|
انظُرْ
إلى سيف الطَّاغية كيف يُشحَذُ وإلى الأعناق
كيف تُهيَّأُ للضَّرْب تحيَّة
إلى سهيل إدريس، شاهدًا في السنة 1969،
ذهبتُ إلى بغداد عضوًا في وفْدٍ لاتِّحاد
الكتَّاب اللبنانيين يَرْئِسُه سهيل إدريس
لحضور مؤتمر لاتِّحاد الكتَّاب العرب. كان
نزار قباني بين أعضاء الوفد. بقيتُ فيها بضعة
أيام، دون أن أشاركَ في نشاط الوفد أو في
أعمال المؤتمر، لأسباب أودُّ أن أحتفظ بها
لنفسي. وتلك هي
زيارتي الوحيدة. هذه الخواطر
التي أنشرُها اليوم كُتِبَتْ في أثناء هذه
الزيارة، وهي تُنشَر، مع بعض التعديلات،
للمرَّة الأولى. ودفعًا
لتأويلاتٍ يتعشَّقها بعضُهم، ويترصَّدون
كلَّ ما يتيحُها لهم، أشيرُ إلى أنَّ هذه
الخواطر ليست "حكمًا" على الشعب العراقي
بوصفه كُلاًّ، وإنَّما هي انطباعات عن السلطة
وأهلها وعن "المُناخ" الثَّقافيِّ
والسياسيِّ الذي كان يؤسِّس له الدَّائرون في
فلكها وأفلاكهم، في تلك المرحلة، تحديدًا. أدونيس *
* * 1 -
الضَّوءُ
اليوم في بغداد أقل سطوعًا منه أمس، في يوم
وصولي إليها. هل يترحَّل الضوءُ هو كذلك؟! -
تحدَّثْ
همسًا. كلُّ نَجْم هنا يخطِّط لقتل جاره. -
همسًا؟
تعْني كما لو أنَّني أتحدَّثُ مع الموت؟! رجالٌ يديرون
وجوهَهم إلى الصُّور. صُوَرٌ لا وجوه لها.
وجوهٌ كَمِثْلِ ثقوبٍ في صفحة الفضاء. للسِّياسة سوقٌ
ضخمةٌ تَغارُ منها جميعُ الأسواق. أصواتٌ آتيةٌ
من مسارح المطلق: 2 المطرقةُ
السياسيَّة تدقُّ سندانَ الحيِّ الذي أقيم
فيه. حَفْلُ أصواتٍ – يدخل الحيُّ في طقوسها
فاترًا، لامباليًا، ضائعًا في هباء الصُّراخ. أقول في نفسي:
متى نعرفُ الصَّمتَ؟ وأتساءل: هل تصمتُ
الجنَّة؟ هل تصمت النَّار؟ أهناكَ مَن يجرؤ
على الفتوى؟ أظنُّ أنَّ
الوقتَ حانَ لكي نقول لجلجامش: أوهمتَ
بعضَنا، وأقنعتَ بعضَنا الآخر، أنَّ للحياة
في بغداد سرًّا لا نزال ننتظر أن تكشفَه لنا.
خصوصًا أنَّ كلَّ شيء يكاد أن يؤكِّد أنَّ هذه
الحياة ليست إلا موتًا متواصلاً. وانْظُرْ
إلى سيف الطَّاغية كيف يُشحَذُ، وإلى الأعناق
كيف تُهيَّأُ للضَّرب. تلك الجلسة: -
المسألة
عميل صغير قُتِلَ كالكلب. -
وكيف
يُقتَلُ العميلُ إذا كان كبيرًا؟! أفهم الآن كيف
يمكن أن ينتحرَ عصفورٌ، مذعورًا من بندقيةٍ
تطير وراءه حيثما طار. -
هل تعمل؟
كيف تعيش؟ -
أتنقَّل من
شارع إلى شارع. لا تخلو بغداد من المحسنين. رأسُ هذا
الشَّارع مليءٌ بالحكمة. حمامةٌ – ترسم
بجناحيها الأسودين دائرةً حول ضفَّتَي دجلة. تلك الجلسة: بغداد كلُّها
دخانٌ كلما ازددتُ
إيغالاً في طفولات بغداد، ازددتُ معرفةً
بنفسي وبالآخرين وبالكون، -
"لا
قرابة لي خارجَ سلالة الرِّيح"، قال
لي عراقيٌّ جاء إلى الفندق ليتعرَّف عليَّ. للمرَّة
الأولى، عرفتُ أنَّ الضفَّة اليُسرى من دجلة الآن، في هذه
اللحظة، يُخيَّل إليَّ أنَّني لا أرى في
بغداد إلا شخصين: تبتكر بغدادُ
رجلاً خاصًّا بها: رجلاً–مَقهى. عشتارُ مريضةٌ
تُرهِقُها حمَّى المتنبِّي. جلجامش! أيُّها
الابنُ الأوَّل – بِكْرُ الأسطورة – هنا، تُضيِّع
الحياةُ وقتَها في ترصُّد الموت. هندسةُ رجالٍ
ونساءٍ مَا للشَّمس في
بغداد، تطلعُ كلَّ يوم، ليس للحرية
إلاَّ تمثالٌ واحد: الحرِّية. أكاد أشكُّ
أنَّ أبا نواسٍ وأبا تمَّامٍ والنفَّري عاشوا
في بغداد. الجنُّ في
بغداد هم، وحدهم، الجائعون، المتسوِّلون،
العاطلون عن العمل، المسجونون، إلخ. هنا، أتأكَّد
أنَّ للحاكم عقلاً منذورًا لتأليف الموسوعات
الخاصة باصطياد البشر وترويضهم. دجلة! أعرف لو
أنَّ الثورةَ مركَبٌ لكنتَ أولَ مَن يحطِّم
أشرعتَه. ماضيًا، كان
يسكن على ضفَّتيك بشرٌ لا يؤمنون
بالوحدانيَّة، وكانوا، مع ذلك، أكثر إبداعًا
وإنسانيَّةً من أحفادهم "الموحِّدين"
الذين يحاصرونكَ اليوم. استيقظتُ من
نومي اليوم كأنِّي شهقةٌ طالعةٌ من جسد
الشَّمس: تلك الجلسة: صديقي ج. يسكن
في ما يشبه قصْرًا. ما أثقلَ
النَّهارَ في بغداد! لولا ليلها لكانت سجنًا. -
مع نزار
قبَّاني، معك؟! نعم، نأتي. أينما شئتما. متى
شئتما. كانت تتمشَّى
بشجاعة وثقة. وكانت رفيقتُها تُصغي إليها،
وفي عينيها يسبحُ غَزَالان حائران. -
ولماذا هذا
الحجاب؟! -
حجاب
العودة إلى البيت. خصوصًا في اللَّيل.
التقاليد سجنٌ داخل السجن. -
... غابتا، لكن كما
يغيبُ كوكبان. كانت الشَّمس
تصعد على دَرَج دجلة. الكَرْخ –
رأيتُ سومر وبابل كمثل جَناحَين–خيطين بين
مشرق الشَّمس ومغربها. رأيتُ ما يشبه الموجةَ
التي كانت تستقبل عشتار كلَّما وضعتْ قدميها
في ماء دجلة. رأيتُ عشتار نفسها كأنَّها
تتهيَّأ لحبٍّ آخر. أو هكذا شُبِّه لي. 3 سوق الصَّفافير
– فتياتٌ وشبَّانٌ تبدو أجسادُهم تاريخًا
طويلاً من اللَّيل، وفي النَّهار صدأٌ يكادُ
أن يلتصقَ بجسد الوقت. ماذا أسمع؟ أهي
جدرانُ بيوتٍ قديمةٍ توشوشني: "لم يَبْقَ
لي ما يحرسني غيرُ الذِّكرى؟" أتَجادلُ مَع
ماءٍ لا يتذكَّر إلاَّ مَصادرَ الدِّماء التي
سالتْ فيه. ماءٌ يعجن خميرةَ الدَّمع. أحبُّ، هذه
اللَّحظة، أن أقول: بغداد – نصفُها غابةٌ،
ونصفُها الآخرُ صحراء. -
ما الفرق
بين بغداد 1258 وبغداد 1969؟ -
الأولى
فَتَكَ بها التَّتار، والثانية يفتك بها
أبناؤها. 4 مَقْهى –
نراجيلُ كَمِثْلِ عقودٍ تتدلَّى من أشجارٍ لا
تنبتُ إلاَّ في أرض المخيِّلة. شيخٌ يتنفَّس
برئة الطفولة. آخرُ يتأوَّه ويتلعثم. كأنَّه
لا يقدر أن يصفَ النارَ التي تَتأجَّجُ في
أحشائه. كأنَّه لا يعرف كيف يطردُ العذابَ
الذي سَبَّبَه له أبوه آدم. من المقهى يخرج
دخانٌ أسودُ – أهو أنْفاسُ المتَّكئين على
نراجيلهم؟ أهو حلمٌ آخر بسقفٍ آخر؟ أهو بلادٌ
ثانية؟ تتصاعد في
الدخان زفراتٌ وتمتمات، كَمِثْلِ جُسورٍ
عائمةٍ بين الوقائع والذكريات: لا وضوحَ، لا
غموض. شِبَاكٌ من الحروف تضطرب فيها أجنحةُ
الظن: تحت بَشَرَةِ
هذا المقهى، تتموَّج محيطاتٌ من الرَّفض. مكتبة – خَطُّ
هذا الكاتبِ أعوجُ، لكنَّ كلماتِه مستقيمة. -
هذا كاتبٌ
يكرِّر. -
أحيانًا
يُقالُ الشَّبيهُ لكي يُقالَ المختلف. -
شاعِرٌ
كَمِثْلِ الملاك. -
أمدحٌ أم
ذَمٌّ؟ يقدر الملاكُ أن يفعلَ الخيرَ والشرَّ.
لا يقدر الشيطانُ أن يفعلَ إلاَّ الشر.
أيُّهما الأكثر نقاءً؟ -
هذا شاعرٌ
غامض. -
ما ينكشف
سريعًا يُبتذَلُ سريعًا. -
الشِّعر؟!
لا أعرف. كريم كمثل
الفضاء. يَحتضنُ حتَّى الطُّيورَ التي
تتمرَّد عليه! -
يبدو كلُّ
شخص هنا كأنَّه نخلةٌ تعيش على شَفَا جُرفٍ
هاربٍ من الكآبة. كَمِثْلِ حسب الشيخ جعفر. -
هل رأيتَ
شعبًا يحتاج إلى الظلم لكي يشعرَ أنَّه
موجود؟! -
شعب
العراق؟ -
لكنْ، ما
يكون قائدٌ يتسلَّق الخططَ التي يرسمها على
جبلٍ من رؤوسِ البشر؟! -
الغد؟ -
لا تنسَ.
تَحدَّثْ همسًا. الغدُ غُضْروفٌ قَلِقٌ في
جناح وطواط. -
اغفروا له
هذيانَه. -
لستُ رجلَ
انضواءٍ أو التزام. أتعلَّم كيف أكون رجلَ
حريَّة. وأنتمي إلى وَعيٍ شَقِيٍّ، غاضبٍ
وخائب – مثلك. -
خيرٌ أن
نتحدَّث عن المرأة، عن الجمال. في بغداد نساءٌ
لا يعرف الوقتُ أن ينتشيَ حقًّا إلا بِهِنَّ. -
وبأمثالهنَّ. -
أكرِّر:
لنتحدَّثْ همسًا. -
رجال
يخنقون الهواء. 5 امرأةٌ
تُعانِقُ شُبَّاكًا في بيتٍ على ضفَّة دجلة.
امرأةٌ مضيئةٌ تخاف من الضَّوء! دجلة كَمِثْلِ
جسدٍ تجرُّه عربةٌ يجرُّها الخوف. -
ماذا تعمل،
ماذا تخترع؟ -
أُذُنيْنِ
لعتبة البيت. ولم نَعُدْ في
حاجة إلى التفكير. هناك مَن يُغْنينا عنه:
يعرف كلَّ شيءٍ، ويجيب عن كلِّ شيء. مُناخٌ يُثلِجُ
ألفاظًا، لماذا ليس
لبغداد إلا طريقٌ واحدة، تبدو بغدادُ
قَفَصًا من ألفاظٍ، لا يكاد الإنسانُ يخرج
منه حتى تنفتح كمثل أشداقٍ وحشيَّةٍ تُطْبِقُ
عليه. كأنَّ العقلَ
لم يَعُدْ إلا حَبْلاً حول العنق. أيامٌ تنتشي
لرؤية الألوان الحمراء، وقتٌ كَمِثْلِ
جسدٍ بأعضاءَ يلتهم بعضُها بعضًا. إنَّها الشَّمس
تتشحَّطُ في الشوارع. أبو حنيفة،
الشافعي، مالك، ابن حَنْبَل – أُعطِيَ كلٌّ
منهم شُقَّةً في السَّماء، هربًا من هذا
العالم. ويُقال: كلٌّ منهم نَذَرَ خلودَه في
هذه الشقَّة الفردوسية لتأليف الكتب في ذَمِّ
الدنيا وفي طاعة "أولي الأمر". وما هذه
العباءة اللازوردية التي تغمر الحضرة
القادرية الجيلانية؟! -
بغداد
جنَّة! -
الإنسانُ
هو الجنَّة، لا المكان. -
هل تريد
البقاءَ هنا؟ إذن،
ضَعْ مكانَ سُرَّتكَ سُرَّةً أُخرى، أَثيرُ آلاتٍ
يملأ الفضاء. في علم الهيئة
الذي يبثُّه هذا الأثيرُ أنَّ بغداد أُمٌّ
تنعقد في حوضها الأجنَّة، وأنَّ الجنينَ
يخرجُ مصلِّيًا للمُهيْمن الغالب. وفي علم الهيئة
أنَّ الثوبَ الذي يلامس جسدَ الجنين، للمرة
الأولى، يُخاطُ بِيَدِ المُهيْمن الغالب. وفي علم الهيئة
أنَّ بغداد بيتٌ لنَمْلِ الفجيعة، وأنَّني
خالفْتُ وانتبذت. هل كان عليَّ أن
أرفض الواقع، وأمضيَ وقتي كلَّه مع الممكن؟ أثيرُ آلاتٍ
يغمرُ الفضاء – هكذا تتنضَّدُ
الجهاتُ والآفاقُ وفقًا لضوءٍ آخر: طيورٌ–جِراحٌ
في الشجر، ثمَّة عَطَشٌ
يطوي الجسدَ طَيَّ الورق، 6 مُتَّكئًا على
طرف السرير في الفندق (نسيت اسمه)، الساعة الثانية
عشرة، ليلاً. ليلٌ يسهر بين
يدَي دجلة. أكادُ أن أسمعَ الماءَ يسعلُ،
والضفافَ تبكي. أحذِّركِ، أيَّتها الليلة، من
ظلماتي. وأنتِ، أيَّتها المدن الفُراتية
النائمة، سلامًا. فوق طبق
الأحداث، أرمي نَرْدِيَ الحائر. أنتظر،
أتأمَّل، أكتشف أنَّ للأحداث نَرْدَها
الغالب. ماذا أفعل؟ هل
أستسلم؟ هل أظلُّ أدحرجُ السؤالَ كَمِثْلِ
صخرة تكاد أن ترتدَّ عليَّ وأن ترتمي فوقي؟ وأنتَ، يا
رأسي، – قُلْ لي مِن أين لك هذا العَصْفُ الذي
فيكَ والذي لا يُريد أن يَهْدأ؟ 7 يَضَعُ
الشِّعرُ شفتيه على ثدي بغداد... خرجتُ منها
وأنا أتخيَّل أنَّ المدنَ تأخذُ أحيانًا
حُلُمَ التغيُّر، وتُدخِله إلى بيوتاتها،
خِفْيةً، كأنَّه عشيقٌ سِرِّي. وتذكَّرتُ
أنَّني لم أرَ الكلماتِ تجلس حول الموائد
لتأكل هي كذلك كما رأيتُها في بغداد. تزدردُ
كلَّ شيء. اللحم والدهن والعظم. الذين ولدوا،
والذين ماتوا، والذين لم يولدوا بعد. وكنتُ رأيتُ
كيف يحدث أن تتحوَّل اللغةُ إلى جيش هائل من
الحيوانات المفترسة. وكنتُ، حتَّى تلك اللحظة
من السنة 1969، أتعبُ كثيرًا في التمييز بين
البشر والشياطين والآلهة عندما أنظر إلى "أهل
السلطة في العراق". ربَّما لهذا لم
أشعر في بغداد إلا بالبرد، حتَّى وأنا في حضن
الشَّمس! لَكِنْ، لَكِن، بيروت،
1969 ***
*** ***
|
|
|