|
باتجاه
تمرُّد الروح يروي
لنا
الفيلسوف الوجودي الدنمركي زورِن كيركِغور
الحكاية التالية: حدث
ذلك في مسرح حيث شبَّت النارُ في أجنحته، فخرج
المهرِّج ليحذِّر النظَّارة من الكارثة
المحدقة بهم، وضجَّ الجمهورُ بالضحك
والتصفيق استحسانًا لنكتته. وكلَّما زاد
المهرِّج في تعنيفهم وتحذيرهم، زاد الضجيجُ
والضحك. أعتقد أن نهاية العالم ستكون كذلك: في
غمار الضحك والمرح يظن الناس أنَّهم يشاركون
في الفكاهة! من
قديم، منذ أن وُجِدَ الإنسانُ على الأرض،
حاول أن يسنَّ قوانين ونواميس وأعرافًا
وشرائع، وذلك كي تضمن سيرَه في تآلُف مع الكون
والعالم. لكن هذه القوانين والنواميس أضحت،
منذ تدوينها، خاضعةً لاشتراطات الزمان
والمكان، وذلك بحُكْم انتماءيها الأرضي
والسماوي. فما هو محرَّم في زمن ومكان ما قد
يكون مباحًا في آخر، سواء في الماضي أو
المستقبل. مهمة خيوط التواصل هذه مع العالم،
التي تؤلِّف وجود الإنسان للآخرين وللعالم،
هي أن تحافظ على معنى التوازن والاطمئنان إلى
أن العالم من حولي يسير في شكل صحيح، مرتَّب
ومنظَّم، في اتفاق غير معلَن على أن يبقى كل
شيء على حاله، كما هو دائمًا. هذه المسلَّمات
واليقينيات والبديهيات التي أذكت البقاء لدى
الإنسان قد شكَّلت منذ البدء عنوان آدميَّته
ورمز توافُقه مع العالم. لكن،
وعلى الضدِّ من هذا كلِّه، هنالك "اتفاق"
آخر بين أرواح سارت في اتجاه معاكس للعالم،
على الضدِّ من رغبات الآخرين ونوازعهم. إنهم
من فصيلة "الآدمية" نفسها، لكن لونهم
يتميز عن بقية القطيع السائر. إنهم ثورة دائمة
في الداخل من ثورات آنية، تفكيك جبري لبنى
ومرتكزات قديمة قِدَمَ هذا الإنسان،
وبالتالي خلقٌ لبنى جديدة ولنظرة متجددة إلى
وجود الإنسان – وأعني بهم الثلاثي الناري،
الرافض لكلِّ ما هو انسيابي ومغلَّف بأُطُر
القيم الكرتونية، هذا الثلاثي المتعامل مع
المخفي والمستور من أعماق النفس البشرية
والمتلبِّس بمحظورات العالم – وأعني بهم:
المهرِّج والمجنون والعبقري. *
* * فالمهرِّج،
الذي لا تكاد شخصية أسطورية تتمتع بمثل ما
تتمتع به شخصيتُه من الحضور في الأساطير، في
الميثولوجيات كافة، كائنٌ يحمل نقيضه في
داخله، في يده اليمنى شرُّه وفي اليسرى خيرُه!
فهو لا يقوم بدور ما محدَّد سلفًا بأُطُر
وقوانين، بل يستسلم لنزوات لا يستطيع لها
دفعًا، ويتظاهر بعدم تمييزه الشرَّ من الخير،
وهو الوجه الآخر لشيطان غوته مفستوفيليس الذي
يقول: "أنا الروح المُنكِرة على الدوام. إن
كلَّ ما يوجد يستحق الفناء." إن
ما يقوم به المهرِّج ينفث قوةً جديدةً في
الحياة، على الرغم من أن الشخص "المتمدين"
قد يسمِّيه ولا يتذكره إلا في صورة مجازية
عندما ينتابه ضيقٌ أو يُستثار عند إتيانه هو
نفسه عملاً خاطئًا. ومع أن المهرِّج مثير
للضحك ومصدر للتحرر والانتقاد، فإنه لا يشترك
بالضرورة في هذا المضحك؛ بل إن موقفه في
الغالب هو موقف حزن واكتئاب، ذلك لأنه واعٍ
لمسؤولية الدور الذي يقوم به والذي هو مصدر
للصراع الاجتماعي. إنه دائم الحزن، في حين أنه
يُضحِك الناس! فالمجتمع فوضى، لا يضفي عليه
الانسجامَ إلا الهزل. فإذا لم نضحك من العواطف
والانفعالات ونسخر منها فإنها تتكاثف في كتل
سميكة تغطِّي كلَّ شيء بالظلام. فدوران
الحاوي المشعبذ في العالم وبحثه الدائم عن
الأمان محاولاً إضحاك الناس هو، في وجهه
الآخر، سخرية منهم: فما يُضحِكُهم فيه هو فيهم
ما يجعله يسخر منهم، وذلك لأن حصيلة الحياة
واحدة للجميع. لذلك يقول أحد الفلاسفة: "إن
التغلب على ما هو مأساوي في الحياة يتم
بوسيلتين فقط هما الدين والسخرية." *
* * ولو
نظرنا
إلى الجنون، سنجد أن "الخبل" أو "فساد
العقل" هو التعبير الشائع لكائن يختلف في
مواقفه وردود أفعاله عن الآخرين. إن هذا
التعبير هو كشف عن نظرة عامة إلى الجنون.
فالشخص "المجنون" هو كائن تغرَّب عن
الآخرين، رافضًا بذلك التماهي معهم،
مكرِّسًا نفسه، عن وعي وعن غير وعي، لشيء
مختلف، غريب، مناقِض لوجود الآخرين "السوي"
ومعارِض له. إن فعل الاغتراب في العلاقات
الإنسانية هو اقتطاع المرء جزءًا من نفسه
وبيعه للآخرين. فـ"المجنون"
و"المجذوب" و"فاقد العقل" و"المخبول"
و"الأبله" كلها تعبيرات مترادفة
تقريبًا، لكنها مختلفة مع ذلك. لذلك سنحاول
إلقاء ضوء على الجنون. فهو، من وجهة نظر الطب
العقلي، اختلال وراثي في الكروموسومات
يسبِّب شذوذها، أو هو نتيجة عوامل مَرَضية قد
تترك أثرًا مدمِّرًا نتيجة صدمات. إلا أن هناك
بعض الأشخاص يصابون بالجنون دونما أيِّ سبب
مما ذكرت آنفًا. وهذا يقودنا إلى بعض الأسئلة:
ما هذا الذي يسبِّب تشظِّي الشخصية
ويفكِّكها؟ ما دواعي ذلك الرفض العارم الذي
يبدأ بالهياج ويتحول تدريجيًّا، من بعدُ، إلى
السلبية والتنازل عن الذات ونفي الحياة
والانزواء في حياة أخرى، رمادية، كامدة،
خاملة؟ لقد سبق لپاسكال أن قال: "إن الناس
مجانين بالضرورة. فأن لا تكون مجنونًا هو أن
تكون مجنونًا، لكن بطريقة أخرى." إن
ثلاثي الارتكاز لدى المجنون – التثبيت
الجنوني، الغضب الشديد، الحزن والاكتئاب أو
السوداوية (الملانخوليا) – تشترك في أصل واحد
هو هذا القرار الفجائي، عن وعي أو عن غير وعي،
برفض كلِّ ما يندرج تحت اسم القانون والقاعدة
والأصول المرعيَّة؛ أو هو تحديدًا الثورة
عليها. هذا الموقف–اللاموقف تجاه العالم،
الذي تنضوي تحته أعراف وقوانين التآلف
والتوافق معه كلها، هو ما يحقِّق ماهية
المجنون. *
* * وهنا
يتحول
بنا المقام إلى الثالث: الناتج الجدلي
للتهريج والجنون، تمرد الروح وغربة النفس
البشرية، جريان نهر الحضارات الدائب، النازع
دومًا إلى الابتكار والخلق. وهو شيء معروف عنه
منذ الإغريق، إلا أنه ينحرف عن مسار الجنون
الذي هو تقييد للروح، ألا وهو العبقرية. فجنون
الإنسان السوي يولِّد لديه شعورًا غير حقيقي
بالقوة والأهمية، وإحساس ما يجرفه نحو
اتِّباع تلك الحيلة القديمة المعروفة باسم
"الغشومية" أو الاستغفال: جواز المرور
الذي يستعمله مجانين العالم كلهم تبريرًا
لأفعالهم ومواقفهم تجاه الآخرين. أما
العبقرية فهي الأصالة والابتكار، بما هي رؤية
ما لا يمكن رؤيته، بمعنى "العين الثالثة"
التي يُستدَل بها على العبقري دون هذا الذي
تكون البدايات الأولى في نفسه، كإحساس "العشق"
eros و"الموت" thanatos،
غريزتَي الديمومة والفناء. ولأنه عبقري، فهو
مَن يستطيع أن يمدَّ جسرًا بين الغريزة
والعقل، بين المشاعر ومنطق الرأي، بين الخيال
والواقع. من
ناحية أخرى، نجد أن المجنون العادي ينتقل من
سجن ذاتي لآخر، مستبدلاً بذلك بتعاسته تعاسةً
أخرى. ولأنه قد استبعد نفسه من ضرورات الوجود
الإنساني الجماعي (قيود اجتماعية، تصرفات،
مسؤوليات) وأقفل دونها بصرَه وبصيرتَه، نجده
يتصرف بوحي من ذاته وحدها، عن وعي أو عن غير
وعي بذلك. هذا الهروب من الوجود الشائع/الظاهري،
وبالتالي السجن داخل مصهر النفس المتعبة التي
"تسحن" نفسها باستمرار، هذا الهروب
اللامنطقي، أدركتْه الحضاراتُ القديمة كلها،
ولذلك اعتبرتْه "مقدسًا" بمعنى مزدوج،
وجهَي عملة واحدة: فهو، أولاً، يقع في الخارج
من لعبة الحياة لأنه قد ضلَّ دربه، ولذلك نراه
يتحسَّس هذا الدرب بعصا وهمية، هي العادات
والتقاليد، حصيلة تاريخ المعيشة والتآلف
المديني؛ وثانيًا، نراه يحترم نفسه، ولذلك
فهو يخشى جانبه لأنه "ممسوس"، ضحية
للشيطان. *
* * هنا
ينبجس
من أرض الحقيقة العيانية سؤال متى ولماذا
يولد الرفض؟ لماذا هذا الانسحاب الفجائي من
اللعبة والتوقف عن المشاركة؟ مما لا شكَّ فيه
أن هذا الانسحاب والتوقف عن المشاركة هو ملجأ
وملاذ من هذه اللعبة الخطرة التي تتغير
قواعدُها في استمرار، بل تتعقَّد وتتأخر حتى
نهاية مباراة الحياة، لعبة ملأى بالكذابين
والمزيفين والمحتالين والأغبياء والقتلة
واللصوص، لأنها لعبة الحياة للآخرين التي "يستبدل"
بها العبقري لعبةً أعمق وأكثر طفولية
وإشراقًا، هي لعبة الحياة من أجل الحياة
نفسها، تعظيمًا لها وتبجيلاً، لعبة تولد
وتستمر خارج نواميس الفناء والعدم، حاملة
مشعل الخلود والصيرورة في طريق السكون
والتوقف، ظلمة التراجع والفناء. ولا
شكَّ أن التاريخ يحضرنا بأسماء لامعات لسادة
الانسحاب و"المس الشيطاني" – أولئك
العباقرة الذين لامست أصابعهم نُسَغَ الحياة
صعودًا ونزولاً وخلقت أكوانًا صغيرة حجمًا
وعظيمة فعلاً، تدور وتدور، محيلةً صخور وسدود
وأستار وحُجُب الكلام اليومي كلَّها إلى "تبر"
إلهي يحمل عنوان ألق الحياة وعمقها ومعناها
الأصيل. إنهم ڤان غوخ، رامبو، هُلدرلِن،
پيكاسو، لوتريامون، النفَّري، المتنبي،
داڤنتشي، بودلير، دوستويڤسكي، ابن
خلدون، وغيرهم كثير كثير. *
* * المجنون
والمهرِّج
هما الوحيدان اللذان يمتلكان أحقِّية التمتع
بالحريات، إنْ جاز لنا أن نسمِّيها "متعة"!
إنهما كتلة من المتناقضات تتحرك على قدمين
متعَبتين! فهذه الحرية لها وجه استغفالي
يفرضه الآخرُ عليها. وحتى لو لم تكن كذلك فهي
تضطلع بمهمة إزالة قشرة "القداسة" عن
أشياء العالم ومرتكناته. وهذه المهمة ذات
وجهين: مضيء ومظلم. فهي مضيئة حين تكشف الزيف
والكذب والنفاق التي يخضع لها العالم،
بمؤسَّساته المنحرفة ومعتقداته التافهة.
فأمام النظَّارة يمزِّق المهرِّج أو المجنون
القناع ويطلق تعليقاته الحادة، الحكيمة،
الصادقة. لكن العالم لا يحب هؤلاء، بل
يحيِّدهم دائمًا عن طريق القطيع. وهنا يبرز
الوجهُ المظلم: ففي هذه التعرية لمؤسَّسات
العالم وأدواته فضحٌ لسترها، وخاصة عندما
تبدأ بالذبول والترهل. لذلك وُجدت السجون
والمشانق ومصحات الأمراض العقلية! وحين
نأتي إلى الأدب والفن، بوصفهما يقومان على
استعارات مجازية من الواقع، نجد أن وظيفة
المغفَّل على المسرح لا تقتصر على تلك
الشخصية التي ترتدي ملابس المهرِّج. وينطبق
ذلك على شكسپير الذي يُفرِدُ دورًا بارزًا في
مسرحياته لشخصيات ذات حضور قويٍّ تلجأ عند
نقطة معينة إلى ملاذ الجنون، حيث تجد فيه
حمايةً لها من فظاعات الحياة أو وسيلةً لتقوم
بما تريد دونما خوف من قيود: الملك لير،
هاملت، كوريولانس، تيمون الأثيني، فولستاف
السكِّير، إلخ. أما
المغفَّل فنجده يحتل مكانًا واسعًا في الأدب
والفن: أقنعة غويا، شخصيات ڤكتور هوغو
وألفريد دو موسِّيه؛ وكذلك في الموسيقى شومان
وڤيردي – ناهيكم عن زرادشت نيتشه، ذلك "المهرِّج"
الذي هبط من الجبال يدعو إلى "الحياة في خطر"
ويأمل أن ينتشل الجماهير من ابتذالها
وانسياقها وراء الأفكار المبتذلة. وكذلك نرى
المهرج في رسوم پيكاسو وشاغال وميرو – هذه
الشخصية المتنوعة الانفعالات التي هي واحدة
دائمًا والتي نجدها في أعمال أپولينير وماكس
جاكوب وقصص كافكا وتوماس مان، وفي التلاعب
بالألفاظ عند جيمس جويس الذي قال: "لست إلا
مهرجًا إيرلنديًّا أو جوكرًا كبيرًا في هذا
العالم." لكن
علينا ألا ننسى أولئك المهرجين أصحاب الضحكات
البيضاء المجروحة، الذين دوَّنوا أحزانهم
التي تسخر من العالم الذي ما فتئ يعلِّق
خيباته وغضبه من أخطاء البشرية الواقعة أبدًا
تحت طائلة الجشع والاستحواذ والأنانية،
نوازع الإنسان الدونية التي تحملت البشرية من
جرائها ما تحملت من كوارث وحروب وإبادات
وتشريد وتشويه قسري لروح الخير والطيبة التي
تفرَّدت بها إنسانيةُ الإنسان. فالخير لا
يخطئ، أما الشر فهو خطَّاء أبدي. فموليير وجحا
(الملا نصر الدين)، أرستوفانس وبوكاتشيو،
شارلي شاپلن وداريو فو، تخطَّت قهقهاتُهم
حواجز وحُجُب زمانية ومكانية؛ قهقهات ذات
موجات طولية، اخترقت كلَّ كوامد صرامة وجه
العالم ورصانته الزائفة. *
* * وبعد،
فإن مأساة الإنسان تمكن في أنه لم يفقه بعد
الـ"لماذا"–الـ"كيف"–الـ"متى"؟
لذلك كان هذا الإنسان، عِبْرَ تاريخه الطويل،
يعيش وجودًا حياتيًّا ناقصًا يبقى ملاحقًا
له، حتى يصل إلى حدِّه. عند ذاك يكتمل كفكرة
أبدية مجردة في ذاكرة التاريخ. إن
البشرية مافتئت تحاول في حزم حَصْرَ هذا
الفراغ المسكين ما بين الولادة والفناء/الانبعاث
والعدم. وهذا الفراغ الذي هو حاضر الإنسانية،
دينامية وجوده، قد تعرَّض للتدوين والتشويه،
ومن ثم التزويق، لكنه بقي حاضرًا يزحزحه
حاضرٌ آخر كلَّ لحظة: طبقات وطبقات زمنية تشكل
عمرًا جبارًا للإنسان. لذلك كثرت محاولات
التدوين بشتى السبل (شعر، ملحمة، إلخ) كي لا
ينكر الإنسانُ حاضرَه. ولذلك أيضًا ظهر هؤلاء
الثلاثة الذين كانوا البادئين بنكرانه
والانسحاب الكامل منه. لذلك
قيل إن المجنون هو أسعد إنسان في هذا العالم،
وإن العبقري طفل استعيد قصدًا، وإن المهرِّج
ضمير لا يوارِب. ***
*** *** |
|
|