|
ما
الذي، بحقِّ الأرض، يُدعى "بيئة"؟[1] يقسِّم
الفلاسفةُ "حبَّهم للحكمة"[3]
بطُرُق متنوعة. وثمة ثلاثة ميادين معروفة هي: 1.
الأونطولوجيا،
أي ما نعرفه كواقعيٍّ وهام. 2.
الإپستمولوجيا،
أي الطريقة التي نحصِّل بها تلك المعرفة. 3.
الأخلاق،
أي كيف نمارس ذواتنا في ضوء تلك المعرفة. ترتبط الميادين
الثلاثة بعضها مع بعض كرؤوس مثلث يعزِّز
واحدها الآخرَين، بحيث إن كلاًّ من الحماقة
أو الحكمة الثقافية تتبدل عبر العصور بحسب ما
يُعرَف، وكيفية معرفته، وشعور الناس بواجب
العمل وفقًا له. منذ عصر النهضة ونظريةُ
المعرفة تتأثَّر بقوة بالعلم وبطريقته
الموضوعية التحليلية في تحصيل المعرفة. وفي
الفترة الزمنية ذاتها، ومع ذبول الإيمان
بالآلهة، انتقلت البشريةُ لتصير مركزَ مرحلة
أونطولوجية جديدة، فهيمنت الفرديةُ وتعظيمُ
الذات على الأخلاق التي انبثقت بالانسجام مع
العلم والنزعة الإنسانوية Humanism. عندما يكون الإنسان العاقل homo
sapiens
هو الحقيقة المركزية في الكون، تصير الحقوق
البشرية البؤرة الوحيدة للاهتمام الأخلاقي؛
بل أكثر من ذلك، يصير العلم الطريقة الملائمة
للمعرفة، لأنه ليس ثمة ما يعزِّز بمثل
فعاليته المصالحَ البشرية والسلطةَ البشرية
على كلِّ شيء آخر. ولكن إذا كانت الأشياء
الأخرى من غير البشر ذات أهمية فائقة – وهذا
ما يدفع عالمُنا المتدهور بعضَهم إلى
الاعتقاد به – إذ ذاك يصبح نموذج المعرفة
التقليدي والأخلاق الفردية التقليدية موضع
تساؤل. يمكن لإدراك جديد للواقع ولما هو على
أهمية محورية أن يشقَّ دروبًا للابتعاد عن
الأخلاق المتمركزة حول الجنس البشري وعن
نموذج المعرفة الذي يخدمه. إن السؤال عن
الرؤية القائدة للبشرية والموجِّهة لها
سؤالٌ مثقَل بالاحتمالات. ومن المثير أيضًا
أن نسأل عن تاريخ كون البشر موضعَ التركيز في
الفكر والعمل وعن كيفية وصول جنسنا إلى
صعوباته الحالية، لكن هذا أقل أهمية. لقد أنتج
العصر الحديث كثيرًا من النظريات حول ما حدث
في شكل خاطئ، لكن، في المقابل، قليلاً من
الرؤى حول كيفية المضي نحو الصواب
انطلاقًا من وضعنا الراهن. تحتاج الفلسفة
الإيكولوجية، كي تفي بوعدها، إلى بدء بحث
واسع الخيال من أجل مستقبل عقلاني جذَّاب. الرؤية
بأسلوب خاطئ أن نرى العالم
من الداخل إلى الخارج يعني أن نراه رؤية خاطئة
– مع أن ذلك تمامًا هو المنظور الذي طالما
استخدمه الناسُ لتفسير دورهم على الأرض.
الرؤية الجديدة من الخارج إلى الداخل
تصوِّر الواقع الإيكولوجي تصويرًا أدق،
وتُظهِر الناس والمجتمع والمؤسسات البشرية
متَّكلة على السياق الشامل للكوكب. كيف نعبِّر عن هذا الإدراك
البازغ؟ نحن في حاجة إلى رموز لفظية جديدة.
الكلمات القديمة، التي تحمل مفاهيم وأفكارًا
قديمة، لا تكفي لهذه المهمة. من بين الكلمات
المضلِّلة تلك الكلمات التي تدل على الظروف
البشرية وعلى المحيط وعلى الوسط. لذلك يبدو
السؤال المميز هو: ما الذي، بحقِّ الأرض،
يُدعى "بيئة" environment؟ في المناقشة
التالية، سوف أشدِّد على ثلاث نقاط: 1.
البيئة، كما تصوَّر حاليًّا، هي حقيبة
فضفاضة، اتفاقية وغامضة، من العناصر غير
الواضحة في علاقاتها، بحيث إن مَن يحاول أخذ
فكرة عنها يواجه خيبة أكيدة. 2.
قبل أن تثمَّن البيئةُ أو تُدرَس أو يُدافَع
عنها أو يُعتنى في حماس بها، ينبغي
مَفْهمتُها باعتبارها النطاق الإيكولوجي
العالمي world ecosphere
المتطور والمتغير ذي الأبعاد الثلاثة: الواقع
المادي، المحيط، الطبيعة Nature،
التي بقدر ما هي ملموسة فهي غامضة وخلاقة
ومنتجة وداعمة للحياة. 3.
ينبغي تصوُّر المنظومات الإيكولوجية
القطاعية التي يشتمل عليها النطاقُ
الإيكولوجي باعتبارها متماسكةً ومتطورةً
ومغلِّفةً للحياة، أو ينبغي اختبارُها
ككيانات إيكولوجية/بيوفيزيائية وكتجمعات فوق
عضوية يحيا ضمنها الناس، فرديًّا وجماعيًّا،
ويتحركون ويحققون وجودهم كأجزاء مؤلِّفة
للكوكب. البيئة
كمستوى تكامُلي يتخطَّى الفرد كلمة "بيئة"
هي الأكثر غموضًا من بين جميع الكلمات
الشائعة الاستخدام في المناقشات حول التدهور
أو السلامة الإيكولوجية. وتشهد على أنها ترمز
إلى شيء هام تلك الوكالاتُ العديدة والدوائرُ
الحكومية المشغولة بإدارتها، وكذلك حشدُ
البيئيين المتلهِّفين للدفاع عنها. مع ذلك،
وبعيدًا عن العبارات العامة التي تشير إلى
الهواء والتربة والماء والغذاء والغابات
والحياة البرية والمصادر الطبيعية والبراري
والحدائق والمدن والثقافة والمجتمع، وخصوصًا
كل ما يؤثر على الصحة الاجتماعية، يوافق
القليلون فحسب على الدلالة الدقيقة لكلمة "بيئة". مثلاً، يعرِّف
قانون حماية البيئة الأسترالي بالبيئة بأنها
"تضم جميع مظاهر ما يحيط بالإنسان ويؤثر
عليه كفرد أو كجماعة". وتركز مجموعة البحث
الكندية حول إجراءات الاستماع البرلمانية
على طابع الملكية عندما تعرِّف بالبيئة كـ"ملكية
جماعية مشتركة". ويعطي قانون احترام الحقوق
البيئية في أونتاريو/كندا تعريفًا أكثر
تفصيلاً وشواشًا من حيث التمثيل، معتبرًا أن
البيئة تعني: أ.
الهواء أو
اليابسة أو الماء. ب.
الحياة
النباتية والحيوانية، بما فيها البشر. ت.
الشروط
الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر
على حياة الناس أو المجتمع. ث.
أي مبنى أو
منشأة أو آلة أو أي جهاز أو شيء آخر من صُنع
الناس. ج.
أية مادة
صلبة أو سائلة أو غازية أو حرارة أو رائحة أو
صوت أو اهتزاز أو إشعاع ناتج، بشكل مباشر أو
غير مباشر، عن نشاطات الناس، أو أي جزء أو
مركَّب من الأشياء السابقة أو من العلاقات
بين اثنين أو أكثر منها، في أونتاريو أو
خارجها. فلنلحظ أنه بعد
ذكر موجز للهواء أو اليابسة أو الماء يجري
التركيزُ قصدًا على الناس في محيطهم
الثقافي. هذا نموذج عن الميل إلى الشؤون
الاقتصادية–الاجتماعية التي تنزع إلى
الهيمنة على الدعاوى والتعويضات المتعلقة
بالبيئة، ليس على المستوى المحلِّي وحسب، بل
والفدرالي أيضًا. تنبع المشكلة من الإدراكات
التي ترى أن البشرية تحكم العالم وتحوز عليه
كمُلك حصريٍّ لها وتشكِّله في نجاح من خلال
الأدوات الثقافية للعلم والتكنولوجيا. هذا
معيار قبل إيكولوجي pre-ecological
جرى تعميمُه على يد الماركسيين خصوصًا: فهم
يصورون الطبيعة الخالصة والطبيعة العمياء
كشيء أشبه بالنفاية، وهي تظل كذلك إلى أن
يستوعبها البشرُ استيعابًا مثمرًا في أشكال
عقلانية مقصودة. وتشبَّه الطبيعة بامرأة
ضالَّة متمردة ينبغي تدجينها وتأهيلها
وإخضاعها لخدمة البشرية. من هنا يأتي
الاستنتاج بأن البيئة المهمة هي البيئة
المصنوعة وثقافتها الاقتصادية–الاجتماعية. لقد دحضت
الثورة الإيكولوجية للنصف الثاني من القرن
العشرين قصة الكفاية الذاتية البشرية. صحيح
أن كلَّ فرد يستمد الدعم المادي والعقلي من
المجتمع ومن المنتجات المتوفرة في البيئة
المصنوعة؛ لكن، كي يكون المحيط الاجتماعي
حيويًّا، ينبغي أن يتضمن السيرورات الداعمة
للحياة في العالم وفي المنظومات الإيكولوجية. قد تحسِّن
الثقافةُ البشرية فعاليةَ استخراج الطاقة
والموارد من الطبيعة، لكن هذه العملية ليست
هي بذاتها الطاقة والموارد. قد يوفِّر
المجتمع بطاقات الطعام من أجل المآدب
البشرية، لكن هذه ليست بذاتها الرزق. ففي
الحقيقة، تتصل "البيئة الاقتصادية–الاجتماعية"
المعتبَرة أكثر أهميةً بحبل سُرِّي تقني مع
السيرورات الحيوية على كوكب الأرض. إنها
متَّكلة على هذه السيرورات وتتعطل وظائفُها
من دونها. فالاقتصاد الذي يسنده النطاق
الإيكولوجي ومنظوماته الإيكولوجية القطاعية
سوف يموت ما لم يتم الالتفات إلى البيئة
المستدامة أكثر من التنمية المستدامة. لا تشكِّل
الجماعات والمجتمعات والثقافات [الحالية]
مستويات متكاملة من التنظيم لأنها تحذف، في
المفهوم والواقع، الخيوط الضامَّة التي تمنح
المتانة. عندما تضاف هذه الخيوط الداعمة
والرابطة فسوف تتحول الجماعات والمجتمعات
والثقافات إلى منظومات إيكولوجية متينة. ولكي تكون البيئة المحيطة
منسجمة مع طبيعة الكائنات الحية التي تحيط
بها ينبغي أن تكون ملموسة مثلهم في الواقع،
لكن على مستوى من التنظيم أشمل. هذا المستوى
الأعلى هو ما نعرفه بـ"المنظومة
الإيكولوجية" ecological
system، أي النباتات
والحيوانات في قطاع معطى من فضاء العالم
ومتكامل مع هذا الفضاء. تحجب اللغةُ
الشائعةُ هذا المنطق عندما تنظر إلى الجماعات
والمشترَكات والمجتمعات – وهي جميعًا مقولات
تصنيفية غير مقيسة – وكأنها كيانات جوهرية
معادلة في المرتبة لكلٍّ من الأحياء
والمنظومات الإيكولوجية ثلاثية البعد التي
تغلِّف الأحياء. ليس الأمر كذلك. المقولات
متباينة كما هي الحال في تجريدات من قبيل "الإنسان
الصانع" أو "الإنسان الحكيم". كلما تمَّ تأويل البيئة
بوصفها تدل على اتحادات السكان ومؤسساتهم في
الوسط الثقافي التبست البيئةُ بالمنظومة
الاقتصادية–الاجتماعية وبالتجريدات الأخرى
من قبيل "النطاق العقلي" Noosphère
لتلار دُه شاردان؛ وبذلك لن يحصل العالم
المعذَّب على ما يستحقه ويحتاج إليه من
انتباه. البيئة
وانتقاص قَدْرها لا يقدِّم أصل كلمة "بيئة"
منفذًا سهلاً للخروج من الارتباك الذي تخلقه
مفاهيم ضبابية. الكلمة مشتقة من الفعل
الفرنسي virer
الذي يعني "يدور"، بينما in/viron
تعني "يطوِّق" أو "يحيط". تستلزم
كلمة "يطوِّق" أو "يحيط" وجود مركز،
وتوحي بأن أشياء أخرى أهم تتوضع حوله. لذلك
"تحيط" البيئة بوقائع أكثر تحديدًا، مثل
الأحياء والناس، التي من خلالها تشتق منزلتها.
إن مثل هذا الاستعمال الخبيث الماكر لكلمة
"بيئة" يرجع إلى انشغال الناس بأنفسهم. إن إلغاء
الأهمية الذاتية للبيئة هو مصدر مشكلاتها.
فإذا كانت البيئة تدل على مجرد الأشياء
الطرفية المحيطة، وتتألف من العناصر
الثانوية التي تحيط بالناس، عندئذٍ سيكون
الناس موضوعًا أهم منها. لذلك، في حمَّى اتخاذ
الخيارات واصطناعها لنقل الخيار بين تطور
صناعي متزايد في سبيل رفاهية البشر وتطور
صناعي أقل يحمي جمال البيئة وسلامتها ودوامها
ويصونها، يكون ردُّ الفعل: "الأولويات
أولاً، ودَعِ البيئة لحظوظها". ثم، بعد هذا
كلِّه، ما هو الأهم: الناس أم الغابات
الاستوائية، المزارعون أم الأراضي الخصبة،
الأعمال أم البيئة؟ أكثر من ذلك، إن
توسيع المنطق نفسه يقود إلى ما يلي: إذا لم
ينمِّ المجتمعُ التطورَ الصناعي ويعزِّز
النموَّ الاقتصادي، محليًّا ودوليًّا،
بتشجيع التجارة والاستهلاك، مَن أين ستأتي إذ
ذاك الثروة اللازمة لتنظيف البيئة؟ الرسالة
واضحة: "ابحث أولاً عن اقتصاد مزدهر، لأن
الثروة سوف تشفي العلل كلَّها". وبكلمات
محددة، إن مفتاح التقدم هو النمو الاقتصادي
القوي! تتحدى هذا المنطقَ تلك
المشكلاتُ المتفاقمة السوء للتغيرات
الكيميائية في المناخ وتلوث المياه وتدهور
التربة الزراعية وتسمُّم الغذاء، وكذلك
النمو الاقتصادي الذي يزداد حدَّة بسبب تكاثر
السكان على صعيد عالمي. توحي المشكلات
الحالية أنه مهما تكن "البيئة" المحيطة
بالناس فإن أهميتها تتجاوز كثيرًا ما تنقله
هذه الكلمة الضعيفة. وراء قناع الألفاظ يتوضع
واقعٌ أكبر من "ذاك الذي [فقط] يحيط
بالأحياء". بالفعل، هذا التعريف الأخير،
الذي يكفي البيولوجيين في تركيزهم على نباتات
حقبة ما وحيواناتها، ينبغي استبدال تعريف آخر
أكثر واقعية به، وأقصد "المنظومة
الإيكولوجية الكوكبية" the
planetary ecological system التي
تغلِّف الأحياء وتضمهم كأجزاء منها. إن الاعتراف
بالمنظومة الإيكولوجية الكوكبية، باعتبارها
ذلك الشيء الموضوعي وراء المظهر الزائف
للبيئة، سوف يشكل تقدمًا مفهوميًّا رئيسيًّا
للجنس البشري. النطاق
الإيكولوجي هو الواقع الأولي إن الواقع المباشر للناس
على الأرض هو الكساء المركَّب للكوكب، ذلك
الذي لا يقلِّل من إعجازه ما يبدو عليه من
ألفة وبساطة في التركيب. إنه يتألف من طبقة
غازية رقيقة تتوضع فوق طبقات صلبة وسائلة،
وتتركز الأحياء على الحدود بينها. تدعى
الطبقة الغازية "النطاق الجوي"،
والسائلة "النطاق المائي"، والصلبة هي
"اليابسة". ضمن هذا النسيج الثلاثي،
يُشار غالبًا إلى الأحياء وما يحيط بها على
أنها تشكل نطاقًا رابعًا ذا صفة جماعية: "النطاق
الحيوي" biosphere؛
وهذا المصطلح عرضة للتضليل لأنه يوحي بتفوق
الأحياء. فعليًّا، المركِّبات
الأربع – الهواء والماء واليابسة والأحياء –
هي أجزاء ضرورية من الكلِّية المتوازنة، "النطاق
الإيكولوجي" ecosphere:
ويعني حرفيًّا "النطاق المنزلي". تمتلك
هذه الكلمة الدالة على المنظومة الإيكولوجية
الكوكبية فائدة مزدوجة: إذ إنها تذكِّر
البشرية بمكان إقامتها دون أن تعبِّر عن أيِّ
تحيز لصالح الأحياء؛ ومن ثم ليس ثمة انتقاص من
أهمية الأرض والماء والهواء في مقابل الأحياء.
تلزم عن ذلك أهميةٌ متساويةٌ لجميع
المكوِّنات، كما يلزم عنه أيضًا أن كلَّ شيء
موجود ضمن النطاق الإيكولوجي، بما في ذلك
الجنس البشري، هو ناتج عنه وقسم منه وجزء منه،
ولذلك فهو أقل أهمية منه. المنزل الكامل هو
الواقع الأول، وكل شيء آخر ضمنه لا معنى له
ويبقى مفككًا، معزولاً، مهمَلاً، إلى أن يُرى
ويُختبَر في سياق النطاق الإيكولوجي ككل. توحي اشتقاقات كلمتَي "فن"
art
و"دين" religion
أن وظائفهما تتمثل في التماس الدروب نحو الضمِّ
والربط. إن كلاًّ من هذين المطلبين
الأساسيين يمكن له أن يسهم في تأمل مثمر في
الأسئلة التي يطرحها التبصُّر الإيكولوجي في
العلاقة بين الناس والنطاق الإيكولوجي على
كلِّ مَن يسعى إلى الإنقاذ والضم: مَن أنت في
العالم؟ ما الذي تفعله بحقِّ الأرض؟ المنظومات
الإيكولوجية: قطاعات النطاق الإيكولوجي يغلِّف النطاقُ
الإيكولوجي كوكبَ الأرض كفقاعة رقيقة، لكنها
ذات أربعة أبعاد في الزمان والمكان. وكما هي
الحال في كتل الهواء والأراضي والمحيطات التي
تشكِّل أجزاء منه، يمكن تقسيم النطاق
الإيكولوجي إلى منظومات إيكولوجية جزئية
باستخدام حدود نظرية مفروضة. كل منظومة
إيكولوجية هي "صندوق" من طبقات مقتطَع من
النطاق الإيكولوجي: الطبقة الهوائية تكسو
طبقة مائية أو ترابية مع كائنات حية. كل
منظومة إيكولوجية أشبه بنسخة ضخمة من معرض
أحياء بحرية أو برية، هي فلقة من النطاق
الإيكولوجي، جزء يمتلك درجة عالية من التنظيم
والتكامل أكثر مما تمتلكه مركِّباته
المنفردة المتمثلة في الهواء والماء
والرسوبيات والأحياء. يمكن تصوُّر النطاق
الإيكولوجي واقعيًّا باعتباره مؤلفًا من
تراتُبية hierarchy
من المنظومات الإيكولوجية مثل صناديق ضمن
صناديق تحدَّد وفق مقاييس متنوعة، مناطقية
وإقليمية ومحلِّية، وذلك لأغراض التفكير
والدراسة والتدبير. هذه المنظومات
الإيكولوجية القطاعية التي تسمَّى – تبسيطًا
– بحارًا، قارات، جبالاً، سهولاً، صحارى،
غابات، بحيرات، أنهارًا، أراضٍ مسكونة،
حقولاً زراعية، مدنًا، وفقًا لمظاهر ثقافية
أو طبيعية بارزة، تتصف بأهمية تتجاوز كثيرًا
محتوياتها. إن الأشكال
الوافرة للحياة المتطورة هي الثمار
التاريخية والمكونات الحالية لهذه القطاعات
المتطورة. ظهرت البشرية إلى الوجود في نطاق
المنظومات الإيكولوجية الإقليمية: الغابة،
الساڤانا، الأراضي العشبية، الشاطئ
البحري، كأجزاء متعايشة مع هذه المنظومات،
وتطورت تطورًا مشتركًا ضمنها غير منفصلة
عنها، بالتوازي مع أحياء مرافقة ذات قيمة
وأهمية مساوية لها. ظهرت الأشياء
الحية داخل المنظومات الإيكولوجية التي
تؤلِّف النطاق الإيكولوجي. من هنا الحقيقة
التالية: الحياة إحدى ظواهر النطاق
الإيكولوجي. ليست الحياة شيئًا تمتلكه
الأحياءُ إلاَّ بمعنى ضيق وقاصر. من هنا تكون
العبارة التالية: "المنظومات الإيكولوجية
تمتلك أحياء" أكثر فطنة من الاصطلاح القائل:
"الأحياء تمتلك بيئات". نظرة من
السماء بدأت ثورة
كوپرنيكية ثانية عندما وصلت صورةٌ قمريةٌ
مثيرة لعالمنا من الفضاء الخارجي، ذلك أنها
زوَّدتنا بإثبات بصري عن واقع ما فوق عضوي.
كرة زرقاء خضراء داكنة الغيوم تدور حول
الشمس، يتقاسم بنيتها وسيروراتها ووظائفها
الناسُ ومجموعةٌ من أشكال الحياة الأخرى. طرحت هذه
النظرة الخارجية، النظرة من السماء، على
البشر منظورًا إيكولوجيًّا لم يعد ممكنًا
تجاهُله. في البدء كان العالم؛ ومنه، وفي
داخله، انبثق أناسٌ متَّكلون عليه. لنفكِّر كيف
كان يمكن لهذه الرؤية أن تنير المعرفة
والفلسفة والعلم والفن لو سُلِّم بها منذ
أربعمائة عام مضت! لنفترض أن الناس من قبلُ قد
استطاعوا النظر من السماء إلى الأرض ككل:
لكانوا رأوا أنفسهم مغمورين ضمنها يتلمَّسون
دروبهم. لقد شيَّدوا أونطولوجيات ملفَّقة،
مقرِّرين أن هذا الجزء أو ذاك، هذه القطعة أو
تلك، هي واقع مستقل منفصل. لو أن هذا
التبصُّر الفائق توفَّر في زمن غاليليو
لصَعُبَ على "عباقرة" جنسنا البشري أن
يخفقوا في الاعتراف بالنطاق الإيكولوجي
باعتباره الوحدة أو الكلَّ أو الواقع الذي
يستثير الإعجاب والتقدير أكثر من أيِّ شيء
آخر. بعد ثبوت هذا
الاعتراف، كانت الفنون بالتأكيد سوف تسلك
مسارًا أصح، على الأقل إلى المدى الذي يُضعِف
النرجسية البشرية التي تقتل العالم اليوم.
العلم أيضًا، خادم المطلب البشري الباحث عن
القوة، ربما لكان نجا من التركيز الضيق
المفسد على الرفاه ومن روح السذاجة التي ترى
أن الطريق يمر عبر إخضاع الطبيعة. برؤيتهم كلِّية
العالم، ربما يصحِّح مفكِّرو جنسنا البشري
مهاراتهم التحليلية الاختزالية ويعيدونها
إلى مهمة فهم أفضل للسيرورات التطورية في
تاريخ النطاق الإيكولوجي، ناظرين في إعجاب
إلى وحدته الوظيفية الحالية ومحددين
المكوِّنات الرئيسية له: الغلاف الجوي،
المحيط، المسطَّحات القاريَّة، تجمُّعات
النبات والحيوان، وشارحين لها أيضًا، لكن في
انتباه دائم إلى أن هذه المكونات هي أجزاء من
كلِّية أعظم. أخيرًا، فإن
الإمعان في التقسيم يجعل العلماء يصلون إلى
أنفسهم، إلى النوع البشري، أحد الأنواع
اللافتة في النطاق الإيكولوجي. مئات ملايين
"الخلايا" الپروتوپلازمية ترتعش على سطح
الكوكب مثل كريات بيضاء فضولية، العنصر ذو
الوعي الذاتي الذي وُهِبَ أفكارًا وهواجس حول
علاقة الجزء/الكل، العقل/المادة، الروح/العقل،
ذلك الجزء الذي أُعِدَّ كي يكون راعي العالم[4]. لكن ليس هذا هو
تاريخ الإنسان. ولم يحدث بعدُ. لم يتيقظ
مفكِّرو البشرية، وهم مغمورون في النطاق
الإيكولوجي، إلى الكلِّية المحيطة بهم.
لم يتمكنوا، وهُم داخلها، من الإدراك الشامل
لوسطهم. لم يتصوروا أن الأشياء الأخرى من غير
جنسهم ربما كانت لها وظائف وغايات وأدوار
هامة في سياق الواقع الأكبر غير المحسوس لهم. لذلك فسَّر
المفكرون كلَّ ما أدركوه من أشياء انعكست
مرآويًّا لهم بأنها كيانات منفصلة؛ بدءوا
بأنفسهم واعتبروها الأهم، ثم توجهوا نحو
الأشياء الأخرى ذات الخصائص الشبيهة بهم:
الحيوانات والنباتات. وفي المقام الأخير من
سلَّم الأهمية، أتت البقايا المحيطية، مثل
الهواء والمناخ والترب الزراعية والرسوبيات
والمياه العذبة والمالحة والصخور والمعادن
السطحية والباطنية. عندما كانت الجوانب
النافعة من هذه الأجزاء موضع اعتراف كانوا
يطلقون عليها تسمية "مواد خام" و"مصادر"،
وعندما كانت خصائصها الداعمة للحياة تجذب
انتباهًا كافيًا كانوا يبجِّلونها تحت اسم
"بيئة"؛ وفي الثمانينيات من القرن
العشرين اعتُبِرَت البيئة قمينة بالحماية
"بواسطة النمو الاقتصادي القوي" وفقًا
لكلمات تقرير علمي شهير! لقد أتت النظرة
من خارج متأخرةً أربعمائة عام. وفي الوقت الذي
وصلت فيه كان قد ترسَّخ في فكر العلماء أن
كوكب الأرض والكون خارجه ما هو إلاَّ آلة ميتة
– تجمُّع من الكرات الصغيرة صنعها عددٌ قليلٌ
من حقول القوى الفيزيائية. طوَّرت الفروع
العلمية التي تبرعمت من الفيزياء ميادينها
الخاصة المقصورة على الخبرة المادية،
وطوَّرت أيضًا موضوعاتها المستقلة الخاصة
التي سرعان ما تحجَّرت؛ وقد أكَّد خبراء هذه
الفروع على تقنيات محددة حول طبيعة الواقع
وحول ما هو جدير بالدراسة. سارت العلوم
الاجتماعية والإنسانية في حاشية العلوم
الطبيعية مذهولةً من القوة والشعبية التي
حقَّقتْها هذه الأخيرة، وموافقةً على
أونطولوجيا التفكك وعلى إپستمولوجيا
الموضوعية، علامتها الفارقة. هكذا تقسَّمت
الجامعات والإدارات الحكومية إلى أقسام تدير
عالمًا متشظِّيًا. لذلك ليس
غريبًا أن تتناقض الرؤية الواثقة التي
أُحرِزَتْ حديثًا مع تراث غريب عنها مكتوب في
ملايين الكتب والبحوث التي تفترض وتسلِّم
مسبقًا بأن كِسَر النطاق الإيكولوجي وأجزائه
هي كيانات قائمة مستقلة، غايتها التي أعطاها
الله لها هي خدمة النوع الذي انتحل لنفسه صفة
الحكيم العاقل: "الهدف الخاص للنوع البشري
هو الإنسان"؛ "الأرض إرث لنا"؛ "المصادر
الطبيعية موجودة كي تُستخدَم". هذه
الأفكار، التي اعتُقِدَ تقليديًّا أنها "حكيمة"،
هي مجرد هراء! التفكير في
العالم كأجزاء تقترح بعض
الأفكار التي يتكون منها الفهم الإيكولوجي أن
الميادين [الموضوعات] التي درستْها الفيزياء
والكيمياء والبيولوجيا والسوسيولوجيا وعلم
النفس واللاهوت والفروع المعرفية الأخرى هي
أجزاء فعلية، دُعِيَتْ، لأسباب تطورية
وظيفية، "النطاق الجوي" و"النطاق
المائي" و"النطاق اليابس"، وكذلك
التجمعات الپروتوپلازمية المرافقة التي
يتألف منها "النطاق الحيوي" – هذه كلها
ليست وقائع معزولة بعضها عن بعض إلاَّ كأفكار
خاطئة رسَّختْها ثقافةٌ فجةٌ في رؤوس صبيانية.
لقد استعملت البشرية وعيها كي تجزيء العالم
فكريًّا. كم يصعب علينا أن نعي أن
النطاق الإيكولوجي هو الوحدة الوحيدة التي
يعيش الناس في تماس حميم معها، الذي من إحدى
خصائصه تلك الظاهرة المدعوة "حياة". ليست
الحياة خاصية لجزيئات پروتينية معقدة
مرتَّبة سوية في جديلة مزدوجة [DNA]،
وليست خليطًا منظمًا من المواد التي تشكِّل
الپروتوپلازما، بل إن الحياة خاصية لكوكب
الأرض وللمنظومات الإيكولوجية التي يتألف
منها. لقد ضلَّت
البيولوجيا ذات الرؤية الأحادية والمفتقرة
إلى الإدراك العميق عندما تصورت العالم
مقسومًا إلى الحيِّ وغير الحي، العضوي وغير
العضوي، الحيوي وغير الحيوي، الحيِّ والميت.
ليست هذه التقسيمات خاطئة فحسب، بل مؤذية
أيضًا، لأنها تنتقص من قيمة أجزاء أساسية من
النطاق الإيكولوجي. ما الذي يمكن وصفه بالحي
والعضوي والحيوي دون ضوء الشمس الرحيم
والهواء والماء والتربة؟ هذه المركِّبات
أساسية وحيَّة وهامة كما هي الأحياء التي
تستمد جوهرها من هذه المركبات. تأليف جديد إن مهمتنا
الأولى اليوم هي استيعاب وتمثُّل مضامين
الفكرة التي تقول بأن الكرة الأرضية ككل هي كينونة
إيكولوجية، أي النطاق الإيكولوجي، يشكِّل
الناس، كأفراد وجماعات اجتماعية في بيئاتهم
المصنوعة، أجزاء منها. تتمثل البداية
في إدراك أن البشرية هي أحد الأنواع
الحية، تعيش في أسفل النطاق الجوي في حيِّز
شمسي محدود، وأنها تنهب الوسائل القابلة
للتجدد في مواردها، وتصرخ "المزيد من
النمو، المزيد من النمو"، وتحقن فضاء
الحياة بالمواد المصنَّعة، وتجعل ما يحيط بها
أكثر ضبابية، وتمسخ فردوس الأرض الذي ولدت
فيه – وذلك كله باسم رفاهية الإنسان. يوجد الناس
كأعضاء داخل النطاق الإيكولوجي الذي أنتجهم
عبر الدهور وأطعمهم وآزرهم وجدَّدهم، وسوف
يستمر في فعل ذلك مادامت وظائفُه معافاةً لم
تفسد. تشبه العلاقةُ بين الناس
والنطاق الإيكولوجي العلاقةَ بين الجنين
والمرأة: إن خير كلٍّ منهما يعتمد على خير
الآخر، لكن الأسبقية في الأهمية تذهب في وضوح
إلى الأم وإلى المنظومة الغذائية والمحيطية
الأكبر. المادة matter
(الأصل اللاتيني mater،
ويعني "الأم") تأتي أولاً. إن إعادة تصور
البيئة الغامضة كشيء واقعي وجوهري، أي النطاق
الإيكولوجي المغلِّف ذي الأبعاد الأربعة،
تعطي معنى جديدًا لحماية البيئة؛ كما أنها
تضفي قيمًا جوهرية ليس على الأحياء كافة
وحسب، بل وبالتساوي على الهواء والتربة
والماء وعلى الوحدة التي تضمهم سويَّة. على نحو أهم،
يستطيع مفهومُ النطاق الإيكولوجي كواقع أول
أن يبدأ في إبرائنا من المركزية البشرية
بتحويل الانتباه إلى الخارج بحيث نتمركز
إيكولوجيًّا. يستطيع أن ينتشل الإنسانَ من
مستنقع الجزع الذي أوقعه فيه ميراثُ الفلاسفة
والأديان التي ركزت على النوع البشري ووجهت
أنظارها فقط نحو الأفراد والمجتمعات
والجماعات والثقافات. إنها تزودنا بمعيار
جديد يمكن لنا بواسطته تقييم الأفكار
والأخلاقيات والسلوكيات البشرية. وهذا
المعيار هو: هل هذه تعزِّز المنظومات
الطبيعية والسيرورات الداعمة لأشكال الحياة
كلِّها؟ إنها تطرح خيارًا: هل البشرية مَن
يحفظ الكوكب أم مَن ينهبه، مَن يزيِّنه أم مَن
يُهلِكه؟ لم يعد السؤال
المطروح هو: هل هذه التكنولوجيا والعلم والفن
والثقافة والنمو أمور جيِّدة للبشرية؟ بل
أصبح السؤال الملح الذي يتخذ مكان الصدارة هو:
هل هي جيدة للنطاق الإيكولوجي؟ يجب أن يكون
هذا في المستقبل اختبارًا أخلاقيًّا للسياسة
العامة ولنوايا الأفراد. ***
*** *** ترجمة:
معين رومية [1]
نُشِرَتْ هذه المقالة في كتاب مدخل إلى
الفكر الإيكولوجي، بترجمة وتحرير معين
رومية، دمشق، وزارة الثقافة، 2007. نشير هنا
إلى أن الكاتب، في العنوان، يتلاعب بتعبير on earth،
الذي عادةً ما يضاف في الإنكليزية الدارجة
إلى صيغة السؤال ليفيد معنيَي التعجب
والحيرة، ليؤكد بذلك تعجُّبه من أن المنظور
الإيكولوجي العميق ليس هو الذي يوجِّه
اليوم نظرتنا إلى البيئة الأرضية ككل. (المحرِّر) [2]
ستانلي رُوِ Stanly Rowe:
پروفسور في الإيكولوجيا. عمل في مختلف
جامعات كندا. كان طوال السبعينيات
والثمانينيات أستاذ إيكولوجيا النبات في
جامعة Saskatchewan،
كما أجرى بحوثًا متخصصة في علم الحراج لدى
معهد الغابات في كندا وأشرف على مثل هذه
البحوث. [3]
إشارة إلى معنى كلمة "فلسفة" philo-sophia
باليونانية: "حب الحكمة". (المحرِّر) [4]
أو "راعي الوجود"، بتعبير الفيلسوف
الألماني مارتن هيدغِّر. (المحرِّر)
|
|
|