليه في أوانهما في اللغتين الإيطالية والفرنسية. الفكر الانتروبولوجي عند جبران
من صميم كتابته الأدبية تظهر صورة لجبران تقوّض صورة المفكّر المعتكف في برجه العاجي الشائعة عنه، تجلّيها بشكل صريح كتاباته الفكرية الأخرى؛ وكلها يشي بالالتزام المطلق. فجبران لم يهجر يومًا الميدان العام، وشارك في تأسيس ونشاط كثير من الجمعيات والمنتديات، خاصةً بعد أن تعرّف، خلال إقامته في باريس (1908-1910)، على نشاط المثقفين "السوريين" (كلمة تشمل وقتها كافة سكان ولايات سورية العثمانية) الداعين إلى الاستقلال. فنشط، عند عودته إلى أميريكا، في جمعيات كثيرة منها "الحلقات الذهبية" و"لجنة إعانة منكوبي سورية وجبل لبنان" (التي حرر دستورها) و"لجنة تحرير سورية"؛ ويقال إنه وضع بدعم من غاريبالدي مشروع ثورة مسلحة ضد العثمانيين. ولم يفصل، في أي حال، مشروعه الأدبي والفني عن نضاله السياسي، بحيث أن أكثر مقالاته، المنشورة منها (دمعة وابتسامة، ثم العواصف والبدائع والطرائف) وغير المنشورة، كتبت دفاعًا عن موقف سياسي استدعاه ظرف محدد لا لصياغة مواقف فكرية مجرّدة. فمقطوعات مثل "حفّار القبور" و"يسوع المصلوب" و"يا بني أمي" و"المخدرات والمباضع" و"مستقبل اللغة العربية" لا تُفهم فعلاً إلا في سياقها السياسي. ومن خلالها وخلال كافة كتاباته يتضح النموذج الوطني الذي يدافع عنه. إطاره العام هو القومية الثقافية العربية التي مرّ ذكرها، دون أن تظهر تمامًا حدودها الجغرافية. غير أنها، على كل حال، تتجاوز "القومية اللبنانية" الحصرية، وهذا ما يتضح من مجابهته نعوم مكرزل القائل بها وتبنيه لآراء أمين الريحاني وشبلي الشميل، ومن حديثه المتكرر عن سورية، مجالاً ثقافيًا رحبًا، قد يتّسع ليشمل العالم العربي بأسره. إن مسألة استقلال سوريا تملأ عقل كل سوري، وسنحصل على هذا الاستقلال في النهاية. (27 أيار/مايو 1913، عقيدة جبران، ص356). إن الثورة العربية شيء رائع حقًا (...) شيء حلمت به وعملت في سبيله طوال السنوات العشر الماضية. (29 حزيران/يونيو 1916، نفسه، ص358). يا أخي السوري أنت أخي لأنك سوري والبلاد التي لفظتك كلمة في مسامع الأبدية قد همستني كلمة أخرى. أنت أخي لأن البلاد التي حبلت بك ولدتني، والفضاء الذي حمل أول صرخة خرجت من أعماقك يحمل أول صرخة تمخضت بها أحشائي. أنت أخي لأنك مرآتي، فكلما نظرت إلى وجهك رأيت ذاتي بكل ما في ذاتي من العزم والضعف، من الائتلاف والتشويش، ومن الهجوع واليقظة... أنت أخي بيسوع وموسى ومحمد. أنت أخي بكوارث خمسين قرنًا. أنت أخي بالقيود التي جرّها آباؤنا وأجدادنا. أنت أخي بالنير الثقيل الذي أثقل عاتقنا. أنت أخي بالألم والدموع. ومن تجمعهم نكبات الدهور وأوجاعها لن تفرّقهم أمجاد الدهور وأفراحها. أنت أخي أمام قبور ماضينا وأمام مذابح مستقبلنا. (25 تشرين الأول/أوكتوبر 1920، نفسه، ص308). صحيح إنه من القائلين بحماية دولة غربية في سبيل إنجاز الاستقلال عن الدولة العثمانية، غير أنه كان يرفق موقفه هذا بالتأكيد على استقلالية الوطن وخصوصيته في وجه المطامع الغربية: إن روح الغرب صديقٌ وعدو لنا. صديق إذا تمكنّا منه، وعدو إذا تمكنّ منّا. صديق إذا فتحنا له قلوبنا، وعدو إذا وهبنا له قلوبنا. صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا، وعدو إذا وضعنا نفوسنا في الحالة التي توافقه. وكان يصرّ على استقلاليته تجاه الثقافة الغربية؛ فينادي، إلى حدّ الغرور أحيانًا، بتفوق الفكر السامي على الفكر الغربي، معتبرًا إياه وريث كافة الحضارات الشرقية التي أنجزت أهم اكتشافات علمية وفلسفية اقتبسها الغرب لاحقًا: إذا ما استعرض المرء الآثار الفنية في سائر العصور فإنه سينتهي إلى أن تلك الصفة التي أسميها الشكل اللامحدود ستغيب عن المشهد بعد زوال المصريين الأوائل، ولن يلتقيها قبل حلول النهضة في إيطاليا. غير أن أولئك العرب الجبابرة، الذين كانت روحهم لامحدودة بشكل غريب، لم يفقدوا رؤيا الإنسان الأولى (التي هي بطبيعة الحال لامحدودة) كما فعل الإغريق والرومان، الذين حاولوا أن يكونوا واقعيين فأخفقوا في أن يكونوا حقيقيين. ويضيف في رسالة أخرى: إنّ لدى كل راعٍ عربي إحساس بالشعر يفوق ما لدى أفضل شاعر فرنسي. بل كان يعتقد أن الإبداع الحقيقي (وهو مرادف عنده لمفهوم الشعر) لم يكتمل إلا في الفكر السامي، ذلك الفكر الذي تلقّته الروح العربية ولاتزال تحتفظ به حتى في أوقات غيبوبتها: نحن أمّةٌ تحتضر ولا تموت مقومات الوطن أما المبادئ التي يجب أن تقوم عليها هذه الأمة فمتفرقة في مقاطع كثيرة قد تجملها قصته الشهيرة "خليل الكافر". ففي ديرٍ عريق من أديرة وادي قاديشا في شمال لبنان، راهب شاب يكتشف مدى التناقض بين ما يعلنه الرهبان من تعليم المسيح وما يعيشونه، فيثور في وجههم، فيتهمونه بالكفر ويطردونه من الدير في ليلة شتائية عاصفة. تنقذه أرملة فقيرة، قتل أعوان الإقطاعي زوجها، راحيل ومعها ابنتها مريم. يبوح لها بسرّه وتتواصر العلاقة بينهم. بعد شفائه يزمع على السفر، ثم يعدل عنه بسبب إصرار المرأتين عليه بالبقاء، ويبدأ بنشر آرائه بين الناس. يتنبه الشيخ عباس، إقطاعي المنطقة، والكاهن، أبونا إلياس، للخطر الذي يهدد سلطتهما؛ فيرسلان من يوقفه دون أن يبدي أي مقاومة، وتبدأ محاكمته في ما يشبه محاكمة المسيح في الإنجيل. فيقف الراهب الشاب ويلقي أمام الحشد خطابًا مستوحى من مبادئ الثورة الفرنسية، يدافع فيه عن مواقفه ويدعو إلى الثورة. يهبّ الشعب هبّة رجل واحد ويجرّد الزعيمين من سلطتهما ويهمّ بقتلهما. ولا يحول دون ذلك إلا تدخل خليل الذي يعفو عنهما ويتركهما في بيتهما معزولين. ويتداعى القصر وتُهجر الكنيسة، وتُنظَّم حياة القرية على أساس التضامن في العمل والحياة الكريمة، بدون أي سلطة إلا اللهم سلطة خليل القوية. يتحرر القوم ويزدهر اقتصادهم وتصفو حياتهم فتصبح القرية محجّ القريب والبعيد اكتشافًا لسرّ نجاحها وسعادتها.
جبران - سوريا المنكوبة - غلاف مجلة الفنون، تشرين الأول 1916 توجز هذه القصة كافة مقومات الوطن لدى جبران. أولها التحرر من هيمنة السلطة الإقطاعية والدينية التي تتحكّم بعقول الناس الناشئين على احترام التقاليد. فلا سلطة تُنزل من علٍ بل تنبثق من الشعب فيمارسها دون وسيط، لذا يرفض خليل رفضًا باتًا أن تناط به السلطة المستجدّة: إنها الديمقراطية بالمعنى الحديث. ويبدو لي أن كلمة شعب بهذا المعنى السياسي الصريح تظهر هنا لأول مرة، ومقتبسة من مبادئ الثورة الفرنسية. وثانيها أن الكنيسة حين تصبح خواءً - دون أن تُهدم- والقصر حين يتهدم من تلقاء نفسه يشيران، من جهة، إلى فكّ الارتباط القائم في كافة المجتمعات التقليدية بين الدين والشأن السياسي، ومن جهة أخرى إلى زوال التنافر المذهبي كعامل تفرقة بين الناس: تأكيدٌ على مبدأ العلمانية واستبدال الانتماء المذهبي وما يرتبط به من اتنماءات عائلية وعشائرية (أتباع الشيخ وخصومهم) بالانتماء الوطني؛ ذلك شرط أساسي لقيام المواطنة الصحيحة. وثالثها أن الاستغلال الاقتصادي يزول فيشترك الناس في العمل بالتضامن ويأخذ كل فرد ما يكفي لسدّ حاجاته: عدالة اجتماعية تتخذ هنا وجه "شيوعية" سمحاء لا تخلو من الطوباوية. ورابعها العمل، بحدّ ذاته وبغضّ النظر عن ضرورته الإجرائية، بوصفه قيمة أخلاقية أساسية؛ إذ إن الجميع يتشاركون الأعمال الزراعية والحرفية بحبور وهناء، وفي مقدمتهم خليل. ولذلك يؤكّد النص على رموز العمل، القمح والزيت والنبيذ، وهي نفس العناصر التي تتخذها الكنيسة تعبيرًا عن أسرارها القدسية: أجل، بالعمل أو الإبداع (وهذا ما يجمله جبران عادةً في مفهوم الشعر) يستكمل الإنسان إنسانيته. ويتحدّر عن ذلك مبدأ خامس أساسي. لا يقوم وطن إلا بتوفر مقومات حياته المادية باستقلالية تامة عن الموارد الخارجية، أي بإنتاج محلي يؤمّن الاكتفاء الذاتي (ما نسميه اليوم "الأمن الغذائي"): «ويلٌ لأمةٍ تأكل مما لا تزرع»، يصرخ جبران. وسادسها الانفتاح على العالم الرحب دون أي عدائية أو مطامع؛ فلا حدود تعزل ولا جيش يدافع أو يهاجم، والبلاد مشرعة يتوافد الناس عليها من كل حدب، تمامًا كما أن لا شرطة تقمع ولا سلطة معنوية تحتكر تأويل المفاهيم الإنسانية السامية. وآخرها وليس آخرًا، البعد الثقافي: الاحتفاظ بثروة التراث واللغة المرتبطة به؛ تراث عريق اختزن "الروح" السامية بأجلى معانيها (متمثلة بتعليم الناصري، لا بوصفه مؤسس دين بل شاعرًا، أو "سيد الشعراء")، يستعيد صفوة ذاكرة الشعب الحية فيما يستبعد الشوائب العالقة به (كلمات شيخ، كاهن، إقطاعي...) وتعبر عنه بلغتها الحية (المواويل والموشحات العربية) بعد أن تغنيه بكل إنساني مفيد أيًا كان مصدره (كلمات: شعب، حرية...)؛ فكل جميل إنساني، وكل إنساني ينتسب إلى "الروح السامية". بذا تكتمل شروط العقد الاجتماعي فتتم سعادة الفرد؛ فإذا بخليل يتخلى عن عزوبيته ويجد "غبطة قلبه"، كما تقول المزامير، في لقائه الحميم مع مريم.
تتكرر هذه المقومات في كافة كتابات جبران بصياغات مختلفة. وحسب القارئ أن يعود إلى بعض المقالات من أمثال: "لكم لبنانكم ولي لبناني"، "حفار القبور"، "المخدرات والمباضع"، "إلى المسلمين من شاعر مسيحي"، "يا أخي السوري"، "الاستقلال والطرابيش"، "لكم لغتكم ولي لغتي"، "مستقبل اللغة العربية"، "النهضة الأدبية"، "الشاعر"، "بدء الثورة"... وغيرها كثر. وردت كافة هذه المقومات في دستور "الحلقات الذهبية" (1911)، الذي ينسب عادة لقلم جبران، وهذا نصه:
أسس المدينة الفاضلة أنطولوجيًا غير أن مقومات الأمة أو الوطن الإجرائية لا تستقيم، بالنسبة لجبران، إلا إذا تأسست على مبادئ أنطولوجية (ولا أقول دينية) لتصور الفرد والمرأة والمآل. إذ لا تقوم أمة إلا على أفراد استكملوا شروط إنسانيتهم. ولا يحيل الفرد هنا إلى التقوقع على الذات بتسخير الآخرين لمصلحتها الأنانية، بل إلى وعي الذات وبناء الشخصية من الداخل بدون الرضوخ إلى تقاليد تُفرض من الخارج، بحيث يفتق كل احد مواهبه وملكاته ويدرك موقعه في المجتمع والكون، ويضطلع بمسؤوليته تجاه نفسه والآخرين؛ أي، بإيجاز، الفرد الذي استكمل تنشئته أو تكوينه شأن بطل الأجنحة المتكسرة. يعبّر جبران عن ماهية هذا الفرد بكلمات مجازية مفصلية في قاموسه الرمزي، أهمها: المجنون، الكافر، الشاعر. الكافر، يمثله خليل كما تبدّى من خلال القصة الآنفة. أما المجنون فيصوره بطل قصة يوحنا المجنون الذي يحاول القيام بثورة شديدة الشبه بثورة خليل، إلا أنه يفشل ويُرمى بالجنون. فإذا كان الجنون خروجًا على العقلانية التي تسيّر أمور المجتمع بما فيها من مؤسسات؛ فالكفر هو الخروج المطلق على العقلانية الدينية. هذا ما تراه المؤسسة التي رمت بالكفر (و"الخروج" ومنا اشّاقت كلمة "خوارج" ليس بعيدًا عنه) كثيرًا من الحركات الاجتماعية التي تصدّت للكنيسة أيام كانت تفرض هيمنتها الدينية والسياسية، أو التي قامت في الدولة الإسلامية قديمًا حين كانت تحتكر السلطتين الدينية والسياسية معًا. أما جبران فيستعمل الكفر بمحاكاة ساخرة، يقلب معناه ليرميه في وجه السلطة؛ إذ يرى يوحنا نفسه كافرًا حين ينعى على رئيس الدير تمسكه بظاهر كلام الإنجيل لتبرير تصرف يناقض روحه؛ وحين تصبح الأرثوذكسية أو السنّة تعلقًا بالحرف يؤوله النافذون وفق مصالح آنية فيناقضون الروح، هكذا يضحي الكفر راية من يسعى إلى تغليب الروح على الحرف، وعنوان الوفاء المطلق للدين. وخليل حين يرى في رئيس الدير وجه الفريسي الذي يرفض تعاليم يسوع دفاعًا حرفيًا عن الكتاب المقدّس، يصبح كافرًا وفيًا لتعاليم يسوع الكافر الأول. وكذا الجنون، يقوم بالرجوع إلى العقلانية الحقة، تمامًا كما فعل يوحنا. فالكافر والمجنون إنما هما الفرد الذي يرفض الرضوخ لمؤسسات اجتماعية رست على الحرفية والكذب ليعيد بناء الإنسان والمجتمع على أسس أخرى. إنه الإنسان الذي استكمل تنشئته. وعندما يبلغ عتبة الإبداع يصبح شاعرًا. هنا يلتقي المفهوم الجبراني بمفهوم الرومانسية الألمانية المتجلية عند جماعة يينّا (نوفاليس وشليغل) التي ترى في الشعر محرك الحضارة بل الأنسنة؛ تدفق في البدء فكانت الخليلقة وشهدت عصرها الذهبي (ما يقابل فترة ما قبل السقوط أو الخطيئة الأصلية حسب المفهوم المسيحي)، وتجمّد فترة فسيطر العنف ومعه الهمجية (الانحطاط). وها هو الآن يعود مع النهضة الحديثة فيستعيد الإنسان عصره الذهبي. ولذا يرى جبران في كل المبدعين نفحة من الشعر، فيسوع "سيد الشعراء"، أسكنه جبران "شطرًا من حشاشته"، فيما أسكن "النبي العربي محمدًا شطره الآخر". أما الإمام علي فهو "أول عربي لازم الروح الكليّة وجاورها وسامرها" وأما آمنة العلوية في مسرحية إرم ذات العماد فتتجلى الروح في داخلها وتتفجر فيها ينابيع المعرفة والمحبة. وبهذا المعنى أيضًا يأتي مفهوم "النبوة" عند جبران.
جبران - الشريف حسين - مجلة الفنون - تموز 1918 وكيف للفرد أن يستوي إلا إذا بلغت المرأة ملء قامتها وتبوأت المرتبة التي هي أهل لها: "ظل الله على الأرض"، حسب تعبير المتصوفين. ووظائف المرأة ثلاثة عند جبران. إنها أولاً "الشفيعة" ما بين الإنسان الرجل وذاته. تلك صورة سلمى كرامة في الأجنحة المتكسرة، يكتشفها الراوي فيكتشف ذاته العميقة ومعنى وجوده على هذه الأرض، ثم يكتشف المجتمع والرسالة التي يجب أن يؤديها فيه، ويكتشف الثقافة بمعناها الواسع بما فيه التراث الإنساني والقومية بوصفها رابطة العيش المشترك، ومن ثمة علاقته بالمطلق. فلا أمل للرجل أن ينشأ (مفهوم التنشئة) إلا عبر المرأة. والمرأة، ثانيًا، هي الوسيط (بالمفهوم الكيميائي. تلك صورة راحيل ومريم في خليل الكافر: تنقذه من الموت في تلك الليلة الهوجاء، تمنعه من الهرب إلى السهل المبتذل (كان خليل ينوي الهبوط إلى الساحل) فيكتشف رسالته الحقيقية، ويبني مجتمعًا جديدًا، ثم تمنحه السعادة حين ينعم بحبها. ولا عجب إذ ذاك أن تلقب براحيل، أم أبناء العهد القديم (زوجة يعقوب)، أو مريم، أم المسيح، صائغ العهد الجديد. والمرأة، ثالثًا، محرك الإبداع. تلك صورة ليلى في قصة مضجع العروس حين تدرك زيف التقاليد المتمثلة بالزواج النفعي، وتفضح الثري ورجل الدين وتقشع الغمامة عن عين حبيبها فيتخلى عن فحولة وهمية صاغتها التقاليد البالية وينصاع لمبدأ الحب الأسمى. ثم تدكّ أسس المجتمع الزائفة بما فيها اللغة البالية لتستبدلها بلغة الحق والشعر، فينهار العالم القديم. تلك هي المرأة كما يراها جبران، حين كان أقصى مرام مصلحي النهضة يقتصر على الدعوة إلى تعليمها، وأجرأ مطالب الحركة النسائية على المناداة بسفورها. تقوم عبقريته على أنه لا يرى فيها مادة يصوغها ويهذبها، بل ينوط بها دور الفاعل، بل الفاعل الأساسي، في صياغة مصيرها ومصير الإنسان. كيف لا يرى بعضهم في نظرته تلك إلا موقفًا رومانسيًا مثاليًا؟ وأخيرًا لا يستقيم الإنسان، امرأةً كان أم رجلاً، إلا بإدراك مبتدأه ومآله. مصدره ومصدر كل موجود الحب/المحبة. به كان الكائن وبه يدوم، وبه يدرك جوهره. وكثيرًا ما يتجلى الحب عند جبران في صورة الأم والأمومة. فالشمس أم الطبيعة لا تحيا بدونها؛ وعلاقة البشر فيما بينهم هي الأمومة المتبادلة. المرأة أم الرجل ("فسلمى هي حواء هذا القلب"، يقول الراوي). والله، مصدر الوجود، هو في نهاية المطاف الأم على الإطلاق، بعكس ما ترى المسيحية حين تعتبره أبًا. وبالحب يدرك الإنسان جوهره، عن طريق القلب الذي يتضمن العقل ويتجاوزه، حسب المفهوم السامي العريق. فلا معرفة إلا بالقلب، أداة المحبة والمعرفة. وبالتقيد بشريعة الحب يتحرر الإنسان ويتأنسن. منعًا للالتباس، يعتمد جبران كلمة "ناموس" التي تقف نقيضًا لكلمة "شريعة"، الأولى طريق الحرية والكمال، والثانية أداة الاستعباد والتشيؤ. لا تحيل هذه الكلمة أساسًا، في مفهوم جبران، إلى الشريعة الإسلامية، بل تشمل كل دستور لا يقوم على الحب: الشريعة الدينية المرتبطة بالحرف مهما كان أصل هذا الدين، شريعة المال، شريعة التقاليد وشريعة الغاب. أما مآله فإلى "الروح الكلية"، حيث يتجلى ناموس الحب بملء رونقه، وفيها يحيا ملء كيانه، بعد أن يعبر نهر الموت فيتحرر من قيوده. فإذا بالموت عبور نحو مطلق الحياة لمن اكتملت تنشئته في هذا العالم فأدرك الناموس الأسمى. صحيح أن هذه النظرة الماورائية تبقى غائمة تتأرجح ما بين الإيمان بالبعث والتناسخ، غير أنها تستبعد كليًا الهرب من الحياة، إذ إن لقاء الروح الكلية لا يتسنى إلا لمن أخذ على محمل الجد شرطه الإنساني فسعى إلى الكمال. إنما الحياة كنز نفيس يقتضي الالتزام بالخير المطلق، الخاص والعام. تلك برأيي الملامح الرئيسية لوجه جبران كما يتجلى في كتاباته العربية، التي أثرت الأدب والفكر العربي بعناصر تسرّبت إلى أنفس القراء والمبدعين وتفاعلت معها على شكل خفي (مما يفسر استمرار انتشار كتبه على كافة أرصفة المدن العربية)، وإن لم يستطع النقد أن يصوغها بالشكل الملائم. وعندي أنها تشكل العصب الرئيسي في كتابه النبي (مفردة تتقاطع مع مفردات جبرانية أساسية مثل الكافر والمجنون والشاعر)، بالرغم من منحاه الرمزي وإغراقه في ما يشبه التصوف الإشراقي أو الشرقي، ذلك الكتاب الذي قدّرت له لغته وظروفها الاجتماعية والسياسية أن يكتسح العالم من عقود طويلة وإلى ما شاء الله. إن جبران مبدع من "عندنا"، ابن ثقافتنا حين تستوفي أبعادها الإنسانية، وهو قطعًا ليس بالوحيد. اللوموند ديبلوماتيك *** *** ***
|
|
|