|
بسم
الله الرحمن الرحيم هل
نحن على أعتاب ثورة معرفيَّة جديدة؟ تعصفُ
بالبنيان المعرفيِّ المعاصر زوابعُ وأعاصيرُ
فكرية حرَّكها وثوَّرها نفرٌ من علية المجتمع
العلمي في الغرب هالَهُ ما آلَ إليه أمرُ هذا
البنيان، الشامخ والهشُّ في آنٍ، خصوصًا من
بعد ما تبيَّن مقدارُ ما لَحِقَ بالمعرفة
البشرية المعاصرة من أضرار فادحة من جراء
إصرار القائمين على المؤسَّسة العلمية
الرسمية في الغرب على تجاهُل الكثير من ظواهر
الوجود والإعراض عن القيام بالكثير من
التجارب المختبرية، لا لشيء إلا ليستقر
البنيانُ المعرفي المعاصر، ولو على أسُس
واهية، مادام الناظرُ إلى هذا البنيان يراه
عاليًا سامقًا. فلقد تميزت
السنوات الثلاث الأخيرة من القرن المنصرم، من
بين ما تميزت به، بانطلاقة مشروع معرفي رائد
يهدف إلى إعادة صياغة ما تسنَّى للعقل البشري
نَظْمُه من معارف صائبة تشهد لها الوقائعُ
والتجاربُ بأنها ليست من نسج خيالٍ متوهَّم
أو نتاج فكر سقيم. ولقد استعان روادُ هذا
المشروع المعرفي الرصين – وجُلُّهم علماء
ثقاة، وبعضُهم فلاسفة علم مخضرمون – بما عجزت
المنظومةُ المعرفيةُ المعاصرة عن تأويله
واستيعابه ضمن بِنيتها من ظواهر وتجارب دأبتْ
هذه المنظومةُ على إقصائها واستبعادها في
محاولة يائسة منها للوصول إلى يقين معرفيٍّ
دونما حاجة إلى التأكد من حقيقة كونها قد
أحكمتْ قبضتَها على كلِّ ما في الإمكان أن
توسعه ملاحظةً صائبةً وتجريبًا منهجيًّا
دقيقًا. وكان أن انصرفت
جهود هذه النخبة من علماء الغرب وفلاسفته إلى
محاولة استقصاء واستقدام كل ما واظبت
المنظومةُ المعرفيةُ المعاصرة على الانشغال
عنه بما توهمت أنها قادرةٌ على الإحاطة
التأويلية به من ظواهر وتجارب. وهكذا شرع هذا
النَّفَر من مفكِّري النخبة في الغرب في
متابعة ما لم يحظَ باهتمام الغالبية العظمى
من المنتسبين إلى المؤسَّسة العلمية الرسمية
المعاصرة من ظواهر وتجارب. إلا أن ما لم
يَدُرْ بخلد واحدهم أن تكون هذه الظواهر
المستثناة وتلك التجارب المستبعَدة بهذا
الكمِّ الهائل الذي يدل، إنْ دلَّ على شيء،
فعلى أن المسار الارتقائي للمعرفة البشرية لا
تشكِّلُه إرادةٌ علمية خالصة من شوائب الهوى
ومُدخَلات التسييس! ولقد تجلَّى واضحًا لهذه
المدرسة المعرفية الرائدة مقدارُ ما لَحِقَ
بالإنسانية من ضرر من جراء هذا الانصراف عن
دراسة الواقع على ما هو عليه حقًّا كما في
إمكان العقل البشري الامتداد إليه ملاحظةً
سليمةً وتجريبًا دقيقًا. ولعل من بين أبرز
الظواهر التي عانت من "سياسة التمييز
العلمي" تلك الظواهر التي اصطُلح على
الإشارة إليها وتوصيفها بأنها "ظواهر
خارقة". وهكذا كانت البداية. نحن ننظر إلى
الوجود بعقلنا لا بأعيننا! فالناظر إلى
الوجود بقلب غير أعمى لن يستطيع رؤية ظواهره
كما يراها "أصحَّاء البصر" ممَّن لا قدرة
لديهم على النظر بغير عين الرأس! فالنظر
العادي عاجز عن التوقف عند الظواهر وعن
تدبُّرها دون التهامها بفكَّي هذا العقل الذي
يستسهل "عقلنة" rationalize
ما تراه العينان على مجرد "التفكُّر" في
المرئي بعيدًا عن إفساد محتواه ومضمونه
بشوائب لا تنتمي إليه. كما أن العين البشرية
دأبها النظر إلى وقائع الوجود متوسلةً بضوء
هذا العقل الذي سبق له أن أوهَمَها بأنه
وسيلتها الوحيدة للإبصار السليم في عالم لا
يكفي نورُه الفيزيائي لجعل أشيائه مرئية. لذا
لم يكن بوسع الإنسان استعمال عينه في النظر
إلى أحداث الوجود دونما تدخُّل سافر من عقله.
فلكأنه يرى الأشياء بعقله، لا بعينيه! والعقل
هنا فعالية للدماغ الإنساني تتجاوز الوظيفة
الفسيولوجية لمادته البيولوجية؛ فهو لا
يكتفي بدوره في عملية الإبصار، بوصفها مفردةً
من مفردات المنظومة البصرية البشرية، بل
يتجاوزه إلى دور لا علاقة له بالرؤية من قريب
أو بعيد، وذلك لتعلُّقه بتأويل "عقلي"
للمرئي يتجاوز مفرداته كما تبصرها العينان. لذا لم يكن
للإنسان إلا أن يُعمِل عقلَه في النظر إلى
أحداث الوجود بعينه التي لن يعود في مقدورها
أن ترى هذه الأحداث خالصةً من "أحكامه
السابقة للرؤية". وهذا هو السبب في عجز
الإنسان عن تصديق ما يراه بعينيه مادام عقلُه
غير قادر على تصديق المرئي لفرط تناقُضه مع
هذه الأحكام العقلية السابقة للرؤية. من هنا
نستطيع أن نتلمس السبب في إنكار الإنسان
لوجود "الظواهر الخارقة"؛ هذه الظواهر
التي أصدر عقلُه حكمًا قاطعًا بتعذُّر وجودها
مادامت تخرق منظومتَه الفكريةَ التي تعجز عن
عقلنة ما يحدث فيها من خرق بيِّن لمفرداتها
المعرفية وعن تأويله. فحتى لو نجحت "ظاهرة
خارقة" ما في استيقاف نظر الإنسان، فإن
عقله سرعان ما يبادر إلى نبذها جانبًا خارج
مدى رؤية العين التي سبق لها أن أبصرتْ هذه
الظاهرة تحدث أمام ناظرها! فلأنَّ نسبة حدوث
"الظواهر الخارقة" واطئة للغاية،
مقارنةً بالظواهر غير الخارقة التي تحدث كلَّ
حين وعلى الدوام، قام العقل البشري ببناء
منظومته الفكرية مستعينًا بظواهر الوجود
شائعة الحدوث، مستبعدًا بذلك تلك الظواهر
التي تمتاز بأنها ذات حدوث نادر التكرار. لذا
لم يكن في مقدور هذا العقل النظر إلى ظواهر
نادرة الحدوث بعين تراها كما ترى ظواهر
الوجود التي يتكرَّر حدوثُها على الدوام. ولقد فاقم في
عجز العقل عن رؤية "الظواهر الخارقة"
أنها ظواهر تستفز أحكامَه التي أطلقها من بعد
ترسُّخ اعتقاده بفرادة الظواهر التي شيَّد من
مادتها صرحَ بنيانه المعرفي. فلأنها الظواهر
الأكثر حدوثًا على الإطلاق، لم يكن أمام هذا
العقل إلا أن يُعَمِّم أحكامَه القاضيةَ
بتعذُّر وجود ما يناقضها، وذلك بوجود ظواهر
تتناقض وهذه الظواهرَ شائعة الحدوث. فلو أن
هذه الظواهر لم تتفرد بـ"مُعامل تكرار" repetitiveness coefficient
مرتفع بالمقارنة بما يناقضها من ظواهر لا
يتكرر حدوثُها دائمًا، لما كان في مستطاع
العقل البشري التذرُّع بمناقضتها هذه
للتدليل على تعذُّر حدوثها؛ فعند ذاك كان
العقل سيخرج لا محالة بنتيجة مُفادها أن
الظاهرة ونقيضتها في الحدوث سواء. إن الحكم
العقلي بتعذُّر حدوث ظاهرة ما نقيضة لظاهرة
أخرى لا يستند إلى غير ندرة حدوث الظاهرة
النقيضة مقارنةً بشيوع حدوث الظاهرة
المُناقَضة. لا منطق سليمًا
في مقدوره الحكم بتعذُّر حدوث ظاهرة غير
مألوفة فلو أن ظاهرةً
خارقة، كظاهرة السير على النار، لم تكن نادرة
الحدوث مقارنةً بظواهر الاحتراق بالنار التي
تتصف بتكرارها العالي للغاية، لما تمَّ
عدُّها ظاهرةً "خارقة" ولما تسنَّى
للعقل البشري التوصل إلى تعميم مؤدَّاه أن
النار مُحرِقة لا محالة. إن حدوث ظاهرة ما
بنسبة واطئة هو السبب من وراء نظرة العقل
إليها على أنها ظاهرة متعذرة الحدوث، وذلك
مادام حدوثُها يتناقض مع حكم أطلقه هذا
العقلُ في شأن ظاهرة أخرى تحدث على الدوام
بتعذُّر حدوث نقيضتها. والآن، وقد تبيَّن لنا
أن "تعذُّر" حدوث ظاهرة ما هي رهنٌ
بمُعامل تكرار حدوثها، فإن حدوث الظواهر
الخارقة لم يَعُد بالأمر المتعذر. لقد بالغ
الإنسان في ثقته المطلقة بقدرة عقله على
التوصل إلى أحكام صائبة تُتيح له الاطمئنان
إلى صواب نظرته إلى الوجود. ولقد وقع الإنسان
في وهم قاتل خُيِّل إليه معه أن عقله هذا عاجز
عن قول ما ليس بصواب وأنه قادرٌ بعقله هذا على
إصدار ما شاء من الأحكام التي تقضي بتعذُّر
حدوث أية ظاهرة تتناقض مع ظاهرة أخرى جعله
حدوثُها المتكرر عاجزًا عن تخيُّل نقيضتها –
وإلا فكيف نفسِّر هذا الإصرار الجماعي على
التمسُّك بالثوابت العقلية التي تقضي بعدم
جواز التفكير في وجود ظواهر تُناقِضُ الظواهر
المألوفة؟! ولماذا يطالبنا المشكِّكون في
وجود الظواهر المناقضة لما نألفه من ظواهر
الوجود بوجوب العودة لهذه "الثوابت
المرجعية" التي توهَّموا بأنها ذات وجود
حقيقي، إنْ لم يكن خارج عقل الإنسان فداخله لا
محالة؟! إن عقل الإنسان
عاجز عن التيقُّن المطلق من صواب "ثوابت"
كهذه، وذلك عن طريق الاستعانة برصيده من
الظواهر المألوفة التي يكفي للتشكيك في
قدرتها على تشكيل البنيان المعرفي لهذه "الثوابت
المرجعية" أنها ظواهر لا تتمتع بحدوث
متفرِّد، وذلك على قدر تعلُّق الأمر بحدوث ما
يناقضها من ظواهر غير مألوفة، وإن كان حدوث
هذه الأخيرة لا يتمتع بمُعامل تكرار عالٍ
للغاية. لقد اتضح لنا،
إذن، أنه ليس هنالك من تعذُّر موضوعي يُجوِّز
لنا الاطمئنان إلى أحكام منطقية، سابقة للرصد
أو للتجربة، تقضي بعدم جواز التفكير في وجود
ظواهر غير مألوفة تتناقض والظواهرَ شائعة
الحدوث في هذا الوجود. العقل البشري
ينظر إلى الوجود ليرى ذاته فيه! الآن، وبعد أن
تبيَّن لنا أن لا منطق في مقدوره الحكم
بتعذُّر حدوث ظاهرة تُناقِض أخرى "اعتدنا"
على النظر إليها على أنها "الـ"ظاهرة في
هذا الوجود، هل لنا أن نخرج من حومة الجدل هذه
إلى أرض الواقع لنتعرف إلى ما تقوله أحداثُ
هذا الواقع في خصوص ما يحدث فيه من ظواهر؟ وهل
هناك حقًّا ظواهر غير مألوفة تُناقِضُ
المألوفَ الذي استقرَّ عليه حالُ الوجود كما
يعيه الإنسان بعقله العاجز عن إبصار ما
يُناقِضُ منظومته المعرفية إلا بشقِّ
الأنفس؟! إن الإجابة على هذا السؤال لن تكون
سهلةً كما يتمنى المؤمنون بوجود الظواهر غير
المألوفة والمنكرون له على حدٍّ سواء! إلا أن هذا
المقال ينطلق من إقرار كاتبه بوجود ظواهر
كهذه مُناقِضة للظواهر المألوفة في هذا
الوجود. وهذا الإقرار لم يتأتَّ للكاتب أن يجد
نفسه مُلْزَمًا به إلا بعد قيامه بنفسه
بدراسة اختبارية–مختبرية لهذه الظواهر
استغرقت منه سنواتٍ طوال. لذا لم يكن لهذا
المقال أن يقدم دليلاً على وجود "الظواهر
الخارقة" على طبق من ذهب! فالأمر ليس على
هذا القدر من البساطة حتى يُصار إلى التوصل
إلى قرار نهائيٍّ قاطع في شأنه في المدة التي
تقتضيها قراءةُ هذا المقال! إن "الظواهر
الخارقة" تستدعي من الباحث فيها أن يكون،
أولاً وقبل كلِّ شيء، متجردًا قدر الإمكان
من أية أحكام مسبقة قد تعيقه عن النظر
الصائب والحكم السليم. وهذا "التجرد" ليس
هو الآخر بالأمر اليسير! فالعقل البشري، كما
لاحظنا، مُغرَم بالنظر إلى الوجود لا ليرى ما
فيه ولكن ليرى ذاته فيه! لذا لم يكن بوسع
الإنسان أن يفيد من أداته المعرفية هذه في
رؤية ما يحدث حوله بعين لا تستبعد من مدى
رؤيتها ما يرفضه هذا العقلُ لتَناقُضه مع
ثوابته المرجعية؛ هذه الثوابت التي توهَّم
لها وجودًا خارج مادته الدماغية. إن إجماع
البشر، في معظم الزمان وأغلب الأماكن، على
النظر إلى "الظواهر الخارقة" بعين لا
تراها إلا وفقًا للمنظومة الفكرية السائدة في
مكان وزمان مُعيَّنين، جعل من هذه الظواهر
تفقد قدرتَها على إيصال الرسالة التي
خُلِقَتْ لتُبلِّغها للإنسان على هذا الكوكب. ألم يئنِ
للإنسان أن يعود إلى الوجود؟ فلا مناص، إذن،
من توجيه دعوة للفكر البشري للكفِّ عن النظر
إلى ظواهر الوجود قاطبةً بعين "ثوابته
المرجعية" التي طالما أعمتْه عن رؤية
الحقيقة لفرط هوَسها المرضي بالنظر إلى ذاتها.
فلكأنَّ الوجود، بكلِّ ما فيه من موجودات
وكائنات، مرآة عملاقة ما خُلِقَتْ إلا
لينظر فيها الإنسانُ فلا يرى إلا نفسه! فهل
ينتبه الإنسان من غفلته هذه ليعود إلى الوجود
من بعد تحطيمه لهذه المرآة الشريرة التي
أشغلتْه عن النظر إلى غير ذاته، لتتسنَّى له
بذلك رؤيةُ الآخر بدلاً من رؤية نفسه؟! إن
الدعوة لتدبُّر الوجود بعين لا تراه مجرد "مرآة"
هي دعوة للتحرر من أَسْر كثير من "الثوابت
المرجعية" التي أعمتنا عن رؤية الحقيقة.
وهي، إلى ذلك، دعوة للعودة إلى الوجود من
بعد طول ابتعاد عنه: فلقد تُهنا عن الوجود في
متاهات حتَّمها علينا دوامُ نظرنا في المرآة
التي أوهمتْنا أنها الوجود بعينه! فهل من عودة إلى
الوجود من بعد هذا الاغتراب الطويل الذي ما
عاد علينا إلا بما جعلنا نرزح تحت نير
عبوديتنا لأنفسنا ونحن ننظر إلى الوجود فلا
نرى سواها؟! إن الدعوة لإعادة الاعتبار
للظواهر غير المألوفة، وذلك بالنظر إليها
بغير عين "الثوابت المرجعية" وأحكامها
السابقة للرصد والتجربة، هي دعوة لإعادة
صياغة هذه "الثوابت" وذلك من بعد النظر
إلى ظواهر الوجود بعين جديدة تراها دون تمييز
يصنِّفها إلى "أغلبية" و"أقلية"
وفقًا لشيوع حدوثها أو لندرته. إن إعادة
صياغة الثوابت المرجعية للعقل الإنساني هي
السبيل الوحيد للعودة إلى الوجود من بعد
التيه والشتات في ظلمات النفس وعشق الذات. دعوةٌ إلى
تأسيس منظومة معرفية جديدة لذا فإن حديثنا
هذا ليس مجرد حديث عن الظواهر الخارقة يطال
الجدلَ القائمَ في شأنها منذ بدايات الفكر
البشري إلى يومنا هذا. فالدعوة لتدبُّر هذه
الظواهر هي دعوة إلى تأسيس منظومة معرفية
جديدة لا تعجز عن النظر إلى أية ظاهرة لهذا
السبب أو ذاك من الأسباب ذات الصلة بـ"الثوابت
المرجعية" للعقل الإنساني. إن عودةً كهذه
إلى الظواهر الخارقة سوف تكفل للفكر البشري
ولوجَ عالم جديد لم يسبق لنا أن تعرَّفنا إليه
من قبل؛ وهذا العالم لا يكتسب جِدَّته لفرط
عجائبية هذه الظواهر وغرابتها فحسب، بل هو
"جديد" بمعنى الكلمة، لأنه الوجود وقد
عُدنا إليه بعقل جديد لا قدرة له على النظر
إلى غير وقائعه وأحداثه وظواهره. إن حضارةً
جديدةً تنتظر عقلاً حُرًّا من كلِّ ثوابت لا
علاقة لها بالوجود كما خُلِقَ لنتعرف إليه
ونعرفه. أفلم يئنِ للإنسان أن يعود إلى
الوجود؟ أفلا يكفيه غُربةً عن هذا العالم
الذي خُلِقَ لينظر إليه فيراه على ما هو عليه
في واقع الأمر: عالَمًا آخر ليس عالم ذاته
ونفسها المريضة؟! ألا يجدر بالإنسان أن
يتحرَّر من ربقة عبوديته لهذه النفس التي لا
تريده لسواها؟! إن الدعوة إلى
الاستعانة بالظواهر الخارقة، من بعد رؤيتها
بعين سليمة، وذلك لإعادة بناء المنظومة
العقلية للفكر البشري، لا تطالبنا بما هو
مُعجِز: فـ"إعادة بناء" كهذه لا تتطلب
غير نبذ ما بين أيدينا من "ثوابت مرجعية"
ثبت لدينا عجزُها عن رفدنا بما هو صائب، إذ
أقنعتْنا بعدم وجود ظواهر غير مألوفة في
إمكانها أن تخرق المنظومة المعرفية التي سبق
لها أن قامت بتشييدها على أركان استبعادها
كلَّ ما يُناقض ظواهر الوجود شائعة الحدوث.
والآن حان الوقت لنتدبَّر، في نظرة عين
العقل، الظواهرَ الخارقة، وذلك كما في
إمكاننا الوقوع على أمثلة حيَّة عليها
بقيامنا بقراءة واقع اهتمام الفكر البشري
بهذه الظواهر من خلال مرورنا مرورًا عاجلاً
بثلاث مراحل لهذا الفكر اختيرت لا على
التعيين زمانًا أو مكانًا أو تعاقُبًا: 1.
لنبدأ
بنظرة الأقوام البائدة إلى هذه الظواهر
التي كانت في زمانهم خليطًا من ظواهر شتى
امتزج فيه الحق بالباطل بسبب من ظهور السحر
ونزول تقنيات الاتصال بالقوى غير المنظورة
وإرسال الأنبياء مؤيَّدين بمعجزات خَرَقَ
الله لهم بها حجابَ العادة والمألوف. وهنا لن
نتوسع ونستفيض في الحديث إلا عن أمر واحد غريب
للغاية: فبينما أنكرت الأقوامُ البائدةُ ما
جاء به الأنبياءُ المُرسَلون عن الله الذي
أيَّدهم ببرهان آياتٍ ليس بوسع العقل إلا أن
يسجد صاغرًا للقوة التي أحدثتْها، نجد أن
هؤلاء المنكِرين أنفسهم قد اتَّبعوا كهنتهم
وسحرتهم الذين جاءوهم بسحر عجيب وظواهر غير
مألوفة بالغة الغرابة. فلِمَ كُذِّب
الأنبياءُ ولم يُكذَّب السحرةُ والكهنة؟! لقد
طالب الرسُلُ أقوامَهم بالعودة إلى الله
والخضوع له عبادةً وتقوى، بينما لم يطالب
الكهنةُ أقوامَهم بغير قليل من المال
والاحترام! فهل لنا بعدُ إلا أن نعجب لإنكار
هؤلاء وجودَ العجائب والغرائب مادامت هذه
وسيلةً يستعين بها الرسولُ لإلزامهم بوجوب
التذكُّر والتدبُّر ومن ثم الرجوع إلى الله؟!
فالسحرة لم يطالبوهم بعبادة مرهقة وتقوى
خالصة، كما فعل الأنبياء المُرسَلون؛ فلِمَ
إذًا ينكرون عجائب الكهنة وسحرهم؟! لقد كان حظ
السحرة مكانةً متميزةً وتصديقًا لما جاؤوا به
من كذب وبهتان. فهل لنا إلا أن نعجب لهذا
الإنسان وعقله الذي فُتِنَ به عن أن يتدبَّر
ما يراه من الوجود بعين لا تراه كما يهوى،
ولكن على ما هو في واقع الأمر عليه؟! 2.
فلنتدبر
الآن مثالاً معاصرًا على سوء تَعامُل إنسان
مدنيتنا الحالية مع الظواهر الخارقة.
فالملاحَظ على إنسان هذه المدنية أنه يتعامل
مع ظواهر الوجود غير المألوفة بازدواج سافر
يتجلَّى بكلِّ وضوح في تذبذُبه في الحكم على
حدوثها بين إنكار له وإيمان به، وذلك وفقًا
للكيفية التي تُعرَض بها هذه الظواهرُ أمام
ناظريه: فهو يُصدِّق بوجودها إذا ما كان
تصديقُه هذا لا يتطلب منه غير ما تقتضيه دواعي
الإثارة والتشويق في أفلام الرعب والخيال
العلمي، وذلك مادام في هذا إمتاعٌ له وتسليةٌ
يغادر بهما واقعه الرتيب الذي يعجز عن رفده
بغير ما هو مُضجِر ومُمل! أما إنْ كان تصديقه
بوجود الظواهر الخارقة يستدعي منه إعادةَ نظر
في موقفه اللاَّمبالي من أحداث الوجود وفي
طريقته المُثلى في الحياة العابثة فيه، فإن
إنسان هذه المدنية لن يجد أمامه من مهرب من
مواجهة كهذه اضطُر إليها سوى بتكذيب مَن أورد
له أحاديثَ هذه الظواهر، وإنْ كان الناقل هو
من الشهود الثقاة الذين نادرًا ما يجود بهم
الزمان. فالظواهر الخارقة موجودة مادامت لا
تغادر سياق الإثارة والتشويق إلى سياق آخر
يُذكِّر الإنسانَ فينا بما كان الأنبياءُ
المُرسَلون يُسمِعون أقوامَهم من حقٍّ أنزله
الله مُؤيَّدًا بتلك العجائب التي خَرَقَ لهم
بها ستار "الثوابت المرجعية" للعقل
البشري؛ ذلك الستار الزائف الذي توهَّم
ناسجوه أنه الرداء الذي لا قدرة للوجود على
نزعه. 3.
إن الإنسان
فينا هو ذاته إنسان المدنية البائدة، وإنْ
تسلَّح بمخالب نووية وأنياب ليزرية! فهو يظن،
كما ظنَّ أسلافُه في القرون الخالية، أن
الوجود عاريًا من الثياب التي ألبسها له
عقلُه البشري لا وجود له. وإلا فكيف نفسر إذًا
ما سنراه في المرحلة الثالثة التي اخترناها
من داخل حومة ميدان الپاراپسيكولوجيا parapsychology؛
هذا العلم الذي استُحدث ليقوم بمهمات رصد
الظواهر الخارقة ودراستها وذلك بتفسيرها،
بدايةً وقبل كلِّ شيء، من بعد النظر إليها
بعين العقل البشري و"ثوابته المرجعية"
التي قام الإنسان بصياغتها من مادة واقعه
المتكون أساسًا من ظواهر الوجود شائعة الحدوث
فحسب؟ فلقد قام علم الپاراپسيكولوجيا بالبحث
في مضمار الظواهر غير المألوفة منطلِقًا من
خطِّ شروع أملتْه عليه ظروفُ نشأته بين ربوع
الأفكار التي أفرزتْها المنظومةُ المعرفية
للعلم النظري السائد. ولقد أوجبت عليه أفكارُ
هذه المنظومة النظرية ضرورةَ النظر إلى ظواهر
الوجود نادرة الحدوث بمنظار "انتقائي"
سمح له باقتطاع جانب بسيط من جوانب عالَم
الظواهر الخارقة، ولم يسمح له، بالتالي،
باجتزاء ما يشاء من ظواهر، حتى وإن كانت تتميز
بأنها ظواهر خارقة لما أَلِفه العقل البشري.
كما أن وجوب انصياعه للبنية النظرية للعلم
المعاصر حتَّم عليه النظر إلى القليل جدًّا
من الظواهر التي قام بدراستها بعين لم تستطع
أن ترى فيها إلا برهانًا على صواب النموذج
التفسيري الذي طُرِحَ على أنه الوصف الحقيقي
الوحيد لما يحدث في هذه الظواهر. بذا لم يكن
للپاراپسيكولوجيا إلا أن تتوهم الإنسان
مصدرًا وحيدًا للطاقة الفيزيائية التي
يتطلَّبها حدوثُ الظواهر الخارقة التي قامت
بدراستها. ولقد جعلها هذا الوهمُ عاجزةً عن أن
تتناول بالبحث أيةَ ظاهرة تتناقض وذلك
التفسير العاجز، بدوره، عن التعليل المُقنِع
لما يحدث في القليل من الظواهر التي
استُقدِمَ ليفسِّرها. لذا وجدت
الپاراپسيكولوجيا نفسَها في مأزق معرفيٍّ لم
يسبق لعلم نظريٍّ أن عانى منه على امتداد مسار
الفكر الإنساني. فالپاراپسيكولوجيا لم تقُم
بدراسة كلِّ ما في الإمكان الوقوع عليه من
ظواهر خارقة؛ وهي لم تستطع أن تقنعنا
بتفسيرها المُبتسَر للقليل جدًّا من الظواهر
غير المألوفة التي قامت بدراستها؛ ناهيك عن
أنها أرادت أن تفرض وصايةً مطلقةً على
الظواهر الخارقة عمومًا، وذلك باستبعادها
لغيرها من العلوم والمعارف التي في الإمكان
الإفادة منها في التقرب معرفيًّا من هذه
الظواهر. لذا لم يكن أمام الباحث عن حقيقة ما
يحدث في الظواهر غير المألوفة غير أن يزَّاور
عن هذه الپاراپسيكولوجيا كحلٍّ لمشكلة هذه
الظواهر وأن يحاول أن يمدَّ لها يَدَ العون
لتفيق من غرورها الذي زيَّن لها فشلَها
نجاحًا وركودَها المعرفيَّ تطورًا وارتقاءً! إن المطابقة ما
بين الظواهر الخارقة، كمشكلة تبحث عن حل،
وبين الپاراپسيكولوجيا، كحلٍّ لهذه المشكلة،
لا تستند إلى أساس سليم، سواء كان بتلمُّس
واقع هذه الظواهر، كما في الإمكان الوقوع
عليه ملاحظةً وتجريبًا، أو بتحسُّس حال هذا
"العلم" كما يُجلِّيه التمعُّنُ في
بنيته المعرفية. لذلك وجب على الباحث عن حقيقة
ما يحدث في الظواهر الخارقة التوقفُ عن النظر
إلى الپاراپسيكولوجيا على أنها غودو Godot
الذي طال انتظارُه، ليقوم بالانتصار لهذه
الظواهر المنبوذة وذلك بإنصافها تقبُّلاً
وتفسيرًا. نحن في انتظار
پاراپسيكولوجيا جديدة إزاء هذا العجز
المعرفي الذي تجلَّى في عدم قدرة
الپاراپسيكولوجيا على استيعاب ظواهر الوجود
نادرة الحدوث، كان لا بدَّ من القيام بمحاولة
لإنقاذ المادة الپاراپسيكولوجية، وذلك عن
طريق إعادة تشكيلها من بعد تعريضها لتقنية
المطرقة والسندان. إلا أن تعريض "الپاراپسيكولوجيا
المعاصرة" لعملية إعادة التشكيل هذه لم
تُسفر إلا عن تبدِّي العجز الكامن في صُلب
مادتها وهي تخضع لفعل المطرقة وردِّ فعل
السندان. لذا لم يكن هناك من حلٍّ سوى العمل
على إطلاق دعوة لتأسيس پاراپسيكولوجيا
جديدة تستوعب الپاراپسيكولوجيا المعاصرة
نصًّا وتتجاوزها روحًا. ولقد تمَّ طرحُ
نموذج لهذه الپاراپسيكولوجيا الجديدة وذلك
بالانطلاق من خطِّ شروع جديد يسمح لها بتجاوز
العقبات القاتلة التي فتكت
بالپاراپسيكولوجيا المعاصرة من قبل. وقد كان
هذا النموذج عربيًّا، مؤمنًا بالضرورة،
وذلك لأن المشكلات المعرفية التي خنقت
الپاراپسيكولوجيا المعاصرة قد أوقعها فيها
كونُها غربية و"ملحدة". ولقد تمت صياغةُ
مفردات النموذج المقترَح للپاراپسيكولوجيا
الجديدة استنادًا لخطِّ الشروع الجديد هذا،
وذلك بُغية إعادة النظر في مادة الظواهر
الخارقة عمومًا؛ وكان أنْ تمَّ طرحُ نموذج
تفسيري جديد استوعب الظاهرة الخارقة مادةً
وطاقة. ولقد تمَّت، بموجب هذا النموذج
التفسيري الجديد، دراسةُ الظواهر الخارقة
وذلك وفقًا للطاقة المسبِّبة لحدوثها
فيزيائيًّا وللقابلية البيولوجية المسئولة
عن هذا الحدوث. كما تمَّ تعزيز هذا النموذج
التفسيري الجديد بدراسة مسهبة لموضوع التزامن
synchronicity
وظواهره، وذلك في دعوة إلى تأسيس پاراپسيكولوجيا
خبراتية تستند إلى خبرة الشاهد على حدوث
الظاهرة الخارقة هو ذاته. وقد استوجب هذا
كلَّه ضرورةَ التشديد على الالتزام بالمنهج
التجريبي–الاختباري في التعامل مع
الظواهر الخارقة وإلى وجوب تجنب أخطاء
الپاراپسيكولوجيا المعاصرة. إلا أن
التعمُّق في دراسة عالَم الظواهر الخارقة
استدعى التفكير في ضرورة التنازل عن مصطلح
"پاراپسيكولوجيا"، حتى إنْ تمَّ تحويرُه
إلى "پاراپسيكولوجيا جديدة" أو "پاراپسيكولوجيا
عربية مؤقتة" أو "پاراپسيكولوجيا
خبراتية"، وذلك لقصور هذا المصطلح عن
استيعاب ما يحدث في الظاهر الخارقة عمومًا.
وكان هذا كله السبب الرئيس وراء الإقدام على
الدعوة لتأسيس مصطلح جديد هو "علم خوارق
العادات" أو الپارانورمالوجيا paranormalogy،
ليكون هو العلم الذي يقوم بدراسة الظواهر غير
المألوفة في هذا الوجود. فلنحاول الآن
سويةً استعراض أهم ملامح هذا العلم الجديد
الذي هو بحق وسيلة الإنسان الوحيدة للولوج
إلى عالمٍ جديد، بظواهره غير المألوفة
وظواهره المألوفة على حدٍّ سواء، وذلك من بعد
القيام بالنظر إليها من زاوية جديدة مخالِفة
لزاوية نظر العلم النظري المعاصر، بمنظومته
المعرفية القائمة على التفسير "الإلحادي"
لظواهر الوجود. وإن أول ما يجب
على هذا العلم الجديد أن يتقيد به هو ضرورة
الابتعاد عن كلِّ ما من شأنه أن يجعل منه نسخة
أخرى عن الپاراپسيكولوجيا في صيغتها الحالية.
فلا بدَّ أن يقوم هذا العلم بوضع ضوابط
منهجية جديدة تحول دون وقوعه في الأخطاء
عينها التي جعلت من پاراپسيكولوجيا أواخر
القرن الماضي علمًا زائفًا pseudo-science،
بعيدًا كلَّ البُعد عن كلِّ علم من علوم العصر. لقد كان على
الپسيكولوجيا psychology
(علم النفس) أن تُنجب الپاراپسيكولوجيا لتقوم
بدراسة الظواهر غير المألوفة، وذلك على قدر
تعلُّق الأمر بالجوانب الپسيكولوجية لهذه
الظواهر إنْ وُجدت. ولكن الپسيكولوجيا، للأسف
الشديد، لم تكن هي الأم التي قامت بإنجاب
الپاراپسيكولوجيا، وذلك على الرغم من تشدُّق
هذه الأخيرة بأنها الابنة البارة بوالدتها
الپسيكولوجيا! فالپاراپسيكولوجيا تحاول
إلصاق نفسها عنوةً بعلم النفس، وذلك عن طريق
قيامها بتفسير الظواهر الخارقة التي شغلت
نفسها بها وفقًا لما تقول به النظرياتُ
الپسيكولوجية؛ وهي بذلك تظن، واهمةً من غير
شك، أنها قد نجحت في محاولاتها لإثبات
بُنوَّتها لعلم النفس وَصِلَتها به. لكن
الپاراپسيكولوجيا كانت قد وُلدت من رَحْم
أخرى، ألا وهي رحم الدراسة المختبرية التي
كان يقوم بها باحثٌ مختص بعلم بيولوجيا
النبات هو جوزيف راين في مضمار بعض القابليات
البشرية الخارقة. لم يكن اختيار
راين موفَّقًا لمصطلح "پاراپسيكولوجيا"
ليصف به "العلم الجديد" الذي أراد له أن
يقوم بدراسة قابليات خارقة تتجلَّى في ظواهر
الإدراك بغير وساطة الحواس المألوفة وظواهر
"التحريك النفسي للأشياء" psycho-kinesis.
لقد كان على راين أن يقوم باشتقاق مصطلح لا
علاقة له بعلم النفس، وذلك ليتمتع "العلم
الجديد" بالقدرة على السير في الأرض
الجديدة Terra
Nova في حرية واستقلالية
تبعدانه عن أية محاولة لفرض الوصاية على
ظواهره الجديدة من قبل نظريات الپسيكولوجيا
التي أصبحت، بموجب التسمية الپاراپسيكولوجية
لهذا العلم الجديد، أمًّا له على الرغم من عدم
حملها به! ولكن لِمَ
اختار راين تسميةَ "پاراپسيكولوجيا"
ليصف بها علمَه "الجديد"؟ لقد توهم راين
بظنِّه أن علم النفس هو العلم المختص بدراسة
القدرات البشرية، إدراكيةً كانت أم تحريكية؛
لذا كان عليه أن يعزو ما رآه في ظواهر الإدراك
بغير وساطة الحواس الخمس وظواهر تحريك
الأشياء نفسيًّا إلى وجود "قدرات غير
تقليدية" للنفس البشرية تستدعي بالضرورة
إيجاد فرع جديد لعلم النفس يُعنى بدراسة هذه
القدرات غير الپسيكولوجية. ولكن مَن قال إن
علم النفس (الپسيكولوجيا) هو حقًّا علم دراسة
القدرات البشرية "التقليدية" حتى تكون
الپاراپسيكولوجيا هي علم دراسة القدرات
البشرية "غير التقليدية"؟! إن دراسة
إدراك الأشياء وتحريكها ليست حكرًا على علم
النفس حتى يكون "ما وراء علم النفس" هو
العلم المختص بدراسة "ما وراء القدرات
التقليدية" على الإدراك والتحريك. فالطب،
بعلومه المتعددة، والفيزياء وعلم النفس
شركاء كلهم جميعًا في دراسة هذه الظواهر،
وذلك من دون أن تكون هنالك وصايةٌ يفرضها
عليها أيٌّ من هذه العلوم. إلا أن راين لم يدرك
هذا عندما قام بنحت مصطلح "پاراپسيكولوجيا"
في محاولة فاشلة منه لتعريف العلم الذي ينبغي
تأسيسه ليقوم بدراسة ظواهر الإدراك غير
التقليدي والتحريك غير المألوف للأشياء. إذ
لم تكن تسمية "پاراپسيكولوجيا" لتدل على
المُسمَّى الذي برز للوجود بدراسة راين لهذه
الظواهر الخارقة. فلقد اكتشف راين جانبًا من
واقع غير مألوف سبق لآخرين الوقوعُ على جوانب
أخرى منه، إلا أنه لم يُحسن صياغةَ المصطلح
الذي يصلُح لوصف العلم الجديد الواجب تأسيسه
لدراسة هذا الواقع غير المألوف. كانت هذه، إذن،
خلاصة موجزة لظروف نشأة "الپاراپسيكولوجيا"
كتسمية خاطئة أُريدَ لها أن تكون الاسم
الدالَّ على هذا العلم الجديد. لقد أخطأ راين،
الذي تبعه في هذا الخطأ آخرون كثيرون يتعذر
حصرُهم، حين ظنَّ بعلم النفس الجديد (الذي
أراد أن يكون من روَّاده) القدرةَ على الإحاطة
المعرفية المطلقة بالظواهر الخارقة التي
كانت محور دراسته المختبرية. فعلم النفس أعجز
من أن يفرض وصايته المعرفية المطلقة على أية
ظاهرة من ظواهر السلوك البشري حتى تكون لعلم
النفس الجديد (الپاراپسيكولوجيا) وصايةٌ
مطلقةٌ كهذه على ما هو خارق للمألوف من هذه
الظواهر. إلا أن الپاراپسيكولوجيين نهجوا في
دراستهم للظواهر الخارقة التي اهتموا بها
نهجًا أملتْه عليهم هذه الاعتقاداتُ الباطلة
التي سوَّلت لهم استبعادَ العلوم الأخرى
كلِّها عن الميدان، لا لشيء إلا لأنهم هم "أهل
الدراية والمعرفة" بكلِّ ما له علاقة بهذه
الظواهر، وذلك من دون إسناد شرعي لوصاية كهذه
انتحلوها ظلمًا وعدوانًا. إلا أن
الپاراپسيكولوجيين، في غمرة فرحهم بعلمهم
الزائف الجديد، فاتهم أن يدركوا أنهم ما
اتَّبعوا إلا الضلالة حين اتخذوا لأنفسهم هذه
الصنعة التي لا علاقة لها بالعلم من قريب أو
بعيد: فما يقومون به من دراسة لا علاقة له
بالپاراپسيكولوجيا كتسمية تفيد الدلالة على
علم يبحث في الظواهر غير المألوفة من زاوية
نظر پسيكولوجية. إننا، في حقيقة الأمر
وواقعه، لم نحظَ حتى يومنا هذا بعلم تنطبق
عليه تسميةُ "پاراپسيكولوجيا" بهذا
المعنى المحدد الفحوى والدلالة. فما بين
أيدينا من علم يدَّعي أنه "پاراپسيكولوجيا"
ما هو في الواقع إلا تخبُّط لتيارات فكرية شتى
في ظلماتٍ بعضها فوق بعض! ولكننا مرغمون على
وصف هذه التيارات بالـ"پاراپسيكولوجية"
وذلك لشيوع الخطأ وتواتُره حتى أصبح هو
الصواب المُلزِم بوجوب الأخذ به على أنه الحق
الذي ليس وراءه إلا الباطل. إننا ننتظر ولادة
الپاراپسيكولوجيا لتحلَّ محلَّ هذا الخليط
العجيب من الأفكار الذي أشاع في الأجواء أنه
"الـ"پاراپسيكولوجيا بإطلاق! ولكن ما هي هذه
الپاراپسيكولوجيا المنتظَرة التي آنَ أوانُ
ولادتها؟ – هذه الپاراپسيكولوجيا التي
تقتضينا القيام بتحديد السمات المميِّزة
للعلم الجديد الذي نريد له أن يكون علمًا حقيقيًّا
هذه المرة، علمًا يدرس الظواهر الخارقة دون
استثناء أو استبعاد لأية ظاهرة، ودون إبعاد
وإقصاء لأيِّ علم في مقدروه أن يقول الحقَّ في
حقِّ هذه الظواهر. إن الپاراپسيكولوجيا التي
ننتظر لها ولادةً عاجلةً هي تلك التي ظنَّ
راين ومَن تَبِعَه من الپاراپسيكولوجيين
وتوهَّموا أنهم قد استحدثوها، وهم ما قاموا
في الواقع إلا باستحداث مبحث فكري، جديد
بكلِّ تأكيد، إلا أنه غير پاراپسيكولوجي دون
أيِّ شك. فالپاراپسيكولوجيا هذه يجب أن تكون
بحق علم نفس الظواهر الخارقة، وليست
شيئًا آخر على الإطلاق. فما بين أيدينا من "پاراپسيكولوجيا"
مزعومة تريد أن تكون شيئًا آخر، لا مجرد علم
نفس يدرس الظواهر الخارقة مستعينًا بحقائقه
الپسيكولوجية. إن الپاراپسيكولوجيا التي
ننتظر هي المُسمَّى الذي لم يقم راين بصناعته
وتأسيسه كما قام بصياغة وتأثيل الاسم الذي
أراد له أن يدلَّ على العلم الذي يجب أن يُعنى
بدراسة تجاربه غير المألوفة. إن ما درسه راين
كان شيئًا آخر، ولم يكن پاراپسيكولوجيا. لقد
ظلت تسمية "پاراپسيكولوجيا" تبحث عن
مُسمَّى، وذلك منذ أن نحتها راين وتوهَّم
أنها هي الاسم الذي يدل على علمه الجديد. والآن، إذا
كنَّا ما نزال في انتظار ولادة
الپاراپسيكولوجيا، بوصفها علم نفس يدرس
الظواهر الخارقة، لا بوصفها علمًا زائفًا،
كحال الپاراپسيكولوجيا المعاصرة اليوم،
فماذا نفعل بالتراث الفكري الذي صنعتْه
أجيالُ الپاراپسيكولوجيين وهم يظنون بأنهم
يدرسون الظاهرة الخارقة دراسةً
پاراپسيكولوجية؟! هل نأخذ به على أنه حق
أُخطِئَت تسميتُه؟ أم ننبذه كُلاًّ وجزءًا
بلا تمحيص؟ إن الدعوة موجهة أيضًا لهذه
الپاراپسيكولوجيا المزعومة لتكون هي أيضًا
طرفًا، لا أكثر، من الأطراف المعرفية التي
تقوم بدراسة الظواهر الخارقة، ولكن من بعد أن
تكفَّ عن محاولة إقناعنا بأنها صاحبة الوصاية
المطلقة على هذه الظواهر. إن الأمر
يستدعي إذًا أن تتخلَّى عن اسمها كـ"پاراپسيكولوجيا"
مادامت لا تقنع بأن تكون مجرد علم نفس الظواهر
الخارقة، وذلك ليعود الحقُّ إلى صاحبه الشرعي.
فالپاراپسيكولوجيا الحقيقية هي صاحبة
الحق الشرعي في هذا الاسم، وذلك مادامت هي علم
نفس الظواهر الخارقة. والظواهر الخارقة هي
صاحبة الحق الشرعي في أن يكون لها علمٌ يدرسها
بما تستحقه، لا بما يمليه عليها هذا العلمُ من
حقوق له ينبغي عليها العملُ بموجبها! إننا
بانتظار پاراپسيكولوجيا جديدة تكون هذه
المرة بحق هي الپاراپسيكولوجيا الحقيقية، لا
الزائفة. والآن، ومن بعد
فراغنا من أمر هذه التَّرِكة الثقيلة التي
أرهقتْنا، بمُسمَّياتها وتسمياتها، بقديمها
وجديدها، وبعد أن أدركنا أن
الپاراپسيكولوجيا، كاسم يدل على مسمَّى هو
"علم نفس الظواهر الخارقة"، لا وجود لها
حتى يومنا هذا، فإن علمَي "الپاراپسيكولوجيا
المعاصرة" و"الپاراپسيكولوجيا الجديدة"
كليهما مدعوان للمشاركة في تأسيس العلم
الجديد، إلى جانب باقي العلوم ذات الصلة
بدراسة هذه الظواهر. ***
*** *** تنضيد:
نبيل سلامة [*]
باحث وكاتب
أردني. |
|
|