|
آرام وأزمَـة
شَـرق المـتوسِّـط لن
أبسط فيما يلي رأيًا معلَّبًا جاهزًا، – فنحن،
في أزمة وجودنا الراهنة، أبعد ما نكون عن
الحاجة إلى "القوالب الجاهزة" التي تزعم
تفسيرَ وتقويمَ ما تقدم من تاريخنا وما تأخر،
– لكنني سأطرح مسألةً للنقاش، لعلها
تُغْنِيه، وستغتني به حتمًا. *
* * بتأثير
مجموعة من العوامل المتعددة، منها المناخي
والبيئي والجيوستراتيجي والنفسي، عاشت منطقةُ
شرق المتوسط، – ونقصد بها بلاد الشام
التاريخية وأجزاء من أراضي ما يُعرَف اليوم
بالعراق، – منذ فجر تاريخ الإنسانية المكتوب،
تجربةً تكاد أن تكون فريدةً من نوعها، تميزتْ
بها وتمايزتْ عن باقي الحضارات الإنسانية
التي سادت في أمكنة وأزمنة أخرى. فعلى الرغم من كلِّ ما
واجهتْه هذه المنطقةُ من غزوات وحروب وكوارث
وتغيرات جيوسياسية مستمرة طوال تاريخها
الممتد على كامل مساحة التاريخ الموثَّق
للبشرية، فإنها قد حافظت محافظةً ملفتةً
للنظر على سمة أساسية هي سمة التعدد والتنوع
والتمازج في مكوناتها الأنثروپولوجية
والحضارية والثقافية والدينية. فحتى
الوافدون إليها من خارجها، ممن اختاروا
البقاء فيها – وبعضهم، بل جلُّهم، أتاها
غازيًا – غدوا، لاحقًا، جزءًا أساسيًّا من
مكوناتها، تطبَّع بطبائعها وترك بصمتَه
عليها، بحيث بات جزءًا من إرثها الحضاري
ومكنونًا ثقافيًّا مضافًا. *
* * لقد
كان "الآخر" موجودًا دائمًا في اللاوعي
والضمير الفرديين لكلِّ من قُدِّرَ له العيشُ
على هذه الأرض وفي اللاوعي والضمير الجمعيين
لجميع الشعوب والأقوام التي تقاسمت العيشَ
عليها أيضًا، بحيث استحقت هذه المنطقةُ من
العالم بحق اسمَها الذي اكتسبتْه، عن جدارة
وخصوصية، وهو "أرض التسامح" Land
of Tolerance. لم يخلُ الأمرُ طبعًا من
توترات ونزاعات وصِدامات. لكن لم يكن ليدور في
خلد أيِّ طرف من الأطراف إلغاءُ ذلك "الآخر"،
ولا هو شكَّك في انتمائه أو في أحقيَّته في أن
يكون جزءًا من النسيج المكون لهذا التنوع –
والأمثلة/الشواهد على ذلك، القريبة منها
والموغلة في القِدَم، متاحةٌ لكلِّ مهتم. شكلتْ هذه السمة نموذجًا
ثقافيًّا–حضاريًّا يمكن لنا أن نطلق عليه
تسمية النموذج الحضاري الأول، من حيث
كونُه النموذج الأسبق تاريخيًّا الذي طبع
المنطقةَ بطابعه، منذ فجر التاريخ حتى منتصف
القرن العشرين. *
* * في
العام 1948، قامت دولةُ إسرائيل على جزء من
منطقة شرق المتوسط. لم يكن قيامُ دولة ما جديدة
على جزء من هذه المنطقة ليشكِّل منعطفًا
جذريًّا/بنيويًّا في خصوصيتها وتاريخها
وثقافتها، بل قُلْ وفي مكوناتها الحضارية،
لأنه، ببساطة، كان أمرًا شائعًا، متكرر
الحدوث، على مدار تاريخها. ولم تكن الهجرة
اليهودية إلى الدولة الناشئة على هذا القدر
من الجدة أيضًا: فلطالما استقبلت هذه المنطقةُ
هجراتٍ، فرديةً وجماعية، من مناطق مختلفة من
العالم القديم، طمعًا فيها أو هربًا إليها،
لكنها جميعًا ذابت طوعًا في بوتقة واحدة،
أثَّرتْ فيها وتأثرت بها بالقدر ذاته، وغدت،
كما أسلفنا، جزءًا من مكوناتها الثقافية
والحضارية، ولم يحدث ما يعكر صفو ذلك النموذج
أو ينسفه في بُعده وعمقه الحضاريين. فما الجديد في الأمر إذن؟ الجديد، إلى حدِّ الصدمة،
أن مؤسِّسي الدولة الوليدة قرروا، عِبْرَ
دستورها المكتوب، أن دولتهم هذه قامت تحقيقًا
لوعد إلهي جرت الإشارةُ إليه نصًّا في
التوراة، وأنها، بالتالي، دولة لليهود فقط،
لا مُواطِنية لغيرهم فيها، بل ولا وجود لهم
يُذكَر على "أرضها" Eretz
Israel.
فاليهودية، في إيديولوجيتهم، هي مزيج من
الانتماء العرقي–القومي والديني معًا! بمعنى آخر، ولدت دولةٌ
بخلفية ثيوقراطية توراتية على جزء من هذه
المنطقة لا تحتمل ولا تقبل وجودًا عرقيًّا–قوميًّا
ولا دينيًّا مغايرًا لانتمائها العرقي–القومي
والديني. وفوق ذلك، لم يشأ مؤسِّسو هذه الدولة
رسمَ حدود خاصة بها؛ أي أنها، وفقًا للدستور
المكتوب لها كذلك، دولةٌ مرشحةٌ للتوسع
والامتداد، ليس بالمفهوم الجغرافي فحسب، لكن
بالمفهوم الإيديولوجي والثقافي والحضاري
بشكل أساسي – وهنا يكمن أصل المشكلة. *
* * بالمعنى
الثقافي والحضاري، إذن، نشأتْ دولةٌ جديدةٌ
على أساس أحادية التكوين، ليس لفكرة
التعدد والتنوع والتمازج فيها أي وجود، بل
تقوم على ثقافة إلغاء الآخر. من هنا يمكن
لنا القول، بكثير من الثقة، بأن هذه الدولة
الجديدة طرحت، بنيويًّا، مفهومًا ثقافيًّا
وحضاريًّا يختلف عما كان سائدًا في منطقتنا
لآلاف من السنين، بل ويتناقض جذريًّا معه،
يمكن لنا تسميته بـالنموذج الحضاري الثاني.
وهي جادة في تعميم نموذجها هذا على منطقة شرق
المتوسط بأكملها، وذلك لأن هذا التعميم
يشكِّل الضمانةَ الوحيدةَ لاستمرارها بالشكل
الذي نشأت عليه، من حيث إن حدة التناقض
الحضاري القائم بين هذين النموذجين وعمقه لا
يسمحان بتعايشهما معًا على أرض واحدة. فحتى
يتمكن هذا "الاستثناء" من البقاء
والاستمرار، لا بدَّ له، بالتالي، من أن يصبح
هو "القاعدة"! *
* * إن
استحالة تعايُش هذين النموذجين على الأرض
نفسها توصِل إلى حتمية انتهاء أحدهما لصالح
الآخر! وهنا يجدر التوضيح: إن انتهاء أحد
النموذجين لا يعني طردًا أو تصفيةً جسديةً
لطرف ما، وإنما يعني طردًا وتصفيةً لمخزون
ثقافي لديه، بحيث يصبح قابلاً لأن يعيش،
بل وراغبًا في أن يعيش، وفقًا للمنظومة
الثقافية والفكرية للنموذج الآخر الذي، إنْ
تم لأصحابه ذلك، تحققتْ لهم الغلبةُ والسيادةُ
على المنطقة بأسرها في نهاية المطاف – وهذه
هي بالضبط غايةُ هذا الصراع والمآلُ المخطط
له. *
* * كانت
الصدمة هائلة، فوق قدرة الجميع على الاستيعاب!
أجمع الجميع على خطورة ما حدث وعلى ضرورة
التصدي له. لكن الانقسام كان حادًّا، كما كان
الحدث نفسه، حول سُبُل هذا "التصدي":
فمنهم مَن رأى في البُعد القومي – وحتى
الشوفيني – سبيلاً للتصدي، بحكم أن لهذه
الدولة الجديدة بُعدًا قوميًّا شوفينيًّا؛
ومنهم مَن استنفر الشعورَ الديني/الطائفي (ولوجهة
النظر هذه وجاهتها أيضًا، لأن لهذه الدولة
بُعدًا دينيًّا/طائفيًّا بالدرجة نفسها)؛
فيما عوَّل البعض الثالث على الأسُس
الاقتصادية والاجتماعية التي اعتمدتْها هذه
الدولة طريقًا لبنائها، من حيث إنها، بحكم
الأرضية التي جاءت منها نخبتُها الحاكمة، قد
اعتمدت الاقتصاد الرأسمالي طريقًا للتنمية (وقد
بدا ذلك، في وجه من الوجوه، منطقيًّا كذلك)؛
أما البعض الرابع فقد رأى أن "قدسية"
الأرض و"حُرمَتها" هي مسوِّغه الثقافي
والعملي، والوجداني أيضًا، لإدارة الصراع،
وهذا لا يبدو في ظاهره غريبًا عن موروثاتنا،
لأننا، بطبيعتنا، نجلُّ ملكية الأرض ("الأرضُ
عِرْض"!). *
* * في
المحصلة، غاب (أو تم تغييب) البعد والرؤيا
الحقيقيين لهذا الصراع الناشب، المتمثل في
كونه صراعًا حضاريًّا بالدرجة الأولى،
بين نموذجين للعيش والتعايش بين البشر: ثقافة
التعدد والتنوع، من جهة، وثقافة الإلغاء،
من جهة أخرى. والرؤى الأخرى جميعًا، من قومية
ودينية وطائفية واجتماعية/اقتصادية، وحتى
المعتقدات الموروثة المتعلقة بقدسية الأرض،
لم تكن إلا تشتيتًا للرؤيا وتغييبًا عبثيًّا
للبعد الحقيقي لهذا الصراع المتفرد في
خصوصيته. وكما تعددت الرؤى حول ماهية
هذا الصراع وتنوعت وتضاربت، فقد تنوعت
تسمياتُه استطرادًا: فهو "أزمة الشرق
الأوسط" تارة، و"الصراع العربي–الإسرائيلي"
تارة أخرى، و"الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي"
تارة ثالثة؛ كما أن هناك تسمياتٍ أخرى يطيب
لكلِّ فريق إطلاقُها بحسب واقع الحال (وإنْ
بقيت حتى الآن غير متداوَلة على النطاق
الأشمل كسابقاتها التي ذكرنا آنفًا). *
* * في
أتون هذا الصراع، لم يَدُرْ في خلد أحد ممَّن
قادوه أو شاركوا فيه أو نظَّروا له حتى أنهم،
بحسب الرؤى التي تبنوها لإدارته كلها، كانوا
يتبنون، تبنيًا غير مباشر وعن غير قصد، أدواتِ
الخصم ورؤيتَه الثقافيةَ والحضارية؛ بل إن
محصلة كل ما قاموا به من أفعال (التصدي) كانت
تصبُّ دائمًا في مصلحة الطرف الآخر، بحيث
إننا، بعد ما ينوف على الستين عامًا من إدارة
الصراع، أصبحنا، نفسيًّا وموضوعيًّا، أبعد
ما نكون عن "نموذجنا الحضاري" الذي كان
من المفترض أن نحارب من أجل بقائه وترسيخه
وتعميمه، وأقرب ما نكون إلى النموذج الحضاري
الذي كان يُفترَض أننا نحاربه. وهنا أيضًا، لا
تعوزنا الشواهدُ على تراب هذه المنطقة بأسره. في اختصار شديد، كانت عقليةُ
إدارتنا للصراع وأدواتنا فيه، على اختلاف
مشاربنا ورؤانا، هي بالضبط ما كان عدونا
المفترَض يحلم فيه، بل ويسعى لأن نقوم به: إذ
كان في مجمله تأكيدًا، لكنْ من الخصم (الذي هو
نحن)، على صحة مقولته ونموذجه الحضاري. (أليست
غاية القوة وذروتها هي في أن تصنع عدوك بيدك؟) *
* * أعلنت
منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1974 عن
رؤيتها الإستراتيجية لحلِّ النزاع في الشرق
الأوسط، وذلك عِبْرَ قيام دولة ديموقراطية
تعددية على أرض فلسطين التاريخية، يعيش فيها
الجميع، من مختلف القوميات والأعراق
والأديان والطوائف، جنبًا إلى جنب، وتكفل لهم
جميعًا الدرجةَ نفسها من المُواطِنية. كان هذا هو الرد الحضاري
الحقيقي الوحيد على النموذج الثاني. لكن هذا
الطرح لم يُقيَّض له الاستمرار، ربما لأنه
كان، في العمق، أكثر مما يحتمل الجميع، فلم
نعد نسمع به من أحد، ولا حتى من أولئك الذين
بادروا إليه! وحده المرحوم د. إدوارد سعيد
استمر في تبنِّيه، بل وعارض قيام الدولة
الفلسطينية على أراضي العام 1967، مطالبًا
ببقائها تحت الاحتلال، شريطة منح سكانها
الجنسية الإسرائيلية ومعاملتهم كمواطنين من
الدرجة الأولى. كان هذا نوعًا من "الضرب تحت
الحزام" أيضًا لأنه، ببساطة شديدة، ينسف
الأساس العنصري لقيام الدولة العبرية
ويتماهى كليًّا مع ثقافة النموذج الحضاري
الأول. *
* * في
محصلة الأمر، بعد سلسلة مريرة من الهزائم
والنكبات والنكسات، وبعد تردٍّ وتراجُع
مخجلين في التنمية والتطور والحداثة
والديموقراطية وحقوق الإنسان (بذريعة "أولوية
المعركة مع العدو")، سادت موجةٌ جديدة من
"الواقعية السياسية"، تجلَّتْ في جنوح
الغالبية العظمى من الطبقات الحاكمة والنخب
الثقافية، بل ومن الناس كافة حتى، إلى مقولة
"الصلح سيد الأحكام" – مع اشتراط "بعض
التفاصيل"، كالأرض والمياه وحق العودة (وهذا
في حقيقته رفع لسقف المَطالِب غايته إقرار
مبدأ التعويض) والسيادة على المقدسات الدينية،
سواء فوق الأرض أم تحتها، بغرض الوصول إلى
تسوية مقبولة لهذا الصراع (مع أننا مازلنا
نحار حتى الآن في إيجاد عنوان أو تسمية له).
وقد أضحت هذه "التسوية" وهذا "السلام"
عنوانًا استراتيجيًّا عريضًا لتسويق أنفسنا
وأنظمتنا، داخليًّا وخارجيًّا. لو أمعنَّا النظر في هذا "الخيار
الاستراتيجي"، ألا يبدو في عمقه أيضًا
تكريسًا لنهاية مؤلمة لهذا الصراع الحضاري،
من حيث إعلانُه غير المباشر بأن جوهر الصراع
لا يتعدى أرضًا ومياهًا ومسألة إسكان وسيادةً
شكليةً على مقدسات، بينما يزداد التطرفُ
وينعدم التسامحُ وتتجذر عقيدةُ إلغاء الآخر
على مساحة شرق المتوسط بكاملها؟ *
* * على
الطرف الآخر، حصل تطورٌ نوعي في طريقة إدارة
الصراع: إسرائيل يفكر الآن جديًّا في رسم
حدوده؛ بل إنه قد باشر عمليًّا هذا الترسيم
عِبْرَ بناء جدار إسمنتيٍّ هائل لا يماثله،
هندسيًّا ومعنويًّا، سوى سور الصين العظيم
وجدار برلين، لكن مع فارق التوقيت (مع كلِّ ما
يحمله هذا الفارق من معانٍ عميقة). فماذا يعني
أن يفكر إسرائيل في رسم حدوده؟ للوهلة الأولى، فإن هذا
يعني، في جملة ما يعنيه، أن هناك تعديلاً يجب
أن يتم على دستور الدولة العبرية المعتمَد
منذ العام 1948؛ أما في العمق، فإنه يحمل في
طياته واحدًا من احتمالين: -
إما أن
إسرائيل قد حقق ما كان يعمل في سبيله طوال
الستين عامًا الماضية وضَمِنَ أن منطقة شرق
المتوسط قد تخلت عن نموذجها الحضاري (الأول)
الذي أبدعتْه وصانتْه لآلاف السنين، فتبنَّتْ
النموذج (الثاني) الذي قامت عليه الدولةُ
العبرية، وأنها (أي شعوب شرق المتوسط) تعمل،
بكلِّ همة وجدية، على استيعاب النموذج الجديد
وتطبيقه، وأنه، بالتالي، لم يعد لدى إسرائيل
من دور حضاريٍّ يضطلع به وآنَ له أن يلتفت إلى
نفسه، فيقيها من العواصف والزلازل التي ستعصف
بالمنطقة نتيجة قيام أهلها بالتغيير الطوعي
لنموذجهم في العيش، وأن ينتظر أيضًا من أهل
الجوار أن يأتوا إليه صاغرين ليحكم فيما
بينهم بعد أن مزقتْهم ودمرتْهم محاولاتُهم
لتطبيق نموذجَه الحضاري؛ -
وإما أنه
اقتنع بأنه خسر المعركة، وبأنه لن يكون
قادرًا بعد الآن على تغيير النموذج الذي
ارتضاه أهلُ المنطقة لأنفسهم على مدار
التاريخ، وأنه لم يعد أمامه، بالتالي، سوى
التقوقع على ذاته ضمن "غيتو" آخر، ليس
فيه من جديد سوى موقعه الجغرافي. فأي الاحتمالين أقرب إلى
الصحة؟ هل خسر إسرائيل هذه المعركة الحضارية،
على الرغم من كلِّ ما ألحقَه من هزائم عسكرية
بالخصم العنيد؟ أم أن ما يجري على مساحة
منطقتنا هو الإعلان الحقيقي للانتصار
الإسرائيلي، الاستراتيجي والحضاري، ونهاية
مأساوية لتاريخ وحضارة لم يكن العالم، فيما
يبدو، على استعداد لتقبُّلهما وقبولهما في آن؟ *
* * مفتاح
الجواب يبدو في لبنان – ذلك البلد الذي يجدر
بنا أن نلقِّبه بـ"غرناطة الشرق": فلقد
أضحى بحق آخر معقل من معاقل حضارة شرق المتوسط،
وسقوطُه هو الإعلان المأساوي لنهايتها. فكما
أدى سقوط غرناطة الأندلس إلى نهاية عصر من
التسامح والعيش المشترك بين الجميع (وحتى
اليهود الذين تعرضوا هم أيضًا لما تعرَّض له
الآخرون)، فإن سقوط لبنان سيؤدي إلى النتيجة
الحضارية نفسها، مع فارق نوعي: سقوط غرناطة
أسدل الستار على عصرٍ امتد بضع مئات من السنين
وأنهى نموذجًا مستوردًا وطارئًا على ثقافة
المنطقة التي تأسَّس فيها، بينما سقوط لبنان
– لا سمح الله – سيؤدي إلى نهاية حقبة امتدت
آلاف السنين، وسيكون شاهدًا على نهاية
النموذج فوق الأرض نفسها التي أبدعتْه
وصانتْه! إذا نجح لبنان في تجاوُز
محنته، فعاد كما كان، – منارةً للمنطقة
ومثالاً يُحتذى لشعوبها جميعًا، – حُقَّ لنا
التفاؤلُ في إمكانية تكريس، بل وإعادة تعميم،
نموذجنا التاريخي في التسامح والعيش المشترك
الذي سيشكل، في الآن نفسه، نقطةَ البداية
لنهاية ثقافة الإلغاء الطارئة على منطقتنا
وثقافتنا. أما إذا حصل ما نخشاه، فليس
أمامنا سوى تكرار ما قالتْه والدةُ الملك أبي
عبد الله، آخر ملوك غرناطة، لابنها ليلة سقوط
المدينة على يد سادة ثقافة الإلغاء في عصرهم:
"لا تبكِ كالنساء مُلْكًا لم تحافظْ عليه
كالرجال!" – هذا طبعًا إن وُجِدَ فينا مَن
يعي جسامة الخسارة وهولها، ناهيكم عمن سيجد
فيها "نصرًا إلهيًّا" آخر يضاف إلى قائمة
انتصاراتنا في عصر ما بعد انتصار سقوط غرناطة
الأندلس! حقًّا إن صنع التاريخ ليس
حكرًا على "الكبار": فأرذل التاريخ وأشده
إيلامًا للشعوب هو ذاك الذي يصنعه أولئك "الصغار"
الذين وهبتْهم الآلهة، في جملة ما وهبتْهم،
"عصمتَها" عن الخطأ والزلل! ***
*** ***
|
|
|