|
إلهَـامَـات
في إيطَـاليـا هل
لوجه الله مطارح يتجلَّى فيها بامتياز؟
لاعتقاد بعضٍ بهذا انتهينا، كتلةً صغرى، إلى
دير Bose
في مكان قصيٍّ من الشمال الغربي
لإيطاليا، حيث ما يقارب سبعين راهبًا وراهبة
يطلبون ربَّهم في صورة فريدة. ومن الفرادة أن
هذه الجماعة الكاثوليكية تتقبل مسيحيين
آخرين في عضويتها. أردنا هذه الجماعة لنصلِّي
معها، على القلة التي عندنا من اللغة. ذلك أن
المزامير التي يُكثِرون من تلاوتها وفصول
الكتاب كنَّا نفهمها بناءً على العربية. لقد ألِفُوا عباداتِهم وانتقوا
لها ما انتقوا – والمصادر واحدة – ووُجِدَ
أسقفٌ فهيم أباح لهم الحرية. الترتيل واحد
حينًا، أو على نظام التناوب وموحَّد الصوت.
يرتدون ثوبًا رهبانيًّا في الصلاة فقط، وخارج
البيعة ثياب مدنية بسيطة لا افتعال فيها
تشبهًا بالفقراء. وفي العبادة لا تقليد
للأباطرة؛ وبعامة ليس من التماس للزينة: هناك
فقط المصلوب الفلورنتيني المعروف وأيقونة
بيزنطية واحدة تتغير حسب الموسم الطقوسي. إذا أكلتَ لا تجوع ولا تتخم.
تتناول خمرًا طيبة، كما في كلِّ أديرة العالم.
هذا "طعام النصارى"، كما كانوا يقولون في
بغداد في العصر العباسي. والإخوة يغتذون
بخاصة مما تنتجه أرضُهم، ويصنعون الكثير مما
يحتاجون إليه. ذلك أن الأثاث الخشبي مصنوع
بجمال يبلغ حدَّ الأناقة أحيانًا. هناك تجتنب
الغنى المبتذل واصطناع الحاجة المثقلة، ولا
تسلك مسلك الرهبانية المتقشفة حتى الشراسة،
لأن نسك العقل والقلب أنجع من نسكيات الجسد
وأعمق؛ والقاعدة في الرهبانية كانت الاعتدال
على مدى الأزمان. قرأت قانون أو دستور Bose،
ويتضمن ما نعرفه عن الفقر والبتولية
والطاعة. وعلى هامش النص مصادر هذا القانون
في الكتاب المقدس. في المضمون العميق كل هذا
من التراث، ولكنه مسكوب في قالب عصري. هناك
مرحلة ابتداء (أو مرحلة "مريدية"،
كما يقول المتصوفة) من ثلاثة أشهر، ليترك
الشاب أو يبقى؛ وإذا بقي، له مرحلة النذور.
أظن أن النص الذي قرأته يدخل القلب دخولاً
سلسًا ويجعلك تحس أن الرهبانية – إن عُرِفَتْ
– هي من الإنجيل أو من شدته وأقصى متطلباته،
وتفهم أن الإنجيل لين وأن نير الرب حمله
خفيف إنْ أنت أحببت النور وطلبته. لعل الجديد في ما رأيت ورأى
صحبي أنك مع جماعة لا تتفرد باستقبال عضوية
الكاثوليك، ولكنها تتسع إلى معايشة مسيحيين
آخرين: فهناك، إلى جانب إنجيليين أو ثلاثة،
أسقف أرثوذكسي يلازم الدير ستة أشهر في السنة
ويشترك في الصلاة؛ وهو شديد التمسك بعقيدته،
ولكنه يرى نفسه معزًّى. هناك لا تسمع نقاشًا
مذهبيًّا ولا تلمس أي احتدام بين الإخوة،
وتتعلم السماحة وأن تزيل سوء الظن وأن تلوم في
موضع اللوم وأن تغفر دائمًا ولا تستعلي. فقد
سألتُ مرة عالِمًا كبيرًا بينهم عما يعمل
غدًا، فقال لي: "غدًا سأكون في المطبخ طوال
النهار!" * * * الدير
مكان خلوة للذين يحبون أن يتوبوا وأن يتجددوا
بكلمة الله. لذلك يعقد الرهبان حلقاتِ دراسة
للكتاب مرة في الأسبوع لمن جاء إليهم.
والكثيرون يأتون فقط في الآحاد للمشاركة في
القداس. وإذا استمعوا فيه إلى العظة واقتبلوا
الكأس المقدسة، يعيشون ساعاتٍ من الدفء في ما
بينهم ويذوقون الله وما أخذوه من قدوة حسنة،
وتتبارك بيوتُهم بعد ذلك بما يصير فيها من حب. فالدير، إذا كان مقرًّا للبهاء
الإلهي، إنما يصبح لهذا البهاء ممرًّا إلى
قلوب المعذبين في الأرض. هنا تفهم أن الذين
يسنُّون القوانين ويؤسِّسون الدول إنما
يفعلون قليلاً، لأن حيلة الناس أن يخالفوا
القانون! والدولة تزول، ككلِّ شيء أرضي، أو
تتدمر – مع أنه لا غنى عن المؤسسات تقيمها
والقوانين تسنها والدول تحميها؛ ولكن ذلك
زائل، ولا بدَّ أن تعمل في الزائل. وعبقرية
السياسي أن يعرف ذلك ويستمر في البنيان
ويزدهر به في آن. لكن الدولة لا تجعل القلب
نيِّرًا أو مستمرًا. ولا يقودنا اهتراء
الأشياء إلى أن نذهب إلى الصحراء أو أن نهمل
عائلاتنا، ولكنه يعني أن نجدد أنفسنا
بالروح وأن نفهم أن النور كان دائمًا في
كتل صغيرة تحتضنه وهو يرعاها. تلك هي
المأساة: إن المؤمن "نور العالم"، و"الناس
أحبوا الظلمة على النور لأن أعمالهم كانت
شريرة" [يوحنا 3: 19]. وإن أنت أوجدت سجونًا
للمعاصي فلا تستطيع أن تسجن كلَّ الناس عن كلِّ
خطيئة؛ وتستمر الخطايا في السجن أو تولد فيه.
الدير، كهذا الذي كنا فيه، يقول إننا قائمون
على الرجاء، وإن النور سوف ينبلج كاملاً في
اليوم الذي يعيِّنه لك في حكمته، وإنَّا الآن
نرى أضواءً تزيل بعض العتمات: فإن "النور في
الظلمة يضيء" [يوحنا 1: 5]. ربما لا نستطيع أن
نعمل شيئًا إلا إن نكون جماعات نورانية
خطاياها قليلة وبرُّها كثير. إن ملكوت الله
عند القلة، أو هو مؤلَّف من القلة. وبعد هذا
طوائف فيها حنطة وزؤان معًا [متى 13: 24-30]، لأن
الطوائف جماعات، ولن يُستأصل منها الزؤان قبل
اليوم الأخير! ويمكن أن تعرف مَن في طائفتك
مُطفَأ ومَن هو وضَّاء، ولاسيما إذا كان
التعليم ضعيفاً أو قليلاً وإذا كان القليلون
وحسب يسهرون على التقويم. غير أن السيد قال
لمن لا نعرف بالضرورة هويته: "أنتم نور
العالم" [متى 5: 14]، وكذلك: "أنتم ملح الأرض"
[متى 5: 13]. هؤلاء يمكن أن يكونوا من الأمم
كلِّها، ويمكن أن يأتوا من المشارق والمغارب،
ويُطرَح أبناء الملكوت خارجًا [لوقا 13: 25-30].
رُبَّ أخ لا يكون على عقيدتك، ورُبَّ مَن
سُمِّيَ أخًا ليس بأخ! وتذهب الدنيا، ويعرف
الله مختاريه، فتُشكَّل كنيسةُ السماء ممَّن
نعرف وممَّن لا نعرف. لكن الله واضعٌ في قلبه
الذين يذهبون كلَّ يوم إلى الشهادة. * * * هذه
الجماعة في دير Bose
مسكونية حتى العظم. إذ إنها تقيم في
الصيف لقاءً حول روحانية الكنيسة القديمة (شرقية
أو يونانية) ولقاءً آخر حول روحانية الكنيسة
الروسية، وذلك على مستوى علميٍّ فائق العلو.
ويشترك في هذين المؤتمرين اختصاصيون من
الكنائس كلِّها. وفي إحساسي أن هذا التراث
الشرقي يُراد به إغناءُ الكنيسة الكاثوليكية
الغربية التي تسعى إلى مناهل الشرق منذ عقود.
وقد عبَّر عن هذا السعي إصدارُ نحو خمسمائة
كتاب للآباء اليونانيين والآباء اللاتين؛
وهذا عمل فرنسي أثَّر نسبيًّا في المجمع
الفاتيكاني الثاني، ما في ذلك ريب. أما اللبنانيون الثمانية الذين
حجُّوا إلى هذا المكان فاستمعوا إلى محاضرة
خلابة عن الكنيسة الأنطاكية ألقاها عالمٌ
بنديكتي ضليع من الفكر الشرقي، فكشف الأسُس
ورنا إلى الاتفاق، واتضح أنه أراد أن يرسخ
الأنطاكيين (الأرثوذكس والموارنة) الذين
كانوا هناك على "أنطاكيتهم" هذه التي
تجذب الجميع: إذ في أنطاكية "دُعِيَ
التلاميذُ مسيحيين للمرة الأولى" [أعمال
الرسل 11: 26]. كذلك حاضَرَنا رئيسُ الدير في
الخلاص وفي صعوبة الإنسان المعاصر في فهم هذه
المقولة؛ وتكلم أسقف أرثوذكسي وعَلماني
ماروني في الموضوع نفسه: الأرثوذكسي في رؤية
كتابية–لاهوتية، والماروني من موقع التحليل
الأنثروپولوجي المستنير بالإيمان. فكان
تلاحُم بيننا وبين الرهبان، وكأننا عشنا حياة
عائلة واحدة. طُرِحَتْ أسئلةٌ دقيقة عن
الخلاص في المسيح وعن خلاص الأمم التي لا تدين
بأزلية المسيح، دون التعرُّض لديانة معينة.
وخلصنا إلى أن الوضع النهائي للنفس البشرية
هو في سر الله الراحم جميعَ البشر. لم يكن
هاجسنا أن نبحث علاقةَ الأديان بعضها ببعض
ولا أن نقيِّمها تقييمًا، ولكن كان همُّنا أن
نغوص في علاقة الرب المباشرة بالبشر. أعطيناهم وأعطونا. أحببنا
بساطتَهم المذهلة وضيافة قلوبهم وبراءة
طفولتهم الروحية المستوية على رجاحة عقل.
وأظن أنهم أقبلوا على انفتاحنا الكبير عليهم
وعلى ما بنوه في طريقهم المنوَّر إلى السيد.
وكأننا ترهَّبنا خلال إقامة خمسة أيام،
وكأنهم مسُّوا ما كنا نحمله من مسيحية هذه
البلاد. أدركنا أن قلوبهم كانت إلينا
طوال الحرب العبثية الأخيرة، وفهمنا أن الصلاة
عنصر من عناصر السلام لأن الله سلام. عدنا
إلى لبنان ولم نغادر الطيِّبات الروحية
للمكان، وكأننا غلبنا المدى بالحضور الإلهي.
نرجو أن نبقى على مسيحية جدية، وأن يظل هؤلاء
الأصدقاء على مجاهدتهم المباركة. هذا هو
التحقيق الحقيقي للوحدة – والباقي يُزاد لنا
في اليوم الذي يعيِّنه للكنيسة جميعًا ربُّنا
في غزارة رأفته. *** *** *** عن النهار،
السبت 4 تشرين الثاني 2006
|
|
|