|
واقعُ
الإنسان المأساوي بين
الوجوديَّة والنظريات السَّلبية في
حديثنا عن الوجودية، سيرتكز نقدُنا على
جانبها "السلبي"، لأنه الجانب الوحيد
الذي يرينا حقيقتَها وموقفَها من التيارات
الفكرية الأخرى، وسنغض الطرْف عن جانبها "الإيماني"،
مع أننا سنتحدث عنه أحيانًا. فنحن نعتقد أن
الوجودية، كما كانت معروفةً في القرن العشرين،
ليست من نتاج ذلك العصر وحده، بل هي من نتاج
العصور الغابرة جميعًا: لقد وُجِدَتْ في كلِّ
حقبة من أحقاب الفكر الإنساني لأن الإنسان
كان يشك، أو يعلن ثورته، أو يتذمر من الوجود
ويتمرد عليه، أو يفكر فيه تفكيرًا سلبيًّا،
أو يرى عبثه ولاجدواه. ونحن نعتقد أيضًا أن
الوجودية السلبية قد نتجت من الصراع الذي قام
– ومازال قائمًا – بين وجهتَي النظر المادية
والروحية إلى الوجود، ومن التقدم العلمي
الهائل، ومن الآراء العلمية التي تسود العالم،
بنتائجها المادية التي لا يُخضِعها الإنسانُ
لتحليل فكريٍّ معمق؛ كما نتجت أيضًا من
المساوئ التي وصلت إليها البشرية ومن المآسي
والويلات التي تركت الإنسانَ في فوضى الفكر
وظلامه وجحيمه. ونحن، في دراستنا
هذه التي تقوم على موضوعية الموضوع وعلى
تحليلنا الشخصي، سنحاول أن نعرض، كمدخل إلى
الوجودية، الأسباب الرئيسية التي جعلت من
الوجودية فلسفةً سلبية، كما نحاول أن نحلل
هذه الأسباب في شكل عام. 1.
الوجود الإنساني رمز للصراع: منذ
أن وُجِدَ الإنسان وهو يتساءل عن سرِّ وجوده،
عن غاية وجوده وموضعه في هذا الكون. وقد عبَّر
هذا التساؤل عن صراع عميق في نفسه، صراع نتجت
منه أفكارٌ عديدة حيال الوجود، أفكارٌ
متناقضة في شتى فروع المعرفة. وقد عبَّرت هذه
الأفكار، بدورها، عن حيرة الإنسان، عن قلقه
واضطرابه، وتبلورت في مقولات فكرية ثلاث: أ.
صراع
الإنسان مع نفسه؛ ب.
صراع
الإنسان مع المجتمع؛ و ت.
صراع
المجتمع مع ذاته. كان صراع الإنسان
مع نفسه نتيجةً حتميةً لشعوره بالجهل والضعف:
إنه يجهل وجوده والغاية منه، يجهل كيف وُجِدَ،
ويشعر بضعف إزاء قوة خفية، عبَّر عنها پاسكال
بالأجواء التي ترهبه أمام عالم واسع هائل. لقد
ثار الإنسان على نفسه لاعتقاده بأنه مخلوق
جاهل وضعيف[1]. وكان صراعه مع
المجتمع حصيلةً لصراعه الأول. وهكذا جعل من
المجتمع دائرته التي يطبِّق فيها وجوده
وآراءه، فوجد "نفسه" مرة أخرى، لكنها "نفس"
في صورة أخرى، اجتماعية هذه المرة. لذا حاول
أن يحقق فشله الأول – الجهل والضعف – في
الحقل "التجمعي"، فأدى ذلك به إلى التعلق
بذاته لكي يجعل منها الإنسان التجمعي
الذي لم يجده في الإنسان الإنساني. وأما
صراع المجتمع مع ذاته فقد كان حصيلة صراع
الطبقات الاجتماعية بعضها ضدَّ بعض: لقد تآلف
الأفراد، فألَّفوا "حلقات" (سُمِّيت
بالطبقة أو القبيلة أو العائلة أو غيرها من
الفئات التجمعية) آلت إلى التنازع والتناحر؛
وكان تنازُعها حول مفاهيم وقيم "تجمعية"
أوجَدها الإنسان، لكنها لا تمت إلى الحقيقة
بصلة. 2.
سقوط الإنسان: إن فشل الإنسان
في تبيان الحقيقة – حقيقته وحقيقة المطلق –
ومعرفتها بالطرق والوسائل التي عبَّر بها
المطلقُ عن كيانه – هذا الفشل أدى إلى سقوط
مريع! فعوضًا عن أن يعرف الإنسانُ جوهرَه
ويحقق الغاية التي من أجلها وُجِد، غاص في
عالم من الجهل والخوف: جهل الحقيقة وتنكَّر
لها؛ وخاف من المطلق، فسقط من عليائه، من حالة
الصفاء إلى حالة الاضطراب، من حالة النقاء
إلى حالة التشوش، من مملكة الروح إلى مملكة
المادة، من عرش الفضيلة إلى أحضان الرذيلة،
ومن حالة الخير إلى حالة انعدامه، ومن حالة
الوحدة إلى حالة الثنائية والتعددية. وفي سقوطه هذا،
أي في سلبه هذا، تنكَّر الإنسانُ للمبادئ
العظيمة المطلقة وللعظمة المتجسِّدة فيه؛
انحدر إلى عالم قاسٍ ابتكر فيه مفاهيمه وقيمه
التي اصطنعها، فطرح عنه مثاليته الروحية
الناصعة وارتدى ماديته. وقد بدأ سقوط الإنسان
فعلاً عندما أراد أن يكون خالقًا في سلبه،
عندما تجاهَل اتصاليته مع المطلق، عندما
اعتقد أن كل شيء ينبثق منه وأنه "مقياس كلِّ
شيء"[2]. 3.
تمرُّد الإنسان: من جهل الإنسان
وضعفه، من خلقه لمفاهيم وقيم مادية ومجتمعية،
ومن تنكُّره لحقيقته وتنصيب نفسه خالقًا
لسلبه، نتج التمرد. لقد جهل الإنسان حقيقته،
وتنكَّر للمطلق، وأنكر وجوده الحقيقي، وجعل
من نفسه مركز العالم، فسقط. سقط الإنسان لأنه
تمرد على معطيات المطلق كلِّها، ورفض المواهب
الروحية والمبادئ الأزلية التي كانت –
ومازالت – سبيله الأوحد للوصول إلى غايته
وتحقيق وجوده. 4.
تخلِّي الإنسان عن قاعدة أخلاقية:
وبسقوطه، تخلَّى الإنسان عن قاعدة عمل
أخلاقية، فاعتبر الوجود قيدًا أراد أن يتحرر
منه، وألمًا أراد أن يتغلب عليه، وشرًّا أراد
أن يتخلص منه؛ واعتبر المطلق "طاغية"
يتحكم فيه، فسعى إلى الانعتاق من "عبوديته".
وحاول الإنسان أن ينتصر على وجوده بوسائله
الخاصة، التي أصبحت تُناقِض وسائل المطلق؛
فضاع الإنسان في بحر من الفوضى التي خلقها
وأنشأها. وهكذا ضاع في خلقه، وغاص في عالم
مادته، أو حاول أن يستخلص منه قوانين؛ فكانت
قوانينُه معارَضةً مفضوحة لقوانين الحقيقة
الأزلية. وهكذا رفض الإنسان عالم الحقيقة –
العالم الأخلاقي وعالم المُثُل – وانطوى على
عالم مادته، لا يرى إلا من خلاله، ولا يحس إلا
بأحاسيسه، وصاغ هذا العالم بصيغ خاصة تتصف
بصفاته وتصدر عنه، واعتبر نفسه سيدًا لعالم
سلبِه، فثار وتمرد على معطيات الوجود الحق. 5.
استسلام الإنسان للانفعال والقلق: تدل
ثورة الإنسان وتمرده على قضايا هامة، أبرزها: أ.
تخلِّيه
عن صفة التعقل والتفكير التي تمت بصلة
كبرى إلى إدراك وجوده. ب.
تخلِّيه
عن الوجدان ("الوجدان ليس شيئًا"،
يقول الوجودي السلبي) وعن قاعدة عمل أخلاقية. ت.
رفضه
لفكرة الوجود، لفكرة قبْلية الوجود الروحي. ث.
رفضه
لفكرة تنظيم الوجود على أساس مبدأ عاقل، واعٍ
وشامل، لامتناهٍ، غائيٍّ، هو الحقيقة
السامية. ج.
تعلَّق
الإنسان بذاته التي جعل منها محورًا لمفاهيمه
وقيمه. إن خلق الإنسان
لقوانينه ونظمه الخاصة واعتقاده بإبداعها
وحده، وطرحه لفكرة التنظيم الوجودي القائم
على قبْلية a
priori،
على فكرة سابقة للمادة، ألقى به في أحضان
الانفعال والقلق. وهكذا أصبح الإنسان منفعلاً،
يحركه اللاوعي السالب، وتتلاعب به التلقائية،
وتقوده الانفعالات والأهواء. وهكذا مات العقل،
ومات معه الوعي والوجدان، وأضحى الإنسان
عبدًا لنزواته. إن انفعال
الإنسان حتمية لا بدَّ منها عندما يتخلَّى عن
حقيقة وجوده، عن المطلق. وانفعاله هذا دليل
على ثورة الذات وتمردها على كلِّ شيء، بما فيه
ذاته هو. وانفعاله يدل أيضًا على عجزه عن
إيجاد قاعدة عمل أخلاقية، وعلى انتفاء صفة
الحرية المبدعة والخلاقة ضمن إطار الحقيقة
العليا السامية التي هي المطلق. وقلقه دليل
على عدم توصُّله إلى الحقيقة وعلى شكِّه
وارتمائه في أحضان الجهل والضعف والألم، دليل
على تخلِّيه عن الحقيقة. ويدل الانفعال
والقلق أيضًا على عدم وجود غاية يعمل من أجلها
الإنسان، كما يدل على خلوِّ الوجود من هدف
وغاية وعلى واقع أليم هو الضياع والتشتت
والعبث. 6.
الحروب والمآسي الإنسانية تأكيد على
اللاعقلانية:
ليس تاريخ البشرية سوى تاريخ الحروب، لا
تاريخ الفكر والحقيقة. أليس التاريخ، كما
يقول هيغل، "هدنة بين حربين"؟! وإذا كان
التاريخ يضج بالحروب، فما معنى أن "يحيا"
الإنسان؟ وإذا كان الموت نهاية كلِّ شيء، فما
معنى أن يفكر الإنسان في الحياة؟ وإذا كانت
قيمة الإنسان وضيعةً إلى هذا الحد – حدِّ
اللاشيء – فما معنى قيمة وجوده؟ فالخوف من
الحروب، من مستقبل غامض، ومن عدم استقرار
المجتمعات البشرية، والانغماس في المآسي
المؤلمة، وعدم القدرة على رؤية الخير في
الوجود، ألقى الإنسانَ في هوَّة سحيقة من "التجديف"
على الوجود. الخوف من المرض والشيخوخة،
والشعور بالضعف وبقسوة الوجود، قادا الإنسان
إلى جحيم تعاسته. هذه هي الحالة
الإنسانية البائسة التي بلغها الإنسان بعد
سقوطه، وهذا هو التمرد الذي أعلنه ضد الكون
والمطلق؛ هذه هي الثورة التي اندلعت في
أعماقه، والصِّراع الذي عاناه – ومازال
يعانيه – في داخله والذي أدى إلى التمرد
والثورة وقهر الوجود بوسائله الخاصة الفاشلة؛
وهذا هو التاريخ الذي امتلأ بالدم الذي أُريق
على مذبح البشرية. إن مقدمة كهذه
ترينا أن الإنسان يعاني دائمًا من صراع مع
الوجود ومع نفسه، كما ترينا عجزه عن التوصل
إلى تحقيق غايته وهدفه من خلال مواقفه
ومسالكه ومفاهيمه وقيمه التي ابتكرها وعارض
بها القوانين الأزلية ومن خلال هذه التسويغات
الوجودية المادية التي تذرعت بكلِّ ما يمكن
أن يجعل منها فلسفةً قائمة بذاتها. إنها جعلت
من سقوط الإنسان رعبًا هائلاً ودليلاً على
اندحار هذا الكائن وهزيمته في وجوده. وعلى غير
ذلك، جعلت منه الوجودية الإيجابية وسيلةً
لخلع "الإنسان القديم" ولُبْس "الإنسان
الجديد" الذي يحقق الشعور بالمطلق فيه،
وجعلت من تمرد الإنسان وسيلةً إلى تحرره، كما
جعلت مشاركةَ الإنسان في الوجود الإلهي عملاً
عظيمًا. أخذت الوجودية
واقع الإنسان كما هو: واقع الألم، واقع التمرد
والثورة، واقع السقوط، واقع الخوف والقلق،
واقع الجهل والضعف. وهكذا فقد أخذت الجانب
المادي فقط – عالم الصراع والقلق والانفعال
وتحقيق عالم المادة الذي تسيطر عليه
التلقائية – وجعلت من هذه "الظواهر"
منطلقًا لها. لم تدرك هذه الوجودية أن الإنسان
مرتبط بواقعَيه المادي والروحي معًا. أما
الوجودية الإيجابية فقد أخذت أيضًا واقع
الإنسان، لكنها سَمَتْ بهذا الإنسان إلى
درجات عليا من عالم الروح. ففي سقوطه وجدت
الطريق إلى النجاة والخلاص: إن سقوط الإنسان
ينتهي بمعرفة الحقيقة المطلقة؛ وقلق الإنسان
ينتهي بمعرفة الغاية من وجوده؛ وجهله ينتهي
بنشدان المعرفة وبتمجيد المطلق والاستغراق
فيه؛ وتمرُّده ينتهي بإدراك النظام العظيم
الذي وُضِعَ من أجله، هذا النظام الذي يعينه
على "المشاركة" في أمور المطلق، لا
التمرد عليه والعصيان؛ وضعفه ينتهي بالقوة
التي وُهِبَتْ له بقوة الحياة؛ وانفعاله
ينتهي بالوجدان الذي هو قانون أخلاقي
عميق عمق الحياة، نُحِتَ في صدر الإنسان، وبالعقل
الذي هو أسمى درجات المادة، وبالعقل الفوقي
الذي هو أعلى درجات المحاكمة والتمييز
والعدالة والخير. هكذا تعيد
الوجودية الإيجابية للإنسان قيمتَه في عالم
يسيطر عليه النظامُ – لا الفوضى، المشاركةُ
– لا التمرد، التعقلُ – لا الانفعال،
التكاملُ – لا الصراع، والاتصاليةُ – لا
الانفصالية. 7.
العبث والضياع: تعتبر النظريات
السلبية الحياةَ وجودًا قاسيًا ظالمًا. ونقصد
بالنظريات "السلبية" كلَّ فكرة تنطلق من لاجدوى
الوجود، أو تنادي بأن "الحياة لا تستحق
الجهد"، أو تنزل بالحياة إلى قيمتها
المادية فقط، أو لا تدرك الغاية من الوجود.
ونقصد بالنظريات "الإيجابية" كلَّ فكرة
تنطلق من جدوى الوجود وضرورته، أو تنادي
بأن "الحياة تستحق الجهد"، فترفع الحياة
إلى نطاقها الروحي وتدرك الغاية النهائية من
الوجود. ونقصد بكلمة "الحياة" مفهوم
الوجود الفيزيقي الذي يتسامى في سلَّم
الميتافيزيقا والمثال الذي لا ينتهي. وإذا ما
انطلقنا من سلَّم الوجود الفيزيقي فلا بدَّ
أن نصل إلى درجات عليا ترينا الحياةَ سلسلةً
وجودية لا تنتهي. وهكذا نعرِّف بـ"الحياة"
بأنها كيان يتسامى، في المادة والإنسان، من
درجاته الأولى حتى درجاته اللامنتهية، أو
بأنها الطاقة التي تفعل في الفيزيقا حتى
تتعالى. وتُعتبَر عملية التسامي أو التعالي
شاقة ومجهِدة، تبرهن على أن الحياة تستحق
الجهد! لكننا، مع ذلك،
نرى أن الوجودية السلبية وغيرها من الفلسفات
المادية السلبية تغوص إلى أعماق المادة
وتحاول أن تجد فيها ما يبرر وجودها. وعلى
الرغم من غوصها هذا، فإنها تنتهي إلى الفشل،
وذلك لأن تبرير الوجود لا يتم إلا بإيجاد غاية
للوجود. ولا نشك أبدًا في أن وجود الغاية
مسألة ميتافيزيقية تصبغ المادة بصبغة روحية،
صبغة لا تراها الفلسفات المادية السلبية
لأنها غير مرئية، ولا تخضع لقوانين الفيزيقا.
وعند هذا الحد، تضطر هذه الفلسفات إلى أن
تتنكر لغاية أصيلة وطبيعية في الإنسان وفي
الوجود. وقد وقعت هذه النظريات في فوضى "التقييم"
المادي للأسباب التالية:
هذه العوامل
وغيرها، كالمعطيات الاجتماعية والطبيعية
التي لم تُصقَل، تؤدي إلى ضياع الإنسان في
عالم قاسٍ، عالم يخلو من كلِّ حقيقة ورأفة
وعناية. فما هي حدود الإنسان في هذا العالم؟
وماذا تستطيع قدراته "المحدودة" أن تفعل
لتنقذه من ضياعه؟! 8.
العالم ومصدر الشر: النور والظلام،
الخير والشر، الحرارة والبرودة، الجمال
والقبح، إلخ، تناقضات أقامها العقل البشري:
الوجود ممتلئ بالشر، الوجود مظلم وقاسٍ،
الوجود قبيح لا جمال فيه. وماذا فعل الإنسان
حتى يستحق هذا العقاب كلَّه؟! لماذا وُجِدَ في
عالم الشر المظلم والقبيح هذا؟ وهل في إمكانه
أن ينجو من "ظلام" هذا الموت؟ من أين أتى
هذا الشر، وما هو مصدره؟ هذا هو السؤال الذي
يطرحه العقل الإنساني ولا يجيب عنه. وإذا كان
قاصرًا عن الإجابة، فلماذا يسأل أصلاً؟ لكنه
يظل يسأل ويسأل. الشر موجود، لذلك فإن العالم
شر؛ والمطلق منبث في العالم، إذن فالمطلق
أوجد الشر؛ والإنسان موجود، إذن فالإنسان
شرير! هكذا يدور "العقل الوجودي" في
دائرة مفرغة من التساؤلات والتعليلات التي لا
تنتهي؛ وهكذا يرى أن شر الوجود "حتمية"
لا مناص منها. الصراع قائم بين الأضداد؛
والإنسان يضيع في هذه التناقضات العمياء التي
تجرفه بين طرفيها. هذه مأساة يعيشها الإنسان،
يخضع بتفكيره لها، ولا يعرف كيف يتم الخلاص
منها أو أين يقع. هذه مشكلة النظريات السلبية
التي لا تعرف شيئًا عن حقيقة الإنسان الروحية،
كما لا تعرف كيف يتألق الخير ويبهت الشر. 9.
القدر والهروب: كل شيء "مقدَّر"!
وأية خطيئة اقترفها الإنسان حتى يتحمل قدره
ومصيره؟ وكيف يُلقى على كاهله قدرٌ كهذا وهو
بريء منه؟! وكيف يوضع نظامٌ لحياته دون أن
يدري؟ ولماذا قُدِّر عليه أن يكون ما لا يريد
أن يكون أو أن يمثل دورًا لا يناسبه؟ يا لهول
الوجود! أشارت الأساطير
اليونانية إلى فكرة القَدَر: إذ كان على البطل
الأسطوري أن يتحمل وِزْرَ هذا "القدر"
الذي فرضتْه الآلهة. وقد ظلت هذه الفكرة تلاحق
الإنسان: فهو يحاول أن يتهرب من عالم فُرِضَ
عليه وهو عاجز عن الهروب. فإلى أين يهرب؟ وكيف
يقدر أن يهرب من دورٍ تقمَّصه ومن حتمية
فُرِضَتْ عليه؟ إن فكرة القدر وعدم إمكانية
الهروب منه تقض مضجع الفكر السلبي، المادي
والوجودي، وتجعل من الإنسان متمردًا ثائرًا،
ضائعًا في عالم لا يعرف لاتناهيه أو حقيقته،
عالم لا يسيطر هو عليه. إنه منساق إلى الهاوية!
ويا لهول هاوية يُساق إليها الإنسان! 10.
لاجدوى الحياة: "الحياة قصيرة
ولا تؤخذ على محمل الجد"، قالها جورج
برنارد شو في كتابه عودة إلى متوشالح؛ "لا
شيء يستحق الجهد"، قالها اللامنتمي –
عبارات عديدة ترددت على لسان اللامنتمي
والوجودي السلبي الذي وجد في الحياة عبثًا لا
ينتهي. كيف أجتهد والموت ينتظرني؟ وماذا أفعل
وأنا لا أستطيع أن أعرف ماذا سيحدث لي بعد
فترة زمنية؟ كل شيء في تبدل؛ فكيف أسيطر على
هذا التبدل إن كنت خاضعًا له؟! ألا يعني هذا أن
جوهري ينعدم وحقيقتي لا توجد؟ "الأنا
المنقذف إلى هذا العالم"، يصرخ هوسِّرل –
هذا الأنا الذي يخضع لحالة مأساوية! لا جدوى أجدها في
الصمود أمام الصعوبات وهي تغلبني وتقهرني.
الضعف البشري واستعباد الوجود للإنسان هما
علامتان لِلاجدوى الحياة. إن حياة الإنسان،
في رأي المشككين، تافهة لا حقيقة لها. لذلك لا
يجد "صاحب المأساة" جدوى للحياة لأنه
تجرَّد من كلِّ هدف وغاية. 11.
مصير الإنسان وحتمية الموت: "مأساة
الإنسان هي علاقته بالموت" – الموت الذي
يفغر فاه ليبتلع الإنسان في هاوية النسيان،
هاوية العدم. إنه العدم! – العدم في مقابل
الوجود. وهكذا يشبِّه الوجودي موتَه بموت
حشرة أو كلب! إن حتمية الموت والعدم تجعل من
المادي السلبي إنسانًا لا يقيِّم وجوده حق
قيمته، فينفعل. هو ثائر لأنه يموت، لأنه يظن
أنه لاشيء! تقوِّض الفلسفات
المادية السلبية، بما فيها الوجودية، مملكةَ
الإنسان. ونحن لا نشك أبدًا في أن مَن يقرأ
فلسفاتٍ كهذه يضيع لأنه ينعدم في "عدمية"
مُرة قاسية. فإن كان الموت يعني فنائي، وإن
كانت الحياة لا تنطوي على غاية، وإن كانت
اللاجدوى نبراس حياتي، وإن كان العبث يملأ
حياتي، وكان وجودي شرًّا، ومصيري شبيهًا
بمصير حشرة أو حيوان، وإن كنت ألعوبة في يد
القدر، وكان الخوف يملأ حياتي، فإن حياتي
هباء منثورٌ وقيمتي لاشيء! لكنني، عندما
أفكر في نفسي بهدوء، وعندما أتعمق في معرفة
الحياة والكون، أجد حقيقةً تقع إلى ما وراء
وجودي المادي. أنا "شيء ما" أكثر من
الطعام، أنا "شيء ما" أكثر من مجرَّد
العيش، أنا "حقيقة" أبعد من الموت والعدم
والفناء – وبقدر ما أفنى أخلد. أنا حقيقة
تجسَّد فيها العالمان المادي والروحي،
فاشتملت على كلا النظامين: نظام الزمان ونظام
الأبدية. إن جسدي الذي يمثل العالم المادي
يخضع لقوانينه، فيفسد ويعتريه الانحلال
ويعود إلى عناصره الأولى التي تألَّف منها،
إلى الحياة كما كانت؛ ولكن روحي، التي تمثل
العالم الروحي، تبقى ما بقيت الحياة. والحياة
بذاتها لا تعني الفناء إطلاقًا؛ ولو عَنَتِ
الفناء لما كانت حياة. فهنالك حياة لا عدم،
حتى لو قلنا بمجازية العدم. بعد أن فكرت
مليًّا في وجودي، وجدت أن للإنسان غايةً تسمو
على الغايات الأخرى. وقد نسي الوجودي الغاية
السامية لوجود الإنسان لأنه رَبَطَه
بالغايات البسيطة الأخرى وحوَّله إلى فرد "عادي"،
إلى حشرة تسعى، إلى حيوان لا يفكِّر، بل ينفعل،
وجرَّده من القوى العلوية التي يرتبط بها أشد
الارتباط. ولذلك لا يجد الوجودي غايةً من
الحياة لأنه تجرد من الغاية الإنسانية القصوى
لوجود الإنسان. إن غاية الإنسان القصوى هي
معرفة المطلق وتحقيقه. وقد وجدت أن هروب
الإنسان هو هروب من نفسه: الإنسان يهرب من
حقيقته لأنه لا يفهمها؛ ولو أنه فهمها لارتبط
بها. إنه يهرب من نفسه، من واقعه، ومن المطلق.
وهكذا يعيش في هروب دائم ويرى نفسه غريبًا في
هذا العالم. إنه غريب عن الوجود وعن نفسه وعن
المجتمع. إن هروبًا كهذا يقضي على الغاية التي
من أجلها وُجِدَ الإنسان على هذه الأرض. هناك
غاية ما، لا تُلمَس ولا تُحَس، لكنني أتصورها
وأشعر بها في أعماقي. إنني أسمى من كلِّ شيء في
هذا الوجود الأرضي. وليس وجودي هذا مجرد
مصادفة، بل هو تنظيم دقيق يعجز العقل عن فهمه
وعن تبيان أغراضه. لم أستطع، طوال
حياتي، أن أعتبر وجودي شرًّا. فالعالم كله
يبتسم لي لأنه صورة المطلق. يقول والت هويتمان،
الشاعر والفيلسوف الأمريكي: "إنني لا أرى
نقصًا واحدًا في الوجود: فيا لروحانية
الأشياء! يا لعظمة الأشياء! يا لعظمة أصغر
جزيء في الكون!" فإذا كنت لا أجد نقصًا
واحدًا في الكون، فكيف يمكن لي أن أجد الشر
فيه؟ ليس الله مصدر الشر، وليس العالم شرًّا،
بل إن الإنسان الذي ينسى الحقيقة الإلهية
ويهملها، فيسعى وراء الجهل وينغمس في شهواته
التلقائية، هو الذي يفعل الشر. الشر هو
انعدام الخير: أفعل الخير فينعدم الشر. فأين
الشر إذًا؟ هو في جهلي وعدم تعقُّلي؛ هو في
انعدام صفة الروح وتقبُّل صفة المادة فقط؛ هو
إخضاع مملكة الروح لمملكة المادة. الوجودية
والفلسفات السلبية والمادية تغاضت عن
الإنسان ورذلتْه، جعلت منه "سلعة"
اقتصادية أحيانًا، و"كائنًا" محدودًا
بسيطًا أحيانًا الأخرى. لم تدرك هذه الفلسفات
أن هناك ما هو أعمق في وجودنا وما هو أسمى: هو
الإنسان ذاته متى أدرك سرَّ وجوده أو شعر به،
فاقترب من الحقيقة الأزلية ووجَّه طاقاتِه
كلَّها نحوها. وإن توجيه طاقاتنا نحو تلك
الحقيقة ينقذنا من فكرة عبث الوجود ومصير
الإنسان الكئيب، كما ينقذنا من عالم شرير ومن
لاجدوى الحياة، ويرفعنا إلى درجات عليا من
كياننا. 12.
المجتمع والجحيم: "الجحيم هو
الآخرون"، هكذا يقول الوجودي، معبِّرًا
بشعوره عن فظاعة الوجود المجتمعي. ويشدِّد
جان پول سارتر على "تعاسة الاتصال
بالموجودين". ولا يخفى ما تعبِّر عنه هذه
النظرية من سواد قاتم لأنها لا تقيِّم
الشخصية الإنسانية على العطاء والمشاركة،
فتبقيها مقلَّصةً ضمن "قوقعة" لا تُعطي
من ذاتها ولا تشارك غيرها في حقيقتها – بخلاف
ما في الروحانية التي هي عطاء ومشاركة وتدعو
إلى مبدأ المحبة الشاملة. وإذا رأينا
الاشمئزاز والكراهية يسيطران على روح
الوجودي والسلبي، فذلك لأنه لا يجد في
الآخرين صدى لما في نفسه، ولأن الغربة تضج في
قلبه، فلا يرى في الوجود مسكنًا له. إنه يحاول
الفرار من الوجود الاجتماعي ليتمسك بوجود آخر،
بوجوده الذاتي الذي تجتاحه كآبةٌ خرساء قاتمة. يُعَد الانفعالُ
في الوجودية فلسفةً خاصة بها. ينفعل الإنسان
بوجود الآخرين، فيثور الخوف والاشمئزاز في
أعماقه، ويعميه النفور. ومردُّ هذا إلى أن
الوجودي يعتقد أن الآخرين يكشفون عن حقيقته،
فيرى صورته فيهم، فينفعل، فيكرههم لأنهم
علَّة انفعاله: فلولاهم لما شعر بالغربة ولا
بالضيق والتعاسة والشقاء؛ ولولاهم لفعل كلَّ
شيء كما يشاء أو يرغب. وهذا الشعور يدل على أن
الكآبة تغلف نفس الوجودي، يدل على كراهيته
"المغلقة" نحو الآخرين وعلى النقمة
العمياء التي يصبغ بها عقله. إنه يرتجف في
عالم كهذا العالم، فينفعل، وتسيطر عليه
الدوافع التي يحول المجتمع دون تحقيقها. ولو
لم يقم المجتمع حائلاً دون تحقيقها لاستطاع
الوجودي أن يحقق جميع نزواته. وهكذا ينكر
الوجودي المجتمع ليقيم "شخصيته" الزائفة
على نزواته الشخصية والتلقائية. إنه يجد في
المجتمع عدوًّا واقفًا له بالمرصاد، فيتمنى
لو يستطيع الانتصار عليه لينجو من هوة
الانفعال والغضب والتلقائية. وبهذا يصير
الوجودي لامباليًا في عالم غربته هذا؛
ولامبالاته تنتج من اللاتقييم. وقد عبَّر
وجوديون كثيرون عن هذه اللامبالاة في
كتاباتهم: فهم يقفون هذا الموقف من مشاعرهم،
من الأخبار التي يسمعونها، من الأقارب
والأصحاب، ومن كلِّ ما تأتي به الأيام. وفي
غمرة هذه اللامبالاة، يمسي الوجودي هاربًا من
نفسه ومن المجتمع ومن كلِّ شيء. غير أن
لامبالاته وهربه يعبِّران عن حالةٍ مأساوية.
إنه لا يبالي، فيهرب. ولكن، إلى أين يهرب؟
يهرب من حالةٍ مأساوية ليقع في أحضان حالةٍ
أكثر مأساوية، ولا يبالي بأمورٍ كثيرة. كذلك،
فهو لا يبالي بوجوده أيضًا، فيقع حينئذٍ
فريسة ضياعٍ مُضْنٍ، لا ينتشله منه غير الفكر
والفهم المستنير، ويمسي فريسة يأسٍ قاتلٍ
مريع، لا ينقذه منه إلاَ الوعي والأمل بمعنى
الحياة ومغزاها. تنطلق ثورة
الوجودي من ذاته التي يضعها في مقابل المجتمع،
أي الآخرين. ولما كان الوجود الإنساني صراعًا
مستمرًّا، كانت الذات ثائرة على الدوام: تثور
على ذاتها لأنها تجهل الوجود والحقيقة، وعلى
المجتمع لأنها لا تحقق ذاتها فيه – وفي كلتا
الحالتين لا تحقق الذات "ذاتها". فهي،
لذلك، ثائرة منفعلة لا تعرف الاستقرار. وفي
المجال الاجتماعي، ينتقل صراع الذات مع "ذاتها"
إلى صراعها مع المجتمع: لقد استبدلت بالكون
والوجود والحقيقة المجتمعَ، فبات هدفَها
وغايتَها: الذات موجودة في المجتمع والذات
ثائرة عليه. إنها لا تستطيع أن تفرض "ذاتها"
عليه لأنها تصارع "الذوات" الأخرى. ففي
مقابل ذاته الفردية، تقف الذواتُ الفردية
المجتمعية الأخرى التي تعارضها وتمنعها من
تحقيق دوافعها اللاواعية. تشعر الذات
الفردية بالخيبة والألم من هذا النكوص و"الارتكاس":
إنها "ترتكس" وتحاول الرجوع إلى ذاتها.
ولما كانت قد أضاعت هذه الذات من قبل فقد
أضاعت حقيقتها. وإذ لا تستطيع أن تجد حقيقتها
في المجتمع، تشعر بالغربة والانفعال
والاشمئزاز. تضيع الذات قي عالم قاسٍ لم تجد
فيه حقيقتها، وفي مجتمع غريب لم تجد فيه
حقيقتها أيضًا؛ فينغمس الإنسان في حمأة
الانفعال. تصطدم الذات الفردية بالذوات
المجتمعية الأخرى التي تطالب بما تطلبه هي،
وتنادي بما تنادي به هي، وينشب الصراع عنيفًا
بين الذوات المجتمعية، فلا تمسك عن
التذمُّر،
حتى لو حققت مطلبها. ورواية الشيخ والبحر
لهمنغواي تُظهِر كيف عاد الشيخ بالسمكة
الكبيرة التي اصطادها سمكةً لم يبقَ منها سوى
العظم. وهكذا لا يبقى من المطالب التي تحصل
عليها الذوات سوى هيكل مشوَّه وصدى أليم قاسٍ،
فتتألم وتشعر بالضِّيق في المجتمع. ولما كان
أفراد المجتمع هم الذين ضيَّقوا الخناق على
الذات، فمنعوها من الدخول أو آلموها في
الوصول، وعملوا في تلك الذات تقتيلاً وصراعًا،
فإنها تثور وترى في المجتمع عدوًّا لدودًا؛
إنها ترى ذاتها فيه. وقد أصبح لها المجتمع
مرآةً، تنعكس فيها انعكاسًا مشوهًا، فتثور
وتنفعل. ويكون انتقالها إلى المجتمع، أو
صراعها معه، صورةً مصغرةً شوهاء لصراعها مع
ذاتها عندما أضاعت الحقيقة. الإنسان في
المجتمع اثنان: الإنسان الإنساني
والإنسان الفردي. فالأول هو الإنسان
بصفاته الطبيعية والأصلية التي فَطَرَه
المطلقُ عليها؛ والآخر هو الإنسان التجمعي
الذي تنكَّر لحقيقته وانغمس في المجتمع لكي
يحقق ذاته. الإنسان الفردي صورة مشوهة
للإنسان الإنساني بعدما أضاع حقيقته ووجوده
الأصلي. وعندما يدخل الإنسانُ المجتمعَ يبتكر
قيمًا ليتصف بها، وتصبح هذه القيم من
مشكِّلات شخصيته؛ فتتخذ ذاتُه صورةً جديدة هي
الصورة الاجتماعية التي تُظهِر الإنسانَ في
شكله الجديد، هذا الشكل الذي يعبِّر عن
طلباته ورغباته المجتمعية التي تطالب بها
الذاتُ مطالبةً ملحَّة. ويندفع الإنسان
الفردي في هذا التيار الجديد ويقوِّم وجوده
على أسُس جديدة. ولكن الذات الفردية لا تستطيع
أن تحقق وجودها الجديد، فينشأ فيها صراع عنيف.
ويعود هذا كله إلى التقييم الذي ابتكرتْه
الذات. لكننا نتساءل: ما هو هذا التقييم
الجديد؟ إنه الذات في شكلها المجتمعي الباهر:
القوة والسيطرة والتسلط والمركز الاجتماعي
والمال والكبرياء – الذات في أشكالها
المجتمعية. وهذا كله يعني تحقيق الرغبات. ولما
كانت الذات قد أضاعت قيمتها الأصلية الطبيعية،
فإنها تحاول أن تجد قيمتها الجديدة في هذه
القيم، فتتطلع إليها كهدف وغاية وتسعى وراءها؛
ويقيَّم الإنسان اجتماعيًّا بمقدار ما يحصل
عليها. وعندما تعجز الذات عن تحقيقها، أو
عندما تحققها حتى، تمسي فريسةً للجشع والطموح
وجنون العظمة، فتغدو أمَةً لهذه الأهواء التي
أحالتها أصنامًا لها. وهكذا تُعلَّل
أنواعُ الصراع التي تحدث في العالم: فمن جهة،
تصبح الفئات التي استطاعت أن تحقق شيئًا من
هذه القيم منفعلةً، فترى في الفئات الأخرى
عدوًّا يتربص بها؛ ومن جهة أخرى، تصبح الفئات
التي لم تستطع أن تحقق شيئًا منفعلةً هي
الأخرى، وترى في الفئات الأخرى عدوًّا
يناهضها؛ فيمسي المجتمع كله في حالة انفعال
وتوتر، ويجتاحه الحقد والبغض والتمرد. ولا
تهدأ هذه الفئات أبدًا؛ لذلك، لا تنقطع
الحروب والثورات ولا تستكين. إن تقييم الإنسان
للمفاهيم الاجتماعية السائدة يزج به في هوة
من الصراع النفسي الذي ينتقل إلى الحلقة
الاجتماعية؛ وتكون هذه علَّة ضياع شديد
ومرارةً قاتلة تحطم الإنسان الذي يعمل على
تحقيق وجوده الروحي الأصيل وتحوِّله إنسانًا
فرديًّا، مجتمعيًّا واقتصاديًّا، منفعلاً.
وفي انفعال الإنسان وتمرده على القيم
الاجتماعية، أو في سعيه وراءها، انعدامٌ
للقيم الأخلاقية. فما الأخلاق التي يرنو
إليها الإنسان إذا كانت تُناقِض واقعَه؟ وما
المُثُل التي يجب أن يهدف إليها إذا كانت لا
تُوافِق مصالحه وأعماله ومطالبه؟ وكيف
يستطيع أن يوفِّق بين الأخلاق ومصلحته
الشخصية مادامت الأولى تعبيرًا عن حالته
الاجتماعية المصطنعة؟ ولما كان الإنسان في
حالته المجتمعية ساعيًا وراء المفاهيم
المجتمعية، فإنه يتنكر لقيمه الأخلاقية
لأنها لا تمت إلى واقعه بسبب. ويعتقد الإنسان
عندئذٍ أن الأخلاق لا تطبَّق في المجال
الاجتماعي. فهو، في كلِّ عمل يقوم به، يناقض
حقيقته لأن ما يدفعه هو "المصلحة" وليس
العقل أو الوجدان أو الروح. ويضيع الإنسان في
هذا العالم الغريب الذي لا يجد فيه صدى
للأخلاق والمحبة والتواضع والرفق والحنان،
فيثور عليه، ولا يتعلق بالمُثُل والقيم الحق،
ويصبح منفعلاً، يعبِّر عن فوضوية anarchy لا حدَّ
لها. وقد أُعجبتُ بما قاله أحد المفكرين عن
الفوضويين: "أصبح الفوضوي فوضويًّا لأنه لا
يريد أن يحيا في عالم فوضوي." ونحن لا نشك في
صحة هذا القول: فالفوضوي ظل فوضويًّا واستعمل
الفوضوية سلاحًا ضد الفوضوية. ولا شك أن
المنفعل، الذي يتخذ من انفعاله سلاحًا ضد ظلم
المجتمع وقسوته ويتنكَّر لقيمه الأخلاقية
الأصيلة، يثور على المجتمع ككل، ويرى فيه
عائقًا يحول بينه وبين تحقيق قيمه هو: لماذا
حقق الغير ما شاءوا أن يحققوا (أو ما استطاعوا
أن يحققوا) ولم يحقق هو شيئًا؟! بأي حق ينادي
الغير بـ"الحق" وبوجود اجتماعي أفضل؟
أية أخلاق هذه التي سيطبِّقها في مجتمع لا
أخلاق فيه؟! تُعَد نظريةُ "الانفعال"
ردةَ فعل على لاعقلانية الإنسان. لقد فقد هذا
الإنسان تعقُّله لأنه أضاع حقيقته الروحية:
فهو منفعل ثائر لأنه نسي مبدأ المحبة الذي
يعلِّمه أن يرى نفسه في غيره، أو غيره في نفسه،
ولا يعلِّمه أن يرى "الجحيم" في الآخرين
أو أن يرى فيهم تعاسة وشقاء. وتؤدي هذه
النظرية أيضًا إلى إضرام نار الفتنة بين
الناس، فلا تجعلهم يلتقون في حقل واحد يعملون
فيه معًا. فهي تقوِّي الأنانية وحب الذات،
وتُضعِف الرابط الاجتماعي بين الناس، ذلك
الرابط الذي يقوم على المحبة والانسجام
والتضحية. فنظرية الانفعال مؤذية إلى حدٍّ
بعيد لأنها لا تعني التعقل؛ بينما التعقل
يعني الهدوء والسكينة. لنأخذ إنسانين في
حالتين نفسيتين مختلفتين: إنسانًا منفعلاً لا
تهدأ أعصابه، غاضبًا، ناقمًا، متذمرًا، لا
تسكن أحاسيسه؛ وإنسانًا هادئًا متزنًا، يعمل
في سكينة أعصاب، لا يضطرب ولا يغضب. فأيهما
يقترب من الصواب في تفكيره؟ إن الهادئ المتزن
الذي يتمالك قواه العقلية هو قطعًا الذي
يقترب من الصواب إذا فكَّر، وذلك لأن
الانفعالات والشهوات تشبه سيلاً عارمًا
فظيعًا يقتلع جذور العقل تمامًا كما تقتلع
المياهُ العاتية جذورَ الأشجار المثمرة
الصالحة. وينعدم العقل بسبب الانفعال، بينما
يتمكن من موضوعه في حالة الهدوء والسكينة
والوقار. أما اللامبالاة
فإنها عملية تهديم للإنسان وللمجتمع. إنها
ترمي الإنسان في بحر زاخر بأمواج الأنانية
والتهرب من الواجبات. وهكذا تنعدم فكرة
الواجب والمحبة في المجتمع الإنساني. ولا يجد
السلبي نقطة ارتكاز في المجتمع، مع أن الفكر
الروحي قد دعا إلى نبذ حب الذات كليًّا وإلى
التضحية من أجل الآخرين. فالمحبة أعظم مبدأ
لنبذ حب الذات والأنانية. نرى، من ثم، أن
الوجوديةَ والنظرياتِ السلبيةَ ماديةٌ
وذاتية، أنانيةٌ منفعلة، تقيم الذات وتهدم
المجتمع؛ بينما المثالية واعية غير ذاتية،
مضحية هادئة، تضحي بالذات على مذبح المجتمع.
فالمثالية لا ترى "الجحيم" في الآخرين،
بل ترى فيهم حقلاً مترامي الأطراف يبذر فيه
الإنسانُ نفسه لكي تنبت نباتًا حسنًا، مثمرًا
في الآخرين. المجتمع، في عرف
المثالية – والمثالية تعني أولوية العقل[3]
–، حقل لتطبيق الأخلاق. ولقد شدَّدتْ هذه
المثالية على الوعي والفعل. إن الإنسان
موجود ليخدم الآخرين، ليرى سعادته فيهم
وليحقق سعادتهم فيه. أما السلبية، اقتصاديةً
كانت أم انفعالية، فإنها تدين المجتمع لكي
تحقق ذاتها. والسلبي مادي أناني، يتعلق بذاته
ويأخذ بمبدئها. 13.
حقيقة المطلق: المطلق هو "تفكيري
بالمطلق"، يقول الوجودي. فالآن، إن فكَّرت
بالمطلق، فالمطلق موجود؛ وفكري هذا إما وهم
وإما حقيقة. ولكن تفكيري في شيء غير موجود هو
من عبث التفكير ولاجدواه، بل هو تحقير
للإنسان: فإن كان المطلق لا يوجد إلا بعد أن
أفكر فيه، فإنه، على الأقل، موجود في شكل ما،
في صورة ما، أو في ماهية ما. إن مطلق الوجودي
مطلق شخصي، يحدده ويكيِّفه كيفما يشاء، فيتصف
بصفات إنسانية. ومهما تكن الحال، فإن مطلق
الوجودي المادي موجود، لا يستطيع التخلي عنه
لأنه لا يستطيع التخلي عن تفكيره الذي أبدع
ذلك المطلق، ولا عن ذاته. ولكنه مضطر أن يقرَّ
بوجود "مطلقه" على طريقته الخاصة. ولكننا
نسأل: لماذا خلق المنفعل "مطلقَه"؟ خلقه لأن الإنسان
يقف في مقابل المطلق. قتل نيتشه المطلق، فكان
لا بدَّ له من أن يقيم مطلقًا غيره في مكانه،
فكان هذا الغير هو نيتشه بعينه. وثار المادي
السلبي على المطلق فرفض القوانين الأبدية
التي وُضِعَتْ للإنسان ليتناغم معها،
معتقدًا أنها تقيِّده، أن واجبه هو التحرر
منها، وأن الإنسان لا يكون حرًّا مادام يخضع
لقوانين ثابتة ولغاية وُضِعَتْ له: فحريته
تنطلق منه هو، من وجوده؛ وحرية فكره تعبِّر عن
حريته كإنسان موجود. لذلك بدأ يخلق، فأحلَّ
نفسه محلَّ المطلق. وعندما خلق أصبح حرًّا في
تفكيره؛ وعندما فكر في المطلق، خلق مطلقًا
ينطلق منه. هكذا صاغ الإنسان المطلق كما يشاء.
وهذا العمل يعبِّر عن الثورة والتمرد اللذين
أطلقهما الإنسان في صراعه الأول والدائم ضد
القوة العاقلة في الكون. السلبي يفترض أن
"الذات تسبق الماهية". فإذا سبقتْها كان
وجود المطلق نتيجة: أنا أول والمطلق ثانٍ. إنه
يفكر في المطلق، فيصبح المطلق أدنى من
الإنسان. وهو يفكر في العدم أيضًا. ولما كان
الوجود والعدم متلازمين فإنه ينفي الوجود على
حساب العدم لكي يعبِّر عن وجوده المحسوس، أي
لكي يعبِّر على أن ذاته هي الأسبق. ومن ثم، فإن
المطلق هو "تفكيري في المطلق"؛ فهو إذن
غير موجود، والموجود هو فكري. أنا الموجود،
ولا يوجد شيء سواي؛ وما المطلق إلا "خاطرة"
خطرت على دماغي دون أن تكون حقيقة. ولكن
السلبي، في تفكيره هذا، ينسى أسبقية الوجود؛
فعندما يبحث في الوجود عليه أن يدرك أنه موجود.
فهو، إذن، ببحثه في الوجود، يعترف، من حيث لا
يريد، بقبْلية الوجود–الماهية. لذلك، لا
يستطيع أن يجعل من وجود المطلق معلولاً. الإنسان كائن
متمرد[4].
ويتمثل التمرد في "المقاومة" التي
تبديها المادة، أي الذات. وتتمثل الحرية
بالإرادة التي يبديها الكيان؛ فهناك صراع
هائل بين الكيان والذات. ولا ينتصر الكيان إلا
بالإرادة الإيجابية، ولا تنتصر الذات إلا
بالمقاومة التي تبديها المادة. الإنسان شجرة
كبيرة: جذورها عميقة في الوجود المادي وراسخة
فيه، وأغصانها عالية في الفضاء وممتدة في
اللانهاية؛ والمطلق شجرة كبيرة: أغصانها
عميقة في الوجود المادي وثابتة فيه، وجذورها
عالية في الفضاء وممتدة في اللانهاية.
وتُعتبَر أغصانُ شجرة الإنسان الباسقة
انطلاقًا من جذور ثابتة هي قاعدة لها، ولكنها
ممتدة في اللانهاية، أي في الأرض والسماء
معًا. والإنسان امتداد في وجوده: فهو ممتد
بجذوره في المادة، راسخ فيها؛ وهو ممتد في
الروح، أي في اللانهاية. والمادة قوية جدًّا،
تشده باستمرار إلى مركز ثقلها، تنزل به إلى
"وجودها"، وتعمل على إبقائه في مملكتها،
بينما الروح تحاول أن ترفعه: لقد وهبتْه العقلَ
لكي "يعقل" المادة، لكي يفهمها، ولكي
يدرك امتداده في اتصالٍ كونيٍّ لانهائي.
ويتمثل هذا الفعل بإرادة تقاوم "سلبية"
المادة. والإنسان وجود
مرئي ولامرئي: فهو مرئي من حيث إنه مادة تُرى
وتُلمس؛ وغير مرئي من حيث إنه فكر ووجود، حياة
وروح. ولما كانت المادة تمثل الناحية المرئية،
أي المنظورة، فإن الروح تمثل الناحية غير
المرئية وغير المنظورة. ولما كانت قوى
الإنسان العقلية تميل، في درجاتها الأولى،
نحو المرئي، فإن الإنسان يخضع لمملكة مادته
وينقاد لها. وهكذا يرى وجوده المرئي، ولا يكون
في إمكانه أن يشعر بوجوده الروحي أو أن يتلمسه
كطريق، فيضيع. ولما كان ضياع الإنسان ناتجًا
من جهله، أي عدم تفهُّمه وإدراكه لطاقته
الروحية، فإنه يتنكر للمطلق. الجهل، إذن،
مصيبة يصاب بها الإنسانُ لأنه يجرِّده من
طاقاته العلوية ويهبط به إلى درك الانفعال،
أي السلب، متنكرًا لعقله وروحه وكيانه
والمطلق. ولقد تنكَّر علماء النفس السلوكيون
للعقل وأحلوا الغرائز محله؛ وتنكَّر غيرهم من
السلبيين للروح وأحلُّوا محلَّها العقل،
الذي جعلوه انعكاسًا للمادة أو وظيفة لها أو
مجرد تفاعل كيميائي! وضاع الإنسان في هذا
التقييم: إذ ما العقل؟ أمجموعة من الغرائز هو،
كما يقول السلوكيون؟ وإذا كان الأمر كذلك،
فليس في الإنسان فكر. والإنسان المجرد من
الفكر، هل هو إنسان؟ وإذا كانت المادة تعمل –
وليس العقل سوى انعكاس لهذه المادة ولصورها –
فمعنى ذلك انتفاء العقل؛ وإذا انتفى العقل،
فماذا يبقى في الإنسان؟! لا يبقى سوى الضياع
والتشتت ونكران قوى الحياة التي تمثلها الروح
بالوجود الحقيقي. وإذا كان الإنسان قد ضاع في
فهم وجوده المرئي أو في تأويله وتفسيره، وإذا
كان لا يعرف ماهية العقل والدوافع، فكيف
يستطيع أن يدرك ماهية وجوده غير المرئي، أي
حقيقة الروح التي هي أسمى من عالم المادة الذي
ضاع فيه الإنسان؟! هكذا يكون نكران
الإنسان المطلقَ نتيجة لنكران نفسه وعدم
تفهُّمها، ونتيجة لجهله الذي هو مصيبة كبرى.
أولم تشدِّد البوذية على مسألة الجهل، فقالت:
من الجهل ينتج الشر، ومنه العبودية، ومنه
الألم. فكل شرٍّ وكل مصيبةٍ مصدرها الجهل.
أولم يشدد سقراط على الجهل فجعله سببًا للشر؟
الإنسان يفتش عن خلاصٍ من مأساته... فأين يجده؟ يدل تاريخ الفكر
الإنساني أن الإنسان مازال يبحث عن سرِّ
وجوده وعن طريق للخلاص من مأساته؛ كما يدل على
أنه قد ضاع في الأنظمة المجتمعية التي لم
تنبثق منه، من حقيقته. من هنا نستنتج أن
الأنظمة المجتمعية لا تنقذ الإنسان من مأساته
إلا في حدود دنيا. ويدل تاريخ
الحروب والصراع أن الإنسان لم يجد ضالته فيها،
بل ازداد تعقيدًا وألمًا. وتدل النظريات
الفلسفية المتعددة أن تشتيت العقل الإنساني
قد نتج من تنازُع الآراء وتصادُمها. وتدل بعض
النظريات العلمية أنها لم تستطع أن تقدم حلاًّ
لوجود الإنسان: فهي لم ترَ الحقيقة في الجزء
أو لم تجدها فيه. أما بعض النظريات الأخرى
التي تعمل في حقل توحيد العلم فقد بدأت ترى. هكذا انعدمت
الحقيقة في فروع المعرفة المختلفة، في
الفلسفات الاجتماعية والعلمية التي أدت إلى
ضياع الإنسان شرَّ ضياع. ولا تستطيع النظريات
السلبية والمجتمعية التي جعلت من الإنسان
فردًا ومن المجتمع زيادةَ فرد إلى فرد أن تنقذ
الإنسانية للأسباب الآتية: -
لأنها
منفعلة ولا تعتمد على العقل؛ -
لأنها
ترفض القيم الأخلاقية والروحية والوجدانية؛ -
لأنها
تعبث بالوجدان الاجتماعي؛ و -
لأنها
لا تضفي على الوجود صفة الاستمرار والبقاء
والديمومة والخلود، فتعتبره وجودًا منتهيًا
عابثًا. إن خلاص الإنسان
يتم في تحقيق الطاقة الحية الكائنة فيه،
وفي إضفاء صفة الروح على كلِّ فعل مادي – وهذا
يعني روحنة المادة. ***
*** *** [1]
راجع كتابي فلسفة الإنسان
الثائر. [2]
"الإنسان مقياس كل شيء"
عبارة للفيلسوف السفسطائي الإغريقي
پروتاغوراس. [3]
الأخلاق تعني "الوجود كما يجب أن يكون". [4]
في سبيل التمييز بين الثورة والتمرد، راجع
كتابي فلسفة الإنسان الثائر.
|
|
|