|
النسـيج
في البحـر صوفيا
أو الحكمةُ مستترةٌ في ثنايا
الطبيعة. ومع ذلك، يسعى الفلاسفةُ والعلماءُ
الحقيقيون – وهم محبُّو صوفيا–الحكمة – إلى
البحث عنها ورفع النقاب عن وجهها. وصوفيا، من
جانبها، تُلهِم هؤلاء وتبوح بقدسيَّتها في
الواقع المألوف. أليس هَووِل (1922- ) هذا ما تعلنه أليس أو.
هَووِل[1]
التي وضعت كتابين مدارهما معرفة أسرار صوفيا
ونشدان الحكمة. وإذا كان بعضُهم يصف صوفيا
بأنها إلهة الحكمة فإن "الحكمة القدسية"،
في رأي أليس هَووِل، ليست غير تشخيص لنمط بدئي
archetype
أو تمثيلاً لسيرورة كونية تسلسُلية متصلة.
وفي هذا المنظور، تتمثل صوفيا في سيرورة بسط
الحكمة وإشعاع "العقل الإلهي" وانبثاثه
في كلِّية العالم المادي. ولما كانت هَووِل
باحثة متعمقة في علم النفس اليونغي وفي
سرَّانية الدين، فقد وجهت اهتمامها إلى "الوحي
الحقيقي الصادق" الذي يكشف عن وجود صوفيا
في معالم حياتنا وأبعادها كلِّها. ففي اللغة
الميثولوجية، وتعبير الرؤيا والحلم، والعلم،
والهندسة الإلهية، تعلن صوفيا عن حضورها،
تحثنا على اكتشاف سرَّانيتها ضمن الأشكال
المبدعة، وتستدعي انتباهنا إلى إدراك المغزى
المتضمن في حياتنا وفي العالم. تقول أليس
هَووِل في هذا الصدد: لما
كانت الأرض موطننا الحقيقي فإن الواجب يقضي
بإعادتها إلى مكانتها أو موضعها الحافل
بالحكمة والجمال والنظام. وتضيف هَووِل: تُعَد
الهندسةُ الروحية أو العلم القديم المتمثِّل
في إدراك المعنى المضمون في الأشكال والصور
الماثلة في الطبيعة والمستفاد منها في فن
المعمار – وهي المربع والدائرة والمثلث
والمكعب والصليب والـπ
والمجسَّمات عديدة السطوح – ظاهرة من ظاهرات
حكمة صوفيا. في كتابها النسيج
في البحر[2]،
تتأمل هَووِل في الأنماط البدئية التي تكلَّم
عليها يونغ، في صوفيا، وفيما تدعوه "هندسة
النفس"، فتقول: تكمن
صوفيا مستترةً في كلِّ ما يحيط بنا على نحو
ميثاق يشتمل على الشكل والتصميم الفنِّي. وتتمثل الهندسة
الروحية بالعمق الباطني والمعنى الاختباري
للأنماط والبُنى الهندسية الماثلة في كلِّ
مكان من الطبيعة والخَلْق والإبداع. وفي رأي
هَووِل، تمثِّل الأشكال والعلاقات الضمنية
للهندسة لغةً رمزيةً للنفس لا تقل أهمية عن
أنماط يونغ البدئية أو أفلاك علم النجوم –
وهذا لأن الإنسان مدعوٌّ إلى التفكير
المعمَّق في رمزية هذه المعالم الثلاثة. عندما ولجت هَووِل إلى عمق
علم النفس اليونغي، أدركت كيف أن الأنماط
البدئية – مثل الأم الكبرى والبطل والطفل
الإلهي والزوج الحكيم – تصف السيرورة
التسلسلية الحية الخاصة بالنفس الإنسانية.
وعندما اطَّلعت في عمق على علم النجوم astrology
وجدت فيه الباب الموصل إلى "المحلِّل
الأعظم لعلم جَبْر الحياة". وفي دراستها
لدينامية علم النجوم (وآخر كتبها في هذا
الموضوع بعنوان السموات تعلن: العلامات
النجومية وتطور الوعي[3])
تبيَّنت لها اللغة الوصفية الأصلية للعمليات
الپسيكولوجية الإنسانية المتعاقبة، وعلمت
أنها "الخريطة" التي تُظهِر كيف أن الناس
يعالجون التجربة في سلسلة متصلة من العمليات
المتتالية، الأمر الذي يعني أنها "لغة
رمزية لسيرورات نمطية بدئية". وقد بدأت
بنشر تبصراتها التي أنارها التحليل اليونغي
وعلم النجوم العملي في كتابين هما: -
الرمزية
اليونغية في علم النجوم[4] -
التزامن
اليونغي في العلامات والعصور النجومية[5] وفي كتابها النسيج
في البحر، تعرض هَووِل مقدمةً متواضعةً
وأولية تعبِّر عنها على أبسط المستويات
الممكنة، وذلك لكي تساعدنا على اختبار
الهندسة في داخلنا بوصفها سيرورة حية. وتسعى
هَووِل إلى التعبير عن صوفيا بأنها، أولاً،
تتحدث بلغة الحكمة الرمزية، وثانيًا، تشير
إلى مورفولوجيا التصورات التي هي أشكال
الحكمة ذاتها. في هذا الصدد، تقول هَووِل: خلف
كلِّ ظاهرة فيزيائية، انطلاقًا من البلورات
إلى الأزهار، ومن خصلة شعر مرفوعة فوق جبين
طفل أو طفلة إلى لولب المجرات، يوجد معنى روحي
متضمَّن، هو إشارة من حكمة صوفيا المتجلِّية. وهي تضيف
معلنةً ما يلي: تُحدِثُ
صوفيا، عن طريق التوسط، توفيقًا بين عالمينا
الداخلي والخارجي، بين ما يدعوه يونغ محور
الأنا والذات. وتقوم صوفيا، بالدرجة الأولى،
بعملية توحيدنا مع العالم، بحيث إننا نختبر
هذا التوحيد، من جديد، من خلال صوفيا ذاتها. تأمل هَووِل أن
تكون صوفيا "مصدر بصيرة وغبطة" وعونًا
على فهم العالم فهمًا أفضل. وفي اللحظة التي
نعلم بأنها الرفيقة المساعدة للإله، ندرك
أيضًا أنها أبدعت المادة وصمَّمتها، وغلَّفت
أفكار الإله في الشكل؛ وعندئذٍ، أخفت ذاتها
في المادة على نحو نقاط النور، تاركةً
وراءها، في كلِّ مكان، المفاتيح الصالحة
لحلِّ الرموز. وفي وقت لاحق، أبدع الله
الإنسان ليعيد صوفيا إلى وحدتها ويكتشفها من
جديد ويتذكرها. وتكرِّر هَووِل قولها مرة
ثانية على النحو التالي: تكمن
صوفيا مستترةً في كلِّ ذرة وفي كلِّ حجر. وتظل
عصا سِحْر بوْحها والكشف عن سرِّها كامنةً
ومختبئةً في كلِّ واحد منَّا. وبهذه "العصا
السحرية"، أبدعت صوفيا أشكال الهندسة
لتكون الرمز الأولي لحالاتنا الپسيكولوجية
على نحو "شيء نستطيع أن نختبره في الواقع
ونفكر فيه ونتأمله على حدٍّ سواء". تتمثل قدرة صوفيا في حضورها
في الخليقة كلِّها. وعلى هذا الأساس، أصبح لغز
الطبيعة قائمًا في الأنماط الهندسية السابقة
لوجودها وفي نسيج "التكوين المبدع الدقيق".
ومتى اكتشفناها، يجدِّد العالمُ مكانتَه
تجديدًا فجائيًّا، ويعود من الفوضى التائهة
إلى النظام الحافل بالمعنى والغاية. ومتى
وجدنا العلامات التي ترشدنا إلى صوفيا،
أدركنا البراهين الأولى لوجود النظام الإلهي.
والحق أن المعضلات التي نواجهها في الوقت
الحاضر على مقياس كبير، كأفراد وثقافة
وحضارة، تنتج عن الفصل الذي نقيمه بين صوفيا
والعلم، بين علم النجوم astrology
وعلم الفلك astronomy،
بين الهندسة والرياضيات، بين المعنى المتضمن
في الباطن والظاهرة الخارجية. ويؤسفنا أن
نقول إننا نتعامل مع أمور الحياة ونحن نخضع
لمكانيكية الحرف، الأمر الذي يجعلنا نفقد
كلَّ إحساس بدينامية الرمز والسرِّ
والسيرورة الروحية المستترة. فقد تحولت
مفاهيمُنا وتصوراتُنا إلى حجارة تتنازع
بعضها مع بعض في صراع دائم بين الأضداد. وفي
هذا السياق، تقول هَووِل: إن
نسياننا صوفيا كلَّف الإنسانَ عناءً كبيرًا
جعله يدفع ثمنًا باهظًا. ففي استبعاد صوفيا،
يفصل السيفُ الحاد الرجالَ عن النساء، بحيث
إن كلَّ فريق منهما يسعى إلى السيادة الزائفة
والسيطرة. تدعو هَووِل
إلى عكس تيار هذه النزعة، وذلك بالبحث عن
المضامين الروحية المستترة في هذه الرموز
الروحية. وفي وفاق مع البحث الذي تدعونا إليه
هَووِل لمعرفة نمط صوفيا البدئي، تمثل صوفيا
الكيان المحب، الصميم، الجوهري، الرقيق،
الواقعي، المساعد للحكمة الإلهية الكامنة في
كلِّ واحد منَّا، وفي المبدأ التنظيمي الأعظم
والأسمى للإبداع المادي للكون. وهكذا، تكون
صوفيا المعزِّية، والروح القدس، والمرشد
الداخلي، والجانب الأنثوي للحدْس، والرسول
الذي يؤكد لنا أن العالم منظَّم، جميل، حكيم،
ويستحق محبتنا. عاينت هَووِل
دراما الوجود، فأدركتها، وجدت صوفيا مختبئة
في سرَّانية الطبيعة، واعتبرت هذا التخفِّي
السرَّاني متساوقًا مع تحرير الروح السجينة
في المادة أو مع ما دعاه الخيميائيون "الحمامة
في الحجر". ففي القديم، تمثلت صوفيا بحمامة
الروح القدس البيضاء التي انعتقت من "حجر"
المادة بقوة المحبة. والحق أننا نجد في كتابات
هَووِل الميِّزة التي تتصف بها المحبة
المنقذة أي المخلِّصة. فقد وضعت كتابها النسيج
في البحر وكتابها السابق الحمامة في
الحجر[6]
في إيونا، جزيرة صوفيا المقدسة في اسكتلندا،
التي تحج إليها هَووِل دون انقطاع. فقد تحدثت
عن صوفيا وهي تجوب تلال إيونا وأزقتها برفقة
"زوجها العزيز". وفي نظر هَووِل، تمثِّل
إيونا الحالة التي يكون فيها العقل مُحِبًّا،
هادئًا ومستقبلاً، يفسح المجال للولوج إلى
فعاليات صوفيا وإلهاماتها في عالم النمط
البدئي. فإذا كان لصوفيا هيكل، فليس من هيكل،
في رأيها، غير إيونا. وفي هذه المناسبة تقول
هَووِل: إننا
نضع صوفيا المختبئة في إحدى نقاط الحكمة التي
نمارسها في حياتنا اليومية موضع التنفيذ
عندما ننشئ صلةً بين رمز خارجي ومرئي وبين
النعمة الداخلية والروحية التي تهبنا المعنى. وتقول: إذ
نتأمل الدائرة، نعلم أن الحكماء أدركوا أن
الدائرة الفارغة ترمز إلى الروح
اللاَّمتجلية: هي صورة الله؛ هي الشمس
الداخلية؛ هي اللؤلؤة الثمينة؛ هي المركز
البدئي القائم في داخلنا؛ هي الذات. وتقول: إذا
ما تفحَّصنا الدائرة، استطعنا أن تفترض بأننا
قادرون على فهم المساحة المحتواة في داخلها،
ومع ذلك، لا نستطيع أن نشاهدها إلا على نحو
كلي، وهذا لأن مساحة الدائرة لا تُحَد ولا
تخضع للحساب؛ وبالتالي، تبقى مجهولة وغير
معروفة على نحو إدراك حسِّي. والحق أن سرَّانية الـπ
تحول دون هذا الفهم. ففي الهندسة، تُعَد الـπ
قيمةً تعيِّن نسبة محيط الدائرة إلى قطرها.
وعلى هذا الأساس، فقد ألقت الحيرةَ في قلوب
علماء الرياضيات وعقولهم. وهي، في الوقت
ذاته، تُذهِل الكمپيوترات التي تحسبها إلى
حدِّ استعمال 480 مليون من الخانات العشرية،
وذلك لأن العدد غير منتهٍ. ويعني هذا الواقع
أننا لا نستطيع أن نقيس كلَّ شيء ونفسِّره؛
وبالمثل، لا نستطيع إلاَّ أن نقارب الحقيقة
مقارَبة. لذا تُعَد الدائرة الفارغة، من خلال π،
الرمز المرئي اللاَّمعروف، تمامًا كما تُعَد
الذات أو الكينونة. وتمرح هَووِل وهي تقول: تجعلنا
صوفيا نشعر بالتواضع حيال هذه الحقيقة، وهذا
لأن π سر من أسرار صوفيا: سر قادر على تعمية
أبصارنا وبصيرتنا. وفي الوقت ذاته، تفتح لنا
صوفيا الطريق الذي يبلغ بنا إلى السرَّانية
اللاَّمعروفة للكينونة – الطريق الوحيد. وتقول هَووِل:
"نضع نقطة في مركز الدائرة"؛ وفي نظرها،
تُعتبَر هذه النقطة "البيضة الخصبة":
إنها نقطة الحَمْل والتصور، بداية عالم الروح
المتجلِّية. وتضيف هَووِل قائلة: نرسم
خطًّا من محيط الدائرة إلى النقطة، فنحصل على
نصف القطر أو الشعاع الذي هو صورة هندسية
رمزية، منقوشة ونافرة، تشير إلى الطريقة التي
تتصل بها الشخصيةُ أو الأنا مع الذات. وتعتقد هَووِل
أن الأنا تغزل أو تدوِّم حول محيط الدائرة –
على طول محيط كلِّية النفس – وهي تبحث عن
الاستنارة وتسعى إلى بلوغ النقطة المركزية.
وتتمثل حياة الأنا في استمرارية البحث، بمعنى
أنها تدور حول المركز في دوائر. هكذا تتابع
الأنا دورانها على مدار الدائرة، محاولةً أن
تفهم أو تدرك آلاف آلاف الأشياء في العالم
المتجلِّي، لكنها لا تستطيع إلى ذلك سبيلاً.
وفي نهاية المطاف، نتعب من هذا الدوران الذي
لا ينتهي، ونشعر بضياع كامل، ونُحس بأننا
نتعرض لأزمة نفسية؛ وبعد هذا كلِّه، ندرك أن
الحلَّ يكمن في اتجاه يؤدي إلى المركز: هذا هو
نصف القطر، أي الطريق الوحيد الذي تسلكه
الأنا المعذبة عند المحيط لتبلغ الذات. هكذا
يُعَد نصف القطر المدى أي الطريق الوحيد الذي
تعود الأنا المحيطية، من خلاله، إلى الكيان
الإلهي القائم في الداخل. وتعرِّف هَووِل
بنصف القطر كما يلي: هو
خط فريد مستقيم؛ هو البُعد الأول الذي كوَّنه
أو الامتداد. وتضيف إلى
قولها هذا ما يلي: هو
البرهان اليقين للثنائية التي تختبرها الأنا.
والمستقيم هو الطول الخالي من العرض والمسافة
الأقصر بين نقطتين – خط مقسِّم يقسم الواحد
إلى اثنين على نحو يتضمن الفصل، أي الآخر:
القطبين المتعارضين، الأرض والسماء، والخارج
والداخل. وفي هذا الصدد،
تقول هَووِل: يجعلنا
الخط المستقيم نتفكَّر في قضية العلاقة التي
تُعَد أصعب أنواع الجدل التي يستغرق فيها
عصرنا الحديث. وتضيف إلى هذا
القول ما يلي: إنه
لأمر لا يمكن لنا تجنبه. فإذا شاءت صوفيا أن
تمدَّ ذاتها إلى عالم التجلِّي، ما عليها
إلاَّ أن تضحي ببراءة كيانها في سبيل العالم
المؤلم الذي هو عالم البُعد والثنائية: فمع
الخط يحدث عالمنا الزمني الخطي، أي سلالم
التراتُب، أي مراكز الطاقة. وعلى هذا الأساس،
تنتظم المراكز الروحية الداخلية، أي مراكز
الطاقة، في تراتُب عمودي على نحو تماس أو
تجاوُر مع العمود الفقري الإنساني. وتمثل هذه
المراكز كلِّية الوظائف العليا المتكاملة أو
الموحِّدة للوعي. وتتابع هَووِل
كلامها على النحو التالي: تنتظرنا
صوفيا، المُحِبَّة والحكيمة والمعزِّية، على
الجسر الواقع بين الأقطاب المتقابلة لترشدنا
إلى مسكننا أو موطننا. ترى هَووِل،
كما يرى غيرها من السرَّانيين ومحبِّي
الهندسة الروحية، في الصليب طريقة من طرق
التعبير عن إقامة جسر أو صلة بين القطبين
المتقابلين. وفي هذا المنظور، يحدِّثنا
المنقول الباطني عن الروح الإنسانية "المصلوبة"
على صليب المادة الثنائي المصنوع من محورَي
الزمان والمكان. لذا يُعَد الخط العمودي
ذكريًّا وخلاقًا والخط الأفقي أنثويًّا
ومتلقيًا؛ ويمثل كلاهما ثنائية الكائن
البشري في مظهريه الذكري والأنثوي؛ ولكونهما
صليبًا، فإنهما يمثلان اتحاد هذين المعْلمين
أو المظهرين. والحق أن الصليب يُعَد واحدًا من
أقدم الرموز الهندسية التي تعرَّف إليها
الجنس البشري. ويتمثل سرٌّ من أسراره في أن
المكعب تعبير ثلاثي البُعد له: هو مجسَّم عديد
السطوح ومتلازم مع المادة تلازمًا دائمًا،
وبخاصة مع عنصر التراب. وإن أكثر ما
تذهلنا به صوفيا هو ما يلي: إذ تنشر سطوح
المكعب التسعة انطواءها لتنبسط على مكان ذي
بعدين، تشكِّل صليبًا. ويُمِدُّنا هذا الوضع
بمعرفة التكافؤات الرمزية للمادة والتجسد
والاتحاد القوي. وعندما ننشئ مكعب مكعبات – 27
مكعبًا – نرى أن المكعب السابع والعشرين يشغل
المركز الوسط أو الموضع المركزي، ويكون على
اتصال مع كلِّ مكعب في المجموعة. وإذا ما
انتقلنا إلى نطاق صوفيا، سألنا: ما هو المضمون
الروحي لهذا الواقع الهندسي؟ أجبنا قائلين:
المكعب المركزي، على غرار الذات، حاضر
ومتلازم مع العالم الثلاثي البعد. وعلى الرغم
من تلازُمه هذا فإنه يظل مختلفًا وغير مرئي.
وهنا يمكث الكيان مستقرًّا وغير مضطرب في قلب
المكعب، أو صليب المادة، أو في وسط حياتنا؛
وهو يذكِّرنا بأننا "نستضيف في داخلنا أي
في جسدنا المادي كيانًا مقدسًا ومستترًا".
تتساءل هَووِل: كيف
نتجاوز ثنائية الصليب المشكَّل من خطَّين
متقاطعين أو نتسامى عليها؟ وتجيب بأننا نتجاوزها بقدرة
الثلاثة – المثلث. فالأنا ترفض التخلِّي عن
القطبين المتقاطعين للعالم الثنائي وتتمسك
بهما في قوة لأنها تعتبرهما حياةً عزيزةً
عليها. وإذ يتجه بصرُ الإنسان إلى الأعلى من
نقطة توحيد الخط الأفقي والخط العمودي ويرى
قمة الصليب، يتخيل بأنه ينشئ الرسم الأول
المنطوي للهندسة – الحيِّز الأول المنطوي –
ليستخدم ثلاثة خطوط فقط، هي المثلث. والحق إن
ما يحدث الآن هو أمر له أهميته، وهذا لأن
التفسير الپسيكولوجي لهذا البناء الهندسي
البسيط هو ما اصطلح يونغ على تسميته بـ"الوظيفة
المتعالية لكونها خاصية مميِّزة للأقطاب
المتقابلة المتحدة". وهكذا، يتولد التوسيع amplification،
أو التحرك جيئة وذهابًا، لدى التناظُرات أو
التعارُضات بين المضامين الواعية
واللاَّواعية. وتولِّد هذه المقابلة جهدًا أو
توترًا يُحدِث، كما يقول يونغ، "الشيء
الثالث الحي". إنها حركة تنبثق من التعليق
أو التعطيل المؤقت بين الأضداد، وتسمو إلى
"مستوى جديد للكيان" الذي هو التأليف.
وتعبِّر هَووِل عن رأيها بقولها: يتحقق
الحلُّ عندما ننظر إلى المسألة من مستوى آخر
أو من بُعد آخر. فصوفيا، من حيث إنها حَدْسنا،
تتوسط بين تعارُضات الأنا وترفعها، أي تسمو
باتجاه الذات، وذلك باستخلاص البصيرة
الروحية من التجربة المختبَرة. في هذا السياق نقول: عندما
نذكر فعل "ينمو" نضمِّن في هذه النسبة
الذهبية golden section،
التي هي مبدأ من أكثر المبادئ أصالةً للتصميم
الهندسي الرائع، كلِّي الحضور في الطبيعة،
المبدأ الذي يجعل من الحركة والتطور والتغير
حقيقةً ممكنةً الحدوث. وإذ تتحدث هَووِل
بحماسة المفكر عن النسبة الذهبية، تقول: عندما
نرسم خطًا ونقسمه بحسب نسبة 1/1.618، ندرك أن هذه
النسبة تدعى φ،
أي النسبة الذهبية، ونعلم أنها تنتشر لتصبح
لولبًا يتسع أو يتمدَّد إلى اللاَّنهاية.
ونجد أن φ، أي النسبة الذهبية، هي مزية
التخطيط والتصميم البارزة في كلِّ شيء
تقريبًا، انطلاقًا من صَدَفة النوتي الجوفاء [حيوان
من رأسيات الأرجل]، إلى تشريح جسم الإنسان،
إلى إزهار عبَّاد الشمس، إلى النجمة
الخماسية، إلى شكل لولب الـDNA. والحق أن φ تُبدع في الشكل الهندسي لولبًا
متفتحًا ومتجلِّيًا للعيان. وفي الرياضيات،
تبدع سلسلةً متتاليةً مضافةً تدعى أعداد Fibonacci.
وتعكس المتتاليتان نسبة π وهي تتطور، بمعنى أنها تنشئ أو
تستنبط وتستقرأ. تقول هَووِل: إني
أعتبر هذه القاعدة الهندسية أكثر القواعد
المذهلة بين أسرار الهندسة الإلهية. فهي تمثل
الموضع الذي يكون فيه العقل البشري قادرًا
على إقامة صلة بين تجريد رياضي وقانون من
قوانين الطبيعة بحيث يصبحان متطابقين أو
متوافقين. وتضيف هَووِل قائلة: "تحتل
النسبة الذهبية الذروة العليا وتُعد رائعة
الهندسة"، وهذا لأنها تقيم الدليل على أن
"الله يُهندِس" God
geometrizes. وتبيِّن هَووِل أن
قيمتها الرمزية يُحتمل أن تقبل البرهنة عليها
برهانًا هندسيًّا. وتؤكد هذه النسبة أن الرمز
قادر على البلوغ بنا إلى الحقيقة وعلى
إيصالنا إلى حقيقة أعظم عن طريق التوسيع. وعلى
هذا الأساس، يمثِّل رمزٌ هندسي مثل φ
"التجلِّي الأبدي للألوهة" في العالم
الأرضي الذي يشير إلى ظهور صوفيا. شبَّه الأقدمون تجلِّي
صوفيا أو ظهورها بلغز هو مشكلة محيِّرة،
مربكة ومغيظة، تدعى "تربيع الدائرة" squaring
the circle. وبالفعل، يُعَد هذا
"التربيع" الحلَّ النهائي للأضداد أو
الأقطاب الثنائية المتقابلة، وذلك لأنه
يستحيل علينا، تقنيًّا، أن نجعل من المربع
دائرة! وما علينا، كما تقول هَووِل، إلاَّ أن
نعتبر الأمر رمزيًّا. وإذا كانت الدائرة ترمز
إلى الروح والذات فإن المربَّع أو المكعب
يجسِّد المادة والأنا تجسيدًا ضمنيًّا. إذن
فتربيع الدائرة يعني السيرورة التسلسلية
المتقدِّمة باستمرار للتجلِّي والتفرد
والتجسد. في علم نفس الأعماق، يعتبر
يونغ عملية "التفرد" individuation
بأنها إقامة التكامل والانسجام
بين وظائف النفس ومعالمها – المحيط ونصف
القطر والفراغ. ويُعتبَر التحقُّق الذاتي، أي
التفرد، مشروعًا يستغرق حياة الإنسان
بكاملها. وكما رأى يونغ، تمثِّل هذه السيرورة
الغاية التي تسعى الروح إلى تحقيقها والقصد
السرَّاني من كون الإنسان كائنًا حيًّا.
والحق أن هَووِل تجد السبيل إلى البصيرة
العميقة وهي تماثل تربيع الدائرة بالتجسد.
فكأن الكائن البشري المجسَّد بالمادة –
المربع والمكعب – يسعى إلى الانتشار والتوسع
والنمو، إلى أن يبلغ كلِّية الذات وهو يضيف
المزيد من السطوح إلى شكله المكعب الأصلي: فهو
ينمو ويتطور تطورًا مستمرًّا عبر تتابع
المجسَّمات عديدة السطوح حتى يبلغ المرحلة
المعقدة الاثني عشرية السطوح (الشكل الذي له
اثنا عشر سطحًا) والعشرينية السطوح (شكل له
مئة وعشرون وجهًا). وكلما زاد سطوحًا خلال
عملية التفرد المستمرة، زاد اقتراب المكعب من
الكمال الدائري للكيان؛ وعند ذاك، يربِّعه
تربيعًا تقريبيًّا. وعند هذا الحد، يصبح
الشخص "كلاًّ" أو "كلِّيًا" whole
في كيانه وهو مازال في هيكل جسده –
وفي هذه الحالة نقول: الله يتأنسن. وكما
تصرِّح هَووِل، يكون التفرد هو التجسد ذاته،
أي الظهور في الجسد على مستوى كوكب الأرض.
تقول هَووِل: تتماثل
قضيةُ تحويل الدائرة تحويلاً كليًّا إلى مربع
مع قضية سرَّانية π المجهولة. وهكذا، تكون
السيرورة الناتجة هي السيرورة التي تهمنا.
وعندما يستغرق الإنسان في تأمل هذه القضية
المحيِّرة، يتخيل نفسه وكأنه موجود في وسط
الدائرة المتوِّجة لهندباء برِّية وهي في
مرحلتها النهائية التي تظهر فيها وكأنها تطلق
أبواغًا يانعة على نحو سحابة من دخان. وفي هذا
المجال، تتحدث هَووِل على نحو مرح، فتقول: "لا
يهمني إن كنت أطير معها"! والحق أنها لا
تنظر إلى الهندباء البرية بوصفها عشبة ضارة،
بل بوصفها ظاهرة طبيعية لصوفيا، وسمة عجائبية.
تقول هَووِل: إنها
أسطوانة مذهَّبة من الأشعة في مرحلة معينة،
ودائرة كاملة مليئة بالأشعة المضيئة في مرحلة
أخرى. وهكذا تُعَد رمزًا حيًّا كاملاً
ومعدًّا للسرَّانية الهندسية الملازمة
للهوية الإنسانية. وتضيف إلى
قولها هذا ما يلي: يُحتمَل
أن يكون كلٌّ واحد منا صوفيا أي شعاعًا أو نصف
قطر للسرَّانية العظمى الكامنة في وسط
الخليقة. وإذا كنا
قادرين على التحدث عن اللاَّموصوف فلأن
السرَّانية هي السيرورة المستمرة والمستترة
في الخليقة كلِّها – السرَّانية التي هي "المحبة
المشعة والمضيئة". تلك هي البصيرة التي
تسعى صوفيا إلى إلهامنا إياها إلهامًا دائمًا.
وفي الواقع، لا يُعَد تحريرُ "حمامة"
صوفيا من "حجر" العالم تأكيدًا على محبة
العالم المادي وأسراره الصوفية. فإننا
نستطيع، ونحن نبذل جهدًا ضئيلاً لرؤية العالم
"بعين المحبة"، أن نكشف الستار عن صوفيا
وهي في تجلِّيها الكلِّي وجمالها الممجَّد،
ونحيي روح العالم ونجدِّده، فنعيدها بذلك إلى
حياتها المقدسة بيننا. تقول هَووِل: "يعني
سرُّ أسرار صوفيا أن الحياة تصبح ممتلئة
بالغبطة." وتضيف قائلة: يمتلك
كل واحد منا في داخله إيونا، أي جزيرة حمامة
صوفيا. ويُعَد اكتشاف هذه الحقيقة العميقة من
جديد جزءًا من انبثاق جديد للأنثى في زماننا
هذا. وتعد عودة
صوفيا، الماثلة في كلِّ مكان، مسألةً هامة
جدًّا. فقد تنبأ جواكيمو دي فيوري[7]،
منذ بضعة قرون، بأن المستقبل سيشهد بزوغ عصر
جديد هو عصر الروح القدس، عصر صوفيا التي تعلن:
"إني أوحِّد جميع الأشياء". وتصبح صوفيا
الحامل بالله، أي "الأم الداخلية للطفل
الإلهي، وهو الكيان المتجسد في داخلنا"
الذي يساعدنا على الولادة من جديد في العالم
من خلال الروح القدس. وفي هذا العالم الجديد،
تساعدنا صوفيا على معاينة الأنماط الطبيعية
للروح الإنسانية في الأشكال الهندسية
للطبيعة. ***
*** *** [1]
ولدت أليس هَووِل في كامبردج، ماساتشوستس،
في العام 1922، ومنذ سن الخامسة عاشت في
الخارج، فلم تلبث أكثر من ثلاثة أشهر في
مكان واحد. ولما بلغت الثامنة عشرة من عمرها
كانت قد زارت 37 بلدًا وشرعت في دراسة
للأديان والميثولوجيا استغرقت من بعدُ
حياتَها كلَّها. لدى عودتها مع والديها إلى
الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية
الثانية، درست على عالِم النجوم المرموق
مارك إدموند جونز بوصفها أحدث طلابه سنًّا.
ثم ما لبثت أن تزوجت وأنجبت أربعة أولاد،
ودرَّست الإنكليزية والتاريخ في مدارس
خاصة في لونغ آيلند، نيويورك، مدة 18 سنة،
متقدمةً على المستوى الجامعي. واصلت هَووِل
دراستها لعلم نفس الأعماق اليونغي ولعلم
النجوم على التوازي طوال ثلاثين عامًا،
وعملاً بنصيحة المحلِّل اليونغي إدوارد ف.
إدنغر، باشرت محاولتها الجدية للبرهان على
أن علم النجوم رديف تشخيصي مفيد لعلم النفس
التحليلي (اليونغي). ثم بدأت تكرس وقتها في
نجاح لمعاودين مرضى أرسلهم إليها أطباءٌ
ومحلِّلون نفسيون. درَّست هَووِل في مؤسسة
يونغ في مدينة نيويورك، ثم في معهد ك.غ. يونغ
في كلٍّ من شيكاغو ولوس أنجلوس، حتى صارت
مُحاضِرةً مطلوبة دوليًّا، حتى في أوروبا
وآسيا. وهي اليوم تُعَد من رواد الربط بين
علم النفس وعلم النجوم. وبتشجيع من زوجها
الثاني المرحوم ولتر أندرسِن، توفرت على
تأليف الكتب (منها كتاب للأطفال بعنوان كتاب
بيجوم The Beejum Book).
هَووِل تقيم الآن في بركشايرز،
ماساتشوستس، وعلى الرغم من كبر سنِّها
ومشكلاتها الصحية المزمنة، مازالت تمارس
عملها التحليلي في نشاط وتدير مجموعةً
يونغية على الإنترنت. (المحرِّر) [2]
Alice O. Howell, The Web in the Sea: Jung, Sophia, and the Geometry of
the Soul, Quest Books, Theosophical Publishing House, [3]
Alice O. Howell, The Heavens Declare: Astrological Signs and the
Evolution of Consciousness, Quest Books, TPH, 2006. [4]
Alice O. Howell, Jungian Symbolism in Astrology, Quest Books, TPH,
1987. [5]
Alice O. Howell, Jungian Synchronicity in Astrological Signs and Ages,
Quest Books, TPH, 1990. [6] Alice O. Howell, The Dove in the Stone: Finding the Sacred in the Commonplace, Quest Books, TPH, 1988. [7]
صوفي إيطالي
(1130-1202): صاغ عقيدة صوفية تعلن عصر هيمنة
الروح القدس وتعزو للمتواضعين دورًا
أساسيًّا في خطة الخلاص. (المحرِّر)
|
|
|