|
بـلـوك
نـوت 2 خـريطـة
القلـب الخرائطُ لا ترسم السلام، ولا الطرقُ ولا الدروبُ
الملتوية ترسمه. فالذاكرةُ واعية، والزمن
الذي مرَّ قصير، ومَن أتى راكبًا الشرَّ
ليأخذ أرضَ سواه مازال يراهن على الشرِّ،
يراوغ ويقبل ويرفض ويحيل حياةَ البشر في كلِّ
مكان جحيمًا يهدد الأرض وأبناءها أجمعين، في
حِمى دولة عظمى، ينظر سكانُ أرضها الأصليون
اليوم – حكماء الهنود الحمر – فيشاهدونها
مريضةً تنتفخ كضفدع مغرور فوق كوكب تتطور
روحُه، بينما قاطنوها متحجِّرون داخل أقفاص
التكنولوجيا والغطرسة. يرسمون
"خريطة طريق"، ولا يعرفون أنها تبدأ
وتنتهي في القلب. صهاينة العالم وأصدقاؤهم لم
يشعروا يومًا مع الفلسطيني الذي سُلِبَتْ
أرضُه وحياتُه على مرِّ عقود، ولا مع العربي
الذي انتُهِكَتْ حقوقُه لأنها تتعارض مع
أطماعهم. إلا أننا، بعد هذا الصراع الطويل،
سنأخذ في الاعتبار ضعفَ بناءٍ في تركيبة
الإنسان الصهيوني والأمريكي المتصهين، لا
فرق: كلاهما فقد منذ زمن بعيد الحسَّ بالحق
والخير، وفقد التوازن بسبب الخوف ممَّن قد
يسحب الكوكب من جيبهما الصغير – هذا الكوكب،
الذي يحمل ستة مليارات بشريٍّ وممالك الحيوان
والطيور والنبات والبحار والصحارى، ويدور
حول الشمس، لا يملك أحدًا، ولا يملكه أحد،
ويريدون امتلاكه، بدءًا من فلسطين وجوارها! تثيرون
شفقتنا حقًّا! فبعد أكثر من نصف قرن لم
تلاحظوا أنكم لن تعرفوا السلام ما دمتم لا
تنوون سلامًا ولا خيرًا، ولن تعرفوا
استقرارًا مهما قتلتم وهدمتم. فالقلب عندكم
مقفل، ثقيل، هاجع، مقطَّع الشرايين، يثير
الشفقة. لذا سنقابلكم اليوم بقلوب واعية،
منفتحة، غير واجلة، لعلكم تصحون، ونخبركم أن
أمنا الأرض تحملنا جميعًا، تمنحنا مساحة
الإدراك والتطور، ونحن وأنتم لا نملك ولو ذرة
من ترابها، وهي لا تملكنا، بل معها نسير نحو
الضوء. فارتفعوا عن أطماعكم المظلمة... لنرسم
معًا "خريطة القلب" النابض بالحب
والرأفة، والمدرك أننا واحد مع الخالق والكون. فهل
تستجيبون؟ هل ستنهضون من عمى قلوبكم؟ إذ لا
خرائط ترسمها أمريكا الواقعة في قبضة خيالكم
المظلم ستنقذكم، ولا وعدًا أسطوريًّا
تتمسكون به، وبجهل عقيم تفاخرون بتفوق
تكنولوجي لا يتناسب إطلاقًا مع حكاية صكِّ
ملكية قديم جدًّا لا تموت صلاحيتُه، يخوِّلكم
سلبَ أرض فلسطين وما يحيط بها وفق ما تشتهون
على مرِّ الأزمنة. ألا هل
يفيق الإنسانُ في قلوبكم لنعرف السلام؟ * * * أسـئلةُ
الشـكِّ ونـارُ اليَـقيـن مؤامرة نَسَجَها خيطٌ من خيوط
الشمس مع كسرة زجاج، فكانت رقصةُ النار في
غابة وادي صنوبر وسنديان، في أيلول، زمن
الحرائق، كالعادة. أو لعلها سيجارة "مخرِّبة"
خرجت من رحمها نارٌ جائعة إلى الأخضر، أشعلها
إنسانٌ ليحوِّل الأشجار فحمًا قبل شتاء لا بدَّ
آت. من الظلام خرجت النارُ ترقص
فرحةً بالهواء يحملها إلى كلِّ غصن، إلى كلِّ
ورقة لم تسقط بعد. وكانت اللوحة رائعة – لولا
الأشجار! ليت النار تبتلع الهواء فقط، يحملها
وتحمله، يأكلها وتأكله، ثم تنطفئ، ويبقى
الهواءُ هواءً وتسلَم الغابة. كان ذلك خارجًا. شاهدتُه من
شرفتي. وفي الداخل، سماحة السيد محمد حسن
الأمين في جلسة تلفزيونية ممتعة تأخذك إلى
عمق الأعماق، سواء تكلم شعرًا في العشق أو في
الدين أو في السياسة أو في الحروب أو في علاقة
الإنسان بالإنسان. تسمعه وتتساءل: متى في
علاقتنا بالآخر يظهر مفتاحُ الحروب والسيطرة
والإبادة؟ ألا يشبه ما بيننا ما يدور بين
النار والهواء والماء؟! وجاء الماء تحمله سياراتُ
الدفاع المدني ليطفئ اللهب طوال ساعات، حتى
توقفت الرقصة المجنونة، وانسحب دخانٌ أبيض
كالغيم فوق مجرى نهر بين جبلين جفَّ ماؤه قبل
نهاية الربيع. أقفلتُ على مَشاهد الخارج
ودخلت. ثم تذكرت قول المولى في الفصل العاشر
من البهغفدغيتا، لؤلؤة المهابهارتا:
"أنا بين آلهة الشموس النجمُ الذي لا يغيب،
وبين الأنجم الشمسُ الساطعة، وبين الأنوار
المنعكسة نورُ البدر، وبين الأجرام القمر."
كلها مصادر نور وضياء لرحلة الداخل والخارج؛
إلا أنها، أيضًا، مصدر مدٍّ وجزر، ومع حركة
الأرض، مصدر للعواصف والفيضانات والحرائق
والأعاصير، مصدر تناوُب مستمرٍّ بين الأضداد
في مظاهر الوجود كلِّها، تناوُب بين تجدد
النماء ثم تجدد الدمار، حتى داخل خلايا
أجسامنا. آخر الأسئلة وَرَدَ من حقل
الإيمان الديني: "هل تمرُّ بالشك؟" وكان
صمت... ثم أجاب السيد الأمين: "ليس هناك شك،
إنما قلق." ولم يذكر مصدر القلق، والسائل لم
يسأل. غير أن مُشاهدًا في مكان ما مرَّ بفكره
على التعاليم كلِّها على مرِّ العصور، ورأى
بين سطورها بذور تنامي الأضداد وأزهار
التناقض الزرقاء، فشعر بقلق يشبه قلقَ الشاعر
السيد، وتساءل: "لماذا وإلى متى؟!" * * * أدبٌ
مهـمَـل للصِّـغـار فَتَحَ معرضُ بيروت العربي
الدولي للكتاب أجنحتَه الكثيرة، وطار بكلِّ
أنواع الكلام الذي اشتراه مَن بقي يطالع
وحمله إلى حيث سيقرأ ما اختار – إلا الصغار!
فلا دار نشر ترغب أن تتعامل مع أدب الأطفال
بالعربية؛ وإن فعلتْ، فلها شروط لا تبوح بها
لأنها ليست على ذوق المدارس ومناطق المدارس
والدين الذي يهبُّ في صفوف المدارس وزوايا
عقل مَن يديرها، إلى أية طائفة وحزب انتمى.
لذا فإن أولادنا لا يقرؤون العربية. فكتب
المطالعة العربية باتت، مثل أهلهم ومناطقهم
ومدارسهم، تنتمي إلى زمن عتيق، على الرغم من
كلِّ بهرجتها وألوانها الزاهية! والصغار أبناءُ نضارةِ تطوُّر
لا ينتمي إلى دين أو فكر سياسيٍّ أو عقيدة أو
نظريات، غربيةً كانت أم شرقية. يأتون إلى
الحياة ليغيِّروا، فيسحبهم أولياءُ أمرهم،
في البيت وخارجه، إلى دهاليز فكرهم المتخلِّف
ويشدُّونهم إلى عوالمهم المريضة. وهكذا تتوقف
حركةُ التطور الإنساني في عالمنا العربي،
ونقع فريسةَ الغطرسة الغربية التي تتدخل
دائما لتؤدِّبنا وتمدِّننا وتنهب في طريقها
ما تبقى عندنا، فيعلق بها مَن يعلق، ظانًّا
أنه أرقى من سواه، فلا يتكلم إلا الإنكليزية
والفرنسية (بلكنة أهل باريس) ورأسه ينطح
النجوم! أما خصمه في مباراة الوجود، فيغرق في
تقاليد تغلق أبوابًا، لو بقيت مفتوحةً لدخل
منها ضوءٌ كثير. والاثنان يقفان معًا على درجة
وعي واحدة متدنِّية، لأن البغض والجهل والخوف
أثقلت عليهما فتوقفا عن التطور. وكلاهما جرَّ
معه الصغارَ إلى القعر. فكتاب قصص للصغار، لو
حمل قصةً عن فلسطينيٍّ صغير يسير إلى الضوء
على الرغم من الدمار، وقصةً عن عراقيٍّ صغير
يسأل والده: "لو ذهبنا نحن لغزو بترول
أمريكا هل سيحفر هناك الآباءُ خنادق حول
بيوتهم ليختبئوا؟"، وقصةً عن صغير يحار في
سرد خطايا اقترفَها وسيسردها للكاهن قبل
مناولته الأولى، إلخ – كتاب كهذا ترفضه دار
نشر في بقعة من الوطن، لا تهتم بفلسطين
والعراق ويهمها كثيرًا رضا الله على الصغار
الخطاة المساكين! وفي بقعة ثانية من الوطن
الكرتوني نفسه، لا تقبل أيةُ دارِ نشرٍ
كتابًا يحمل قصةً عن صغير يسأل أمَّه لماذا لا
تضع على رأسه حجابًا مثل شقيقته! لو تطير الكتبُ من أجنحة معرض
الكتاب العربي الدولي كلِّها، لتحلَّ
مكانَها كتبٌ تليق بصغار على درجة وعي عالية
متطورة لا يفهمها الكبارُ النائمون داخل كهوف
هجرتْها حتى الوطاويط والعناكب! أية دار نشر
تجرؤ على كشف أنها إذا نشرتْ كتبًا لصغارنا
فتحتَ شعار ستة وستة مكررًا – وإلى متى يدوم
عصر انحطاط قام ولم يقعد بعد؟! * * * تسـقط
أكتـافُهـم وتتـألَّـقـون! كهرباء الدولة مقطوعة، وموصولة
كهرباء الاشتراك، وإشارة على شاشة التلفزيون
تقول "يُنصَح بوجود الأهل" قبل البدء
بالحلقة، ربما الألف، من مسلسل مكسيكي بتنا
نراه مميزًا مقارنةً مع "مسلسلاتنا"
السياسية التي جعلتْنا محطَّ سخرية شعوب
الأرض لأننا نهيِّئ ونتهيَّأ في الربيع
المقبل لانتخابات نيابية نظنُّها الحدثَ
الأهمَّ في تاريخ الجنس البشري، القديم
والحديث، برعايةٍ وتدخُّلٍ وتنافُسٍ من
السفيرين الأمريكي والفرنسي و"عشقهما"
المُعْدي للديموقراطية والحرية – كلمتين
تتدحرجان من أفواه مرشَّحينا باستمرار، ليل
نهار. ونحن في وطن نُوَّابه وزراء،
ووزراؤه نوَّاب، وهم على مرِّ التاريخ لا
يتغيرون: إما "معارضون" أو "موالون"،
بحسب مصالحهم الشخصية وبحسب ما يكلَّفون به
من الشرق والغرب. ونحن في وطن حيث لا كهرباء،
كما في الدول المتحضرة وحتى النامية، لا ماء
بمواعيد منتظمة، لا سياحة منظَّمة مستمرة، لا
صناعة نامية، بل منكفئة وغائبة، لا زراعة
مؤمِّنة أسواقَها الاستهلاكية، ولا نوم،
وركض مستمر، وجوع في أحيان وأحياء كثيرة،
ومشاكلنا مع الضمان والدواء والطبابة لا
تنتهي – هذا كله، ونوابنا مخطوفون إلى
الاهتمام بانتخابات نيابية من غير أن يرفَّ
لهم جفن أو يستيقظ ضمير. فبعد أربع سنين بائسة،
قاحلة، عقيمة، من تمثيلهم للشعب في البرلمان،
يتذكرون اليوم أن تاريخ انتهاء صلاحيتهم جاء
وآن أوان مجيئهم الثاني أو العاشر، معارضين
وموالين، ضاربين بقدسية حقِّ تمثيلهم للشعب
وبواجباتهم حيال الوطن وجهَ الوطن الشاحب.
آباء وأبناء لعقود خَلَتْ ما أنجزوا ولو
القليل – باستثناء الحرب الأهلية بالطبع! –
في وطن بحجم مدينة كبيرة يمكن لنا أن نجعله
نموذجيًّا، لو أردنا أن نستفيق. لكن لا تحملوا همًّا، نوابَنا
الكرام الكثر! فمَن أوصلكم وآباءَكم
وأجدادَكم إلى البرلمان سيوصلكم في الربيع.
فأوقِفوا رحلاتِكم إلى أمريكا وأوروبا: فبفضل
الغرب وفضلكم، نحن منقسمون من جديد. ولا
تحملوا همَّ تطوير برامج إنماء وإعمار للموسم
الآتي: فلن تُسألوا، كما في الماضي. ومصيبتنا
الكبيرة بكم، يا نوابنا المعارضين اليوم،
الموالين بالأمس، تشبه مصيبتنا الكبيرة
بنوابنا الموالين اليوم، المعارضين بالأمس:
فهم سينشغلون بمحاولات إلغائكم، وسيبتكرون
كلَّ ما يعرقل أحلامكم؛ ومثلكم، لن يسمح لهم
الوقتُ بالتخطيط للنهوض بالوطن من كبوة تبدو
أبدية. وفوق مصيبتنا بكم وبهم، تأتي
مشاركة الأولاد الذين بلغوا الثامنة عشرة في
انتخابكم. وستصعدون على أكتافهم الطرية،
وسيعتادون ثقلكم وثقل أولادكم حتى يشيخوا،
فتسقط أكتافُهم ورؤوسهم وتتألقون. وآخر
مصائبنا: سيداتنا الراغبات في تمثيل الشعب في
البرلمان رغمًا عنه! لذا ستلجأ الدولة إلى فرض
"كوتا" خاصة بالسيدات اللواتي سينجحن،
رغم أنف السادة، في المشاركة بالمسرحية،
وسيزداد عددكم المشؤوم! نحن نحضِّر ونتحضر لانتخابات
ربيعية نيابية زاهية. ومَن ينظر في الصحف يرى
أننا نحتضر سياسيًّا: فلا حياة ستقبل
بدَجَلِنا بعد اليوم – ذلك أن السياسة أدب
وفكر وفن، ونحن في غير واد! * * * جـذورُ
المَسـألـة والحِـوَار الصَّـعْـب حين عَبَرَ الكاتب نصري الصايغ
البوابةَ القاتمةَ إلى الضفة العبرية، هربتْ
منه فلسطين، ومثل كلِّ يهودي اغتصبَها بداعي
الحب، شعرَ بخوف وقلق كبيرين، وأصيب بيأس،
مثل كلِّ يهودي انتظر طويلاً ليرى ولو أسبوع
سلام واحدًا، من غير جدوى. وكان أن دخل في حوار
مع مفكرين وكتَّاب صهاينة حول قضية العصر،
وصمةِ عار الجنس البشري التي تُراوِح في
مكانَها منذ نحو قرن في خصوص فلسطين، بينما
تتسلَّل ضاربةً التوازنَ في المساحات
المحيطة بفلسطين، مهددةً السلامَ وعابثةً
بمصير الجنس البشري. وقد صدر حديثًا كتاب لو
كنت يهوديًّا للصايغ حوارًا موثقًا، حاملاً
مسحةَ يأس واضحة، مفاجئةً ومغايرةً لكلِّ
مظاهر القوة والبطش التي تغلِّف الدولة
العبرية الهشة. يقول نصري الصايغ إنه يدخل
موضوعه من باب السياسة، لا من باب الدين؛ ولو
عاد إلى جذور القضية لعاد إلى الدين:
فالصهاينة الهاجمون على فلسطين يحملون جواز
سفر واحدًا ينسبونه إلى يهوه الذي وعدهم قبل
ألوف السنين بأرض كانت ولا تزال لغيرهم. وكان
قَدَرهم أن يتوزعوا على أمم الأرض على مرِّ
التاريخ، حيث تعرضوا للاضطهاد أينما حلوا،
إلا بين العرب، حيث عاشوا على الرحب والسعة.
وما تساءلوا يومًا، ولا نحن تساءلنا، لماذا
وحدهم بين شعوب الأرض يُضطهَدون؟ فما الذي
خطَّطوا له وما الذي فعلوه ليجذبوا ما جذبوه
من مآسٍ لهم وللآخرين؟ – وكلُّنا يعلم من
مبادئ علوم الفيزياء أن لكلِّ فعل ردَّ فعل.
وقد حاول نصري الصايغ في كتابه أن يقع على
مبرِّر سياسيٍّ واحد لمنطقهم المريض في
احتلال فلسطين، وفشل. فالحوار الدائر بينه
وبين بورخيس وعاموس والفيلسوف المتعب يرميا
يوهوفل، الفاقد الأمل في إسرائيل مستقر،
وأبرهام بورغ، اليائس الآخر، وحاييم هينغبي،
الذي يقول إن الشعب الفلسطيني سيغدو في
النهاية أقوى من اليهود لأنه صاحب الأرض،
وبنفنستي، القائل إن العنف سيحدث دومًا، حتى
لو تم التوصل إلى دولة ثنائية القومية،
وبنِّي موريس، الذي يرمي خوفَه من العرب
الراغبين في إبادة الصهاينة في حضن صديقتهم
القوية أمريكا! – هذا الحوار أضاء على عبثية
الحلم الخبيث وكشف هشاشةَ بنية الدولة
العبرية الصاخبة المشهد. فحساب الحقل غير
حساب البيدر – وهذا ما يعرفه أيضًا كلُّ
مواطن إسرائيلي عادي خُدِعَ ومازال يُخدع.
ومسؤولية لاأخلاقية نشوء إسرائيل والاعتراف
بشرعيته تتحملها جميعُ أمم الأرض التي تجاهلت
ما حدث لفلسطين ولشعبها، متسببةً جميعًا في
الخلل الذي أصاب توازُن الإنسانية الوجودي.
فالدولة العبرية اليوم تشكل إحدى علامات
الانحدار الإنساني إلى قعر الجهل؛ والسكوت عن
جرائمها علامة أخرى. والمسألة تتخطَّى كونَها
سياسية أو دينية، إذ تمس في العمق توازُن
الوجود البشري كلِّه. والخلل الذي أصاب
التوازن لا تصلحه القوة ولا عمليات الإبادة.
وبقدر ما يخرِّب الإنسانُ عمليةَ التوازن
يتألم. فمَن يصلح ما أفسده خيال الصهاينة
المريض؟ ومَن يشفيهم ليرتاحوا ويريحوا؟ ليت نصري الصايغ، حين التقى
أصحاب الفكر اليهودي المتعثر، الخائف على مرِّ
العصور، سألهم: هل هم، من حيث لا يدرون،
المختارون لتوسيع رقعة الشرِّ فوق كوكب يعطي
الخير مساحةً توازي تمامًا مساحة الشرِّ كي
لا يضيع التوازن؟ ألذلك قال المسيح: "أبتاه،
اغفِرْ لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون"؟
وبين شعورهم بالإحباط اليائس ورجوع الكاتب من
دهاليزهم إلى فلسطينيَّته الواثقة، ندرك أنْ
لا بدَّ من متابعة مجابهة الشر من غير تقويم
الربح والخسارة: فلا ربح ولا خسارة في إعادة
سلبيات الوجود إلى مساحتها الأصلية. ففي هذا
مفتاح شروق آتٍ لا محالة! * * * امتـــدادُ
المَظَـالِـــم "المسرحية" تفتقر إلى عنصر
الجمال والحق. والممثل الرئيسي، الرئيس بوش،
يكرر ما قاله كلُّ مَن اعتلى كرسيًّا في أيِّ
مكان من الكرة الأرضية، منذ بدء التاريخ
البشري "المسرحي" إلى اليوم. جميع "الممثلين"
تكلموا على الحق والديموقراطية والسلام، وكل
المثاليات التي لمعت في ذهن الإنسان،
استعملها ستارًا ليخفي حقيقة فكره الخبيث
ونواياه القبيحة. كمتفرجة على المسرحية القديمة–الجديدة،
لا أرى ولا أسمع إلا الرياء والاستغباء وراء
نبرة حازمة مثيرة للقرف والضحك معًا. والمثير
للضحك والقرف أيضًا ردُّ فعل المعنيين بالأمر:
فالسارق يتهم المسروق، والجماهير تصفِّق،
فتقتنع الضحيةُ بأن المجرم على حق، وتسعى إلى
إرضائه! كل ثنائيات فكر الإنسان – جمال/قبح،
خير/شر، ساخن/بارد – تساهم في إفهامنا أن
المسرحية عبثية حقًّا. فللحقِّ وجهان: وجهٌ
يلائمك ووجه يلائم الآخر، وكلاهما حق. لذا فإن
النزاع الدموي والعنف هو، في التحليل النهائي،
تعبير عن وجهٍ من وجوه الحق، وكل كلام خلاف
ذلك دجل وهراء. فالمقاومة النابعة من غضب
مكبوت تسبَّب فيه القمعُ والسلبُ والاضطهادُ
والنفاقُ حق، وإنْ سمَّاها المتسلِّط القوي
"إرهابًا" ومهما حاربَها. ففي النهاية،
تبتلع الأرضُ الجميع بعد حفلات التذابح
والانتصارات والخيبات، جيلاً بعد جيل. وعلى مرِّ التاريخ، نَبَتَ
السرطان المغذي لهذا النموذج الوحيد الناشط
منذ بدء المجتمعات البشرية من ذهنٍ متسلِّط
متصهين، ثم امتد على مساحات الكرة الأرضية
كلِّها، متسببًا في سلبيات الوجود كلِّها.
ونحن نختبر أحد وجوهها السوداء اليوم، بدءًا
من الفلسفة البوشية–الشارونية الرافضة
إزالةَ ظلمها عن أصحاب الحق والمكان، وانتهاءً
بـ"فلسفة" رئيس بلدية يصرُّ على رفض
إزالة مسامير زرعتْها بلديتُه على الطريق تحت
شبابيكنا للحدِّ من سرعة السيارات، فكانت
عقيمةَ الجدوى، قمعيةً، مؤذيةً، منتهكةً
حقَّنا الطبيعي في الهدوء داخل منازلنا. وعلى
الرغم من شكاوانا كلِّها، وعلى الرغم من أننا
لسنا "أعداء"، رفضَ إزالة ظلمه عنا لأنه
"الرئيس"، ولأنه "صاحب القرار"،
ولأنه... * * * مـفتـرسٌ
وفـريسـة الكلام على الميزان والمكيالين
الذي نواجِه به كلَّ قرار من قرارات المجتمع
الدولي، البائس سياسيًّا والمتضامن أبدًا مع
مصالح سيِّده القوي ضد عبده الضعيف، لم يبقَ
لائقًا بعصر المفترس والفريسة – وهل من عصور
تحمل غير عنوان كهذا؟! فالمفترس خارج مملكة
الحيوان يحمل جلدًا فاتح اللون وشعرًا
ذهبيًّا وعيونًا بلون البحر وقلبًا كالإسمنت
يابسًا على مرِّ العصور، مذ انتشر من أوروبا
إلى أفريقيا، فأمريكا الجنوبية، فأمريكا
الشمالية، فالهند، حيث استباح الأرضَ
وكنوزَها، واستعبد سكانَها الأصليين، ولم
يُقِمْ وزنًا لإنسانيتهم وحقوقهم على مرِّ
التاريخ، وتابع هذا النشاط الموروث جينيًّا،
يحمله من جيل إلى جيل، حتى دقَّ أبوابنا
واستعمرَنا وزرع في أرضنا دولة عبرية أزهرت
شرًّا منذ ولادتها – وكل ما استطعناه، نحن
الفريسة القديمة–الجديدة، هو الكلام على
الميزان والمكيالين (ولا أحد يستعمل ميزانًا
بعد، ولو من باب الفولكلور!). فالمفترس لا
يسمعنا ولا يقيم لنا وزنًا. لن أذكر وجه الغرب الآخر الجميل
الذي يطالنا أيضًا؛ إذ لا علاقة لصفحة
الإبداع المشرق في مجالات الفنون والعلوم
والتكنولوجيا والطب كلِّها بحال المفترس
الشرس. فالإبداع نقيض الجشع الاستعماري الذي
مازال يحكم الفكر الغربي السياسي ويُلحِق
بالمعتدى عليه إهاناتٍ وإذلالاً وأضرارًا لن
يغفرها التاريخ أبدًا. فهي مصدر لعدم التوازن
وللحروب في مناطق كثيرة على وجه الأرض؛
وأخطرها منطقة الشرق الأوسط العربي التي لا
تكاد تهدأ حتى تعود إلى الاضطراب. أما من غاندي عندنا؟! أما من ابن
امرأة يقول لوزراء خارجية أمريكا وسفرائها
وبعض دول الغرب أننا في غنى عن اهتمامهم
الزائف بقضايانا الخاصة، ونرفض نبرةَ
أصواتهم ووصايتهم وتهديدهم، ولا نصدق
مخاوفهم الكاذبة المسوِّغة لتدخُّلهم غير
المشروع في شؤوننا؟ إلى متى تستمر علاقةُ
الإنسان بالإنسان محكومةً فقط بشريعة الغاب؟
أية درجة وعي إنساني تحكم العقل الغربي
المتسلط المتعجرف دائمًا والعقل الشرقي
المنحدر دائمًا؟ ومأساتنا في لبنان أن معظمنا
لا يفتح سجلَّ تاريخ تطور الجنس البشري
المكتظ بقرون من الحروب والإبادة والظلم يخجل
لها وعيُ الوجود؛ ويظل هذا البعض منَّا يتفيأ
صدى كلام المفترس الغربي ولا يعرف أنه
الفريسة التي تنادي المفترس إلى حديقتها وهي
ترقص جهلاً على مرِّ العقود والعصور! أما من
أمل بقفزة وعي جديد؟ أم أن الخليقة أفلستْ
أخيرًا بعدما اجترَّتْ نفسها ألوف سنين
تُناطِح ألوف سنين؟ * * * أخيـرًا
تكـلَّم! للمرة الأولى يتكلم الوطن، هذه
البقعة الصغيرة المتوسطية. قَرَعَ نافذتي
وأيقظني بعد ليلة بيضاء قُطِعَتْ كهرباؤها،
فغدوتُ فريسة لاستبداد البعوض. لم تحترم
عشرات البرغشات حريتي وكرامتي وحقِّي في
النوم، امتصتْ دمائي، وقتلتُ منها ما قتلت
على ضوء "بطارية" صغيرة. وما كدت أغفو
فجرًا حتى قرع نافذتي. -
لِم
أنا؟! سألتُه. -
لأنكِ
سألتِني مرة: "إلى متى تحملنا، نحن
الجماعات المتخذة منكَ مسكنًا لها ولذريتها،
من زمن بعيد إلى زمن آتٍ لا تزهر في أثناءه إلا
أسلاك شائكة؟ ألن تقبل بنا بعد اليوم؟" أنا
أمنحكم المساحات، أحملكم على ظهري وأنتظر أن
تتخطوا حاجز المراهقة، فلا تفعلون! لكلٍّ
أطماعُه وأتباعُه وأنيابُه وأظافرُه. هو تارة
الظالم، الكافر بالحرية والديموقراطية وحق
الحياة لمن يعارضه، وهو، هو ذاته، المظلوم
الناسي ما اقترفتْه يداه من إلغاءٍ لكلِّ ما
يطالب به اليوم – وكل ذلك باسم الوطن: تزجونني
في جهلكم، وأنا منكم براء! -
أنا
متفرجة، صديقي الوطن، لا علاقة لي بحكاية
الظالم والمظلوم هذه، وأريد أن أنام بعدما
تبادلنا ثنائية الظلم، أنا وبرغشات الليل!
قهقه الوطن وقال: -
لذا
فأنا على نافذتك لأنك واعية حكاية الثنائية.
فكل هذا الصخب الدائر اليوم بين مُعارِض،
يبيح لنفسه ما لا يسمح به لسواه ويدعي أنه
مظلوم، وبين صاحب سلطة يدافع عما استباحه
المظلوم واتهم بأنه ظالم، لا يتعدى الثنائية
التي ستُستغَل في مسرحيات فقاقيع صابون
ومزايدات ومقالات وخطب، مدنية ودينية، في
الحرية والكرامة، متناسيةً مبدأ النسبية.
فالذي يدعي أنه "مظلوم" اليوم هو ظالم
الأمس. وهكذا ستستمرون في دائرة الخداع، إلى
أن تستفيقوا ولو بعد مئات السنين. فرحٌ واحد
أتاني اليوم: "الشرطي الأزرق" الذي
سيعتني بشاطئي بعدما خربتموه، وبالبحر،
صديقي، الذي لوثتموه بقذاراتكم... حلمي أن
تهتموا بالأرض. عند ذاك، ستنشأ بيننا علاقةُ
وطن ومُواطِن حقيقية، عميقة، تدركون من
خلالها السرَّ الذي يربط الإنسان بالأرض
ومشوارهما معًا على درب التطور، خارج أقنعتكم
وأطماعكم الشخصية، الشخصية، الشخصيـ،
الشخصـ...، الشخـ...، الشـ... وأغمي عليه! * * * نمـوذج تسحب شمس كانون الأول إلى
داخلها، مع نَفَسها العميق البطيء، مسام
جلدها كذلك. تهمس: "أضيئيني، أنا ابنتك، في
الفصول كلِّها." كانت تلوذ بالشمس مما يعصف
بوطنها. العاصفة التي لا تهدأ إلا قليلاً، ظلت
تهز سطح الوطن ومَن عليه. وكانت تعلم أن
المكان، مثل الكائنات كلِّها، يجذب سلبياتٍ
يخزنها إلى أن يحين زمن تغيير، كاشفًا عن
اختلاف على صُعُد كثيرة. والإعلام، بوسائله
كلِّها، كفيل بالطين والبِلَّة، فتزدهر
الحروب، حروب إنسان "مستنير" بعديد
الديانات والفلسفات والمثاليات
والديموقراطيات! تمسح دمعةً عن خدِّها قبل أن
تشربها الشمس. إلا أنها تعود وتهديها أحزانها
كلَّها. تسرع ابنتُها الصغيرة من
الداخل: قُطِعَت الكهرباء وغاب طوم وجيري عن
الشاشة! متى سيتوقف قطعُ الكهرباء؟ ثم تضمها
سائلة: "تبكين؟! لا تخافي، ماما، في آخر
الفيلم يتصالح طوم مع جيري، مهما هرستْهما
الدبابات، ليقعا فوق الأرض مسطَّحين كورقتي
خريف، مهما تلقَّيا رصاصًا متبادلاً من
رشاشيهما، مهما انتفخا وماتا، يعودان إلى
الحياة في آخر المسلسل، وفي اليوم التالي،
يبدآن مسلسلاً جديدًا من الخلاف والرصاص
والموت ثم القيامة. لا تخافي، فالخلاف دائمًا
على قطعة جبن لا أكثر!" يا للصغيرة التي عرفت بحدسها
الطفولي لعبةَ الحياة بأسرارها كلِّها! – هذه
اللعبة التي اتشحت بالكلام الكثير مذ نطق
الإنسانُ الحجري أولى كلماته، فأحال الوجودَ
إلى أفلام رعب كرتونية تتخلَّلها قصصُ حبٍّ
لا يدوم. هذه "ديموقراطية الخلق": أعطى
الخلاقُ الحريةَ كلَّها. أخذها الإنسان،
وصبغها بألوان تفاهاته كلِّها، ثم بعثرها
وضاع. أراد لنفسه فقط مظاهر الوجود الخادعة،
وهو يدري أن لا شيء يدوم: لا أمجاده الوهمية
المضحكة، ولا ما كدَّس من ماديات مفسدة. حتى
جسمه يعود ليلتحم بعناصر الطبيعة، ولا تبقى
لروحه إلا قفزة وعي لو استطاع إنجازها لطرب
لها الكونُ بأسره، مهيئًا له نشيدًا جديدًا.
أما خميرة عصور الإشراق، التي تظل تفاجئ مَن
مركبه مركب حق يرسو دائمًا على شاطئ محبة
وسلام، فيحملها الأنقياء وحدهم، عارفو أسرار
الليل والنهار. غيرتْ الشمسُ مكانها، فلم تعد
تشعر بدفئها. والحقيقة أن الأرض هي التي غيرتْ
مكانها، ماضيةً في سفرها حول شمس ثابتة. أدركتْ
أن في علاقة المتحول بالثابت لَعِبًا يشبه
لعب الصغار، وأن هذي العلاقة هي محور الوجود
فوق كوكب يقف اليوم على مشارف زمن مضيء لا بدَّ
آتٍ بعد مواسم غربلة قاسية يمر بها الإنسان
عاصيًا، ثم مرغَمًا متألمًا، ثم مذعنًا لنظام
كونيٍّ عادل. مسحتْ دموعَها، ولحقت بالشمس
هامسة: "ضمِّيني، أنا ابنتك الدائمة في
العصور كلِّها!" * * * كَمْ
يشـبهنـا البـحر! لحظةَ تدخَّل البحر قال: لا
تنسوا هيروشيما! ومتى عانقَ وجهَ الأرض، قال إن
رقائق طبقات الأرض ماجت تحت قبلاته، فأسرعت الثواني والدقائق
والساعات، وصار للزمن وقعٌ جديد. الكبار تذكَّروا أنهم مرُّوا
بعناق البحر من قبل، ثم غادروا إلى جديد. الصغار ركبوا الموج إلى بُعد
جديد، ومَن بقي ركب رعبًا ممَّن تبقَّى من
الكبار. شاعر واحد في بلد بعيد ظنَّ أن
البحر مركبٌ للموت، فقالت الأرض: جميل أن نلتقي من
جديد، وخلعت عنها الدهشة. شاعر واحد في بلد بعيد ظنَّ أن
الرقصة رقصةُ عدم، فقالت السماء: للحياة أغصان
كثيرة، ولكلِّ لحظة أخضر جديد. المغادرون غادروا، والبحر عاد إلى بيته منهكًا مثل
المحارب. وعندما استتب كلُّ شيء، أطلَّ صوت الله قال: لمَّا سألتُ:
"ماذا تطلبون؟"، قلتم: "الحرية!" وها الحرية... كم يشبهكم البحر! أنا لا أتدخل. *** *** *** |
|
|